Qawmi

Just another WordPress site

braveheart

“القلب الشجاع” Braveheart: رسالة ثورية مغلفة بقالب هوليودي تقليدي

 

حركة تحرر وطني يقودها فلاحو أسكتلندا يقايضها الإقطاعيون بمصالح خاصة

 

د. إبراهيم علوش

 

ثمة أفلام، وثمة أفلام متميزة… ومن بين آلاف الأفلام – وربما عشرات آلاف – التي أنتجتها هوليود، ثمة حفنة متميزة لا يمكن إلا أن نعتبر فيلم “القلب الشجاع” Braveheart من إخراج وإنتاج وتمثيل مل جيبسون Mel Gibson واحداً منها، فهو إن لم يكن من أفضلها، فإنه قد يكون بالنسبة لبعضنا  أفضلها على الإطلاق… حتى إشعارٍ أخر.

 

تتميز هذه الأفلام الفذة أنها لا تشيخ مع مرور الزمن، وأنها تمس فيك أوتاراً عميقة تمنعك من التعاطي معها كوجبة سريعة، وبأنك تستطيع بالتالي أن تشاهدها مراتٍ ومرات دون أن تمل منها.   وقد يحدث هذا لأناسٍ مختلفين مع أفلامٍ مختلفةٍ لأسبابٍ مختلفة، لكن منذ أن ظهر فيلم “القلب الشجاع” في نهايات شهر أيار عام 1995، كان من الواضح أنه تحفةٌ فنيةٌ غيرُ تقليدية في جوهرها تمكنت من روعتها أن تنتزع إعجاب الملايين وأن تفرض مكانتها على هوليود نفسها حتى بأكثر المقاييس السينمائية تقليديةً.  ف”القلب الشجاع” يتضمن رسالة ثورية بكل ما للكلمة من معنى، لكنها مغلفة في قصة حب مغلفة في قصة حرب مغلفة في انتفاضة مسلحة لفلاحي اسكتلندا في نهاية القرن الثالث عشر ضد الاحتلال البريطاني، هي بدورها مغلفة في قالب هوليودي من الطراز الرفيع.

 

وقد اتُهم مل جيبسون بعد “القلب الشجاع” ب”كراهية الإنكليز”، كما اتُهم بعد فيلم “عذاب المسيح” عام 2004 ب”العداء للسامية”، أي “كراهية اليهود”…  وهو أمرٌ لو صح فإنه يجعله قلباً شجاعاً بحق لأن مثل هذه التهمة بالنسبة للعاملين في مجال السينما التجارية الناطقة بالإنكليزية يمثل فعلياً حكماً بالإعدام المهني، ولكن ليس لمل جيبسون وقدراته!  وعلى كل حال، ترعرع مل جيبسون في صباه ضمن طائفة الكاثوليك التقليديين Traditionalist Catholicism، وهي طائفة مسيحية كاثوليكية صغيرة تعارض الفاتيكان، وقد اشتهر من قادتها في بداية سنة 2009 الأسقف ريتشارد ويليمسون Richard Williamson الذي ثارت زوبعة إعلامية كبرى حول تصريحاته للتلفزيون السويدي التي فند فيها أكاذيب “المحرقة” التي يزعمها اليهود.

 

جيبسون بدأ مسيرته الفنية في أستراليا التي انتقلت إليها عائلته من ولاية نيويورك عندما كان صغيراً، وتخرج من “المعهد الوطني لفن الدراما” في سيدني لينال أدوراً ثانوية هنا وهناك، حتى لفت الأنظار في بطولته في فيلم أسترالي مستقل هو الجزء الأول من “ماكس الغاضب” Mad Max عام 79 الذي نال عليه 15 ألف دولار فقط!  ومن هناك بدأت المسيرة المكللة بالنجاح التي تحول بعدها إلى مخرج في أواسط التسعينات.  أما فيلم “القلب الشجاع” فبلغت موازنته 53 مليون دولار، وبلغت عائدات تذاكره 202 مليون دولار غير مبيعات الفيديو والدي في دي DVD  وقد نال “القلب الشجاع” خمس جوائز أوسكار عام 1995 منها جائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل تصوير سينمائي وأفضل ماكياج للممثلين وأفضل تحرير للصوت، كما رشح لعدد كبير من الجوائز الأخرى، ولكن بعد انكشاف أوراق جيبسون السياسية، انطلقت عوامل النحت والتعرية غير الطبيعية لتهدم مصداقيته، فوضعت التايمز البريطانية في 4/8/2009 ثلاثة من أفلام جيبسون في قائمة أكثر عشرة أفلام في هوليود تعوزها الدقة التاريخية، منها “القلب الشجاع” في المرتبة الثانية، و”الوطني” The Patriot عام 2000 عن الثورة الأمريكية ضد البريطانيين في المرتبة الرابعة، وفيلم “أبوكالايبتو” Apocalypto عام 2006 في المرتبة السادسة… من بين أكثر عشرة أفلام غير دقيقة تاريخياً!   

 

أما لماذا “القلب الشجاع” غير دقيق تاريخياً؟  حسب عدة مواد حديثة على النت، لأن قائد الثورة وليام والاس لم يكن فلاحاً كما صوره جيبسون، بل كان في الحقيقة إقطاعياً صغيراً من النبلاء الثانويين، لأن أزياء الاسكتلنديين المستخدمة في الفيلم لم تظهر في الواقع إلا بعد أحداثه بقرنين أو ثلاثة، لأن طلاء الوجه بالأزرق في القتال توقف منذ زمن الرومان، لأن الأميرة إيزابيل الفرنسية التي تزوجت بابن ملك بريطانيا والتي يفترض أنها ساعدت وليام والاس في الفيلم لم تأت في الواقع إلى بريطانيا إلا بعد موت وليام والاس، الخ…

 

لكن هيهات!  لأن مل جيبسون لم يكن يصنع فيلماً وثائقياً عن احتلال بريطانيا لاسكوتلندا في نهايات القرن الثالث عشر، بل أبدع دراما تاريخية تستند لأحداث ولشخصيات واقعية تماماً، ليوصل رسالة سياسية في العمق، لمن يتبحر فيما خلف الإثارة…

 

فقصة الفيلم تدور حول صبي يافع هو وليام والاس يقُتل أبوه وأخوه في معركة سابقة مع البريطانيين بعدما احتل ملك بريطانيا إدوارد الأول اسكتلندا عام 1280.  ويكبر الطفل وليام في رعاية عمه الذي يربيه ويعلمه ليعود إلى بلدته الأصلية بعدها بحوالي خمسة أو ستة عشر عاماً ليزرع أرضه ويتزوج ويكوّن عائلة.  ويلتقي وليام الشاب بصديقة طفولته ويحبها ويعرض عليها الزواج، ويرفض خلال ذلك أن يتورط في العمل السري ضد البريطانيين ليركز على تحقيق ذاته الفردية فحسب!  لكن الهروب من حقيقة الاحتلال لا يعني أبداً أن الاحتلال سيهرب من الحقيقة.  فالحقائق شيءٌ عنيدٌ لا يمكن تجاهله، والذات الفردية لا تتحقق في مجتمعاتٍ مستعبدة.  وعندما يحاول جنود الاحتلال الاعتداء على عروسه، ينقذها ويرسلها بعيداً على حصان أسود، ويشتتهم باتجاهٍ آخر، لكن الجند البريطانيين يقبضون عليها ويذبحونها بالسكين في ساحة البلدة.

 

وعندما يكتشف ما جرى، يعود وليام والاس لينتقم، وفي خضم قتاله مع الجنود ينضم إليه بعض أهل البلدة، فيتحد الشأن الفردي مع الشأن العام، لأن الوطنَ كلُه مغتصب، وعروس وليام والاس لم تكن الأولى، فمأساته التي يحيا نصيبه من مآسيهم… لذلك يتحول الانتقام الفردي إلى انتقام جماعي من البريطانيين.  وبعد إبادة مخفر البريطانيين في البلدة، يدرك أهل البلدات المجاورة وعشائرها من التجارب السابقة أن العقاب سيطال كل المنطقة، فيقررون الهجوم عوضاً عن انتظار العقوبة، وتنفجر المنطقة برمتها في انتفاضة مسلحة للفلاحين ضد الاحتلال، انتفاضة حمراء انضمت إليها بقية اسكتلندا كانت تعبر في الواقع عن دور الفلاحين في حرب الاستقلال الاسكتلندية الأولى في نهاية القرن الثالث عشر…

 

ولما كانت اسكتلندا تعيش مرحلة الإقطاع وقتها، وكان الإقطاعيون هم الذين يملكون الموارد والإمدادات والجنود، قرر وليام والاس ورفاقه أنهم لا يستطيعون خوض معركة التحرير حتى النهاية بدون تعاون النبلاء، لكن هؤلاء كانوا قد تلقوا أعطيات وألقاب من الملك إدوارد الأول البريطاني، ولما كانوا يخافون فقدان إقطاعياتهم لو عاندوا البريطانيين، فإنهم كانوا أميل للمساومة والتنازل.  وتظل معادلة العلاقة بين تحرك الفلاحين الثوري وتذبذب وانتهازية النبلاء هي التي تحكم الحراك السياسي في مواجهة المحتلين البريطانيين.  وليام والاس يفرض عليهم فرضاً بقوة حركته الثورية أن يخوضوا الحرب ضد البريطانيين، وهكذا تقع معركة ستيرلنغStirling ، وهي معركة حقيقية تماماً جرت في 11/9/1297 بين 2300 ثائر اسكتلندي وحوالي 12 ألف جندي بريطاني وقتل فيها حوالي سبعة آلاف بريطاني وعدد غير معروف من الاسكتلنديين، وقد انتصر فيها الاسكتلنديون نصراً ساحقاً، وكان وليام والاس الحقيقي وأحد كبار النبلاء الاسكتلنديين واسمه أندرو موراي قادتها العسكريين على الجانب الاسكتلندي، يقابلهما اثنان من النبلاء البريطانيين.

 

وفي الفيلم، يرسل الملك إدوارد موفداً إلى وليام والاس عارضاً عليه السلام ولقباً وإقطاعية وصندوقاً من الذهب.  “لأصبح يهوذا؟!”، يرفض والاس مستنكراً.   لكن النبلاء الاسكتلنديين لا يرفضون عروضاً أقل لأنهم لم يكونوا مقتنعين بأن الاسكتلنديين قادرون على تحرير أرضهم.  وخلال “مبادرة السلام” هذه أعد الملك إدوارد جيشاً كبيراً لكسر شوكة الاسكتلنديين وذهب به بنفسه لملاقاة والاس وحدثت معركة فاصلة حقيقية في فالكرك Falkirk في 22/7/1298.  وكان جيش البريطانيين يتألف من خمسة عشر ألفاً، وجيش الاسكتلنديين يتألف من ستة آلاف فقط بينهم ألف من الخيالة يقودهم نبلاء اسكتلنديون، أما الفلاحون فاستخدموا رماحاً طويلة بالفعل، تماماً كما جاء في الفيلم، لصد الخيالة البريطانيين والاطاحة بهم، ولطعن المشاة المدرعين.  وعندما دارت رحى المعركة، انسحب الخيالة الاسكتلنديون في اللحظة الفاصلة تاركين والاس ومن معه لمجزرة راح فيها في الواقع ألفين منهم، غير الجرحى، وكانت بداية المجزرة بالسهام تماماً كما جاء في الفيلم، وانسحب الاسكتلنديون الباقون ومعهم والاس للغابة الموجودة خلفهم، وانتصر البريطانيون لكنهم خسروا بدورهم ألفي قتيل وجريح بسبب المقاومة الشرسة في فالكيرك. 

 

وبعد أن توارى والاس فترة استمر ينظم حرب العصابات ضد البريطانيين حتى سلمه أحد النبلاء الموالين لبريطانيا في 5/8/1305، وتمت محاكمته ومن ثم تعذيبه بوحشية علناً وإعدامه في ساحة وستمينستر في لندن في 23/8/1305، وقطعت أوصاله وأرسلت إلى أنحاء المملكة، أما رأسه فوضع فوق جسر لندن، وهذه كلها أحداث حقيقية.  

 

وكون مل جيبسون تمكن من التقاط البعد الطبقي في الفرق بين موقف الفلاحين الجذري وموقف النبلاء الإقطاعيين المتذبذب في حركة التحرر الوطني، حتى ولو كان والاس الحقيقي من صغار النبلاء لا فلاحاً، يشهد فقط على بعد نظره وعمق رؤيته، وكأنه كان يقرأ صفحاتٍ من كراس غسان كنفاني عن ثورة ال36 في فلسطين، أو من كتاب “الحركة الوطنية الفلسطينية أمام اليهود والصهيونية” أو “المقاومة العربية في فلسطين” لناجي علوش، أو يقرأ ما بين سطور كتاب “تاريخ فلسطين الحديث” لعبد الوهاب الكيالي!

 

وفي النهاية، فقط عندما قرر أحد كبار النبلاء الاسكتلنديين المتذبذبين سابقاً هو روبرت بروس أن يخاطر بمصالحه وحياته وعائلته وكل ما يملك، وأن يخوض قتالاً حتى النهاية مع بريطانيا استمر سنوات في حرب عصابات تعلمها من الفلاحين وتراث وليام والاس، نصل إلى معركة بانوك بيرن Bannockburn النظامية الفاصلة في 24/6/1314 التي تواجه فيها خمس وعشرون ألفاً من البريطانيين بقيادة الملك إدوارد الثاني مع تسعة آلاف اسكتلندي بقيادة ملك اسكتلندا روبرت بروس، انتهت بنصر اسكتلندي حاسم قضى فيه 11700 بريطاني وأربعة آلاف اسكتلندي، حسب بعض المؤرخين.  

 

وغير المشاهد الطبيعية الخلابة والحوارات السهلة الممتنعة والعناصر الإبداعية الأخرى للفيلم، نستطيع أن نقول أن مسألة موقف الفلاحين من الاحتلال مقابل موقف النبلاء هي القديم الجديد الذي يبقي الفيلم معاصراً مع مرور الزمن…

 

 

 

 

       

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *