الفصل الأول: في ضرورة العمل الجماعي المنظم

 

عندما يعرف المرء أين يجب أن يذهب، وكيف يصل إلى هدفه، وعندما يكون تصوراً عن نوعية العقبات التي قد تواجهه على الطريق وكيف يمكن أن يتعامل معها، فإنه يكون قد وضع لنفسه برنامجاً للعمل.  والفرق بين وضع برنامج وتصور من هذا النوع وعدم وضعه هو الفرق بين العمل العفوي والعشوائي المزين بحسن النوايا، وبين العمل الواعي المنظم.  وتنطلق السطور أدناه من معالجة إشكالية الوعي الفردي مقابل الوعي العام في العقل الجمعي للمواطن العربي لتصل إلى استنتاج مفاده أن بداية العلاج الشافي لكل مشاكلنا العربية المعاصرة تكمن في عصاً سحرية هي الوعي العام الذي ينتج عملاً عاماً، أي الوعي الذي يربط مصلحة الفرد بمصلحة الأمة، فينتج مجموعة من القيم والمفاهيم والأهداف والقناعات وطرق العمل المشتركة التي يتفق عليها مجموعة من الناس، فتقود إلى عمل جماعي منظم بين المواطنين العرب باتجاه محدد، حيث أن غياب حركة شعبية عربية منظمة، مع كامل الاحترام لكل الانفجارات العفوية في الشارع والمشاعر الصادقة، يبقى الحلقة المفقودة في حياتنا العربية الراهنة.  ومثل هكذا حركة يمكن أن تفعِّل طاقات المواطن العربي، وأن تتجاوز حدود التجزئة، وأن تتصدى لعلاج ما لا تستطيع الأنظمة العربية أن تعالجه بسبب عوائق بنيوية متأصلة فيها وفي حدود التجزئة نفسها.  ولا يُُطرح مشروع هذه الحركة على شكل حزب أو تنظيم حديدي، بل على شكل تيار، أو تيارات حتى، لا تتمسك بأيديولوجيا مغلقة كما درج الحال في الماضي، بل بمسطرة مصلحة الأمة، وبمجموعة من الثوابت السياسية المنبثقة من مصلحة الأمة.  ومن هنا يأتي التركيز في الصفحات التالية على بلورة مفهوم الثوابت وأبعاده.  وفي هذا السياق، يقدم هذا الفصل أيضاً مثالاً في بناء إحدى أنوية هذا التيار العريض هو مثال “لائحة القومي العربي” على الإنترنت.  ومن البديهي أن هذه المعالجة تنطلق من أن التناقض الرئيسي الذي يحكم الحياة السياسية في بلادنا ويمنع تطورها ووحدتها هو التناقض مع قوى الهيمنة الخارجية ومشاريعها وأذنابها، أما موضوعة الديموقراطية، التي تعالج بتفصيل أكبر في موضع أخر، فتُناقش أساساً من خلال علاقتها بذلك التناقض الرئيسي.     

 

1 – رسالة قصيرة للشباب العربي: لمَ السياسة؟

 

إذا كنت ممن يحبون تقصى تفاصيل أخبار أخر سيارة جديدة أو مباراة كرة قدم في كوريا أو مسابقة غنائية عبر الأقمار الصناعية أو تقليعة في عالم الأزياء أو فضيحة في حياة الممثلين والمغنين أو “صرعة” في عالم الهاتف المحمول والأجهزة الالكترونية، و

إذا كنت في الآن عينه ممن يشعر أن العراق وفلسطين والجولان ومزارع شبعا والباقورة الأردنية وباقي الأراضي العربية المحتلة تقع كلها على كوكب زُحل، وأن النضال ضد الظلم والطغيان ومن أجل وحدة الأمة مجرد خيالات لا طائل منها،

وأن المهم هو أن “يعيش” الإنسان حياته كفيديو كليب وأن يسعى على الهامش لتأمين حاجاته بأية طريقة ممكنة دونما حاجة للتفكير بما يوجع الرأس ويسبب “المشاكل”، فياريت لو تعطينا دقيقتين من وقتك

هل فكرت يا ترى لماذا يتقاضى من يحمل نفس مؤهلاتك في أمريكا مثلاً عشرة أضعاف راتبك على الأقل بعد تخرجه، هذا على افتراض أنك وجدت عملاً؟  وعلى فكرة، لماذا تأتينا  الابتكارات الصناعية والتكنولوجية والمنتجات الترفيهية والثقافية الجديدة، التي يصبح تعاطينا واستهلاكنا لها “ضرورة” اجتماعية كي لا نصبح “أقل شأناً” من غيرنا، من حفنة معلومة من الدول والشركات الدولية الكبرى؟  وهل تساءلت يوماً لماذا نبحث عن حلولٍ لمشاكلك خارج وطنك وبيئتك، سواء بالهجرة والعمل في الخارج أو في عالمٍ من نسج خيالك

الحقيقة هي أننا لو كنا نحن العرب الذين نطور السيارة والطائرة والمحمول وغيرها لكانت فرصك الاقتصادية وبيئتك الاجتماعية والثقافية مختلفة بالضرورة.  ولكن ما يجب أن تعيه هو أن الأمم التي تمتلك حريتها ووحدتها هي التي تخلق أفضل الفرص للمواطن ليحقق ذاته فيها.  فالمشكلة بالأساس ليست الفروق الفردية بين المواطن العربي والمواطن في أوروبا الغربية أو اليابان مثلاً، أو مشكلة ظروفك أنت بالذات.  وهذا يعني أن زيداً أو عبيداً أو فاطمة ربما يجدون حلولاً لمشاكلهم الفردية بشكلٍ أو بأخر، ولكن من أين لباقي أخوتهم وأخواتهم أن يجدوا مثل هذه الحلول!  

وإذا أخذنا مثلاً يحبه بعضكم هو أمريكا فسنجد أنها قدمت ستمئة ألف قتيل في القرن التاسع عشر لكي تحافظ على نفسها من التفكك إلى دويلات، وهو أكبر ثمن دفعته أمريكا في أي حرب خاضتها في تاريخها.  فهل تعتقدون أنها كان يمكن أن تكون على ما هي عليه اليوم لو رضي مواطنوها على أنفسهم أن يقعدوا أو يهربوا وبلادهم تتفسخ، أو لو بقيت تحت الاحتلال البريطاني قبلها؟!  

إذن المجتمعات والأمم الفاعلة في التاريخ لم تولد هكذا، ولم تحقق نوعاً من شروط التوازن لمواطنيها وهم يبحثون عن حلول فردية لأنفسهم أو عن هروب في عالمٍ خاص أو مفتعل.  بل أصبح لتلك المجتمعات، بالرغم من كل النقائص التي تلتصق  بها، آلية  قابلة للحياة والتطور الذاتي لأن مواطنيها أدركوا الحاجة للقيام بعمل منظم يعالجون به مشاكلهم العامة، أي أدركوا الحاجة لممارسة العمل السياسي بكل أشكاله دون أن يطلبوا إذناً من أحد.  ونحن بالمقابل نبحث عن حلول فردية أو قطرية لمشاكل عامة عربية.  مشكلتنا إذن هي ضعف الإرادة الجماعية والوعي العام، وتفشي الوعي الزائف عند قطاع لا باس به من أصحاب المشكلة أنفسهم، ولذلك نفشل كمجتمعات وكأفراد في حل مشاكلنا بصورة جذرية… 

فهل وصلت الرسالة؟

السياسة هي الشأن العام، أي القاسم المشترك بين كل شؤوننا الخاصة كمواطنين..  والعمل السياسي بالتالي يتعلق بكل ما يمس الشأن العام، أي ما يمسنا جميعاً في آنٍ معاً.  وترك العمل السياسي يعني ببساطة تسليم أمرنا للصدفة في أحسن الأحوال، أو لمن قد لا يعنيه من قريب أو بعيد.  وهو يعني هدر حقوقنا ومنعنا من تحقيق ذاتنا كأفراد، في الأعم الأغلب، لأننا ممنوعون من تحقيق ذاتنا كأمة.

 

2 – إذن ما هو العمل السياسي؟ وبماذا يفيد؟

 

 

فليعذرنا الأساتذة الكبار وكل كوادر العمل الوطني المخضرمين، لأننا بتنا نعيش في زمنٍ انكفأت فيه المشاريع والرؤى الوطنية الكبرى على مستوى الأمة، فانقلبت المقاييس، وتشوهت المفاهيم، خاصةً في صفوف الشباب، وبات من الضروري بالتالي أن نعود جميعاً إلى الأسس والبديهيات درءاً لخطر تحول العاملين بالشأن العام، بجميع توجهاتهم، إلى نخبة منفصلة عن الشعب الذي يتصدون لحل قضاياه من خلال العمل السياسي.  

 

إذ يظن البعض اليوم أن العمل السياسي عبارة عن “كلام بكلام”، وأن من يمارسونه ربما يخفون خلف ستار كلماتهم وشعاراتهم أجندات شخصية فحسب، أو مصالح خاصة يسعون لتحقيقها، أو أنهم نخبة اجتماعية تهوى اللهو بالمصطلحات الغامضة وتحب استعراضها.  ولا شك أن مثل هؤلاء موجودون بالطبع، وكثيراً ما تبرز حالات انحراف أو فساد بين السياسيين أو المسييسين العاملين في الشأن السياسي تؤكد مثل تلك القناعات عند من لا يرون جدوى الانخراط فيه، ولذلك لا يفهمون لمَ قد يقضي غيرهم الساعات الطوال مثلاً في مناقشة أو متابعة الشؤون السياسية، ناهيك عن جعل الالتزام السياسي أو العقائدي أولوية في حياته، ولمَ قد يعطي زيد أو عمرو الشأن السياسي أهمية أكبر بكثير من سائر شؤونه الفردية والشخصية كما هو دأب المجاهدين والمناضلين من أجل القضايا الكبرى مثلاً… 

 

وفي ظل سيادة ثقافة السعي لتحقيق “السعادة الفردية-الاستهلاكية” بأي ثمن، صار “الذكاء” يتمثل بالابتعاد عن “وجع الرأس” و”المشاكل”، أي عن الشأن العام، وبمحاولة إيجاد فقاعة آمنة يمكن أن يحمي المرء نفسه فيها من انعكاسات الشأن العام عليه شخصياً على طريقة “لأنك أنت أولاً…” أو إعلانات “ألواني” و”دراجتي” وكل ما يتصل بياء الأشياء الفردية المنفصلة عن باقي الكون.  

 

ففي ثقافة فردية استهلاكية من هذا النوع، يصير من الطبيعي أن يقال في الشهيد أو الأسير أو فيمن قضى عمره في العمل النضالي أو الجهادي: “مسكين، راحت عليه!”.  وأن يقال فيمن يبيع ضميره وقناعاته للوصول إلى منصب أو ثروة: “شاطر!”… ما دام الوعي العام، أي الوعي السياسي، قد أصبح عبئاً على صاحبه يعيقه عن متابعة حياته بشكل طبيعي على طريقة “ذو العقل يشقى في النعيم بعقله”، حتى بدون مواجهة القمع والاضطهاد والاعتقال.

 

ولا شك أن الأنظمة العربية المعنية بإبعاد أوسع قطاعات الشباب عن الشأن السياسي، بكافة وسائل الترغيب والترهيب – حتى وهي تتحدث عن “التنمية السياسية” – هي من أول الجهات المعنية بتوسيع تلك الحالة من الجهل والتجهيل بين الشباب، لأن من ينغمس في الشأن الفردي لا يعارض السياسات الحكومية ولا يسأل عن الفساد والمال العام، ولا عن موارد الدولة، أي موارد الشعب، ولا عن التفريط بالقضايا الوطنية والقومية الكبرى، قضايانا، قضايا الأمة.  وأفضل الظروف بالنسبة لأي نظام قمعي أو مستبد هي بالضرورة تلك التي لا يضطر فيها النظام لقمع معارضيه وقوى المجتمع الحية إذا تمكن من خلق أجواء يعزف فيها الناس عن العناية بشأنهم العام، وصولاً إلى تدمير الوعي العام برمته، وهو الأمر الذي نجح النظام السياسي الأمريكي مثلاً  بتحقيقه إلى حد كبير في الولايات المتحدة نفسها.

 

والفضائيات التي تقتات عليها عقول الشباب العربي اليوم لا يكمن خطرها الأول بتهديد الأخلاق العامة، برأيي المتواضع، بل بتكريس نمط الحياة الفردية وقيم الانغماس في الذات، بعيداً عن الشأن العام، في عالم هروبي مفتعل يصبح هم من يلجأ إليه أن يعيد إنتاجه بقدر الإمكان في حياته الواقعية.

 

وفقهاء السلاطين الذين يوجهون الناس للعناية بالشعائر فحسب، ويتركون القضايا الكبرى للأمة ليعنوا بالسفاسف، ليسوا إلا الوجه الأخر للفضائيات وكل مروجي الثقافة الهروبية، بالرغم من خطابهم الأخلاقي، لأنهم يقومون أيضاً بتوجيه الناس بعيداً عن الشأن العام، وعن العمل للتصدي الفاعل لمشاكله.

 

والمثقفون الذين يتذيلون للسلاطين ليقنعوا الناس في النهاية أن شؤونهم بأيدٍ أمينة لا يجوز أن تُسال عما تقوم به، ومثقفو منظمات التمويل الأجنبي الساعين لتحقيق ذاتهم الثقافية من خلال التساوق مع أجندات معادية للأمة في النهاية، خاصة من حيث مسخ العمل السياسي وتفكيكه إلى مجموعة من النشاطات الخيرية تتصدى لعوارض الأزمات بدلاً من جذورها، هم أيضاً جزءٌ من مشروع تدمير الوعي العام والعمل السياسي.

 

لكن الشأن العام ليس إلا الشأن الذي يؤثر على أعداد كبيرة من الناس، فقد يبدو شخصياً بالنسبة لكلٍ منهم، مثل معاناته المعيشية، أو خوفه من التعبير بحرية عما يجيش بصدره، أو شعوره الدائم بالخطر الذي يتهدده في الأقطار العربية الواقعة تحت الاحتلال أو المهددة بالاجتياحات والتفكيك والحروب الأهلية.  وهذا النوع من الإشكالات لا يمكن التصدي له بشكل فردي.  فالمشكلة العامة تحتاج إلى أداة معالجة عامة.  وتلك الأداة العامة ليست إلا الحركة السياسية أو الحركة المقاومة التي تضع تصوراً وبرنامجاً ومشروعاً للتعاطي معها، مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين مثلاً، أو الاحتلال الأمريكي للعراق، أو مع المشكلة الاقتصادية لعشرات ملايين المواطنين العرب التي تأخذ شكل أزمات بطالة وسكن وارتفاع لا يتوقف للأسعار، أو مع تشظي وطننا إلى أقطار وطوائف واثنيات وعشائر وحارات، الخ…

 

ومشكلة هذه القضايا العامة أنها تتفاقم بمقدار ما نتجاهلها، فهي لا تحل من تلقاء نفسها، خاصة في ظل وجود قوى صاحبة مصلحة بتفاقمها، أو هي المسؤولة عن وجودها بالأساس، كالطرف الأمريكي-الصهيوني مثلاً. 

 

والعمل العام ليس عملاً خيرياً لمساعدة الفقراء والمحتاجين بالمناسبة. فالعمل الخيري له أهله، لكن مسخ العمل العام أو السياسي إلى عمل خيري، أو إلى إنشاء شبكة للخدمات الاجتماعية مثلاً، يشتت الانتباه والجهود عن العمل السياسي الحقيقي لتغيير الواقع جذرياً.  وتعرف القوى السياسية التي تتحمل عبء إنشاء مثل تلك الشبكات لتقديم الخدمات الاجتماعية والخيرية جيداً أنها تصبح أحياناً عبئاً حقيقياً عليها، مالياً وإدارياً، حتى وهي تجني منها المصداقية السياسية فقط لأن بعض الناس لا يرون أن رب فضائية أو وسيلة إعلامية أو حركة سياسية أو نشاط مقاوم أو فكري أو ثقافي أقدر بكثير على تغيير الواقع وحل إشكالاته من إنشاء جمعية خيرية، وأحق بالدعم مئة مرة من النشاط الخيري.

 

واليهود تراهم يغدقون التبرعات ويصبون الجهود الحثيثة على منظماتهم السياسية والإعلامية لأنهم يدركون أن إمساكهم بالشأن العام هو مفتاح قوتهم، لا مساعدة محتاج هنا أو فقير هناك، بالرغم من أهمية ذلك.  ولا يقلل من أهمية العمل العام حدوث فساد فيه هنا أو تسلل انتهازيين إليه هناك، بالضبط لأن القضية الأساسية تبقى أن الشأن العام هو مربط الفرس في كل المجتمعات، وهو القاسم المشترك بين كل الأشياء الاجتماعية والفردية، وفيه تكمن قوة المجتمعات وضعفها. 

 

فالشأن السياسي إذن هو كل ما يمسك ويمسني ويمس الجميع، وبالتالي فإن التصدي له هو شرط وجودنا كمواطنين وكبشر على هذه الأرض، لا مجرد منتدى خاص لمن حلوا مشاكلهم الشخصية كما يظن البعض.

3 – حركات المقاومة كسلع اجتماعية

   

يميز علم الاقتصاد ما بين نوعين من السلع والخدمات: الخاصة من جهة، والاجتماعية من جهة أخرى.  أما السلع والخدمات الخاصة، فهي التي تكفي حاجات المواطن الفرد، سواء كانت أساسية أو كمالية، مثل الطعام والكساء والدواء والسكن وما شابه.  وهي تباع وتشترى عادة في السوق. 

 

أما السلع والخدمات الاجتماعية، فهي التي تسد الحاجات العامة الناشئة عن اجتماع الناس معاً في متحد اجتماعي سواء كان قرية أو مدينة أو بلد أو أمة. ومن السلع الاجتماعية الأمن والدفاع والقضاء، أو البنية التحتية للاقتصاد كالشوارع والموانئ والمطارات، أو مثل حاجة الجماعة للدفاع ضد وباء صحي أو زراعي يجتاح منطقة ما، أو ضد وباء سياسي يجتاح عقول أبناء أمة ما.  وهذا النوع من السلع والخدمات التي تسد الحاجات الاجتماعية لا يباع ويشترى عادة في السوق (إلا في بعض الحالات، كالخدمات التعليمية أو الصحية مثلاً)، ولذلك فإن الناس المجتمعين في أمة أو حارة أو بلدة أو ما شابه يعملون على خلق مؤسسات عامة توكل إليها مهمة إنتاج السلع الاجتماعية.  مثلاً، لا بد للقبيلة أو البلدية أو الدولة أن تنشئ آلية قضائية ما لحل وتحكيم النزاعات بين أبنائها للحفاظ على تماسكها ومنع تفككها نتيجة التعدي على الحقوق الفردية…

 

ويمكن التمييز أيضاً ما بين السلع الاجتماعية والسلع الخاصة من خلال الإجابة على السؤال التالي: هل يرتبط استهلاكي للسلعة أو الخدمة موضع السؤال بحياة ورفاهية المجتمع ككل؟

 

مثلاً، إذا كنت أتمتع بقضاء عادل وأمن مستتب ودفاع خارجي قوي وبنية تحتية متقدمة وعدالة اجتماعية، فإن ذلك يعني عامةً أن أبناء وبنات أمتي يتمتعون بالميزة نفسها، وأن تلك السلع الاجتماعية أنتجت بيد مؤسسات أو آليات عامة وضعها المجتمع الذي أعيش فيه، وأننا لم نشترِها في السوق: خمسة كيلو قضاء عادل، وسبعة أمتار شوارع، أو شوال من دفاع الخارجي ضد الطرف الأمريكي-الصهيوني!

 

بالمقابل، أخي القارئ، لا يتأثر المستوى العام لرفاهية مجتمعك لو قررت اليوم أن تلبس أو تشتري حذاءً أسود بدل البني، أو لو قررت أن لا تتعشى أو لو وددت أن تزور هذا المتجر وليس ذاك، فهذه سلع خاصة، ترتبط بالأفراد وعلاقتهم بالسوق كأفراد، فهي ليست مثل الفساد والقمع والاحتلال والتخلف الذي يفرض وجوده اجتماعياً، إذا عانى منه فرد، عانت منه الجماعة بالضرورة، وبالتالي بات لزاماً علينا كجماعة أن نوجد مقابله سلعاً اجتماعية على شكل محاربة للفساد وحقوق ديموقراطية وتحرير وتنمية، وهو ما يقتضي بالطبع التغلب على العوائق التي تمنع إنتاج تلك السلع الاجتماعية، ومنها الفئات الاجتماعية المستفيدة من هذا القمع والفساد والاحتلال والتخلف.

 

النقطة المركزية هي أن الأمة العربية تفتقد للدفاع الخارجي (وغيره!)، أي للسلعة الاجتماعية المسماة أمناً قومياً.  وها هو الطرف الأمريكي-الصهيوني يرتع كما يشاء في ربوعنا، يقتل نصف مليون طفل عراقي أو يحتل ويصادر الأراضي والثروات أو يقصف ليبيا أو تونس أو يهدد سوريا والسودان أو يتدخل سياسياً في شؤوننا الداخلية أو يغزونا ثقافياً وإعلامياً، دون أن تقوم الأنظمة العربية، الحريصة أكثر من أي شيء أخر على أمنها هي، بإنتاج الأمن القومي.

 

وعلى سبيل المقارنة نلاحظ أن الطرف الأمريكي-الصهيوني لا يسعه أن يقتل نصف مليون طفل صيني أو أن يصادر الأراضي الفرنسية أو أن يقصف روسيا كلما شاء أو أن يضع يده على حقول النفط في بحر الشمال أو أن يهدد البرازيل والهند، لأن تلك الأمم تمكنت من إنتاج أمن قومي يمكنها كجماعة من العيش والاستمرار.  إذ لدينا نحن العرب أشد الأنظمة عناية بالأمن، أمنها هي، وأقلها عناية بالأمن القومي الذي يتعرض وجود الأمة للخطر في غيابه.

 

وما دامت الآليات الرسمية العربية متواطئة أو عاجزة عن توفير الأمن القومي، تبقى الحاجة الموضوعية تلح على أبناء الأمة لكي يخلقوا آليات بديلة لتوفيره.  وفي هذا السياق، يمكن اعتبار حركات المقاومة العربية، من حركات المقاومة العربية المسلحة ضد الطرف الأمريكي-الصهيوني وأذنابه، إلى حركات مناهضة التطبيع والمقاطعة الاقتصادية، إلى حركات المقاومة الثقافية والإعلامية من الإنترنت إلى المهجر، عبارة عن مبادرات شعبية ضرورية لإنتاج السلع الاجتماعية التي يمنع أو يعيق إنتاجها أمن أنظمة التجزئة العربية. 

 

بيد أن السلعة الاجتماعية الأهم، السلعة الاجتماعية التي تمكننا أن ننتج كل سلعة اجتماعية أخرى في هذه اللحظة من تاريخنا العربي المعاصر، تبقى إنشاء حركة شعبية عربية منظمة، أي مؤسسة شعبية عربية، نستطيع من خلالها أن نعبر عن إرادة الأمة، وأن نحشد الطاقات والموارد اللازمة، لا للتصدي لهذه المشكلة أو تلك فحسب، بل لتصفية الحساب بيننا وبين التاريخ، لكي نخرج من تخلفنا وتجزئتنا واحتلالنا وتبعيتنا، ولكي نصنع غداً أفضل لوطننا، لنا، ولأجيال لم تخلق بعد…         

 

 

4 – نحو إجابة أولية للسؤال الراهن: ما العمل ؟

  

 وقد أعلن الطرف الأمريكي-الصهيوني حرباً على الأمة العربية تأخذ أشكالاً شرسة ومتعددة عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية ونفسية وإلى ما هنالك. ولذلك، فإن مقاومة الأمة يجب أن تكون أيضاً شاملة، أي عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية، من حرب العصابات إلى مقاومة الصهينة والتطبيع إلى مقاطعة المنتجات الأمريكية إلى كشف الخطاب الإعلامي المتواطئ والمضلل إلى كل ما تتفتق عنه المبادرات الشعبية من وسائل لمواجهة الطرف الأمريكي-الصهيوني وأدواته ومخططاته.  ولكن المقاومة في بلادنا لا بد أن تكون شاملة في منهجها أيضاً، بمعنى:

                               

1- اتخاذ المقاومة موقفاً في العمل عند كل مستوى من المستويات التي يدور فيها الصراع

 

2       – حسم الموقف بشكل نهائي من الطرف الأمريكي-الصهيوني وأدواته، وإزالة أي تشويش بصدد إمكانية التوصل لتفاهم أو تسوية من أي نوع معه، وبالأخص، مواجهة النزعات الوسطية والانتهازية والمتذبذبة في صفوفنا

                             

3-  تعبئة طاقات شرائح أوسع من الشعب لخوض هذه المواجهة المفروضة علينا على أساس تفعيل المبادرات الذاتية لإيجاد الحلول الخلاقة واكتساب المهارات اللازمة للتغلب على الاختلال في ميزان القوى بيننا وبين العدو عند كل مستوى من مستويات الصراع

                               

4- العمل على خلق أطر مرنة للتنسيق بين كل القوى المعنية بهذه المواجهة على أساس هدف المقاومة الشاملة، لا على أساس الاستقطاب الحزبي الضيق أو التبعية لزعيم أوحد أو لنهج فكري محدد، مع الاحتفاظ بحق الاختلاف ضمن الخطوط الحمراء

                                

5 – الاستفادة من كل نقطة قوة لدينا وكل نقطة ضعف عند العدو لتحقيق الانتصارات التراكمية، مثلاً، نزعتنا الاستشهادية مقابل العامل البشري عند العدو، أو قوتنا الشرائية مقابل حافز الربح عند العدو، أو حرب عصاباتنا لتحييد التكنولوجيا المتقدمة عند العدو، أو عددنا وثقافتنا لاحتواء محاولات الاختراق، وهكذا..

 

6- الاستعداد لتقديم التضحيات دون حساب للوصول بالمواجهة إلى نهاياتها المنطقية، إذ ليس هناك أسوأ من متقاعس عن العمل إلا من يقدم عليه بخطوات مترددة

 

7- وأخيراً، جعل الهدف الاستراتيجي لنشاطنا خلال المرحلة المقبلة العمل على تأسيس بنى تحتية مترابطة لحركة شعبية عربية شاملة تستطيع أن تحمل على عاتقها عبء خوض المواجهة بجميع مستوياتها بصورة منظمة ومستمرة (دون أن يعني ذلك تحول مثل هذه الحركة إلى حزب أو تنظيم مغلق).  

إستراتيجية المقاومة الشاملة إذن يستطيع كل فرد منا أن يساهم فيها بقسطٍ يتناسب مع إمكانياته وقدراته.  ولكن هذا لا يعفينا من طرح الإشكال التالي: بينما يمكن أن نصل كأفراد أو مجموعات صغيرة لتصورات معينة حول كيفية التصدي لمشاكلنا العامة، فإننا نصطدم بحقيقة أن الموارد والقوى اللازمة للمضي قدماً بهذه الحلول لا يمتلكها أي فرد لوحده، ولذلك تجد الواحد منا يقعد أحياناً عن العمل لشعوره أنه لا يستطيع وحده أن يحقق شيئاً يذكر.

ولكن سبب هذا الإشكال يعود إلى اعتقاد الذين يعيشونه أنهم يبدأون من الصفر، أو أن عليهم أن يخلقوا شيئاً حيث لا يوجد شيء، حلولاً كاملة، مرة واحدة، هكذا، لمسائل تاريخية تمس أمة بأسرها.  وهذا التقدير ليس صحيحاً على الإطلاق.  فالأمة تنتج باستمرار، وبصورة عفوية  عادةً، تيارات مقاومة عريضة لا بد لكل مستعد وقادر أن ينخرط فيها: مثلاً، تيار المقاومة العسكرية في العراق أو فلسطين والروافد الداعمة له في الوطن العربي، أو تيار المثقفين المقاومين للتطبيع والصهينة، أو تيار مقاطعة المنتجات الأمريكية، ومختلف أنواع التيارات العريضة الأخرى التي تشارك في خلقها قوى وشخصيات كثيرة.  وإذا كانت هذه التيارات بحاجة إلى المزيد من التطوير والتفعيل والتنظيم، فإن ذلك يختلف تماماً عن القول أن الإنسان عليه أن يبدأ من لا شيء.  بل الصحيح هو أن هناك خبرات سابقة لا بد من الاستفادة منها وقوىً ضخمة تحتاج للتعبئة والتنظيم لولا غياب الرؤية السياسية الناظمة. 

أما ما نحتاجه اليوم، فأقترح أنه إستراتيجية المقاومة الشاملة التي نستطيع أن نتبناها حتى كأفراد على صعدنا المحدودة، لا بل التي لا بد لنا أن نبدأ بممارستها كأفراد ومجموعات ضمن أفقها التراكمي كحرب مواقع، ولكن التي لن تنتقل بنا إلى مراحل أعلى من التأثير النوعي الفعال والمنهجي إلا بقيام حركة مقاومة شعبية عربية شاملة لا بد أن يصبح تأسيسها هدفنا الاستراتيجي في هذه المرحلة.

5 – كيف لا نواجه العدوان…

 

عندما لا تعود قادراً على التمييز بين خطاب “المعارضين” والرسميين العرب، فإن ذلك يعني على الأرجح أن “المعارضين”، وليس أنت، قد ابتلوا بداء سياسي خطير هو عمى الألوان…

ثمة مشكلة عندما تصبح ردود الفعل على جرائم الطرف الأمريكي-الصهيوني في فلسطين والعراق وغيرها موحدة على إيقاعٍ متناغم، من السلطة الفلسطينية إلى باقي الجوقة الرسمية العربية، إلى تنظيمات اليسار الفلسطيني إلى من يدعون أنهم قوميون أو إسلاميون إلى الأحزاب العربية عامةً، إلا من رحم ربي.

وهذا النسق المنسجم داخلياً هو بالضبط كما يلي:

1) البدء بالتركيز على الجرائم والانتهاكات والمجازر في المقدمة أو المتن، ومن ثم، 2) دعوة المجتمع الدولي للتدخل لوقف تلك الانتهاكات، في نهاية البيان أو التصريح الصحفي.

وهو قاسم مشترك يمتد كخيطٍ لا ينقطع في كافة البيانات والتصريحات الرسمية والحزبية على حدٍ سواء، وكأن الجميع، كما يقال، قد درسوا على شيخ واحد: انتهاكات فظيعة نطالب المجتمع الدولي بالتدخل لوقفها!  انتهاكات، لا تذكر أحياناً هوية مرتكبيها!  وهو موقف طريف فعلاً! فعندما تتفق الأنظمة العربية مع المعارضة إلى هذا الحد في طريقة معالجة عقدة سياسية مركزية مثل مواجهة مجازر قوى الهيمنة الخارجية، فإن الإلحاح على “الوحدة الوطنية” و”حرية التعبير” وغيرهما يصبح آنذاك لغواً لا مبرر له، ولا داعي لأن تخاف الأنظمة من المتفقين معها في النهاية!!

والمشكلة بمنطق: “انتهاكات تحتاج لتدخل دولي” أنه يطرح المسألة بطريقة تجعلها قضية انتهاكات فحسب، وأنه يعطي المشروعية، لا بل يطالب، بتدخل دولي لم يكن يوماً لمصلحة الأمة وكان يشكل منهجياً الغطاء السياسي لتدخلات الطرف الأمريكي-الصهيوني في بلادنا، كما أنه يموه على الطبيعة الحقيقية للمواجهة التي نعيشها.

فإذا نظرنا للمسألة، بالمقابل، باعتبارها قضية احتلال وهيمنة، فإن الاستنتاج الضروري يصبح بديهياً مشروعية المقاومة، وبالتحديد أكثر، سمو العنف المسلح في مواجهة الطرف الأمريكي-الصهيوني الذي غالباً ما يتغطى بالتدخل الدولي.

نحن إذن في خضم صراع تناحري لا يحل إلا بالعنف مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، وهذه الطريقة في وضع المسألة لها تبعات واضحة بالنسبة للمهمات الملقاة على عاتقنا كأفراد وجماعات: على المدى القريب، ضرورة دعم المقاومتين العراقية والفلسطينية بكل عوامل القوة، بالمال والمقاتلين والموقف السياسي الواضح، باختراق الحدود، كالشبان المصريين الستة إذ تسللوا على عاتقهم لتنفيذ عملية في فلسطين المحتلة، بتصعيد الموقف الشعبي والحزبي من الأنظمة العربية وهي تتمرغ في أحضان الطرف الأمريكي-الصهيوني وتكبت حركة الشارع العربي المساندة للمقاومتين، باختصار، بالمقاومة إذا تعربت، بكل ما للكلمة من معنى… أي بتأسيس حركة شعبية عربية منظمة، في النهاية، تمكننا من الخروج من حالة ردة الفعل على المدى القريب إلى حالة الفعل الواعي على المدى البعيد، فدعونا لا نهرب من مهماتنا الحقيقية.

ومن لا يملك الاضطلاع بمهماته الحقيقية، فليقل كلمة حق على الأقل.  فمن هو بالضبط المجتمع الدولي الذي تناشدونه؟  أليس أصحاب القرار الدولي القادرين اليوم على وقف المجازر هم أنفسهم الذين يمارسونها؟  وهل عرفتم أبداً قوماً جاءهم الفرج من “المجتمع الدولي” دون أن يصنعوه بأيديهم، لا بل دون أن يمتلكوا نفوذا دولياً يذكر؟!

ومن السذاجة بمكان أن نبني إستراتيجيتنا السياسية حول إثارة مشكلة ازدواجية المعايير “الدولية” ما بين العدو الصهيوني والعرب، لأن من يثير هذه القضية لا يدرك أنه ليس هناك من قرار دولي، من قرار التقسيم رقم 181 إلى قرار 242، إلا ومرره صانعوه ليحققوا هدفاً مفصلياً في مرحلة مطلوب تجاوزها استراتيجياً مقابل التلويح بفتات للعرب.  مثلاً، قرار 181 كان يهدف لتأسيس دولة العدو بمشروعية دولية، وليس لإعطاء 45 بالمائة من فلسطين للعرب!  وقرار 242، بمطالبته بالانسحاب من أراضٍ احتلت عام 67، كان يهدف لإضفاء المشروعية الدولية على ال 23 بالمائة الإضافية من فلسطين التي احتلها اليهود عام 48 فوق ما أخذوه بقرار التقسيم، الخ… فليست المشكلة أننا رفضنا القليل لنقبل فيما بعد ما هو أقل منه، بل كان كل قرار دولي يهدف بالأساس لتغطية هدف استراتيجي صهيوني محدد، يضع الطرف الأمريكي-الصهيوني في موقفٍ أقوى، ليجبر العرب لاحقاً على المزيد من التنازلات. 

والمخطط الأمريكي-الصهيوني في الوطن العربي لم يكتمل بعد، وعلينا بالتالي توقع المزيد من المجازر والجرائم، وعلى من ينتظرون التدخل الدولي في لبنان وسوريا وغيرها، خاصة “التقدميين” منهم، أن يتعظوا من تجربة العراق، فليس هناك من “استعمار ديموقراطي” أبداً… 

المهم، عندما لا تكون لدينا أداة عامة للتعاطي مع مشاكلنا العامة، أداة تعبر عن إرادتنا ومصلحتنا الجماعية، مثلاً، حركة شعبية عربية منظمة، فإن مواجهة الأزمات التي نعيشها كأمة يأخذ دوماً شكل ردة الفعل، في أحسن الأحوال، وشكل اللجوء إلى حائط مبكى “المجتمع الدولي” في أسوأ الأحوال… ولأننا لا نملك أدوات فعالة للعمل العام، فإن مناشدة ذلك المجتمع الدولي تبدو أمراً منطقياً وبينما هي في الواقع تعبيرٌ عن عجز السفهاء.

 

6 –  في المعادلة الكيميائية للمقاومة

 

لو تساءلنا عن الظروف المحددة التي أنتجت فعلاً مقاوماً ناجعاً في الوطن العربي عبر تاريخنا المعاصر، فإننا سنجد أنها قامت على توافق عاملين في آنٍ معاً هما:

1)     تزعزع حقيقي لسلطة النظام الرسمي العربي على الأرض يترافق مع

2)     تدخل مباشر أمريكي-صهيوني سياسي وعسكري.

ونستطيع أن نصل إلى هذه الخلاصة من خلال التمعن في القاسم المشترك لكل تجارب المقاومة المعاصرة في لبنان وفلسطين والعراق والصومال. 

ففي لبنان كان هناك فراغ سلطوي عندما اجتاحه العدو الصهيوني، مما أدى لتوفر الظروف الملائمة لتصاعد المقاومة اللبنانية بشقيها الإسلامي والوطني.  وقبل ذلك، كانت المساحة التي ملأتها المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية هي نفسها المساحة التي انحسرت عنها السلطة اللبنانية.

وفي فلسطين، أدى قيام الكيان الصهيوني بتحجيم السلطة الفلسطينية إلى تصاعد انتفاضة كانت قواها محتجزة من قبل تلك السلطة بعد توقيع أوسلو.  وقبلها، لم تتوقف منظمة التحرير عن المقاومة إلا بمقدار تحولها تدريجياً من الداخل إلى سلطة.

وفي العراق لم تتصاعد المقاومة فعلاً إلا بعد انهيار النظام العراقي، ولو كانت الكثير من القوى العراقية المقاومة قد تم إعدادها في كنف قيادة ذلك النظام، لا بل مع توفر نية المقاومة عند قيادة ذلك النظام، وهو ما يؤكد النقطة نفسها أن المقاومة الفعالة لا تكون في ظل نظام. 

وفي الصومال تصاعدت المقاومة في التسعينات لأن التدخل الأمريكي جاء في ظل فراغ سلطوي أيضاً.  فمن الواضح أن المقاومة تتطلب كشرط مسبق تحرر المبادرة الشعبية من الكوابح السلطوية، وكل ما يتمخض عنها من بيروقراطية وفساد وحسابات ضيقة، ومنها الحسابات الضيقة لبعض القوى المسماة معارضة.

وبشكل عام، نلاحظ انخفاض الحيوية السياسية في أي قطر عربي بمقدار تمكن النظام العربي في ذلك القطر من الإمساك بتلابيب المجتمع.  بالدرجة نفسها، نلاحظ العجز المفرط للنظام العربي عن حماية سيادته ذاتها من التدخل الخارجي، خاصة الأمريكي-الصهيوني، بمقدار إمساكه بتلابيب المجتمع.

ويصح هذا على الأنظمة العربية بجميع ألوانها بغض النظر عن وطنيتها أو عمالتها أو اتجاهها العقائدي.  فالنظام العربي، بغض النظر عن هوية من يحكمه، ناجحٌ فقط في تكريس حدود التجزئة، أي في إثبات وجوده إزاء كل نظام عربي أخر فحسب، وهو الهدف الذي خلق من أجله من الناحية الجغرافية السياسية، وهي أيضاً الحقيقة التي تجعل أية محاولة جدية لإصلاح الجامعة العربية أقرب لمهزلة، فالنظام العربي وجد لكي يؤكد هويته قطرياً، ولن يتنازل أي نظام عربي  عن صلاحياته وسلطاته طوعاً حتى لو كان الجميع يدرك أن خلاص الأمة يكمن في ذلك.

بالمقابل، يستطيع النظام العربي على اختلاف تلاوينه أن يحتجز المبادرة الشعبية، وأن يصادر قوت المواطن العربي وقراره في شؤونه العامة، ولكنه لا يستطيع، كي يحافظ على وجوده الهش، إلا أن يتماشى بهذه الدرجة أو تلك، مع قوى الهيمنة الخارجية، وأن يعرض الأمن القومي بالتالي وأمن المواطن للخطر.  ولا يحتاج هذا بالضرورة لتآمر مباشر مع قوى الهيمنة الخارجية، بالرغم من عدم استبعاد ذلك في الكثير من الحالات، سوى أن الغربة عن الشارع،  وتفكك الإرادة السياسية الناتج عن التجزئة القطرية نفسها، تنتجان هذه العاقبة كتحصيل حاصل تقريباً.

والحقيقة، بالنسبة للمشاريع الأمريكية لتغيير الأنظمة، أن سحرها قد ينقلب على الساحر عندما يحرر المبادرة الشعبية من العائق الأول لانطلاقها، لو عرفت قوى المقاومة الكامنة أبداً في رحم هذه الأمة كيف تستفيد من الفراغ السلطوي الذي ستحدثه مشاريع التغيير الأمريكية في بنية النظام العربي!  والمواطنون العرب الموالون أبداً لأمتهم ووطنهم وانتمائهم الحضاري ليسوا ملزمين البتة بالدفاع عن أنظمة لا تمثلهم.   وعلى سبيل المثال، قد يكون تحجيم السلطة الفلسطينية أفضل شيء حصل للشعب الفلسطيني منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة.  وما عدا ذلك، فإن التاريخ العربي المعاصر يدلنا بأن المقاومة تحدث فقط في الحيز الذي تتزحزح عنه الأنظمة العربية، سواء بفعل المقاومة نفسها، أو بفعل تدخل قوى الهيمنة الخارجية.

غير أن قيام المقاومة، وهي بالأساس فعل شعبي عربي مقاوم، وبالأخص قيام حركة شعبية عربية منظمة تتجاوز حدود الأقطار، لا يتم كيفما اتفق، خاصة إذا كنا نتناول أهدافاً قومية كبرى تمس الأمة ككل.  وقد مرت الحركات المقاومة بالكثير من تجارب النجاح والفشل من قبل، وعانت ما عانته من الوقوع في مطبات الانحراف عن أهدافها، ومن ثم من التفكك والضياع وهدر التضحيات، ومن هنا تأتي أهمية تحديد ثوابت تحفظ الحركة النضالية ككل، والمناضلين كأفراد، من الشطط.  فالثوابت خطوط حمراء لا يجوز تجاوزها لأيٍ كان، وأهميتها لا تكمن فقط في الحفاظ على التماسك السياسي والتنظيمي للحركة وقياداتها وكوادرها وقواعدها، وعلى سلامة خطها ومسيرها، بل في كونها قادرة، إن تم تحديدها بدقة، في تجميع جبهات عريضة حولها وعلى أساسها كما سنرى لاحقاً.

 

7 – حول أهمية الثوابت في العمل السياسي: زمن سقوط الأقنعة

 

لنفترض أن عمراً استصلح لنفسه شيئاً من التطبيع مع الصهاينة أو تعاطي التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية أو بعض المواقف الانتهازية أو غير المبدئية في الميدان الوطني، فما هي أفضل الأجواء التي تتيح له أن يقدم على سلوكيات كهذه، بالحد الأدنى من الإدانة له، ضمن الخط السياسي والمجتمع الذي يتضرر مباشرة ً من ممارساته؟

 

ولنفترض أن زيداً رأى أن وضعه الشخصي سيصبح أفضل إذا ما قدم تنازلاتٍ في المبدأ والفكر والعمل، ولكنه لا يريد مع ذلك أن يُحسب على المعسكر المعادي للأمة، بل يريد أن يُعدَ ضمن المعسكر المناهض له، فما هي أفضل منظومة من القيم والمفاهيم يمكن أن تتيح له ميزات المعسكرين في آنٍ معاً؟

 

إذا نظرنا إلى مثل زيد أو عمر، وهما إجمالاً جزءٌ من شريحة هلامية وسطية لا تجد نفسها ومصالحها بالكامل هنا أو هناك، فسنجدهما يدافعان عن انتهازيتهما وتجاوزهما للثوابت تحت حججٍ شتى تتصل خيوطها بالنهاية بمفهوم “نسبية الأخلاق”.

 

و”نسبية الأخلاق”، أو Moral Relativism، مفهومٌ شاع في مذهب ما بعد الحداثة ليأخذ الليبرالية إلى أقصاها عندما يقول بالتساوي المطلق لكل الحضارات والعقائد والممارسات والقيم والمفاهيم والأخلاقيات.  فهو مفهومٌ يساوي مثلاً ما بين تعاطي المخدرات أو الدعارة وعدم تعاطيهما، وفي بلادنا، بين التطبيع ورفض التطبيع، أو بين العمالة والوطنية، وهكذا، باعتبارها جميعاً مفاهيم نسبية، حسب أنصار هذا المذهب، لا يحق لأحدٍ أن يعطي نفسه حق الحكم عليها، إلا الفرد نفسه صاحب الشأن.  أي أن مرجعية الحكم على الأشياء هنا تصبح فردية لا اجتماعية…

 

وقد أصبح مذهب ما بعد الحداثة اليوم، ومفهوم “نسبية الأخلاق” المتفرع عنه، أحد أهم الأسلحة الثقافية في هجمة العولمة الذي لا بد لها من عقيدة تعقلن الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية فيها.  ولذلك، يرى المفكر ضياء الدين سردَر مثلاً أن فكر ما بعد الحداثة ليس إلا التتمة الثقافية لغزو العالم الثالث المتدثر هذه المرة بعباءة الدفاع عن التعددية الثقافية.

 

إن مفاهيم مثل النسبية الأخلاقية والتعددية الثقافية أصبحت اليوم الأرضية الفكرية لبرنامج الشركات العملاقة المتعدية الحدود الساعية أبداً لتطويع المعمورة بأسرها.  والليبرالية المتطرفة أضحت برنامجها في المحافل الدولية والعالم الثالث، سواء في الاقتصاد (حرية السوق, أي الحرية المطلقة للشركات المتعدية الحدود)، أو في السياسة (البعد الفردي الأحادي لحقوق الإنسان وتفكيك الدولة الوطنية)، أو في الثقافة (تقديس التعددية والأقليات)، أو في الأخلاق (الحرية الفردية المطلقة ونسبية الأخلاق، أي تفكيك المجتمع) .

 

ولهذا تجد النخب التابعة في العالم الثالث تتبنى وتحاول بالقوة فرض برامجها الليبرالية المتطرفة في شتى الميادين، ولكن دون الليبرالية السياسية بعد حيث يمكن أن تؤدي إلى “انفلات الأمور”  قبل أن يُنجز الحد الأدنى من مشروع قولبة وإعادة تشكيل المجتمع على الأسس الجديدة.  أما بعد قولبة الاقتصاد والثقافة، فلا يعود ثمة خطر من اللعبة الانتخابية و”حرية الصحافة” وما شابه، تماماً كما الحال في أمريكا.  وبهذا المعنى فقط يصدق الأمريكيون إذا ادعوا أنهم يريدون نشر “الديموقراطية” في الوطن العربي، ولكن ليس قبل جعل الخط الليبرالي المتطرف، أي تحويل الوعي العام إلى وعي فردي، خطاً سائداً في عقول الناس.

 

في بلادنا قد لا يذهب الانتهازيون إلى حد تبني مفهوم “نسبية الأخلاق” علناً، بل قد يتعارضون إلى هذا الحد أو ذاك مع القوى التي تسوق المشروع الليبرالي المتطرف.  ولكنهم في حاجتهم إلى تبرير سلوكياتهم الوسطية أو غير المبدئية عامةً يضطرون لا محالة إلى استعارة جزء من الخطاب الليبرالي المتطرف للقوى المروجة للعولمة. والنتيجة في الحالتين تصب في اتجاهٍ واحدٍ هو تضييع المقاييس الثورية والوطنية.  لأن تمييع المقاييس وإثارة أكبر قدرٍ ممكن من الغبار “الديموقراطي” والفوضى الأخلاقية حولها هو الشرط الضروري لتغطية انتهازيتهم

قال الشهيد كمال ناصر: “سيأتي يومٌ تصبح فيه الخيانة مجرد وجهة نظر”!

 

والخيانة، أو ما هو أقل منها، ليست عند أي شعبٍ وجهة نظر مشروعة،  ولو حاول البعض أن يلبسها قبعة تعدد ونسبية الآراء.

 

نعم، يجب أن ندافع بالمهج عن حرية الرأي والتعبير، وأن نطالب باتساع صدر المبدئيين للخلاف المشروع بالرأي، والناس تعرف على كل حال كيف تميز المدافعين الحقيقيين عن حرية الرأي والتعبير ممن يلعبون بهما لعب المتسترين على معاصيَهم.

 

وتبقى الثوابتُ الحدَ الفاصلَ بين الجد واللعب، قبلها حرية الرأي، وبعدها سقوط الأقنعة.

 

 

8 – في الثوابت والمنهج العلمي

 

يكثر استخدام تعبير “الثوابت” في الأدب السياسي ووسائل الإعلام العربية.   فالإجراءات القمعية مثلاً ضد النقابات المهنية في إحدى الدول العربية جاءت حسب التصريحات الرسمية بذريعة استضافة النقابات لشخصيات تتجاوز “ثوابت الدولة”، أما أحد رموز السلطة الفلسطينية، فيدعي  تمسكه بثوابت النضال الفلسطيني حتى وهو يلتقي القيادات الصهيونية علناً ويعمل بالتنسيق معهم لتحجيم قوى المقاومة والانتفاضة…  

ولعل هذا النمط من استخدام تعبير “الثوابت” نفسه يهدف لخلط الحابل بالنابل ولاستهلاك كلمة ثوابت ذاتها بحيث لا تعود تعني شيئاً لأحد، فيصير انتهاك الثوابت الوطنية للأمة، مثلاً باللقاء بأعداء الأمة، وبالتنسيق الأمني والسياسي معهم، وبضرب أو تحجيم القوى المتمسكة بالثوابت فعلاً، مجرد وجهة نظر أخرى تنطلق من ثوابت ما خاصة بها…   

فهل هناك ثوابت وطنية على قدر من الوضوح يمكن الإجماع عليها من قبل القوى الحية في هذه الأمة بخلفياتها المتنوعة، ثوابت يمكن أن تفصل كحد السيف ما بين الوطنية والخيانة، وما بين النضال والعمالة؟

بل هناك ثوابت وطنية يمكن أن يجمع عليها سواد الأمة تعرف بالعقل والقلب وبإجماع أصحاب الرأي الحر، وهي تنطلق من تحريم ما يتضارب مع المصلحة العامة للأمة في مرحلة تاريخية ما.  ولكن قد يقول قائل: ما الفرق  بين من يصر أن العلاقة مع العدو الصهيوني وقوى الهيمنة الخارجية، كأمريكا وغيرها، تمثل انتهاكاً  للثوابت، وبين من يعلن أن تلك العلاقة مجرد وجهة نظر أخرى؟  أليس الاثنان مجرد وجهة نظر؟!  ألا ينطق كلاهما عن هوى أو عن مصلحة أو رؤية ذاتية؟! يعني رفض التطبيع لم ينزل على مقاوميه كوحي مثلاً، ولا ممارسة التطبيع من وحي الشيطان بالضرورة؟!   

ولكن مثل هذا القول لا يستقيم مع المنطق وحقائق الأشياء، بل يمكن اشتقاق الثوابت بالمنهج العلمي، بشكلٍ مماثل لاشتقاق قوانين الرياضيات والفيزياء والكيمياء.  فقانون إثبات صحة أي استنتاج في العلم هو القابلية لإعادة إنتاجه بشكل مستقل في ظروف متشابهة.  يعني حل مسألة في التفاضل مثلاً سيكون نفسه اليوم كما كان قبل قرن، أوفي جامعة أمريكية أو صينية أو عربية.   

ولو غلينا الماء مليون مرة سيحدث الغليان حوالي درجة مائة تحت ضغط جوي محدد، وسيحدث التجمد حوالي درجة صفر.  فالتحدي الذي يصنع العلم، أي علم، هو القدرة على تكرار النتيجة نفسها بالضبط تحت ظروف مماثلة وبآلية مماثلة بالضبط من قبل أشخاص مختلفين تماماً، وهذا هو معنى التجربة العلمية الناجحة.  وقانون الجاذبية الأرضية تحت الغلاف الجوي يفرض نفسه في عمان وفي نيويورك وفي موسكو وفي بكين… مع افتراض انعدام الرياح وما يسمى في العلم العوامل المشوشة Confounding factors.

ومع أن الحياة الاجتماعية، ومنها السياسية، لا تخضع قوانينها لنفس الصرامة التي تخضع لها الحياة الطبيعية، فالقول “لا تجمع أمتي على ضلالة” دقيق تماماً بالمعنى العلمي أعلاه أيضاً.   فصفة الإجماع، أي وصول معظم الناس لنفس الاستنتاج تحت الشروط نفسها، لا تتحقق في حالة الشطط، بل في الحق أو الصواب، أي اتفاق الاستنتاج مع الواقع.   

هنا يصبح تفسير الفرق بين ثوابت الأمة وثوابت أعدائها بالشكل التالي: لو انطلقنا من منظور المصلحة الجمعية للأمة ككل، سيصل معظمنا بالضرورة لاستنتاج تحريم التعامل مع الغزاة والتعاون معهم، ولكن لو تخلينا عن هذا المنظور وتبنينا عوضاً عنه منظور مصلحة كيان ما غير الأمة، سواء كان فرداً أو شريحة اجتماعية محدودة أو نظاماً قطرياً من كيانات سايكس-بيكو، فقد نصل لاستنتاجات أخرى. 

اعتبار التطبيع مجرد وجهة نظر أخرى، بالتالي، يستحيل أن يأخذ بمنظور مصلحة الأمة، بل يجب كي ينتشر التعاون مع غزاة الأمة أن يُفككَ الوعي الجمعي ليصير المنظورُ فردياً أو طائفياً.  عندها يصبح منطقياً القول: “أريد أن استفيد!”، أو “إن لم أفعلها، يفعلها غيري!”، الخ… فالمقدمة ستكون آنذاك المصلحة الفردية، وليس مصلحة الأمة.

فهناك شئ اسمه ثوابت، وهي تعرف بالعقل والقلب والضمير، لا فرق…

 

 

9 – في مفهوم الحرية ضمن حدود الثوابت

  

سبقت الإشارة إلى أن ثمة أشياء لا نستطيع أن نحققها بمفردنا.  فعندما يتعلق الأمر بمشكلة عامة، يصبح التصدي لها محتاجاً إلى أدوات أو حلول عامة، أي إلى إرادة جماعية، لا يبقى فيها مجال لل”سوبرمانات” والعنتريات الفردية إلا في أفلام هوليود. 

مثلاً، إذا أخذنا مشكلة عامة اقتصادية مثل البطالة أو غلاء المعيشة، أو مشكلة سياسية كبرى مثل الاحتلال أو نهب الحكام لأموال الشعب (الفساد)، أو مشكلة اجتماعية-ثقافية مثل التخلف بأشكاله المختلفة أو الجهل والأمية، أو أية مشكلة عامة أخرى تمس الأمة بمجملها أو قطاعاً واسعاً منها، فإن التصدي لها يتطلب استنفار موارد وإمكانات ووقت وجهود وتضحيات عدد كبير من الأشخاص الذين يجتمعون على: 1) اعتبار المشكلة أولوية تستحق التضحية من أجلها، 2) حد أدنى من الاتفاق على تشخيص أسباب المشكلة، 3) حد أدنى من الاتفاق على خطة عمل أو برنامج أو إستراتيجية ما لحلها.

وفي مجال العمل السياسي بالتحديد، تنشأ الحركات السياسية، سواء كانت جماعة هلامية أو جبهة عريضة أو حزباً نخبوياً أو عصبة مغلقة، بالضرورة على أساس أرضية ما مشتركة من القيم والمفاهيم، وعلى أساس حد أدنى من تشابه التصورات العامة على الأقل وعلى أساس التوافق على برنامج عمل محدد ما، حتى لو كان مؤقتاً. 

وبدون وجود مثل هذه الأرضية المشتركة، التي قد تضيق أو تتسع حسب نوعية وهدف الجماعة التي نتحدث عنها، فإن ما يبقى هو لقاء صدفة عابر بين مجموعة من الأفراد الذين لا يربط بينهم رابط.  وكم هي كثيرة جماعات الأفراد التي تعجز عن التحول إلى أداة عامة لمعالجة مشكلة عامة بسبب افتقادها لوحدة الرؤيا ووحدة الهدف ووحدة الانتماء! فيكون لقاء صدفة مثل لقاء الناس الذين تجدهم في الشارع في حالة انفجار عفوي، دون أن ينتج عن ذلك تراكم يؤدي إلى حدوث تغيير حقيقي بالرغم من التضحيات.   

فالجماعة لا تساوي مجموعة من الأفراد فحسب، بل مجموعة من الأفراد الذين تربطهم قواسم مشتركة ما.  فحتى لو كان المطلوب هو تشكيل فريق رياضي هدفه ربح مباراة فحسب، مثلاً، فإن الفريق لن يكون فريقاً على الإطلاق إذا كان هدف بعض أفراده هو ربح المباراة، وهدف بعض أفراده خسارة المباراة (لأنه يفضل الفريق الأخر في سره)، وهدف الأفراد الباقين هو استعراض تميزهم الفردي في المباراة بغض النظر عما سيحدث لفريقهم وما إذا كان سيربح أم سيخسر.  ولن يكون الفريق قادراً على اللعب أصلاً إذا كان بعضه يرغب بلعب كرة القدم والبعض الأخر كرة السلة والبعض الأخر كرة الشبكة، كما أن الفريق لن يلعب إذا كان بعضه يصر أن يكون اللعب صباحاً، والبعض الأخر مساءً، والبعض الثالث فجراً، والبعض الرابع ظهراً.

وعندما تكون “اللعبة” هي تحرير وطن أو توحيد أمة أو استنهاض شعب، وعندما يكون الأمر ملحاً حتى الموت، فلا تجد، كما قال القائد جمال عبد الناصر في “فلسفة الثورة”، رجالاً ملائمين في الظرف الملائم للثورة، فإن غياب الأداة العامة، الثورة، أو حركة الوحدة أو النهضة، أو سمها ما شئت، يعني فعلياً أن العائق الرئيسي لحل المشكلة العامة، التي تمس الأمة بمجملها أو أوسع قطاعاتها، لا يعود لعدم توفر إمكانات أو موارد أو مناضلين، بل لعدم وجود أرضية مشتركة يمكن أن تنبثق منها  أداة عامة.  وعندها تكون المشكلة أن الواقع يصرخ، وأننا كأفراد نكاد يغشى علينا من علو صراخه، ولكننا نفتقر للحد الأدنى من المقاييس المشتركة التي تمكننا من بناء أداة عامة، وهذا يعني عملياً أننا نفتقد للإرادة الجماعية لحل المشكلة العامة التي تواجهنا، بالرغم من حسن نوايانا كأفراد، لا بل بالرغم من توفر إرادة العمل على صعيد الأفراد.

وافتقادنا للإرادة الجماعية لم يحدث صدفة، بل هو نتاج للوعي الفردي، أو نتاج لمشروع تفكيك الوعي والانتماء الذي لا يقل خطورة عن تفكيك الأوطان واختراق حركات المقاومة سياسياً أو أمنياً.  ولنبدأ بالانتماء والهوية القومية… كيف يمكن أن ننتج أداة عامة على مستوى قومي إذا كان وعينا محكوماً بالانتماء العشائري والطائفي والقطري، وبالنهاية، بالوعي الفردي؟!  فالوعي الفردي لا ينتج بالمحصلة إلا بحثاً خاصاً عن مخارج خاصة للأزمة العامة، سواء على مستوى الذات أو على مستوى الزاوية الضيقة جداً التي حشرنا الوطن فيها، ثم تبقى بقايا الوعي الفردي تفعل فعلها في إعاقة بناء أداة عامة حتى بعد أن يدرك المرء أنه في خضم مشكلة عامة وأن حلها لا يكون إلا بأداة عامة. 

كيف يمكن أن نكون مواطنين عرباً إذا كنا نفتقد للحد الأدنى من الانتماء الوطني أو القومي – ما فوق الفردي؟!  فقبل أن نختلف على تشخيص مشاكلنا العامة وسبل حلها أصلاً، لا بد من وجود حد أدنى من المقاييس التي نتفق عليها كمرجعية، لكي نكون مجرد مواطنين، حتى قبل أن نفكر بالصعود درجة واحدة فوق ذلك إلى التفكير بمشروع وحدة أو تحرير أو مشروع نهضوي عربي… أو بأداة عامة.

ولكن يوجد اليوم من يريد أن يضيع أبسط المقاييس التي يمكن تضفي شيئاً من النظام على فوضانا والتي يمكن أن تفرز الغث من السمين، تحت ذريعة “تساوي الآراء”، و”حق التميز الفردي”، و”مقاومة طغيان الرتابة”، و”رفض السير خلف القطيع”، الخ… وإلى ما هنالك من مصطلحات تشترك جميعاً بخاصية واحدة أساسية هي جعل مرجعية الحق والباطل مرتبطة بالفرد وذاته، لا بالجماعة ومصلحتها.  وشئنا أم أبينا، هناك مصلحة عامة ومرجعية عامة أكبر من الفرد…  وبالتحديد، هناك مصلحة عامة للأمة لا يمكن التصدي لها إلا بوجود إرادة جماعية، خاصة في مرحلة الأزمات الكبرى.

وتنعكس بقايا الوعي الفردي في العمل السياسي على شكل شرذمة للموقف وللعمل المقاوم، وقد زعموا أن خبيثاً أراد أن يفرق شمل جماعة من أعدائه وأن يجعلهم يقتلوا أنفسهم.  وإذ رآهم يعبرون جسراً خشبياً ضيقاً كانوا قد شيدوه فوق هاوية صخرية سحيقة للعبور إلى جبل، خطر له  أن يستفز جاهليتهم.  فالتحق بهم وهمس في أذن من يسير في المؤخرة: “كيف تقبل أن تسير خلف هذا؟!”، فأخذته العزة بالإثم ورمى الأخير بنفسه من فوق الجسر لكي لا يقال أنه كان يسير خلف فلان.  ثم أومأ الخبيث لمن يسير في الوسط بنفس المعنى، فقام بإلقاء من يسير أمامه من على الجسر لأنه أعتبر أنه أحق منه بتقدم الصفوف، وهكذا، حتى قتل معظمهم نفسه أو صاحبه…  ولو كانوا أكثر وعياً لعلموا أن ما قتلهم هو جاهليتهم.  وفي زماننا السياسي المعاصر، يكثر بالأخص أن تستهدف الرموز بكل الوسائل بمقدار ما تعبر عن مخزون نضالي، كما حدث مع الرئيس الشهيد صدام حسين مثلاً، فالذين يتنكرون لأكثر أبناء الأمة إخلاصاً لا يختلفون عمن يلقي بنفسه إلى الهاوية لكي لا يقال عنه أنه يسير خلف فلان… فالرموز ليست للعبادة، ولا للتقديس، وهي ترتكب الأخطاء وليست فوق النقد، ولكنها تُستهدف أساساً لأنها من العوامل الموحدة للصفوف.  وقبل آلاف الأعوام، جاء في كتاب “فن الحرب” لصن تزو، أقدم كتاب في علم الحرب من التراث الصيني، أن الرايات أو البيارق هي الرموز التي يتوحد حولها الجيش في المسير وفي المعركة! وفي الكثير من الجيوش تجد لكل لواء مثلاً أو لكل فيلق رايةً أو بيرقاً خاصاً به.  ولنا عودة إلى قضية الرموز وصعودها وسقوطها في موضعٍ أخر…  

المهم، أن تضييع أبسط المقاييس يمنع أو على الأقل يعيق تكوين: 1) موقف سياسي، 2) وعي سياسي، 3) عمل سياسي. 

بالتالي، الأمم التي تريد أن تكون حرة فعلاً، التي يرى أفرادها أنهم لا يمكن أن يكونوا أحراراً إلا في أمة حرة، لا تتسامح مع “الشطحات” الفردية التي تقتات على المصلحة العامة.  على سبيل المثال، لا يمكن أن تتعامل أمة مع الذين يتعاونون مع الاحتلال أو يتماشون مع مخططاته باعتبارهم مجرد “حملة وجهة نظر أخرى”!!  وبالتالي، الوضع الطبيعي أن لا يكون هناك أي قدر من التسامح مع الذين يسوقون لأية عملية سياسية أو انتخابات في ظل احتلال… فالتعاطي مع الاحتلال ككيان طبيعي جريمة لا تغتفر.  وهذه ليست وجهة نظر، بل حق للأمة لكي تتمكن من الحياة.

كذلك الأمر عندما يتعلق الأمر بقضية حق الغزاة بالتواجد على أرضنا.  فلا يمكن أن نكون ضد الاحتلال مثلاً ومع حق الغزاة بالتواجد على أرضنا.  ومن عجائب الزمان أن تسمع من يقول أنه ضد الصهيونية ولكنه لا يعترض على التعايش مع اليهود الذين أتوا إلى فلسطين على خلفية الغزو الصهيوني، وكأن الصهيونية تعني شيئاً أخر غير مجيء اليهودي من بولندا وروسيا إلى فلسطين… فقبول الغزو (لأنها لم تكن مجرد هجرة) اليهودي لفلسطين، مع زعم مناهضة الصهيونية، ليس مجرد تناقض منطقي فحسب، بل مخرجاً فردياً انتهازياً للتعايش مع “أنصارنا في الغرب” يستحق أن يذل صاحبه علناً.

وكذلك يستحق أن يحاسب من قبل الأمة أشد حساب من يروج أيديولوجياً لتغيير هوية فلسطين أو العراق أو السودان أو الجزائر أو أي قطر عربي أخر، من عربية إلى ثنائية أو ثلاثية أو رباعية القومية… أو من يحول الدخول إلى الكنيست الصهيوني، والسمسرة السياسية على خطوط الصراع العربي-الصهيوني، كاسباً الكثير من المال من جراء ذلك، إلى شيء يشبه النضال أو العمل الوطني، مثل المنافق عزمي بشارة!!! 

وضمن وضع طبيعي، عندما تستعيد قوى الأمة مناعتها السياسية، فإن من يعترف بالكيان الصهيوني بأي شكل، أو من يقيم العلاقات معه، يفترض ببساطة أن يعاقب بتهمة التعدي على الحق العام، كما يجب أن يحدث مع كل خائن، خاصة إذا كانت الذريعة هي “اليهود التقدميين” الذين يفترض بنا في الواقع أن نسحلهم أولاً.  وكم من تنازل سياسي، وكم من علاقة انتهازية أو مشبوهة أقيمت تحت عنوان “استقطاب أولاد الستين كلبة اليهود التقدميين”، خاصة من النوع الذي يحب أن يملي علينا برنامجنا السياسي، باتجاه التخلي عن العمليات الاستشهادية مثلاً، كبداية، “حتى لا نخسر الرأي العام الغربي” بالتأكيد!!! .

وفي مثل حالة الفوضى والتهتك السياسي وضياع المقاييس التي نعيشها، وفي الوقت الذي تظهر الأحداث من السودان إلى العراق مقدار افتقادنا للإرادة الجماعية، فإن الحري بنا أن نجعل من الثوابت كحد أدنى 1) التمسك بالهوية القومية العربية، و2) التمسك بالمقاومة المسلحة ضد المحتلين، خاصة الاستشهادية، و3) رفض التعاطي مع أعداء الأمة وكل مشاريعهم السياسية وإفرازاتها. 

وفقط بعد مراعاة الثوابت، تأتي حرية الرأي لتغني العمل وتصوب اتجاهه وتنقي الشوائب والأخطاء ولتكشف الانتهازيين وتحاسب المقصرين، ولكن من أجل مصلحة الأمة، وليس من أجل إبراز التميز الفردي.  والحديث عن حرية الرأي خارج سياق الولاء للمصلحة العامة لن يعني سوى المزيد من الفوضى والاختلاط الذهني والتفكك.  بالتأكيد ليس هناك من شخص أو رمز مقدس، وليس هناك أحد فوق النقد، ولكن استيعاب الخلاف وتعدد الآراء على قاعدة الثوابت يختلف تماماً عن استيعاب الخيانة والانحراف كوجهة نظر، والاختلاف المشروع للآراء يختلف تماماً عن اختلاف الولاء وتشتت الانتماء.

وكمثال على الثوابت، نقتطف تعريفها فيما يلي من بيان لقاء “لائحة القومي العربي” في الخليج العربي في 23/9/2005، وقد أكدها لقاء “لائحة القومي العربي” في الأردن في 18/3/2006:

“وأكد المجتمعون أن الصيغة المثلى لقيام مثل تلك الحركة الشعبية العربية المنظمة ليست تنظيماً أو حزباً، بل صيغة تيار عريض يقوم على مبدأ التعددية ضمن حدود الثوابت، وعلى رأس تلك الثوابت: 1) عروبة كل الأرض العربية، و2) رفض التعامل مع أعداء الأمة ومشاريعهم السياسية أو غير السياسية، 3) التأكيد على الهوية الحضارية العربية-الإسلامية للوطن العربي، و4) اعتبار اليهود في فلسطين قاعدة المشروع الصهيوني بغض النظر عن أية نوايا أو رغبات يسارية أو إنسانية، و5) الالتزام بنهج المقاومة في الموقف السياسي والممارسة العملية.”

ويشار إلى أن “لائحة القومي العربي” عبارة عن منتدى حواري تأسس على الإنترنت كملتقى مستقل يجمع مئات العروبيين من أماكن مختلفة من العالم، يتشرف كاتب هذه السطور بكونه أحد مدرائه.  و”لائحة القومي العربي” إطار للحوار وتبادل الآراء والأخبار على قاعدة التعددية والجدية والالتزام بالثوابت الوطنية والقومية، كما جاء في صدر صفحتها الرئيسية على الشبكة العنكبوتية.  وقد أقام أعضاء اللائحة، منذ أواسط عام 2005، عدداً من النشاطات واللقاءات خارج الإنترنت، وسيكون لنا عودة تكراراً للحديث عن “لائحة القومي العربي” كأحد التجارب الشبابية العربية الحديثة في العمل الجماعي المنظم. 

 

10 – مثال صغير جداً لمشروع العمل الجماعي المنظم: “لائحة القومي العربي”؟

 

(يتميز الفضاء الإفتراضي، أو الإنترنت، بوقوعه خارج السيطرة المباشرة للأنظمة العربية، وبإتاحته إمكانية تجاوز حدود التجزئة العربية إلى حدٍ ما.  وهو ما أدى إلى نشوء ظواهر سياسية جديدة لم تكن مألوفة أو متاحة سابقاً، قبل الإنترنت، جعلت من الممكن للشباب العرب لا أن يعبروا عن أنفسهم بحرية أكبر فحسب، بل أن يتفاعلوا مع بعضهم البعض عبر الحدود بدرجة أكبر.  ومع تزايد عدد مستخدمي الإنترنت العرب باضطراد، وبمعدلات باتت تقارب المتوسط العالمي في الكثير من البلدان العربية حسب بيانات إتحاد الاتصالات الدولي، على عكس ما يدعيه تقرير التنمية البشرية العربي الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، فقد نشأت على الإنترنت تجمعات ومنتديات ومنابر حوارية عربية كثيرة تعبر عن الشباب العربي أكثر من الفضائيات المضبوطة بدرجة أكبر بالرغم من الحيز الكبير الذي فتحته مما لم يكن متوفراً من خلال الإعلام الرسمي العربي طبعاً.  وإذا كانت بعض هذه التجمعات والمنتديات قد بدأت نخبوية عندما كان استخدام الإنترنت مقتصراً على القلة، فإنها باتت تتحول تدريجياً إلى متنفس حقيقي للشارع العربي بما يحتويه من جد وهزل ومن اتجاهات سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة.  وعلى هذه الخلفية، نشأت وتبلورت تجربة “لائحة القومي العربي” على الإنترنت، ومن ثم خارجها، كمحاولة أو كرافد بالأحرى من روافد العمل الشعبي العربي المنظم، وهي ليست التجربة الوحيدة من هذا النوع على الإنترنت طبعاً، بيد أنها من أبرزها على الأقل.  وهي تجربة لا تقلل من غيرها من التجارب الجديدة، داخل الإنترنت أو خارجه، بل تتكامل معها وتقدم ما لديها على تواضعه لعله يفيد الآخرين، ولعل الآخرين يفيدونها بنقدهم وملاحظاتهم).    

وقد ازداد عدد أعضاء “لائحة القومي العربي” خلال العامين 2005 و2006 بضع مئات، انضموا إليها بملء اختيارهم فرداً فرداً، وازدادت اللائحة قوةً وانتشاراً بأعضائها القدامى والجدد، وترسخ فيها مفهوم الثوابت القومية حتى باتت تقاليدَ تسهم بتحديد هوية المجموعة  وطبيعة التفاعل القائم ضمنها.

وبعد الفراغ من ترسيخ مفهوم الثوابت إلى غير رجعة، يود كاتب هذه السطور كأحد مدراء اللائحة المذكورة أن يؤكد في هذه العجالة على بعض النقاط التي سبق أن نوقشت عندما كانت اللائحة لم تزل صغيرة. وهي نقاط تتناول بالتحديد ما نستطيع وما لا نستطيع أن نتوقعه من “لائحة القومي العربي”، أو من أية مجموعة مماثلة داخل الإنترنت أو خارجه. 

ففي لائحة قومية جذرية من هذا النوع، تجد أغلب الرسائل بالعربية طبعاً وبعض الرسائل بالإنكليزية حيث يوجد في اللائحة قوميون عرب وبعض أصدقائهم غير العرب من خلفيات شتى.   كما تجد فيها البعثي والناصري والقومي الإسلامي والقومي اليساري، وتجد الحزبي والمستقل، كما تجد تيارات فكرية شتى تتفاعل فيما بينها على قاعدة التعددية ضمن حدود الثوابت.  والتعددية ضمن حدود الثوابت، على سبيل التذكير فقط، تعني أننا لا نمرر مواداً للمطبعين أو أية مواد تنتهك عروبة أي جزء من أجزاء الوطن العربي، ومنه مثلاً أية دعوة علنية أو مبطنة تتجاوز عروبة العراق أو السودان أو تدعو للاعتراف بالكيان الصهيوني أو بالاستيطان اليهودي في فلسطين تحت شعارات تسووية مثل “الدويلة الفلسطينية” أو “الدولة ثنائية القومية” التي تنتهك عروبة فلسطين بالتعريف.  وغنيٌ عن القول أننا لا نريد العودة إلى مناقشة البديهيات والأسس، فلا نناقش مثلاً إن كان العرب أمة واحدة أم لا وما إذا كنا نقبل بتجزئة الأمة إلى أقطار أو إذا كنا نقبل الوجود العسكري الأمريكي على أرض الوطن العربي أم لا.

 وقد سبق أن ناقشنا البديهيات والثوابت مطولاً ولذلك فإن المسألة المطروحة هنا هي ما نستطيع وما لا نستطيع أن نتوقعه من لائحة الكترونية مثل “لائحة القومي العربي”، أي كيف يمكن أن تفيدنا اللائحة في الاقتراب من تشكيل حركة شعبية عربية منظمة.

فإذا أردنا معالجة سؤال ما تستطيع وما لا تستطيع لائحة القومي العربي أن تفعله، فإن الإجابة هي باختصار أن مثل هذه اللائحة تستطيع أن تنتج: 1) موقفاً سياسياً، 2) وعياً سياسياً، و3) نشاطاً سياسياً.

في الموقف السياسي، فإن اللائحة أنتجت خلال العامين  2005 و2006 عدداً من البيانات التي حددت موقفاً محدداً من قضايا وأحداث ومسائل مطروحة على بساط البحث في الوطن العربي باتجاه سياسي محدد يعبر عن توافق أغلبية أعضائها والتيارات القومية ضمن اللائحة، وقد جرى في تلك البيانات تحديد موقف مناصر للمقاومة المسلحة وضد مشاريع التفكيك ومع وحدة الأمة.  (وتجدون معظم هذه البيانات في مواضع أخرى).  وبالتأكيد، يكتسب التوجه العام لأعضاء اللائحة خلال النقاشات المطروحة حول أية مسألة أهمية تقارب أهمية التعبير عن موقف من خلال بيان رسمي يمثل الأعضاء، وعندما تقوم جماعة متفاعلة بتحديد موقف سياسي واضح ومعلن، فإن ذلك يكتسب أهمية ووزناً سياسياً يفوق أهمية الموقف الفردي بكثير مهما كان الموقف الفردي رائعاً وسليماً، وهو ما يمكن أن يسهم إلى حدٍ ما بتشكيل معالم الخريطة السياسية على مستوى الشارع في وطننا العربي وخارجه، حيث أن تلك البيانات كانت في معظم الأحيان تترجم إلى الإنكليزية.

في الوعي السياسي، لا شك أن النقاشات السياسية التي تدور باستمرار في اللائحة، ودفق المقالات والتقارير والبيانات والأفلام والصور حول القضايا المتنوعة، يسهم بتعميق المعرفة السياسية وتعميمها، خاصة أن التوجهات السياسية السائدة في اللائحة تختلف جذرياً عن ما يجده المرء في وسائل الإعلام، وأن لها نكهة سياسية خاصة، قومية جذرية، تميزها عن غيرها.  وكثيراً ما تأتي الرسائل اليومية للائحة بالجديد والمفيد، وكثيراً ما تستفز النقاشاتُ الأفكارَ والتوجهات وتدفع إلى بلورتها.  وكل هذا يسهم بتطوير الوعي السياسي. 

في النشاط السياسي، فإن أعضاء اللائحة يمكن أن يستفيدوا منها بالإعلان عن نشاطاتهم ونشر أخبار التظاهرات والإعتصامات وحملات التضامن مع المعتقلين وغيرها من النشاطات التي يقومون أو يشاركون فيها، ويمكن أن يستفيدوا من اللائحة للتواصل مع أخوة ورفاق وزملاء لهم من أجل الاتفاق على نشاطات، ويمكن أن نضيف إلى هذا الباب نشر وتعميم نشاطات المقاومين العسكرية في العراق وفلسطين وغيرها، حيث أن كسر الحصار الإعلامي على المقاومة العربية هو نشاط بحد ذاته، فضلاً عن كونه موقفاً سياسياً وتكريساً للنهج المقاوم.  كما يمكن أن نضيف هنا حالة التواصل الناشئة بين قوميين جذريين وأصدقائهم من الوطن العربي وأماكن مختلفة حول العالم، وما يمكن أن ينتج عن تلك الحالة.

وليس المقصود أن ما سبق لا يمكن تجاوزه إلى أمثلة أخرى، ولكن إنتاج الموقف السياسي والوعي السياسي والنشاط السياسي يمثل الخط العريض لما يمكن أن نتوقعه من اللائحة وما تستطيع أن تفعله إن بقيت فاعلة.  وعلى هذه الأصعدة بالتحديد، فإن اللائحة كان وما زال لديها ما تقدمه.

ولكن، بسبب حالة الفراغ التي تعيشها أمتنا، وربما بسبب غياب الوعي بأهمية المعرفة السياسية أو عدم وجود تقدير كافي لأهمية الموقف السياسي أو النشاط السياسي، فإن البعض يقفز إلى توقع المعجزات… أو إلى ممارسة المزايدات.  فهناك من يريد من اللائحة مثلاً أن تقوم غداً صباحاً بتجريد جيش جرار يحرر فلسطين أو العراق، وإلا فهي مقصرة، وهناك من يزايد على اللائحة عن طريق مطالبتها بتحقيق المهمات السياسية أو العسكرية المباشرة للأمة هنا والآن.

وبغض النظر عما إذا كان الدافع هو نقص الوعي أو المزايدة الناتجة عن أمراض نفسية مثل عقد النقص والتفوق، أو الناتجة عن حسابات ذاتية وأجندات خاصة، فإن علينا أن نؤكد بكل هدوء أن اللائحة لا تستطيع أن تحل محل الأدوات السياسية والعسكرية والتنظيمية التي يفترض بالأمة أن تنتجها، ولكنها تستطيع، ضمن حدود إمكانياتها المتواضعة، ولكن المتزايدة، وبالتعاون مع المجموعات المماثلة داخل الإنترنت وخارجه، أن تسهم بإنتاج الظروف التي يمكن أن تبلور تلك الأدوات. 

ببساطة، تحتاج الأمة إلى قوى سياسية وعسكرية وثقافية منظمة كي تنهض بالمهمات الملقاة على عاتقها. تلك هي الأدوات الضرورية لتحقيق أهداف الأمة الكبرى.  ويمكن تلخيص ذلك كله تحت عنوان عريض هو ضرورة قيام حركة شعبية عربية منظمة.  والحديث هنا لا يدور بالضرورة عن حزب أو تنظيم أو ما شابه، بل عن صيغة ما قادرة أن تنهض بالمهمات القومية الكبرى، وهذا لا يكون بدون وجود أساس، أي بدون وجود وعي سياسي جذري وموقف سياسي واضح ونشاط سياسي متصاعد. 

فالعمل السياسي صيرورة، وليس معجزة لحظة تفصل الزمن فجأة إلى “ما قبل” و”ما بعد”، وهذه الصيرورة هي نتاج عمل ووعي وموقف.

وهي نتاج وجود قاعدة من القيم والمفاهيم المشتركة، ونتاج توفر الاستعداد للتضحية، ووجود خطة عمل، الخ…  كما سبقت الإشارة.  وبدون وجود قاعدة مشتركة من القيم والمفاهيم، ومن الاتفاق على الأهداف والوسائل، لا يمكن أن ينتج عملٌ يحقق تراكمات على المدى الطويل.

إذن، دعونا لا نحمل اللائحة، أو أية لائحة، مسؤوليات حركة شعبية عربية منظمة لم تخلق بعد، ولا بد لنا جميعاً أن نعمل على خلقها.  وإلا فإن المطلوب في الواقع يكون عدم القيام بأي شيء تحت ستار الإصرار على القيام بكل شيء فوراً هنا والآن.

أخيراً، ما لا يقضى الواجب إلا به فهو واجب، ولذا ونحن نعمل أقصى ما يمكن القيام به باتجاه تحقيق الهدف المشترك، نسأل من يزايد: ماذا فعلت أنت للأمة بالضبط؟ وإن كنت لا ترى أهمية تذكر للحوار والتفاعل السياسي، لمَ تقرأ هذه المادة الآن؟

 

 

 

11 – شذرات

 

 

الفكر للجماعة: ليس هناك شيء اسمه أفكار جيدة ولكن غير قابلة للتطبيق.  فعندما يصل المرء إلى نقطة يقول لنفسه فيها أنه يتبنى أفكاراً جيدة ولكن غير قابلة للتطبيق، يدخل مرحلة بداية النهاية التي يتحلل بعدها إلى شظايا إنسان.  فالفكر الجيد الذي يتقوقع عليه الفرد كالمحارة لا قيمة له، ويتحول داخل صاحبه إلى قنبلة انتحارية غير استشهادية.  الفكر قيمة اجتماعية.  فإما أن ينطلق الفرد إلى رحاب الحياة ليعجنها وتعجنه، وإما أن يصبح لا شيء.  فإذا كان الإنسان حيواناً اجتماعياً كما قال الفلاسفة، فإن نزع الصفة الاجتماعية عنه يحوله إلى حيوان فحسب… الفكر للجماعة، وإلا فهو لا يختلف عن الدخان المتبدد في الهواء.  والفكر الفردي في الرأسمالية، كالذي تدعو له العولمة اليوم، يؤدي بالضرورة إلى تحويل المجتمع إلى شذرات.

 

جاهلية بلا مكارم الأخلاق: كانت في الجاهلية صفات حميدة مثل الشهامة والمروءة والكرم والشجاعة والفصاحة وغيرها، ولذلك قال سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق.  ولكن كانت في الجاهلية أيضاً صفات قبيحة كعبادة الأوثان ووأد البنات وغيرها، لعل أخطرها سياسياً صفة العصبية القبلية التي سببت تفكك العرب وتحاربهم على مدى قرونٍ قبل الإسلام كما في حرب البسوس وداحس والغبراء.  وإذا كان الإسلام قد قضى على عبادة الأوثان ووأد البنات مثلاً، فإن العصبية القبلية بقيت بعده حتى نقلناها معنا، بشكليها العشائري وغير العشائري، إلى داخل الأحزاب والتنظيمات التي كوناها في القرن العشرين، ومن ذلك مثلاً المعارك الداخلية في الحزب الاشتراكي اليمني في الثمانينات.  وقد قال الشاعر الجاهلي: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا، نجهل فوق جهل الجاهلينا… والجهل هنا بمعنى التكبر والعلو، ونقيضه المنطقي، بالتالي، هو التواضع.  ومع أني لست فقيهاً، أجرؤ على التكهن أن كلمة إسلام جاءت بمعناها الحرفي على الأرجح تحقيقاً للتواضع المناقض للتكبر والعلو، خاصة ذاك  المرتبط بالعصبيات القبلية.  وهو ما يجعل الدعوة الاجتماعية للإسلام غير مكتملة بمقدار ما تستمر تلك العصبيات اللعينة.  وقد أصبحت عصبياتنا اليوم من نوع سني-شيعي، فلسطيني-أردني، سوري-لبناني، مسيحي-مسلم، عربي-بربري، الخ… جاهلية معاصرة بلا مكارم الأخلاق، جاهلية ما برحت تحولنا إلى شذرات.

 

العائق الذاتي: العائق الذاتي لنهوض هذه الأمة ليس الطرف الأمريكي-الصهيوني وأذنابه، بل الوعي التفكيكي الذي يمنع عملياً نشوء أطر عمل تعبئ القوى لمواجهة المعسكر الآخر.  فالعدو عدو موجودٌ موضوعياً لا يحتاج وجوده إلى تفسير، وكل الشعوب عانت الاحتلال والظلم من قبلنا.  أما موانع النهوض في معسكرنا فهي العدو القائم في داخلنا، أي تفكك الوعي والانتماء لو نظرنا حولنا من دون أوهام.  فنحن بحاجة إذن لتكريس فكرة بسيطة هي الانطلاق دوماً في كل موقف وعمل سياسي من منطلق مصلحة الأمة ككل وانتمائها الحضاري.  هذه سياسة تكريس العروة الوثقى بيننا، أما ضعفنا فيبقى الوعي العشائري والطائفي والإقليمي الذي يقسم الأغلبية في وطننا إلى شذرات.  

 

المثقف ودوره الاجتماعي: لفتت نظري مقالة يتحدث صاحبها عن نموذج المثقفين الذين يوظفون كل علمهم وثقافتهم وكفاءتهم في خدمة عصبياتهم القبلية أو الجاهلية التي ينتسبون إليها، فيتحول العلم والثقافة، وكل فكر عندهم، إلى سلاح عظيم لتحقيق هدف تافه.  وكنا قبلها قد تعودنا على نموذج المثقف الانتهازي الذي يوظف الفكر في خدمة مصلحته الشخصية لاسترضاء السلاطين أو منظمات التمويل الأجنبي العاملة على إحداث التفكيك أيضاً تحت عناوين حقوق الإنسان والأقليات.  النموذجان متوافران بكثرة في الحياة الثقافية العربية، وهذا ما نراه حولنا دون كبير عناء.  وكما كتب الشاعر الشعبي المصري أحمد فؤاد نجم: “مر الكلام، زي الحسام، يقطع مكان ما يمر، أما المديح، سهل ومريح، بيخدع لكن بيضر، والكلمة دين، من غير إيدين، بس الوفا عالحر”!  يبقى المطلوب من المثقف العربي في زماننا إذن شيئين: 1) الدفاع عن ثقافة المقاومة، و2) الحفاظ على المسافة بينه وبين السلطة.  وهو الحد الأدنى الذي تتحول الثقافة دونه إلى شذرات.

 

12 – البرنامج والأداة:

 

الإصرار الذي نسمعه على تحويل النوايا الطيبة إلى عمل ملموس هنا والآن وفوراً وحالاً هو بالضبط العمل العفوي، والعمل العفوي عبارة عن ردة فعل، أو تنفيس لاحتقان، وبالرغم من أنه يحقق بعض النتائج الطيبة أحياناً، لكنه كثيراً ما يخيب ولا يحدث تراكمات، خاصة عندما يتعلق الأمر بأهداف عظمى لأمة كاملة.

 

 ومن يرد نتائج فورية قبل تحقيق شروط النجاح يشبه من يصر على أكل الطعام نيئاً قبل أن يطبخه جيداً على النار. 

 

وفي ما يلي تجدون محاولة لإرساء أسس برنامج قومي جذري، لأن أية جماعة من الناس تريد أن تعمل معاً لا بد لها أن تتفاهم في البداية على المنطلقات والأهداف والطريق إذا أرادت أن تتحول من مجموعة أفراد متناثرين إلى أداة للتغيير.  فلا بد إذن من برنامج ومنهجية لمشروع التغيير لكي تكون هناك أداة للتغيير…  وهنا لا بد من ذكر الخلاصات التالية كاستباق لما سيأتي:

 

أولاً، القومية ليست عصبية عرقية أو جاهلية كما يظن البعض بل انتماء حضاري وثقافي يربطنا كأبناء أمة عربية واحدة بعضنا ببعض،

 

ثانياً، برنامج العمل القومي يمكن أن يقوده إسلاميون وحتى يساريون ما داموا مخلصين له،

 

ثالثاً، أهداف برنامج العمل القومي هي: الوحدة، التحرير، والنهضة،

 

رابعاً: أداة تحقيق برنامج العمل القومي عبارة عن جبهة عريضة، لا حزب مغلق، جبهة تعمل على أساس مبدأ الحرية ضمن حدود الثوابت الذي سبق شرحه، وضمن الخواص الأربعة لمنهجية العمل القومي المحددة أدناه،

 

خامساً: الأيديولوجيا ليست شرطاً أو عائقاً للعمل، ولا يجوز أن تكون، والثوابت والأهداف الكبرى المذكورة آنفاً (الوحدة والتحرير والنهضة) هي المقياس لبناء التحالفات وللتعاون، والموقف السياسي المبني على أساس مصلحة الأمة ضمن الظرف الراهن هو المعيار الأساسي لتقييم كل القوى والشخصيات،

 

سادساً: بناء القوى القادرة على تحقيق أهداف الثورة العربية التي تقوم على الأهداف السابقة الذكر مسألة طويلة المدى، ولا تتعارض مع النضال على الأهداف الآنية، مثلاً، دعم المقاومة العراقية أو الفلسطينية أو مثلاً مقاومة التطبيع أو المقاطعة أو غيرها من النشاطات التي يجب أن نقوم بها،

 

سابعاً: ولكن إن لم نتمكن من بناء الأداة القادرة على تحقيق أهدافنا القومية الكبرى، فسنبقى دوماً في حيز ردة الفعل وليس الفعل، لأن الفعل يعني بناء قوى منظمة، والقدرة على تعبئة القوى لتنفيذ خطة.

 

أما الخواص الأربعة لمنهجية مشروع التغيير فهي أنه:

 

1)    قومي، لأن أهدافه قومية، وتتمثل بالوحدة والتحرير والنهضة، وهذه الأهداف قومية الطابع بالتعريف حتى لو قام على تحقيقها أشخاص غير قوميين.

2)    جذري، بمعنى أنه يمثل قطيعة نهائية مع كل ما هو قائم، ولا يرجو ولا يأمل بإصلاحه من الداخل، بل يسعى لتغييره تغييراً شاملاً لا يبقي له أثراً.

3)    أنه يتبنى رؤية متنورة وثورية للإسلام، وأنه لا يرى تناقضاً ما بين العروبة والإسلام، وأنه يتبنى فهماً “ثقافياً” للإسلام، يختلف عن مفهوم “الإسلام السياسي”.

4)    أنه يتبنى المنهج العلمي في التحليل، وأنه يحاول فهم قوانين حركة التاريخ والمجتمع والسياسة بشكل علمي، ويضع خططه ومشاريعه على هذا الأساس.