Qawmi

Just another WordPress site

د. إبراهيم علوش

السبيل 27/1/2011

  

لقد فاجأتنا الانتفاضة الشعبية في تونس أجمل مفاجأة، لعل أجمل ما فيها أنها أعادت الحراك الشعبي العربي إلى مركز الفعل في صنع الأحداث، بعدما راح كثيرون ينعون الشارع العربي والجماهير العربية التي اتهموها بأنها نائمة، بينما كانت النخب والقوى السياسية هي النائمة.  وبغض النظر إذا انتقلت العدوى الثورية للانتفاضة التونسية أم لا، فإن المؤكد أنها تمثل مرحلة فاصلة في التاريخ المعاصر للعرب في القرن الحادي والعشرين، يستعيد فيها المواطن العربي حراكه ووزنه ووجوده السياسي.

 

لكن الخطر على الانتفاضة الشعبية التونسية يأتي من محاولة إعادة طلائها بلون الثورات الملونة في اوروبا الشرقية، البرتقالية والأرجوانية وأخواتها، كثورة الزنبق في قيرغيزيا، التي تتبنى “الإصلاح السياسي” على النمط الأمريكي، أي تأسيس “ديموقراطية” تابعة للخارج ومرتبطة بمراكز العولمة، يختار فيها الناخب بين مرشحين (من جيبي الأيمن إلى جيبي الأيسر) يصبون كلهم في نفس المشروع في النهاية. 

 

كلنا يحب الياسمين، وعلى الأرجح قصد خيراً ذلك المدون التونسي الذي أطلق تعبير “ثورة الياسمين” على الانتفاضة الشعبية في مدونته على الإنترنت… لكن ذلك المصطلح قدح فكرة جهنمية في ذهن صناع الرأي العام العالميين على ما يبدو، إذ تذكروا زنبق قيرغيزستان، فراحت بعض أهم وكالات الأنباء العالمية تتناقل مقالته المدفونة في مدونة غير معروفة لتعممها على أوسع نطاق، لتُنشر بعد ذلك في مواقع بارزة في الصحف العربية، وما هي إلا محاولة لإعادة تأويل الهبة الشعبية التونسية أمريكياً وتقديمها إعلامياً وتوجيهها سياسياً بعيداً عن سياقها الثوري نحو مسارات تقضي عليها في المهد. 

 

فهنالك فرق كبير جداً بين “ثورة ملونة”، في تونس أو غير تونس، تستبدل حكم الفرد بحكم طبقة لا تقل تبعيةً عن ذلك الفرد لقوى الهيمنة الخارجية، وبين انتفاضة شعبية تعصف بالفرد والطبقة الذين تقوم التبعية للخارج على أكتافهما. 

 

وهنالك بون شاسع بين “ديموقراطية” الكمبرادور، أي تأسيس قواعد مستقرة ومتعارف عليها لتداول السلطة سلمياً بين أفراد الشريحة الاجتماعية الوسيطة بيننا وبين قوى الهيمنة الخارجية، وبين حكم الشعب لنفسه بنفسه، من خلال لجان الأحياء والمناطق التي ابتدعها الشعب التونسي مثلاً، وهي من أرقى أشكال الديموقراطية… بعيداً عن شريحة الوسطاء والمتعهدين الاقتصاديين والسياسيين والثقافيين للهيمنة الأجنبية المباشرة أو غير المباشرة، وهي الشريحة المقصودة في الاقتصاد السياسي بتعبير “الكمبرادور”.

 

وهنالك فرق كبير بين احتفاليات وطقوس تداول السلطة، دون المساس بالخيارات الأساسية للدولة، وبين تغيير التوجهات الأساسية للدولة لمصلحة أوسع فئات الشعب.  باختصار، هنالك فرق رهيب بين نظام الديموقراطية الأمريكية في الدول التابعة وشبه المستعمرة، الذي لا يمس بنية التبعية للخارج، ولا يمس مصالح وامتيازات الشريحة الاجتماعية المهيمنة، وبين تحرر الوطن والمواطن من التبعية للخارج ومن العبودية لأدوات الخارج.   

 

وهذا الفرق لا يكمن أبداً بتغيير الوجوه، لا في تونس ولا في الأردن، ولا في أي مكان في الوطن العربي أو العالم الثالث! بل يكمن في الإجابة على السؤال التالي: من يملك زمام الثروة والسلطة؟  الكمبرادور، أم أوسع فئات الشعب من العاملين والعاطلين عن العمل؟  وإذا نسينا هذا الفرق، فإننا قد نحصل على “ديموقراطية” المتعهدين الأمنيين في السلطة الفلسطينيية مثلاً، أو على أي ديموقراطية في ظل احتلال أو شبه احتلال، ولا يمكن أن تنتج الديموقراطية الأمريكية كقاعدة عامةً إلا مثل تلك النتيجة لأن قوانين لعبتها فصلت لهذا الغرض. 

 

لا بل أن حكم الفرد، بما يحويه عادة من فساد وبيروقراطية ومزاجية واعتباط قانوني، يصبح عائقاً أمام التبادل الحر للتجارة وتدفق الاستثمار على هوى الشركات متعدية الحدود، أي أنه بالتعبير الاقتصادي يرفع “كلفة المقايضات”، ومن هنا تصبح الديموقراطية والشفافية وحكم القانون مطلباً لقوى الهيمنة الخارجية نفسها، وللكمبرادور الذي يجد نفسه مضطراً لدفع الأتاوات أو الخضوع للقرارات الاعتباطية للفرد وحاشيته. 

 

وعندما يقدم أفراد من عائلة الطرابلسي على مصادرة يخت فاخر لمليونير فرنسي، فإن ذلك لا يرضى حتى الكمبرادور ولا فرنسا ولا بقية قوى الهيمنة الخارجية ولا الشركات العالمية الكبرى.  وعندما يفرض الفرد نفسه على كل الاستثمارات الكبيرة في دولته، فإنه يصبح مشكلة دولية توازي مشكلة “بلطجي الحارة” في الأفلام المصرية، ويصبح مفهوماً ركوب الجميع صهوة الاحتجاج الشعبي المشروع لتحويله باتجاه ثورة ملونة تنتج ديموقراطية التبعية، ويمكن رؤية البرادعي في مصر كبديل كمبرادوري “ديموقراطي” لنظام حكم الفرد المتعسف والبيروقراطي والفاسد وثقيل اليد.

 

أما تفاعل الشارع العربي الحماسي مع الانتفاضة الشعبية التونسية، فيدل أنه ما برح شارعاً عربياً واحداً، لا “شوارع”… فمن مسقط إلى نواكشوط كان للانتفاضة الشعبية التونسية أصداءٌ وترانيم لم يكن لها مثلها في أفريقيا أو آسيا خارج الوطن العربي.  وقد باتت عربة خضار بوعزيزي رمزاً للكرامة الشعبية العربية جنباً إلى جنب مع حذاء منتظر الزيدي.  وها هي القاهرة ومصر كلها ترجع أصداء تونس.

 

إن التفاعل مع شرارة تونس شأن عربي عام، لا محلي فحسب، لأن أنظمة التجزئة جزء من بنية واحدة وسلسلة واحدة، وتونس ليست معلقة في فراغ، بل هي جزء من وعاء إقليمي وجغرافيا سياسية متشابكة، وعروبة واحدة…  كما أن النهج الاقتصادي لا يمكن فصله عن النهج السياسي لأنه يعبر عن مصالح نفس الشريحة الاجتماعية، وفاسدو السلطة الفلسطينية مثلاً، كما أظهرت تسريبات الجزيرة الأخيرة، هم أنفسهم المفرطون والمطبعون.  ومن يبع الوطن سياسياً، يسرقه اقتصادياً. 

 

وفي النهاية، لا مشروع تغيير حقيقي في قطر عربي واحد، فإما أن تمتد ثورته عبر حدود التجزئة، وإما أن تختنق.  لهذا، فإن التفاعل مع انتفاضة تونس في الأردن أو غيره لا يجوز مسخه أيضاً باتجاه إنتاج “إصلاح سياسي” على المقاس الأمريكي سواء بالتغيير السطحي للوجوه، أو من خلال مشروع “الملكية الدستورية” لتعزيز حكم الكمبرادور المحلي.  فإما المطالبة بتغيير جذري للنهج وخيارات الدولة، بالحد الأدنى، وإما المطالبة بإسقاط حكم الكمبرادور…

 

أخيراً، وبمناسبة الحديث عن الجغرافيا السياسية، من البديهي أن يكون ثمن التغيير الجذري أكبر بكثير من مئة شهيد كلما اقتربنا من العدو الصهيوني أو منابع النفط أو الدول العربية المركزية، لكن التمرين الميداني التونسي يبقى درساً نموذجياً في هذه المرحلة من تاريخنا العربي المعاصر.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *