Qawmi

Just another WordPress site




المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 حزيران 2015

ويضم هذا العدد:

– كلمة العدد: عنوان الصراع في عالمنا المعاصر
– تعريفات: مفهوم الإمبريالية كشيء مختلف عن الاستعمار
– الدولة في مواجهة التفكيك/ جميل ناجي
– عن الإمبريالية: تطورات علاقات الإنتاج في التسعينيات وما تلاها/ إبراهيم علوش
– نهاية التاريخ .. الحرب الثقافية والثقافة البديلة/ معاوية موسى
– إيران في الميزان الجغرافي-السياسي/ أسامة الصحراوي
– الصفحة الثقافية: السينما العربية والتمويل الأجنبي/ طالب جميل
– شخصية العدد: ناجي العلي… لا لكاتم الصوت…/ نسرين الصغير
– 29 ابريل- نيسان.. ذكرى هزيمة الإيطاليين فى معركة القرضابية بليبيا/ صالح بدروشي
– قصيدة العدد: “لهب القصيد”/ عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)
– كاريكاتور العدد

الإمبريالية والدول المستقلة: طبيعة الصراع في عالمنا المعاصر

 

كلمة العدد: عنوان الصراع في عالمنا المعاصر

 

لو بحثنا عن خيط مستمر في كل الصراعات الدولية القائمة اليوم، وفي كل التناقضات التي نشهدها عبر القارات الخمس، لوجدنا بأنّ التناقض الرئيسي الذي يحكم عالمنا المعاصر في القرن الواحد والعشرين هو التناقض ما بين الإمبريالية من جهة، ونزعتها للهيمنة على الكرة الأرضية ومقدّراتها وشعوبها وأسواقها ومواردها، وما بين النزعة الاستقلالية من جهة أخرى.

هذا التناقض ما بين النزعة المستقلة بأشكالها المختلفة، وما بين الإمبريالية، يتمثّل اليوم بسعي الإمبريالية الأمريكية لتكسير استقلال سورية وغيرها.

عندما نتحدّث عن النزعة الاستقلالية، ليس بالضرورة أن نتفق مع كل سياسة يتبناها هذا القائد المستقل أو ذاك، أو هذه الدولة المستقلة أو تلك.. فربما يعجبنا هذا الأمر أو ذاك في كوريا الشمالية، وربما ننتقد هذا الأمر في فنزويلا، حتى في موغابي في زيمبابوي، المشكلة هي الاستقلالية بحدّ ذاتها كمفهوم، فالإمبريالية لا تستطيع أن تستمر إذا أفلتت شعوب ودول وحركات من نظامها وهيمنتها، وإذا طرحت تلك الشعوب والدول  مشروعاً من خارج النظام الإمبريالي، ليس مشروعاً إصلاحياً لتحسينه بقوانينه من داخله، وهو ما يعادل لا شيء فعلياً من منظور قومي جذري.

اليوم، في عصر العولمة، تتخذ الهيمنة الإمبريالية شكل مشروعٍ من أجل تكسير الدول المستقلة والجيوش المستقلة والتجارب التنموية المستقلة.  فالمشروع الإمبريالي لا يستوجب بالضرورة الاحتلال العسكري بالمناسبة، وثمّة فرق بين الاستعمار المباشر من جهة، وبين الإمبريالية كمنظومة هيمنة اقتصادية وسياسية وأمنية وثقافية من جهة أخرى، الرجاء الاطلاع عليه في قسم “التعريفات” من هذا العدد.
نضيف أن العالم شهد صعوداً اقتصادياً وسياسياً خلال العقد الأخير لدول البريكس، وعلى رأسها الصين وروسيا، وأن ميزان القوى العالمي راح يميل ضد الإمبرياليات التقليدية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان، وأن مركز ثقل الاقتصاد العالمي راح ينزاح شرقاً وجنوباً، وأن ذلك ترافق مع تزايد حضور روسيا والصين سياسياً واقتصادياً في الساحة الدولية خلال السنوات الخمس الفائتة بخاصةً، وأن ذلك هو الاتجاه الصاعد للتاريخ، وأن هيمنة الإمبرياليات التقليدية إلى أفول، وهو ما أسهم بخلق أرضيةٍ دولية لصمود سورية ولصعود قوى إقليمية مثل إيران وفنزويلا.

 

لكن لا يجوز أن يعمينا ما سبق عن حقيقة أن ميزان القوى العالمي لا يزال يميل لمصلحة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان والمنظومة الإمبريالية حتى الآن، مع علامات تشديد عدة تحت “حتى الآن”، رغم  التغير البطيء والثابت ضد مصلحة الإمبرياليات التقليدية، ورغم الاختراقات الحقيقية التي حققتها روسيا والصين ودول البريكس وبعض القوى الإقليمية الصاعدة.

 

على سبيل المثال، لا يزال الاقتصاد الأمريكي هو الاقتصاد الأكبر حجماً في العالم، وقد بلغ ناتجه المحلي  الإجمالي أكثر من 17 تريليون وثلث تريليون دولار عام 2014، أما الاقتصاد الصيني، الذي حل في المرتبة الثانية عالمياً محل اليابان عام 2010 عقب الأزمة المالية الدولية، فقد بلغ حجمه عام 2014 أكثر بقليل من نصف الاقتصاد الأمريكي عند 10 ترليون دولار ونيف، حسب إحصائيات صندوق النقد الدولي IMF في نيسان 2015.   ولو جمعنا الناتج الإجمالي لدول الاتحاد الأوروبي مجتمعة لكان أكبر من الاقتصاد الأمريكي نفسه بحوالي تريليون دولار، فيما لا تزال اليابان في المرتبة الثالثة عالمياً، بناتج إجمالي مقداره حوالي 5 ترليون دولار… ويحل الاقتصاد الروسي في المرتبة العاشرة عالمياً من حيث الحجم، بعد البرازيل وإيطاليا والهند.

 

نكرر: الاتجاه التاريخي الصاعد هو انتقال مركز ثقل الاقتصاد العالمي شرقاً وجنوباً، لكن الصورة الراهنة هي هيمنة الدول الإمبريالية على الاقتصاد العالمي.  ويمثل رأس المال المالي الدولي، المتمثل بالمؤسسات المالية المصرفية وغير المصرفية، الحاكم غير المنتخب لأغلب الاقتصاد العالمي.  فلو نظرنا لأكبر عشرين مصرفاً في العالم عام 2013 من حيث حجم الأصول لوجدنا أن اربعة عشر مصرفاً منها مسجلة في دول إمبريالية (ومعها أستراليا طبعاً)، وأن أربعة منها صينية، وواحداً روسي، وواحداً برازيلي.   أما في العام 2014، فسنجد أن خمسة منها صينية، وأربعة منها أمريكية، وثلاثة بريطانية، وثلاثة فرنسية، وثلاثة يابانية،  وواحد ألماني وواحد إسباني.

 

ويمثل هذا تغيراً كبيراً عن العام 2007 مثلاً، قبل الأزمة المالية الدولية، عندما كان المصرف الصناعي والتجاري الصيني في المرتبة 19 من بين أكبر عشرين مصرفاً في العالم، فيما كانت بقية المصارف ال19 الأخرى مسجلة في الدول الغربية واليابان.  اليوم طبعاً أصبح المصرف الصناعي والتجاري الصيني هو الأكبر عالمياً، أي أنه قفز للمرتبة الأولى عالمياً، وبات للصين خمسة مصارف من أكبر عشرين عالمياً، كما سلف، ولكن الصورة الإجمالية هي استمرار هيمنة المنظومة الإمبريالية على المصارف، وبالتالي على حركة رؤوس الأموال الدولية.

 

على الصعيد نفسه يشار أن الولايات المتحدة تملك ثمانية من بين أكبر عشرة شركات إعلام في العالم، أما التاسعة والعاشرة فإحداهما ألمانية والأخرى بريطانية، فلا يزال الإعلام والأفلام وتكنولوجيا الاتصالات لعبة أمريكية أساساً.

 

ولا شك أن الاقتصاد القوي هو أساس القوة العسكرية، فالاتحاد السوفييتي انهار بلا إطلاق طلقة واحدة جزئياً لأن رجليه الاقتصاديتين لم تتمكنا من حمل ذراعيه العسكريتين القويتين.  وفي العام 2013 أنفقت الولايات المتحدة 39 بالمئة من إجمالي النفقات العسكرية في العالم.  ولديها اليوم أكثر من ألف قاعدة ومرفق عسكري لقواتها المسلحة خارج الولايات المتحدة، ولديها عشر حاملات طائرات نشطة، واثنتان احتياط، وثلاث قيد الإنشاء، تليها بريطانيا وإيطاليا والهند التي تملك كلٌ منها حاملتي طائرات، وتملك كل من روسيا والصين وفرنسا وإسبانيا والبرازيل حاملة طائرات واحدة لكل منها.  ولا تزال الولايات المتحدة القوة البحرية الأكبر في العالم من حيث عدد السفن الحربية التي تمخر عباب المحيطات، مع صعود كبير للبحرية الصينية ثم الروسية.

 

ولا تزال الولايات المتحدة تضع 2150 رأساً نووياً فعالاً تحت الخدمة حالياً (من أصل 7700 رأس نووي مخزن)،  فيما تملك روسيا 1800 رأساً نووياً فعالاً (من أصل 8500)، وبريطانيا 160 رأساً (من أصل 225)، وفرنسا 290 (من أصل 300)، وتملك الصين 250 رأساً نووياً، كذلك تملك كل من الهند والباكستان حوالي مئة رأس نووي، وتملك كوريا الشمالية حوالي عشرة، والكيان الصهيوني حوالي مئتين، ليس من المعروف نسبة الموضوع منها في الخدمة حالياً.

 

كذلك تنعكس حيوية الاقتصاد من خلال عدة مؤشرات، منها براءات الاختراع المسجلة في كل بلد، حسب إحصائيات العام 2012، وهنا تتربع اليابان على رأس القائمة، تليها الولايات المتحدة، ثم الصين، ثم كوريا الجنوبية، ثم مكتب براءات الاختراع الأوروبي، ثم روسيا، كندا، أستراليا، ألمانيا، المكسيك، ثم فرنسا، ثم بريطانيا إلخ… باختصار، لا تزال معظم براءات الاختراع المسجلة عالمياً تُسجل في دول المنظومة الإمبريالية، مع اختراقات حقيقية لدول البريكس ودول العالم الثالث، ولم تظهر أي دولة عربية في قائمة أول عشرين دولة في تسجيل براءات الاختراع الجديدة رغم كل خلطات الأرجيلة الجديدة وفيض فتاوى “جهاد النكاح” و”إرضاع الكبير” و”نكاح الوداع” وغيرها!

 

المهم، تأتي النزعة الاستقلالية في قوالب مختلفة، مقصودة أو غير مقصودة، ومن منطلقات عقائدية مختلفة، أو من منطلقات براغماتية حتى، فقد تتخذ شكلاً إسلامياً إو قومياً أو يسارياً… وليس المهم الشكل هنا، أو كم يتفق المرء أو يختلف مع مجمل رؤى ومواقف وممارسات هذه القوة الاستقلالية أو تلك.  المهم فقط هو كيف يلخص موقف الإمبريالية العالمية من مجموع تلك الحالات الاستقلالية التناقض الرئيسي في عالمنا المعاصر اليوم بين الإمبريالية من جهة والحركات والدول النائية بنفسها عنها من جهة أخرى، وهذا هو التناقض الأساسي الذي يتبع له كل تناقض أخر.

 

بالمقابل، لا تواجه الإمبريالية مشكلة في أن تقدم نفسها كقوة مدافعة عن الإسلام والمسلمين لتدمير يوغوسلافيا السابقة، وقبل ذلك في خضم الحرب الباردة في أفغانستان وغيرها، ومن ثم أن تعبئ الرأي العام ضد الحركات الإسلامية المناهضة للهيمنة الإمبريالية تحت عنوان “الحرب على الإرهاب”، ولا تواجه الإمبريالية مشكلة بالتعاون مع يسار يركز على قضايا مطلبية وإصلاحية أساساً ويهمش التناقض الرئيسي مع الإمبريالية والصهيونية، فالأساس هنا كان ويبقى مصلحة الإمبريالية الراهنة في الزمان والمكان المحددين.

 

أما من جهة الشعوب الساعية للتحرر ولخطّ طريقها الخاص نحو التنمية والتطور المستقل، فإن العداء للإمبريالية يجب أن يبقى المنطلق الرئيسي لرؤيتها للعالم المعاصر.  ولنلاحظ مثلاً أن مفهوم “الاستقلال” لا يعني بالضرورة أن سلوكيات الحركات والقوى المستقلة ستكون دوماً مبدئية وغير مشوبة بأي خلل، ولا يعني أنها لن تدخل أبداً في أية مساومات انتهازية، أو حتى قذرة، مع الإمبريالية في أي مفصل من المفاصل… بل يعني الاستقلال فقط القدرة والإرادة على انتهاج طريق مخالف للتبعية للإمبريالية عندما ترى ذلك مناسباً.   وبمقدار ما تنتشر هذه القابلية الاستقلالية للخروج على التبعية تضعف المنظومة الإمبريالية، وبمقدار ما تنجح الإمبريالية بشلّ تلك القدرة وتدميرها، بمقدار ما تقوى المنظومة الإمبريالية.

 

ولا معنى لتغيير أو “ثورة” تقود للمزيد من التبعية للإمبريالية أو لحلف الناتو…

 

والغريب أن اللجوء للسلاح لم يتم إلا في حالة الدول العربية ذات النزعة المستقلة، مع أن قتل المتظاهرين بالمئات بدأ على يد مبارك وبن علي، ولم يؤدي ذلك للجوء للسلاح!  ولا يعني ذلك أبداً أن الدول العربية ذات النزعة المستقلة لا يحق للمواطن فيها أن يطالب بحقوقه أو حتى أن يعارض، أو أن يناهض الفساد والاستبداد، ما دام ذلك لا يرتبط بأجندة خارجية أو مشروع تفكيك، ولكن عندما تحظى أي حركة أو شخصية معارضة في دول ذات نزعة مستقلة بالدعم الإمبريالي المكشوف، فإن ذلك يفترض أن يدفعنا لطرح الكثير من التساؤلات، خاصة عندما يقترن بالدعم الإمبريالي العسكري المباشر، المترافق مع حملة في وسائل الإعلام الإمبريالية والتابعة ل”تغيير النظام”.

 

 

تعريفات: مفهوم الإمبريالية كشيء مختلف عن الاستعمار

 

الإمبريالية مصطلح يشيع استخدامه في الأدبيات السياسية، لكنه ليس مجرد رديف لتعبير “الاستعمار” كما توحي بعض الكتابات.  فالاستعمار، بمعنى احتلال أراضي الغير وإخضاع الشعوب ونهب الثروات، أقدم من الإمبريالية بكثير.  أما الإمبريالية فهي أوسع، وأحدث عهداً، وهي ليست مجرد مشروع تأسيس إمبراطورية عالمية كتلك التي أسسها الرومان مثلاً.   فالإمبريالية منظومة من علاقات الهيمنة الدولية، ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وثقافية، لا مجرد ظاهرة عسكرية.

 

نشأت الإمبريالية كمنظومة عالمية، وكمنهج ورؤيا لإخضاع كوكب الأرض، من واقع تطور النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية أولاً.  فالإمبريالية ليست مجرد استعمار مباشر، بل أنها قد تترك السيطرة العسكرية المباشرة لوكلاء لها في البلدان المفتوحة ما داموا قادرين على إبقاء تلك البلدان ضمن منظومة الهيمنة الإمبريالية، أي كمصدر للمواد الخام، واليد العاملة الرخيصة، وكأسواق، وكميادين لاستثمارات الشركات الرأسمالية العالمية، والأهم بقاؤها سياسياً وعسكرياً جزءاً مضموناً من الحلف ضد أي دول أو قوى تخرج على تلك المنظومة الإمبريالية.

 

بعدما نشأت الاحتكارات الكبرى والشركات متعدية الحدود في الدول الرأسمالية المتقدمة، وبات الكوكب بأسره ملعبها، وبعدما بات تصدير رأس المال عبر الحدود، وليس تصدير السلع فحسب، ضرورة حيوية لاستمرار وتوسع النظام الرأسمالي العالمي بأسره، بغض النظر عن هوية الدولة التي تقود عجلة ذلك النظام، اتخذ الاستعمار شكلاً إمبريالياً.   فالحروب والعدوان الخارجي يأتيان هنا لإخضاع الدول المستقلة لمنظومة هيمنة عالمية، وليس لاستعمار عسكري مباشر ودائم بالضرورة.  والشركات الأمريكية لم تحصل على عقود  النفط العراقي مثلاً، بعد الاحتلال، لكن العراق ككيان تم تحويله إلى أشلاء دولة يصعب عليها أن تتخذ لنفسها طريقاً مستقلاً عن الإمبريالية.

 

في الحالتين، سواء وقع استعمار مباشر ودائم أم لم يقع، فإن الإمبريالية نفسها في آخر عقدين من القرن العشرين، ولكن بالأخص بعد انهيار دول المنظومة الاشتراكية في بداية التسعينات، تحوّلت تدريجياً مع تحول النظام الرأسمالي العالمي، من نظام يقوم على رأسماليات مختلفة في الدول القومية المختلفة، إلى رأسمالية واحدة عابرة للحدود همها تفكيك الدول وإضعافها، وإعادة صياغة العالم من جديد، بناء على شروط هيمنتها الجديدة فيما بات يعرف باسم العولمة.

 

العولمة طبعاً هي اندماج الاقتصادات الوطنية والمحلية في شبكة عالمية واحدة، تسيرها في النهاية مصلحة الرأسمالية العالمية كطبقة وكنظام.  المهم صار العدو الرئيسي لتلك العولمة هو كل قلعة مستعصية، وكل حركة، وكل حالة سياسية، تحاول أن تخطّ لنفسها طريقاً مستقلاً وأن تنأى بنفسها عن المنظومة الإمبريالية العالمية.  ولنلاحظ هنا أن حرب الإمبريالية، دوماً تحت يافطة “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان”، هي ضد مفهوم “الاستقلال”، و”السيادة”، وأي مشروع للتطور المستقل، وليس ضد الأديان أو الحركات العمالية في الدول الإمبريالية نفسها، أو ضد أي مشروع إصلاحي محلي، أو ضد أي شيء من هذا القبيل ما دام لا يقف عائقاً في وجه الاندماج “الديموقراطي” في النظام الرأسمالي العالمي.

 

الدولة في مواجهة التفكيك

 

جميل ناجي

 

لقد فرضت الدول الغربية على العرب نمط إنتاج كولونيالي أعادت من خلاله إنتاج البنى الفوقية الموروثة من المرحلة العثمانية، التي مثلت شكلا من الإقطاع العسكري وحافظت على بقاء الأمة العربية خارج التاريخ على مدى أربعمائة سنة. لقد أشرف الغرب، من خلال منع تطور وسائل الإنتاج، وفرض أنماطه الكولونيالية، على إعادة إنتاج البنى المفككة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، ودعمَها من خلال عملية التجزئة. إن إعادة إنتاج هذه البنى القبلية، الطائفية وغيرها، المفوته تاريخيا، والمستفيدة من واقع التجزئة، عكس نوعاً تبعياً للغرب، ليس على مستوى القاعدة المادية الاقتصادية فقط بل على مستوى البنى الفوقية أيضا.

 

لقد استطاع الغرب أن يعيد إنتاج التخلف في كل لحظة من خلال إعادة إنتاج هذه البنى المفوته، وبالتالي منع تغلل الفكر العقلاني المتنور، بل على العكس فتح المجال أمام نمو الفكر السلفي والمتغرب على حد سواء، والذي تتناقض منطلقاته الفكرية مع الفكر القومي بالدرجة الأولى. وهذا في الحقيقة من أهم العقبات التي واجهت الحركات القومية واليسارية، ولقد اعتبر ياسين الحافظ مسألة غياب الوعي (المرتبطة فيما سبق) المسؤول الحقيقي عن الهزيمة العربية.

 

إن الحفاظ على المرجعيات التقليدية القبلية والطائفية وغيرها، وبالتالي بُناها الفوقية، حيّد بشكل أو بآخر أهمية الدولة كمرجعية أولى (الدولة القومية) أو دول التجزئة بشقيها الوطني وغير الوطني.  وهذا ما جعل المطلب القومي وتحقيق الأهداف القومية ضرباً من أحلام يقظة لدى شارع تشغله تفريعاته الثانوية.  إن غياب مفهوم المواطنة عربيا اليوم هو الذي يجعل مدّخرات الدولة ومؤسساتها وبنيتها التحتية محض غنائم لدى مختلف الفئات القاطنة فيها، ناهيك عن التدمير المتعمد لهذه المكتسبات، عند اختلال التوازن وحصول صراع مسلح، كما أثبت الخريف العربي.

 

إنّ المعنى الدقيق للدول التي كانت نتاجا كولونيالا (أو نتاج التجزئة) لم يحمل بأي شكل دورا تنمويا باتجاه خلق دولة مواطنة حقيقية، بل لعب دورا بإدارة الصراعات وتوظيفها، بشقيها العمودي والأفقي، وبالتالي أنتج الحفاظ على واقع قائم ومطلب كولونيالي ووريثه الإمبريالي لاحقا. إنّ الواقع يدلل اليوم على أن الإمبريالية دفعت ثمنا بخسا لقاء تفتيت المنطقة العربية وتدمير مكتسباتها التاريخية. والفضل يعود طبعا لهذه الشراذم اللاتاريخية. وينسب للألمان في قراءة دستورهم أنّ المجموعة الإنسانية التي لا تتحد للدفاع عن كل ممتلكاتها لا تستحق مسمى الدولة. عربيا، تُدمر كل ممتلكات الدولة على أيدي أبنائها نتيجة غياب الولاءات الصحيحة للدولة الأم، دولة الوحدة/الطموح. إن مؤسسات الدولة ومكتسباتها التاريخية وبنيتها التحتية هي ملك للشعب، ويجب التفريق جيدا بين الدولة كمؤسسات والنظام السياسي.

 

 

 

على أية حال لم ولن تعبر دول التجزئة مهما كانت عن طموح أي مواطن عربي حقيقي. إنّ الحلم العربي بتحقيق دولة عربية ناهضة قادرة على المساهمة في صنع التاريخ هو مطلب دائم، تُراق على جوانبه الدم. هذا الحلم المصطدم بخنفشارية الواقع الذي يندى له الجبين اليوم، بعد تفشي الصراعات الثانوية الطائفية والأقلوية، يجعل الدفاع عما هو قائم فرض عين. إن الدفاع عن وحدة البلاد المعرّضة للتفكيك نتيجة التدخلات الخارجية وما يوازيها على صعيد داخلي، هي مسألة آنية، ملحّة وضرورية لكل عربي حقيقي.

 

إنّ نقيض الدولة ضمن هذا السياق هو الفوضى، وليقل من شاء أنّ الدولة العربية هي امتداد لاستبداد شرقي، وحكم بيروقراطي عسكري وغيره، (وهذا صحيح)، لكن هل البديل الحقيقي متوفر فعلا؟! وهل الحرية في مواجهة ديكتاتورية السلطة، تمثل المسار الصحيح أمام دمقرطة المجتمع العربي، أم تمثل، ضمن الواقع القائم، المشروع الإمبريالي في تفكيك المنطقة؟! وهل شوارع مليئة بالجثث وسماء تمطر بالصواريخ بديل حقيقي للدولة ؟!. إذن يجب على الذين يطالبون بحرية تفكيك الدول وشطب سيادتها من خلال تداول السلطة مع عملاء الغرب، أن يدركوا جيدا أن ثمة حقاً تاماً للمدافعين عن وحدتها أن يمارسوا حرية تامة في مواجهة  مشاريعهم.

 

إنّ الواقع اذ يؤكد دائما على صحة وضرورة تبنّي الخطاب القومي في مواجهة التفسّخ المجتمعي الحاصل اليوم، وفي ضرورة مواجهة المشاريع الإمبريالية التي تُحبَك للأمة. فالعالم اليوم يعيش ضمن خيارين؛ إما أن نكون جزءاً من محورالمواجهة للتغوّل الإمبريالي في عالم متعدد الأقطاب، وإما أن تسحقنا الإمبريالية بمشاريع التفكيك وبسط السيطرة. إنّ الحفاظ على الهوية الجامعة من أهم الأمور التي يجب أن يحملها أي خطاب سياسي نقي اليوم. والدولة اليوم هي الجامع الحقيقي لأفراد الشعب وهي الضمانة لوحدتهم مقابل مشاريع التفكيك، وتغوّل الشركات الكبرى. وإنّ الدولة، الوطن تحتاج دائما من كل ابنائها أن يهبّوا للدفاع عنها وعن كل ممتلكاتها.

 

 

عن الإمبريالية: تطورات علاقات الإنتاج في التسعينات وما تلاها

 

 

إبراهيم علوش

 

 

إنّ التطور الرهيب الذي طرأ على قوى الإنتاج، خاصة في ميادين الاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا المتطورة، فرض تغييرا على تنظيم المنشأة الإنتاجية نفسها، فأصبحت تنتج على صعيد عالمي، بعدما كانت تبيع المنتجات وتستخرج المواد الأولية على صعيد عالمي.

 

يقول د. محمد محمود الإمام في هذا الصدد، إنّ ثمة علاقة وطيدة بين مستوى تطور قوى الإنتاج وتنظيم المنشأة الصناعية، ودور الدولة في الاقتصاد. ففي المرحلة الأولى للنظام الرأسمالي، إبّان الثورة الصناعية وبعدها، كان حجم المنشأة الصناعية صغيرا، وكان دور الدولة ينحصر بتوحيد السوق القومية وحماية الصناعة المحلية من المنافسة الأجنبية وإرساء البنية التحتية للاقتصاد والحصول على المواد الأولية من الخارج. في المرحلة الثانية، عندما فرضت عملية تطور قوى الإنتاج نشوء الصناعات الكبيرة والثقيلة، ظهرت الاحتكارات، وتحولت المنشآت الإنتاجية إلى شركات مساهمة ضخمة، ثم برزت رأسمالية دولية، حيث تتحد الدولة بالاحتكارات، ونشأت دولة الرفاه التي سعت إلى توسيع أسواق الصناعة الكبيرة في الخارج من خلال الإمبريالية، وفي الداخل من خلال رفع مستوى المعيشة. أما في المرحلة الثالثة، التي بدأت في السبعينات وتبلورت في التسعينات، فإنّ عابرات القارات والقوميات من الشركات العملاقة، أصبحت تحتاج إلى “الخروج عن نطاق الحدود الجغرافية للدولة، فلم تكتف فيها بقدرتها على الالتفاف على الدولة والتملص مما يمكن أن تفرضه عليها من قيود، بل سعت إلى احتواء الدولة وتسخيرها لخدمتها، فإذا بها تقنع بدور “مدبرة المنزل” (House Keeper)”. (د. محمد محمود الإمام، من كتاب “العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي”، مكتبة مدبولي، مصر، 1999، صفحة 88).

 

باختصار، إنّ التوجه العالمي الذي تتبناه القوى الأساسية الفاعلة في النظام الدولي، الذي ينادي بالحرية الكاملة لحركة البضائع ورأس المال والمعلومات عبر الحدود الدولية دون قيود ولا عراقيل، ساهم بوضع مسألة سيادة الدولة القومية على أراضيها، ومسألة الانتماء الوطني التي تعطيها المشروعية، موضع التساؤل والتشكيك. وقد ترافق هذا الاختراق لسيادة الدولة الوطنية أو القومية مع تبنّي توجّهات تضعف من دور الدولة في الاقتصاد سواء من حيث دورها في التنمية أو من حيث دورها في الرعاية الاجتماعية لمواطنيها. وهذا هو بالضبط معنى تطبيق برامج “التصحيح الاقتصادي” و”إزالة الاختلالات الهيكلية” في دول العالم الثالث، بعدما بدأ تطبيق ما يوازي هذه البرامج أولا على يد مارغريت تاتشر في بريطانيا، ورونالد ريغان في الولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية الثمانينات.

 

بيد أنّ هذا التوجّه لا يحدوه فقط تطور تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات والمعلوماتية وعولمة المنشأة الإنتاجية نفسها، كما أسس د. محمد محمود الإمام أعلاه، مما أدى إلى تحوّل الاحتكارات الوطنية إلى شركات متعدية الحدود. فعلى عكس ما يفترضه الدكتور صادق جلال العظم في كتاب “ما العولمة؟” (الصادر عن دار الفكر في دمشق عام 1999)، إنّ الجانب الأساسي للعولمة لا يتلخص كنهه بعولمة المنشأة الإنتاجية، رغم أهمية هذه الظاهرة واتساعها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. فالمنشأة الإنتاجية، أي الصناعة بشكل عام، وقعت منذ أمد بعيد في النظام الرأسمالي في قبضة رأس المال المالي الذي أصبح بذلك يتربع على عرش النظام بأكمله. فإذا كانت المسألة الأساسية في علاقات الإنتاج في النظام الإقطاعي هي: من يسيطر على الأرض؟، وإذا كانت المسألة الأساسية في علاقات الإنتاج في المراحل الأولى من النظام الرأسمالي هي: من يسيطر على الصناعة؟ فإنّ المسألة الأساسية في هذا الطور من الرأسمالية هي: من يسيطر على رأس المال المالي، الذي يسيطر على الصناعة ومنشآتها الإنتاجية وباقي قوى الإنتاج بالتعريف.

 

إنّ الجانب الأساسي للعولمة اليوم هو تحوّل رأس المال المالي بفعل تطور تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات والمعلوماتية إلى:

 

1)                 رأس مال عابر للحدود، وهذا الجانب من العولمة شبيه جزئيا بالعولمة التي اشتد أوارها في بدايات القرن العشرين، التي كتب عنها المفكرون الماركسيون الأوائل من هلفردنغ إلى لينين.

2)                 رأس مال دولي يجني أرباحه أساساً، لا من عمليات الإنتاج والتبادل والتوزيع، بل من المضاربة والربا والعمليات غير الإنتاجية بوجه عام، وهذا هو الجانب المستجد من العولمة التي نعيشها اليوم، وقد سلّط الأضواء عليه د. رمزي زكي، وسماه العولمة المالية، في كتاب مهم بعنوان “العولمة المالية:الاقتصاد السياسي لرأس المال المالي الدولي” (صدر عام 1999 عن دار المستقبل العربي).

تقسم حركة رأس المال إلى نوعين: حركة رؤوس أموال طويلة المدى، وحركة رؤوس أموال قصيرة المدى. أما حركة رؤوس الأموال طويلة المدى، فتسمى كذلك لأنّ رؤوس الأموال ترتبط فيها بمنشأة إنتاجية مادية، فهي تؤدي إلى استثمار ملموس في مصنع أو مزرعة وما شابه، ولا تسهل إعادة تحويلها بسرعة إلى نقد أو سيولة دونما خسائر كبيرة. أما حركة رؤوس الأموال قصيرة المدى، فتأتي من الاستثمار في عمليات غير إنتاجية، مثل بيع وشراء الأسهم والسندات والعملات الأجنبية والعقارات والمشتقات المالية وما شابه، وهذا النوع من الإستثمارات لا يساهم بحل مشكلات البطالة والنمو الإقتصادي لأنه لا يزيد من التوظيف أو كمية السلع والخدمات، ولكنه أقرب إلى السيولة من المؤسسات الإنتاجية الصناعية والزراعية وغيرها ويدر الأرباح على المدى القصير.

 

بيت القصيد هو أنّ حركة رؤوس الأموال قصيرة المدى، بهدف المضاربة، وليس بهدف بناء الطاقة الإنتاجية، ازدادت سبعة عشر ضعفا في الدول الصناعية الرئيسة، بينما ازداد الاستثمار الأجنبي المباشر، أي الذي يرتبط بنشاط إنتاجي، خمسة أضعاف فقط، ما بين عامي 1980 و 1997. وصدّرت الدول الصناعية بشكل صافي إلى دول العالم الأخرى حوالي 93 مليار دولارا عام 1997 مثلا على شكل استثمار أجنبي مباشر، ولكنها استفادت من تدفق 273 مليار دولار إليها على شكل استثمار في الحافظة المالية، أي حركة رؤوس أموال قصيرة المدى (أنظر الجدول رقم 1-3، صفحة 79 من كتاب د. رمزي زكي). أما حركة رؤوس الأموال طويلة المدى، فإنّ معظمها يذهب من دول متقدمة إلى دول متقدمة أخرى بنسبة تتراوح ما بين أربعة أخماس أو ثلثين اعتمادا على السنة (أنظر الجدول رقم 5-4، صفحة 136، من كتاب د. رمزي زكي). أما نسبة الثلث أو الخمس التي تذهب من الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى العالم الثالث، فإنّ معظمها يذهب إلى مناطق جغرافية محددة مثل دول جنوب شرق آسيا، وليس إلى دول العالم الثالث على قدم المساواة. أما المضاربات، فكانت هي المسؤولة عن الانهيار الذي وقع في جنوب شرق آسيا عام 1997، وفي روسيا والبرازيل عام 1999.

 

إذن، نستطيع أن نستنتج أنّ السمة الأساسية للعولمة الحديثة هي العولمة المالية، وليس عولمة المنشأة الإنتاجية، رغم أهمية الأخيرة، ورغم وجود ترابط غير مباشر ما بين الظاهرتين، باعتبار أنّ رأس المال قابل للتحول من شكل استثماري إلى آخر على المدى المتوسط أو البعيد..  لكن الظاهرة الأساسية التي فرضت نفسها على العالم في العقدين الأخيرين من القرن العشرين في سياق ما يسمى العولمة لم تكن النمو الانفجاري للاستثمار الصناعي من قبل المنشآت الإنتاجية المعولمة، بل انفجار الاستثمارات المالية في نشاطات غير إنتاجية، في المضاربات على مستوى عالمي، الأمر الذي أدى إلى الأزمات المعروفة في جنوب شرق آسيا وروسيا والبرازيل. فقد أصبح رأس المال المالي يرتع على مدى الكرة الأرضية بقوة دفع التطور الهائل في قوى الإنتاج، في ميدان تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات والمعلوماتية، الأمر الذي جعل الجانب الأساسي للعولمة الحديثة يأخذ شكل عولمة علاقات الإنتاج الرأسمالية وبنيتها الفوقية، وبتحديد أكثر، عولمة البنية الفوقية المحلية حسب وزن كل من كتل رأس المال المالي الدولي في النظام العالمي الجديد، وهو الأمر الذي جعل العولمة تلقب بالأمركة. أما اقتصاديا، فقد أخذت العولمة الحديثة شكلين أساسين هما:

 

  • التحول المتزايد للرأسمالية إلى رأسمالية مضاربات تجني الربح من نشاطات غير إنتاجية في القطاع المالي وعملياته على مستوى كوني، وقد بلغ عدد البنوك والشركات المالية في العالم عام 1995 نحو 127 بنكاً وشركة مالية، وتنبع أهمية هذه الشركات من كون تصدير واستيراد رأس المال العصب المركزي للعولمة. والعولمة المالية هي نمط ومؤسسة.  فهي من جهة حركة رؤوس الأموال في أرجاء المعمورة، وازدياد هذه الحركة بشكل كثيف خلال العقدين الأخرين من القرن العشرين، وهي من جهةٍ أخرى حزمة القوانين والتكنولوجيا والشركات العملاقة التي تدير وتسهل وتعيد إنتاج العصب المركزي للنظام العالمي الجديد، أي رأس المال المالي الدولي.  وتشكل عولمة المنشأة الإنتاجية في جانبٍ منها النتيجة المباشرة لحركية رأس المال المتزايدة، على الرغم من أن الاستثمار في المنشآت الإنتاجية يمثل الجانب الثانوي من حركة رؤوس الأموال المعولمة.

 

  • على مستوى إنتاجي، تحوّل المصنع أو المنشأة الإنتاجية الواحدة إلى منشأة تقوم بكل جزء من أجزاء عمليات إنتاج سلعة واحدة في بلدان مختلفة، وهو الأمر الذي يفرّق الشركة متعدية الحدود عن الشركة متعددة الجنسيات. فالأخيرة كانت تقوم بعمليات إنتاجية كاملة في بلدان غير بلدانها، أما الثانية، فهي من نتاج العولمة الحديثة. الأولى تنشئ مصنعا كاملا للسيارات في ألمانيا الغربية، إذا كانت أمريكية مثلا، أما الثانية، فتنتج جزءا من السيارة في مكان ما، وجزءا آخر في مكان آخر، ثم تجمع الأجزاء في مكان ثالث، وتبيع السيارة في مكان رابع. الشركة متعددة الجنسيات أو القوميات (القديمة) اسمها بالإنجليزية (Multinational Corporation)، أما الشركة متعدية الحدود أو متعدية القوميات، فاسمها بالإنجليزية (Transnational Corporation) أي عابرة القوميات (الجديدة)، وهذا فرق مهم جدا لتحليلنا.

 

 

الشركة متعدية القوميات لم تعد مرتبطة كالسابق بالبلد الأم، بل نراها تنقل مقرها الأساسي ببساطة خارج البلد الأم، حيث الضرائب أقل والخدمات أفضل. الشركة متعددة القوميات هي شركة تنطلق من قاعدة قومية محددة أمريكية أو ألمانية أو يابانية لتمارس نشاطاتها الإنتاجية والتسويقية على مستوى دولي. أما الشركة متعدية القومية فهي شركة ذات طبيعة طفيلية بالنسبة للدولة القومية، لا تنتمي الواحدة منهما إلى الأخرى أيديولوجياً.

 

يقول مؤلفا كتاب فخ العولمة بيتر مارتن وشومان في هذا الصدد عن طفيلية الشركة متعدية القوميات: “فبضائعها تنقل عبر الطرق وسكك الحديد الممولة من قبل الحكومة، والعاملون لديها يرسلون أبناءهم إلى المدارس العمومية وقادتها الإداريون يمتعون أنفسهم بما تقدمه المسارح ودور الأوبرا الحكومية [في الغرب] من عروض. إلا أنها، مع هذا، لا تشارك في تمويل هذه وما سواها من المرافق العامة، إلا من خلال الضرائب المفروضة على دخول ما لديها من عمال ومستخدمين، ومن خلال الضرائب المفروضة على ما يستهلكه هؤلاء العمال والمستخدمين من بضائع. ولما كانت دخول العمال المأجورين، أيضا تميل إلى الانخفاض بفعل المنافسة، وبما أنّ الدولة قد حمّلت أصلا هؤلاء العاملين أعباء مالية تفوق طاقتهم على التحمل، صارت الدولة أيضا، ترزح تحت أعباء أزمات مالية هيكلية متتالية. إنّ الموازنات الحكومية باتت تخضع للتيار نفسه، الجارف نحو الأسفل، الذي تخضع له دخول السكان أيضا. ويحدث هذا كله في وقت يطالب فيه السكان حكوماتهم في المجتمعات الصناعية المتقدمة بالنهوض بأعباء متزايدة. فالطرق التكنولوجية جعلت صيانة البنية التحتية متزايدة الكلفة باستمرار. من ناحية أخرى، يحتم تلوث البيئة عمليات إصلاح واسعة جدا. وبما أنّ السكان أمسوا يعمرون مدة أطول، تزايد الإنفاق على المرافق الطبية وعلى الرواتب التقاعدية. وبناءا على ذلك كله، ليس بوسع المسؤولين السياسيين، في الكثير من الحالات، سوى الحد من الإنفاق الحكومي على كل تلك المجالات والمرافق التي ليس ثمة لوبي يدافع عنها، أعني الحد من الإنفاق الحكومي على نظام الرعاية الاجتماعية والمرافق الثقافية والخدمات العامة – ابتداء من أحواض السباحة وانتهاء بالمدارس والجامعات. وعلى هذا النحو تتحول الدول إلى مؤسسات تنفذ إعادة توزيع الثروة والدخل القوميين من الفئات الموجودة في أدنى السلّم الاجتماعي إلى الفئات الموجودة في قمته” (ص 364 – 365، فخ العولمة).

 

والأصح أن يقال: على هذا النحو، يؤدي التحول الحاصل في بنية الاقتصاد العالمي إلى تحول جوهري في دور الدولة، وإلى انفلات رأس المال مادياً وأيديولوجياً من قاعدته القومية، وإلى انحلال دولة الرفاه القومية الشوفينية في الغرب، وإلى بداية تبلور مؤسسات اقتصادية وحقوقية ما فوق قومية تخدم مصالح رأس المال المالي الدولي المنفلت من عقاله.

 

بالطبع إنّ هذه التحولات في التكوين الطبقي للبرجوازية العالمية لم تكتمل ولم تنجز بعد، ولكنها تمثل الملامح العامة للاتجاه التاريخي. فرأس المال المالي الدولي ما يزال أساسا رأسمالا أمريكيا وأوروبيا ويابانيا، رغم وجود بعض الاستثناءات هنا وهناك، في جنوب شرق آسيا مثلا. بيد أنّ تمركز ملكية رأس المال المالي الدولي في شمال أمريكا وأوروبا الغربية واليابان يخفي تحولات حقيقية في شكل هذه الملكية. فمع تطور الأسواق المالية، أصبحت أسهم الشركات الكبرى والسندات والمشتقات المالية تباع وتشترى على نطاق عالمي. وتلعب صناديق الاستثمار العالمية التي تدير أموالا هائلة دورا مهما هنا في خلق طبقة برجوازية عالمية، ما فوق قومية. فمالك الشركة هو صاحب أسهمها، وإذا كانت هذه الأسهم تباع وتشترى على نطاق عالمي، فإنّ مالك هذه الأسهم يتحول من مالك أمريكي إلى مالك أوروبي إلى مالك ياباني وبالعكس، بقدر ما تتسع عملية تبادل الأسهم مع تطور واتساع الأسواق المالية. وكذلك الأمر مع باقي الأدوات المالية، حيث تباع وتشترى اليوم على نطاق عالمي قروض هذه الشركات وحقوق شراء إنتاجها من السلع بعد أشهر أو عام مثلا. كل هذا يؤدي إلى نشوء طبقة رأسمالية ما فوق قومية، وهو الأمر الذي لا يكشفه الحديث عن عولمة المنشأة الإنتاجية، إذ إنّ العمليات الإنتاجية الخاصة بسلعة واحدة قد تتعولم، دون أن يعني ذلك عولمة الملكية، ملكية رأس المال أو وسائل الإنتاج.

المهم، أصبحت البنوك والشركات متعدية الحدود والمؤسسات الدولية تملي شروطها على الدولة الوطنية والقومية، ليس في العالم الثالث فحسب، بل في الدول الاشتراكية سابقا، وفي الدولة الرأسمالية الغربية نفسها. ويتجلّى هذا الأمر أكثر ما يتجلّى في التنافس الذي فرضته الشركات متعدية الحدود على الدول القومية في كل مكان من أجل استقطاب استثماراتها. وقد أدّى هذا التنافس بين الدول القومية على خطب ود الشركات متعدية الحدود إلى تخفيضات هائلة على المعدلات الضريبية على أرباح هذه الشركات، وإلى إعفاءات ضريبية كاملة لآجال طويلة، وإلى عطايا مالية سخيّة على حساب دافع الضرائب لعابرات الحدود.

 

من الأمثلة على هذه العطايا ما يذكره مؤلفا كتاب “فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية”، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة في الكويت عام 1998. يقول بيتر مارتن وشومان في هذا الصدد: “فحينما توافق الشركة الكورية متعدية الجنسية سامسونج Samsung على استثمار مليار دولار في مصنعها الجديد، المنتج للأجهزة الإلكترونية، في شمال إنجلترا، لقاء حصولها على مائة مليون من وزارة الخزانة، فإنها تكون قد تساهلت كثيرا، وقبلت بسعر مناسب جدا” (صفحة 357). وبعض الأمثلة الأخرى التي يضربها بيتر مارتن وشومان هنا مثل من شركة مرسيدس الألمانية التي حصلت على إعانات تساوي ربع المبالغ المستثمرة من دافع الضرائب الفرنسي (وزارة المالية) لإنتاج سيارات صغيرة الحجم في منطقة لورين، هذا عدا الإعفاءات الضريبية. وهنالك مثل آخر من شركة مرسيدس عام 1993 التي حصلت من حكومة ولاية ألاباما الأمريكية على 55 بالمائة من تكاليف بناء مصنع جديد هناك.  بالمقابل، حصلت شركة AMD الأمريكية، التي تصنع الأجهزة الإلكترونية، على 800 مليون مارك، أو ما يعادل 35 بالمائة من مجموع الاستثمارات المتوقعة لقاء تشييدها مصنعا جديدا لإنتاج شرائح الكمبيوتر في مدينة دريسدن الألمانية.

 

لاحظوا إذا من المثال السابق أنّ شركة ألمانية تحصل على تنازلات من حكومة ولاية أمريكية، وأنّ شركة أمريكية تحصل على تنازلات من ألمانيا. فاتجاه التنازلات ليس بالضرورة للشركات الأمريكية من الحكومات غير الأمريكية، بل من الدولة القومية إلى الشركات عابرة الحدود، وهذا مهم. فشركة جنرال موتورز (GM)، حصلت على إعفاء ضريبي كامل مدته عشر سنوات في تايلاند وبولندا، وشركة سيمنز الألمانية حصلت على المليارات من ألمانيا والمفوضية الأوروبية كمعونات لتطوير شرائح الكمبيوتر (microprocessor Chips) تحت حجة منع اليابان والولايات المتحدة الأمريكية من احتكار إنتاج هذه الشرائح، ثم بنت مصنعا مشتركا في مدينة ريتشموند الأمريكية، بالتعاون مع شركة موتورولا الأمريكية لإنتاج هذه الشرائح المتقدمة. وهكذا تتحالف الشركات متعدية الحدود مع بعضها وتتعاون حسب الضرورة. وصدر خبر مثلا في الصحف يوم 24/6/2000 مفاده أنّ شركة ديملر كرايسلر اشترت عشرة بالمائة  من شركة هونداي الكورية، وكانت الشركة نفسها قد اشترت ثلث شركة ميتسوبيشي اليابانية قبل أشهر من ذلك.

 

 

 

نهاية التاريخ .. الحرب الثقافية والثقافة البديلة
معاوية موسى

* لا نقع البتّة في حدود الوهم والضلالة والشك عندما نقول أن المفكر والفيلسوف الإيطالي انطونيو غرامشي أصاب كبد الحقيقة عندما وصف الولايات المتحدة بالقوة المهيمنة على العالم، وهي مقتنعة بشرعية هذه الهيمنة انطلاقاً من سيطرتها الأحادية على النظام الدولي وتحويله بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 إلى نظام أحادي القطبية.

 

لم يكن غرامشي الذي وضع مفهوم “الهيمنة الثقافية” ليتكهن أو يتنبأ أو ينجّم عندما كان يستشرف المستقبل، من خلال قراءة متمعنة ودقيقة وعميقة قائمة على احتمالية تبدّل الظرف الموضوعي والتاريخي، لأن الظروف التي أتاحت للولايات المتحدة فرض الهيمنة واحتكار على النظام الدولي، بل وصنع القرار الدولي، ليست ظروفاً أبدية ولا يمكن أن تكرّس إلى ما لا نهاية، كما ادّعى فرانسيس فوكوياما عندما قال بأبدية الهيمنة الأمريكية من خلال مقولة نهاية التاريخ.

 

لقد استخدمت الامبريالية المتوحشة  “أعلى مراحل النظام الرأسمالي” كافة إمكاناتها الثقافية والإعلامية لفرض النظام العالمي الجديد والقطبية الأحادية، فانتهت الحرب الباردة، وخسر اليسار العالمي مواقعه المتقدمة، وبات الهدف الإستراتيجي الأساسي للولايات المتحدة قيام إمبراطورية أمريكية عالمية، وما دامت التوجهات الرأسمالية تحكمها استراتيجيات الهيمنة على العالم فإن ضرورة الحاجة الى أرضية فلسفية تبقى متواصلة، فخرج علينا الكاتب والأستاذ الجامعي فرانسيس فوكوياما “ياباني الأصل” بنظرية نهاية التاريخ، وتحديداً في كتابه الموسوم “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، الصادر في تسعينيات القرن المنصرم، والذي يتوقع فيه  انتصار الليبرالية السياسية والاقتصادية في نهاية المطاف.

 

يقول فوكوياما إن انتشار الديمقراطيات الليبرالية والرأسمالية والسوق الحرة في أنحاء العالم قد يشير إلى نقطة النهاية للتطور الاجتماعي والثقافي للإنسانية كونها الشكل النهائي للتطور السياسي للإنسان، أي أن تطور التاريخ البشري كصراع بين الأيديولوجيات انتهى إلى حد كبير، وما نشهده ليس مجرد نهاية الحرب الباردة، أو مرور فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، ولكنها نهاية التاريخ على هذا النحو، نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وبداية عولمة الديمقراطية الليبرالية، يعني أن الحجج الأيديولوجية للآخرين لا ترقى لمقارعة الديمقراطية الليبرالية (1).

 

لقد ارتبط اسم فوكوياما بالمحافظين الجدد، قبل أن يصبح مستشاراً لوزارة الخارجية الامريكية. وله بصمة واضحة في أدلجة “مشروع القرن الأميركي الجديد”، وكان من أول الموقعين على عريضة سياسية تدعو الرئيس (بيل كلينتون) إلى قلب نظام الرئيس الراحل (صدام حسين)، والذي تحقق لاحقاً في عهد جورج بوش الإبن. ازدادت أهمية اطروحته، وأهميته هو، كبوق أنتجه النظام الرأسمالي الإمبريالي، فلمع بريقه في وسائل الإعلام على اختلافها، فأصبح لا يكف فوكوياما منذ ارتبط اسمه بالنظام العالمي الجديد وأطروحة نهاية التاريخ، عن الإدلاء بدلوه في كل بئر، سواء كانت طافحة بالدم أو بالنفط أو بالماء.
لقد تسيّدت مقولة “نهاية التاريخ” لمنتجها “فرانسيس فوكوياما” محافل الفكر السياسي الأمريكي لسنوات عديدة، حيث تلاقت طروحات المؤلف مع التوجهات الأيديولوجية للمحافظين الجدد، لجهة التنبؤ بانهيار الأنظمة الشمولية، وسائر الأنظمة الشيوعية والاشتراكية، والتنبؤ أيضاً، بانتصار النظام الليبرالي، كنظام سياسي – اقتصادي فريد في المستقبل.

 

فالحديث عن موت التاريخ يؤسس لخطاب مؤدلج يعمل انطلاقاً من مرامٍ تتستر بوجهة نظر هدفها في الباطن تكريس الهيمنة الثقافية على الحضارات غير الغربية.  فالأمريكي ما انفكّ بأمس الحاجة لمبررات نظرية تمكنه من إحكام السيطرة على الشعوب المستضعفة.

إن الامبريالية اليوم  مازالت مستميتة للدفاع عن هذه الهيمنة التي فرضتها على العالم عن طريق السعي الدؤوب والحثيث والمندفع وغير العقلاني للحؤول دون عودة اللاعبين الكبار إلى الملعب الدولي ليكون لهم دور في منافسة اللاعب الأمريكي الذي تفرد وانتهج سلوكاً عدوانياً غاشماً ضد الدول الصغيرة والشعوب الآمنة.  لكن التطور الهام واللافت بل والمثير أن عودة روسيا، ومعها هذه المرة الصين، لممارسة دورها في إدارة النظام الدولي، لم يعد طموحاً في ولوج النظام الدولي وإنما غدا حقيقة واضحة وجلية وملموسة.

إن الويلات المتحدة، وضمن تصميمها على تكريس سيطرتها على النظام الدولي منذ تسعينات القرن الماضي، وقطع الطريق أمام القوة الصاعدة للصين وروسيا من جديد، استخدمت كل وسائل العنف والقمع والإكراه ضد الدول والشعوب الفاقدة لعناصر القوة في مواجهة جبروت وطغيان الإمبراطور. فاتخذت استراتيجية قائمة على التدخل في شؤون تلك القوى الصاعدة على الأخص، ومنها إشعال حروب داخلية في روسيا ومحيطها في الشيشان ثم في أوكرانيا وجورجيا، والقيام بحشد عسكري أمريكي من حول الصين في كوريا الجنوبية واليابان وتايوان، ودعم الانفصاليين كالدالاي لاما وإثارة القلاقل في اقليم شينجيانغ، ناهيك عن تفكيك يوغسلافيا والحرب على أفغانستان والعراق والحروب الصغيرة في اليمن والصومال والسودان ولبنان وفنزويلا وغيرها.

إن العودة القوية لروسيا والصين إلى الساحة الدولية يؤكد حقيقة هامة ألا وهي أن المجتمع الدولي لن يكون بعد الآن مجتمع غابة، القوي يأكل الضعيف، مجتمع الحوت الشرِه الذي يلتهم الأسماك الصغيرة، أو مجتمع الذئب القوي الذي يأكل الذئب الضعيف.

 

فالعولمة المزعومة لم تحقق أي شكل من أشكال العدالة الدولية، بقدر ما عملت على تفريغ الثقافات العالمية من محتواها الحقيقي.

 

كل هذا يطرح علينا أهمية وجود ثقافة بديلة، كسلاح هام ووحيد أيديولوجياً في مواجهة الإمبريالية وسطوتها ورفضا للواقع السائد والمُعاش، المفروض بفعل الهيمنة الإقتصادية والسياسية، التي خلقت انزياحات كبيرة في الحركات الثقافية والأدبية لتعزيز آلياتها وقيمها ومنطقها الخاص، وذلك حسب كتاب “من يدفع للزمار” للكاتبة الإنجليزية فرنسيس ستونر (Frances Stonor).

 

أما نحن العرب فلا شك أننا نحتاج اليوم إلى مشروع حداثوي عربي من نوع أخر، لا يقطع مع التراث، بل ينبثق منه، ولا يغمض عينيه عن تناقضات العصر وتحدياته في ماضٍ مجيد كانت ظروفه وتحدياته ومشاكله مختلفة تماماً.  نحن بحاجة إذن لمشروع مقاومة ونهضة ثقافية لا يضيع الهوية في ما بعد الحداثة، ولا يضيع صوابه بالهروب من الواقع في ما قبل الحداثة، ولا يستورد حداثة ذات مقاسات جاهزة من أزمنة أو أمكنة أخرى.(2)

 

هوامش:

(1) من مقال نهاية التاريخ والإنسان الأخير،فرانسيس فوكوياما

(2) الحرب الثقافية مفهوم ماركسي الجذور يلام الإسلاميون والقوميون على تبنيه، د. إبراهيم علوش: العرب اليوم، 23/2/2010.

 

إيران في الميزان الجغرافي-السياسي

 

أسامه الصحراوي

 

إن التحليل دون تحديد المنطلقات التي يرتكز عليها، من أكثر الأسباب التي تؤدّي إلى انحراف التحليلات نحو الرغباتية أو السفسطة، فكان منطلق الحديث عن “إيران في الميزان” هو جغرافيتها السياسية ليس فقط بما تفرضه الجغرافيا على الدولة من سياسة، بل بما تغيره السياسة أيضا في الجغرافيا، مميزين بين موضع إيران الجغرافي الثابت، وموقعها المتفاعل مع محيطها.  فإذا تتبعنا الثابت من جغرافيتها والمتغير من طريقة تفاعلها، أدركنا النمط السياسي للدولة وهو الذي بثباته -كمنهج- سبب التغيّر في السياسات والمواقف، لننتهي إلى شخصية الإقليم التي هي “أعلى مراحل الفكر الجغرافي” كما يراها جمال حمدان.  يبقى أن نحدد عن أي ميزان نتحدث: إنه وبالتأكيد الميزان القومي العربي، فيصبح موضوع النص تحليلا للجغرافيا السياسية لإيران، لتحديد علاقتها الممكنة مع المشروع القومي العربي.

 

تقع إيران بين دائرتي عرض 25 و40 شمال خط الاستواء، وبين خطي طول 45 و65 شرقي خط غرينتش في الهضبة المطلّة على شمال الخليج العربي، وهي تشرف على 3 مسطحات مائية هي خليج العرب وبحر قزوين والمحيط الهندي، كما تفصلها 5204 كلم عن 8 دول. تحتل إيران موضعا استراتيجيا يربط بين القزوين والخليج العربي ما يمثّل بوّابة على آسيا الوسطى، إضافة إلى تربعها فوق منطقة غنية بالموارد الطبيعية والطاقية، زد على ذلك أنها تمثّل قبلة لحوالي 150 مليون مسلم شيعي في العالم,   كل هذا مكّنها من لعب دور إقليمي بل وعالمي مؤثّر. لكن ما يعنينا في هذا هو موقع إيران في قلب منطقة الارتطام بين قوى البر وقوى البحر حسب تقسيم فيرجيف، فتخضع إيران بذلك إلى تأثير التجاذب بين أكبر قوّتين في الأرض حسب تصنيف أغلب الجغرافيين، ثم إنها تقع في منطقة حافة الأرض حسب تصنيف سبايكمان، أي أنها خاضعة لقوى الشد والجذب بين قوى البحر والبر، وهي تنتمي لنفس المنطقة التي يسمّيها بريجنسكي: قوس الأزمات.

ثم تقع إيران مرّة أخرى مقسّمة بين انتمائها لقلب الأرض أو الهارتلاند، وبين انتمائها لمنطقة الهلال الداخلي حسب تقسيم ماكندر الثلاثي للأرض. وتخضع إيران حسب هذا التقسيم أيضا إلى أثر التجاذب بين خصائص المنطقتين. ونلاحظ  هنا حساسية المنطقة من جهة، وتعرّضها للشد والجذب تحت تأثير القوى العالمية من جهة أخرى، وذلك مهما اختلفت مرجعيات التصنيف العالمية بين الجغرافيين، سواء الذين يرجحّون كفّة قوى البر (ماكندر و راتزيل) أو الذين يرجحون كفّة قوى البحر (ميهان و سبايكمان)، فمهما اختلفوا حول الغلبة في المستقبل لإحدى هاتين القوتين إلاّ أنهم يتفقون دائما على أن الهضبة الإيرانية لا يمكن لها الإفلات من مفاعيل التجاذب الدائم بين تلك القوى.

إن الانطلاق من هذه التقسيمات يدفعنا بالضرورة للإجابة على أسئلة عديدة نحاول تبويبها كما يلي:

1) من أين تبدأ جذور هذه التقسيمات؟

2) ما علاقتها بالانقلاب الجغرافي الكبير عندما تمّ اكتشاف “العالم الجديد” والذي نسخ قوانين جغرافية عديدة وثبت أخرى؟

3) ما هو تأثير الانقلابات التاريخية الكبرى: الانقلاب الصناعي، الأسلحة النووية، سلاح الجو، التوزيع الديموغرافي….

4) هل من الممكن الانتصار لأحد التقسيمات المطروحة؟

5) ثم يكون السؤال الأثير: ماهو الثابت والمتغير من موضع إيران في محيطها باختلاف الرؤى والتقسيمات؟

 

1) يمكن تقسيم وحدات الصراع في جغرافيا البر إلى ثلاثة ثنائيات تتداخل أحيانا هي صراع السهب-الغابة، وصراع الرمل-الطين، وصراع الجبل-السهل، ثم إنّ كل ما سبق يمثل طرفا في صراع البر-البحر. أما “إيران الحالية” فقد برزت كإحدى قوى البر التاريخية منذ العصور القديمة في مقابل قوّى البحر اليونانية المهيمنة على البحر المتوسّط حينها. كان الصدام بين القوتين حتميا إذ تأبى القوّة إلا أن تطلّ برأسها وهي إن لم تفعل فمنكفئة لا محالة. دام الصراع بين القوتين قرونا وتبادل الطرفان التقدم مرّات حين زحف  كزركسيس انطلاقا من آسيا الصغرى وهُزم في معركة بحرية، ومرّة حين تقدّم الإسكندر الأكبر وانتصر في معركة أربيل الحاسمة. ويبقى الثابت في صراع القوى البر والبحر سعيهما المحموم للسيطرة على المناطق البينيّة. تكررت نفس المعادلة بين البارثيين (الفرس) والرومان وهم ورثة أثينا (قوة البحر)، واستمر الصراع المحموم بينهما للسيطرة على المناطق البينية إلى حين ورثت بيزنطة مرّة أخرى موضع قوى البحر. لكن التاريخ يسجّل انقلابا عالميا حين خرجت القوى البينية (العربية) وانقضّت على قوى البر والبحر مؤسسة بذلك “أول امبراطورية عالمية” كما يراها ماكندر. وفي العصور الوسيطة كانت إيران تابعة للسيطرة العربية، ولم يعرف التاريخ حينها دولة إيرانية مستقلة إلا في حدود القرن السادس عشر.

2) كان الانقلاب الجغرافي من أهم الأحداث التي عرفتها الإنسانية ككل، ومثّلت ثورةً في الفكر والسياسة، إضافة إلى الجغرافيا، فانتقلت مثلا دولٌ كالبرتغال وإسبانيا من كونها دولاً طوقية إلى دول تتوسط العالم، فكان أن توارثت تلك الدول دور مصر مثلا، التي كانت تتوسط العالم القديم، وثم ورثت بريطانيا هذا الدور لتؤسس أكبر إمبراطورية بحرية عرفها التاريخ. وتأثرت إيران كما كلّ العالم بهذه الكشوفات، فتغيّر منها الموقع والموضع، لكن القوانين الحاكمة للجغرافيا بقيت ثابتة، وهي التي تحوّلت – من قوّة برية تصارع نقيضتها البحرية على المناطق البينية- إلى منطقة بينية تتوسط منطقة الارتطام بينهما أو ما يسميه ماكندر منطقة الهلال الداخي أو ما يسميه سبياكمان منطقة حافة الأرض، فورثت بذلك موضع وموقع المناطق البينية. فإذا عرفنا أنّ تلك المنطقة خاضعة بطبيعتها لقوى الشد والجذب، استطعنا تفسير ما تتعرض له إيران من تجاذبات سياسية.  لكن هل يصح أن تثور المنطقة البينية لتُطيح بقوى البر والبحر معا، كما كانت الحال مع دولة العرب الإسلامية؟؟ الجواب لا، فالفرق بين الإثنين أن الدولة العربية انتقلت من كونها منطقة بينية إلى كونها دولة برّمائية، إذ كان امتدادها داخل ما يعرف اليوم بالوطن العربي تحريرا لا استعمارا، أي أنه امتداد طبيعي لا توسّعي، فقرنت بذلك امكانيات البر ومناورة البحر التي هي في الأصل إمكانيات ذاتية لدولة العرب الإسلامية، فتسيّدت العالم توصيفا لا انحيازا. أما الثابت من إيران الحالية أنها دولة بينية لا امتداد لها خارج التقسيمات المختلفة بين قوى البر والبحر، فقدرها أن تكون و تبقى كذلك إلاّ إذا “امتدّت” عربيا.  ولا يصح أن نتجاوز أن إيران أيضا تعاني من اختلال واضح في تركيبتها وبنيتها مما يزيد من تأثير قوى الشد والجذب.  فإيران الحالية التي اقتطعت منها قوى البر مساحة كبيرة من جغرافيتها التاريخية (مرو)، هي نفسها التي تقتطع “المثلث السهلي على رأس الخليج العربي الذي هو التتمـة الطبيعية والاستمرار المباشر لسهل الرافدين العظيم وهو النافذة الطبيعية للعراق على الخليج العربي”، فقد ساهم الوضع الإقليمي المتخلخل أصلا في تعميق تأثير قوى التجاذب بين فيل البرّ وحوت البحر.

 

ثم إن نضج الوضع الإمبراطوري لروسيا التي شكّلت عملاقا برّيا متربّصا بها شمالا والذي انتزع مقاطعات عديدة من”إيران التاريخية”، إضافة إلى تأثير العملاق البحري البريطاني المتربّص بها جنوبا، كل هذا ساهم في تشكّل الشخصية الإقليمية الإيرانية المعاصرة على ضوء استراتيجية كلّ من القوّتين. فأما الإستراتيجية الروسية فكانت تقوم على مرتكزين أساسيين هما خلق هالة أو طوق من الدول الحزامية والوصول للمياه الدافئة لتدعيم قوّتها البحرية، وهي السياسة نفسها التي مازالت روسيا تعمتدها للآن. وأما الاستراتيجية البريطانية فكانت تقوم على احتواء قوة البر الرّوسية وهي نفس السياسة التي مازالت تعتمدها الولايات المتحدة مع روسيا، وهي نفسها التي استعملتها لحصار الاتحاد السوفييتي مع جون كينان. فإذا علمنا أن روسيا استنزفت في محاولتها لتجاوز تركيا، المدعومة مرّة بريطانياً ومرّة فرنسياً، للحؤول دون وصول روسيا للمياه الدافئة، فإنه لم يبقى لها إلاّ الاندفاع باتجاه الخليج العربي والذي مثّل بالنسبة لها “قناة سويس” روسية.  فكان أن اصطدمت قوى البر والبحر مرّة أخرى في إيران، وأدى هذا الصدام إلى تقسيم إيران في بداية القرن التاسع عشر إلى ثلاث مناطق نفوذ. وهذه التسوية تلخّص في الوقت نفسه كل استراتيجية إيران من أجل البقاء والمحافظة على كيانها منذ ظهرت روسيا على ضلوعها، وهي استراتيجية مضاربة كل من قوى البر والبحر حتى تعيش على التناقض بينهما، باختصار إنها سياسة المضاربة الإيرانية كما يصفها جمال حمدان.

 

3) الأكيد أيضا أن الانقلابات التاريخية الكبرى كالثورة الصناعية والسلاح النووي إضافة للتطور الملحوظ في سلاح الجو وغيرها هي محطّات مفصلية في تاريخ البشرية، وكان لها أثّر في الجغرافيا السياسية تعديلا وتحويرا في موضع الدول، أي في شكل تفاعلها مع محيطها، غير أن هذه التغييرات الكبرى قد عمّقت التقسيمات الجغرافية التقليدية، وأكّدت على أن الجغرافيا بما هي الجسر الرابط بين العلوم الطبيعية والاجتماعية مصنع شخصيّات الأقاليم.  فما بدا مثلا أنه نسخ لمناعة قلب العالم (الهارتلاند) حين تم تصنيع السلاح النووي، عاد ليؤكد هذا الاستنتاج بعد أن تحول هذا السلاح من سلاح يهدد السلم العالمي إلى سلاح يؤّكد ذلك السلم مع سياسة الوفاق بين السوفييت والأمريكان، وما بدا أنه نسخ لنفس النظرية من خلال تطور سلاح الجو والذي هدد الهارتلاند بفقدان مناعتها الاستراتيجية، إلا أنه عاد ليؤكّد هذا الاستنتاج بعد أن تزامن تطوّر سلاح الجو بتطوّر السلاح المضاد للطيران خصوصا الروسي، والذي يُعد إلى الآن متطوّرا على مثيله الأمريكي. وما بدا أنه ثورة صناعية كبرى تغير الجغرافيا موقعا وموضعا من خلال الاكتشفات العلمية وتطوّر تقنيات التنقيب، وحفر القنوات البحرية، واكتشاف موارد طبيعية وطاقية جديدة تهدد التقسيمات التقليدية، إلاّ أنه عاد مرّة أخرى ليؤكد ذلك حين تصدّرت الهارتلاند مناطق إنتاج الطاقة والمواد المنجمية والطبيعية. ثم إن نفس التطور الصناعي الذي شكّل روسيا شمال شرق إيران ككيان برّي شبه قاري هو نفسه الذي شكّل أمريكا قوّة برّية داخلية شبه قاريّة قفزت لترث ترِكة إمبراطورية البحر البريطانية لتعيد المعادلة نفسها بين أمريكا وروسيا.  فهل يعني هذا أننا نتبنّى التقسيمات التقليدية القديمة وكل استنتاجاتها؟؟

4) تستحق نظريات مثل نظرية ماكندر الكثير من التدقيق والتحليل لكن مسألة تبّني كل استنتاجاتها مسألة أخرى، فإذا تتبعنا مثلا بؤر التوتر العالمي في محاولة لاستنتاج نمط معين للصراع سنجد انتقالا من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي في نفس الاتجاه الذي تميل فيه كفّة القوة العالمية، وذلك من قلب أوروبا في الحرب العالمية الأولى إلى شرق المتوسّط وقناة السويس في منتصف القرن العشرين، إلى منطقة الخليج العربي والمسطّحات المائية المرتبطة به، وصولا إلى شرق آسيا حيث تقبع الصين كأكبر قوة اقتصادية عالمية.  وإذا تتبعنا رجحان الكفّة بين قوى البر والبحر، سنجد أنّ الكفة تميل حقيقة لقوى البر كما تنبأ بذلك ماكندر في الوقت الذي كانت قوى البحر تشهد ذروة قوّتها.  لكن ماذا عن التقسيم الثلاثي؟ تحوّل الهلال الداخلي حسب ماكندر إلى منطقة ارتكاز تريد أميركا أن تنطلق منها لتخوض معركتها المصيرية حول محيط الصين في قلب أوراسيا أو الهارتلاند، ونتفق مع ماكندر أن حسم المعركة في الهلال الداخلي مدخل لحسم المعركة عالميا، وهو ما حاولت الولايات المتحدة أن تقوم به من خلال خطتها لمحاصرة العدو السوفياتي تحت شعار الاحتواء وبإشراف مهندس للحرب الباردة جون كينان، فانتشرت قواعد الأمريكيين من أوروبا إلى اليابان مرورا بجنوب شرق آسيا، لكن ثغرة وحيدة كانت تبرز في هذا الطوق الأمريكي على السوفييت، وهي المنطقة المتددة من باكستان إلى تركيا فكان أن حاولت الولايات المتحدة سدّ هذه الثغرة تحت مسميات مختلفة، كان أولها الحلف الإسلامي في مجابهة الإلحاد السوفياتي، ثم حلف بغداد فحلف السانتو، وأخيرا مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي أخذ نسخة معدلة تحت اسم “الربيع العربي”.  لكننا نختلف مع ماكندر حول نتيجة حسم المعركة في الهلال الداخلي، فإذ يقول هو أن النتيجة ستكون لصالح قوى البر، نقول أن التحليل غير النمطي للوقائع يبشّر بصعود المنطقة البرّمائية (العربية) مرّة أخرى على المدى المتوسّط وهذا ما يحتاج لمزيد من التفصيل….

 

5) يبقى الآن أن نتبيّن الثابت في مواقف إيران التي تحارب أمريكا في سورية وتتفاوض معها على تقاسم النفوذ في لوزان، وهي نفسها التي تهُبّ أمريكا لمساعدتها على دخول تكريت وتحاربها في اليمن، وهي نفس إيران التي تقتني الأسلحة الروسية وتحارب بها أمريكا في لبنان وهي نفسها التي تقتني الأسلحة الأمريكية (صورايخ تاو وهوك) ثم تصفها بالشيطان الأكبر.  وهي نفسها التي تتحالف مع أمريكا في أفغانستان وتسعى لكسب الود الأمريكي في العراق من خلال مبادرتها بواسطة سويسرية في أيار 2003 بعد أن سمحت لصورايخ كروز و تاوماهوك الأمريكية بالعبور من الأجواء الإيرانية لاستهداف العراق ثم تعود لتحاربها في العراق قبل أن تصل معها إلى تسوية، وهي نفسها التي تتوافق مع أمريكا لتمرير خط نابوكوالذي يكسر التبعية الطاقية الأوروبية لروسيا مهددة بذلك الصعود الرّوسي، وهي نفسها التي تعدل عن تمرير غازها في خط نابوكو ثم توافق على تمريره عن طريق تركيا، تركيا التي تحاربها إيران في سورية والعراق وتتوافق معها اقتصاديا. وهي إيران التي يسقط نظام الشاه فيها حين وضع البيض -كل البيض- في السلّة الأمريكية.

 

كل هذا يعود بنا مرّة أخرى لمعاهدة تقاسم النفوذ في إيران بين قوى البر والبحر، والتي وسمت سياستها الخارجية منذ بروز قوّى البرّ (روسيا) في شمالها، ومنذ اشتداد حاجة قوى البحر (بريطانيا ثم أمريكا) لنقطة الارتكاز على الهضبة الإيرانية، أنها سياسية المضاربة بين القوى الكبرى والإقليمية.  كل هذا وسم موقع إيران ثم موضعها وشخصيتها الإقليمية فكانت دولة المضاربة بامتياز، فإذا كانت سنة 2001 بداية الأفول الأمريكي والصعود الأوراسي فإنه أيضا بداية العودة الإيرانية إلى المشهد العالمي، عودة تتعمق كلّما اشتد التوتر والصراع بين الكبار بل وحتى الصغار.

 

ثم إن “حقائق القوة والواقع إذا تعارضت مع حقائق الجغرافيا والتاريخ فإن التصحيح والتعديل واقعان لا محالة”، كما يقول محمد حسنين هيكل.  فإذا انتهجت إيران سياسة تتناقض مع موضعها فإنها تهدد وجودها ذاته، وهو الخطأ الذي قاد شاه إيران إلى المنفى بعد أن اقترب من أمريكا “أكثر مما يجب” وهو نفسه ما يتهدد إيران أيضا إذا هي ابتعدت عن أمريكا “أكثر مما يجب”.  فإيران مهمّة للجميع في ظل احتراب القوى، وإيران مطمع  للجميع في ظل غياب القطبية أو النديّة.  ونحن نقرّ بأن إيران كانت ولا تزال كابوسا للولايات المتحدة الأمريكية لأنها ليست تابعة لها كما هي بقية الممالك في المنطقة، لكننا نقر بأن هذا لا ينفي إمكانية، بل وحتمية الالتقاء بينهما في محطّات قادمة قد تكون لوزان باكورتها.

 

بقي الآن أن نحدد قانون علاقة إيران بالمشروع القومي العربي بعد أن تلمّسنا معالم شخصية الإقليم الجغرافية.  وهنا لا بد من التساؤل: هل من حق إيران أن تضارب؟ الإجابة ليست بنعم أو لا، إنما هي: يجب على إيران أن تضارب بل لا تستطيع-بموقعها وموضعها الحالي- إلاّ أن تضارب.  فإذا احترمنا “حقها” في المضاربة فهل ستحترم المسافة بيننا؟؟ الإجابة أيضا ليست بلا أو نعم، إنما هي: يجب على إيران أن تحترم المسافة بيننا، والمسافة الفاصلة بيننا أوّلا تخوّف إيران من تشكّل دولة ضخمة بجوارها تهددها بالتّحول إلى جرم صغير يدور في فلك هذه الدولة البرمائية العملاقة، وثانيها شخصية هذه الدولة الإقليمية، وثالثها حدودها معها. إن تحديد هذه المسافة انطلاقا من النقاط السابقة الثلاث لا يكون إلاّ بالربط بينها، فهي تغذّي إحداها الأخرى، فشخصية دولة العرب الإسلامية منذ نشأتها كانت أبعد ما يكون عن النزعة الاستعمارية وأقرب ما يكون للنزعة التحررية الوحدوية،  وهي لم تحرر العرب فحسب، بل حررت أمما وشعوبا كانت ترزح تحت الاستبداد الإمبراطوري ومنها بلاد فارس، كما أن دولة العرب الإسلامية لم تعرف احتكارا لا سياسيا ولا اقتصاديا، فلم يحتكر إقليم واحد السلطة السياسية ولم تعرف الدولة في تاريخها متروبولا اقتصاديا كالذي تعرفه عواصم الإمبراطوريات الاستعمارية، إنها “أوّل كومنولث” في التاريخ -كما يقول جمال حمدان- تتشارك في إدارته الأقاليم كما تتشارك في خيراته، فكان واضحا أن أخوة الدين تقابلها أخوّة الأقاليم وهو مبدأ يمكن أن يكون الصيغة السحرية لتحديد طبيعة العلاقة بين المشروعين الإيراني والقومي العربي.  والمشروع العربي يمثّل – ويجب عليه أن يتمثّل- شخصية الدولة العربية الإقليمية كشرط أوّل لنجاحه، وهو بذلك مشروع تحرري لا استعماري، ووحدوي لا توسّعي، فرضا لا اختيارا. لكن نفس الشخصية الإقليمية للدولة العربية تفرض عليها صراعا تناحريا لا يقبل المساومة مع كل المشاريع التوسّعية والإمبريالية على عكس شخصة إيران الإقليمية التي تفرض عليها المضاربة بين القوى الكبرى. ثم إن المشروع القومي قادر على تقديم طوق نجاة من سياسة المضاربة المفروضة على إيران وذلك بتحويلها من منطقة بينية إلى نقطة تشبيك مع قوّة برّمائية (عربية) قادرة بإمكانيّتها وتاريخها على الإطاحة بالقوى المعادية، وهو ما يمثّل فرصة تاريخية للطرفين لا فضل فيها لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا ب”التقوى”.  لكن استمرار إيران في مراوحتها بين المضاربة و”الامتداد” عربيا سيعني التناقض مع المشروع القومي العربي عاجلا ام آجلا. فإما أن تكتفي إيران بما تفرضه حدودها عليها من مضاربة وتكفّ يدها عن الشأن العربي ويجب حينها على المشروع القومي العربي تفهّم خصوصية الشخصية الإقليمية لإيران فلا يحمّلها ما لا تطيق وهذا يضر بكلا المشروعين، وإما أن تتأقلم إيران مع تشبيك قدراتها بقوّة برمائية (عربية) قادرة على انتشالها من دوّامة المضاربة، وهذا عين المصلحة للطرفين. وأما مسألة المراوحة بين “الامتداد” عربيا والمضاربة فهو “تعارض بين حقائق القوة والواقع مع حقائق الجغرافيا والتاريخ، والتصحيح والتعديل واقعان لا محالة”.

 

 

الصفحة الثقافية:

 

السينما العربية والتمويل الأجنبي

 

طالب جميل

 

لقد بات واضحاً للعيان أن خطورة التمويل الأجنبي داخل أقطارنا العربية لا تكمن فقط في تمويل المؤسسات والجمعيات والمنظمات الأهلية ودعم المدارس ورياض الأطفال وإنشاء مبادرات لتمويل مشاريع اقتصادية في مختلف القطاعات الصناعية والزراعية والتجارية والسياحية، بل تجاوز الأمر ذلك ليصبح شكل الاختراق أكثر سلاسة ونعومة من خلال الدخول إلى النشاطات والقطاعات الثقافية والفنية وتمرير أفكار وأجندات الجهات الممولة.   ومن هذه النشاطات التي تسعى جهات التمويل الأجنبي إلى دخولها وبشكل مؤثر قطاع الإنتاج السينمائي.

 

إن شحّ الإمكانيات الإنتاجية وغياب البنية التحتية اللازمة لصناعة الأفلام من استوديوهات ومعدات ومعامل تحميض، ونقص الفنيين المتخصصين والمؤهلين، وعدم القدرة على تسويق وتوزيع الفيلم بالشكل المطلوب ونقل هذه الأفلام من الإطار المحلي إلى العالمي من خلال تسويق الفيلم في المهرجانات العالمية، يدفع كثير من صناّع الأفلام في الوطن العربي للوقوع في فخّ التمويل الأجنبي لأعمالهم السينمائية.

 

وحيث يوجد تمويل أجنبي توجد شروط يفرضها الممولون وأهداف غير معلنة يسعون إلى تحقيقها.  فالمؤسسات الممولة لا تهدف إلى دعم صناعة السينما ولا إلى منح بعض السينمائيين الشباب فرصة الظهور، كما تزعم، كما أنها غير معنية بتطوير صناعة السينما في ذلك البلد أو في غيره، حيث أن غالبية الأفلام الممولة من أطراف أجنبية تطمح للحصول على فرص توزيع عالمية فتستجيب نوعاً ما لاشتراطات معلنة أو غير معلنة تضمن التمويل والتوزيع المرجويْن، إضافةً إلى اشتراط ضرورة قولبة الفيلم حسب القوالب الغربية الشائعة، وعدم إظهار الوجه العربي إلا كعنصر من العناصر الفولكلورية في الفيلم، مع ضرورة أن يتضمن الفيلم خطاباً يدين العربي بالتخلف، والمسلم بالتعصب والتطرف والانغلاق والعدوانية. على العكس من ذلك، يمكن اعتبار سياسة التمويل الأجنبي للأفلام العربية هي سياسة متعمدة للحيلولة دون بناء صناعة سينمائية وطنية متكاملة ومستقلة قائمة بذاتها ولذاتها.

 

تسعى المؤسسات الممولة إلى الإيقاع ببعض السينمائيين العرب، المرموقين منهم بخاصةً،  والمشهود بوطنيتهم، في فخ التمويل الأجنبي، سواء كان ذلك بقصد أو من غير قصد، وتتّبع هذه المؤسسات تكتيكاً آخر يتمثل في عدم إظهار التدخل المباشر في مضمون الفيلم بشكل عام لكنها تركزعلى ثيمات أو موضوعات بعينها تتوافق والطرح الفكري للجهات المانحة وتكون كالسم في الدسم، عدا عن سعيها الدؤوب للترويج لبعض المواضيع التي تعتبر بضاعتها رائجة في الغرب الليبرالي مثل التبادل الثقافي، التسامح، التعايش، الشخصية اليهودية، حقوق الإنسان، حقوق المرأة، قضايا الشرف، حرية التعبير، الديمقراطية، وغيرها من المفاهيم التي لها سوق واسع في العالم خصوصاً لدى الغرب.

 

تهدف جهات التمويل الأجنبي إلى بسط نفوذها سينمائيا في المنطقة العربية عبر تأسيس عدد من النشاطات الثقافية والسينمائية المتنوعة وتمويلها، وتسعى في المحصلة إلى تكريس مفهوم التطبيع والترويج له، والتعايش مع العدو الصهيوني والتشبيك معه بشكل مباشر أو غير مباشر.  ومن الملفت للنظر أن أغلب المؤسسات والهيئات السينمائية العربية الممولة أجنبياً تشترك في خطيئة  تكريس تسمية (الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) أو تسمية (دول جنوب البحر المتوسط) وإحلال هذه التسميات محل مسمى الوطن العربي لإدماج الكيان الصهيوني مع البلاد العربية وجعله جزءاً من نسيجها الجغرافي والثقافي والاقتصادي، إضافة إلى طمس أي ملامح ممكنة لهوية عربية تحت مسمى “الشرق الأوسط”  فتتم عمليات غسيل المخ والتخريب ويقع كثير من السينمائيين فريسة لمثل هذه الأفكار الهدامة التي تروج لها مؤسسات أجنبية تخصصت في توظيف الأموال السياسية لخدمة مشروع “الشرق الأوسط الجديد” تحت الرعاية الأمريكية.

 

تتواجد في معظم البلدان العربية شركات أو مؤسسات أو هيئات ذات صبغة ثقافية أو فنية يكون الممول الرئيسي لها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي المرتبطان بشكل مباشر أو غير مباشر بالحركة الصهيونية، والمؤسف أن هنالك مؤسسات ممولة من بعض رؤوس الأموال العربية الخليجية بشكل كبير ولديها شراكات مع جهات أجنبية لا يتم الإفصاح عنها، ومن الأمثلة على تلك المؤسسات (مؤسسة الدوحة للأفلام- قطر) و(صندوق الأردن للأفلام) المنبثق عن الهيئة الملكية للأفلام و(مهرجان كرامة لحقوق الإنسان – الأردن) المنبثق عن (شبكة الإعلام المجتمعي) و(مبادرة مبادلة) المنبثقة عن مهرجان دبي السينمائي الدولي، إضافة إلى بعض المؤسسات الممولة عربياً بشكل رئيسي لكن أجندتها أجنبية مثل مؤسسة (روتانا) التي يملكها الأمير السعودي الوليد بن طلال.

 

تورط كثير من السينمائيين العرب في مستنقع التمويل الأجنبي، حيث قّدم المخرج المصري الراحل يوسف شاهين مجموعة كبيرة من أفلامه السينمائية بتمويل أجنبي كانت تهدف إلى تسويق كثير من المفاهيم الليبرالية، في حين أنه تم إنتاج أفلام عربية كثيرة في بعض بلاد المغرب العربي في إطار ما يسمى بالفرانكفونية، وقام بعض السينمائيين الفلسطينيين داخل فلسطين المحتلة عام 1948 خصوصاً في السنوات الأخيرة بإنتاج أفلام عديدة بتمويل أجنبي كان لبعضها صدى كبير، وعُرضت في كثير من المهرجانات العالمية منها على سبيل المثال فيلم (أمريكا) للمخرجة شيرين دعيبس الذي يتم فيه إجراء عملية تبييض مدروسة لصورة اليهودي وإظهاره بشكل طيب وودود، وفيلم (ملح هذا البحر) للمخرجة آن ماري جاسر الذي يُظهر شخصية المرأة اليهودية بشكل إنساني غير مألوف لا ينسجم مع شخصية محتل، وفيلم (الزمن الباقي) للمخرج إيليا سليمان الذي يتناول الشخصية العربية بطريقة ساخرة، ويظهر فيه الفلسطينيون مهزوزي الشخصية في حين تبدو الشخصيات اليهودية أكثر ثقة بالنفس عدا عن الأفلام الأخرى التي تم إنجازها بمعونات (إسرائيلية) رسمية.

 

إن عدم وجود صناعة سينمائية وطنية في أغلب الأقطار العربية، وغياب الدعم الحكومي، وعدم وجود فرص عمل كافية في قطاع السينما وجهات وطنية ممولة من القطاع الخاص، والافتقار لوجود كيانات سينمائية كبرى متخصصة في إنتاج الأفلام، وغياب القدرة على تأسيس صناعة سينمائية في الوطن العربي يجعل البيئة مهيأة للاستعانة بالمموِل الأجنبي وإعطائه فرصة التغلغل على اتساع الرقعة العربية.  إنّ إعادة صياغة أولوياتنا ووعينا ومفاهيمنا وفق أجندته سيشكل استعمار وتبعية بأشكال جديدة لا يمكن الحدّ منها إلا من خلال نشر ثقافة التصدي لمثل هذه الاختراقات من منطلق وطني وقومي، والعمل على دعم الإنتاج العربي المشترك ليكون بديلاً  للتمويل الأجنبي، وتعزيز الشراكة بين القطاع العام والخاص لدعم السينما من خلال تطوير وتحسين البينة التحتية لصناعة السينما، ومنح التسهيلات للمستثمرين في هذا القطاع، والسعي بشكل جاد لبناء مشروع قومي قابل للحياة كون التجزئة أحد أهم أسباب ضعفنا وتخلفنا وسيطرة الأجنبي علينا.

 

 

المراجع:

  • رانيه حداد: شباك التمويل الأجنبي والسينما2013
  • صلاح دهني: السينما العربية والمواجهة الحضارية، مجلة الوحدة، العدد 37/38- اكتوبر 1987.
  • عدنان مدانات: يحدث في أفلامنا العربية ، مجلة عمان، العدد 171/172.

 

شخصية العدد:

 

ناجي العلي… لا لكاتم الصوت …

 

نسرين الصغير

 

ولد ناجي سليم العلي عام 1937 في قريا الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة، وهاجر ناجي بعد احتلال فلسطين عام 1948 إلى جنوب لبنان ليعيش في مخيم عين الحلوة وبعدها لم يعرف الاستقرار في حياته، حيث بدأ بالسفر إلى طرابلس ونال شهادة ميكانيكا السيارات فيها.  تزوج ناجي العلي من السيدة وداد صالح نصر، وأنجب منها “خالد وأسامة وليال وجودي”.

 

كان في طفولته شاباً مناهضاً ومحارباً للاحتلال، وقامت السلطات الصهيونية باعتقاله، كما قامت السلطات اللبنانية أيضاً باعتقاله أكثر من مرة، فقضى أغلب وقته في الزنزانة بالرسم على الجدران.

 

كانت بدايته عندما لحظ الأديب والصحفي غسان كنفاني ثلاث رسومات لناجي خلال زيارة قام بها لمخيم عين الحلوة وقام بنشرها في مجلة الحرية العدد (88) في 25 أيلول 1961… وذهب ناجي بعدها سافر إلى الكويت ليعمل محرراً ورساماً ومخرجاً في الطليعة الكويتية، السياسة الكويتية، السفير اللبنانية، القبس الكويتية والقبس الدولية، وقد ترك خلفه إرثاً من أكثر من أربعين ألف رسمة.

 

حنظلة هو الابن الخامس لناجي العلي، لكنه وجد على هذه الدنيا وهو في العاشرة من عمره أي في نفس عمر ناجي الذي خرج فيه من فلسطين بعد احتلالها، وهو من أشهر الشخصيات التي تمّ التعبير من خلالها عن القضية الفلسطينية والوضع العربي وهو الذي انتقد به كل من كان ينقده ناجي، وقال ناجي عن حنظلة:

(ولد حنظلة في العاشرة من عمره، وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين، وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء. وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي: كتفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبعاً.  وعندما سُئل ناجي العلي عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته) – ناجي العلي

 

و قال على لسان حنظلة:

عزيزي القارئ اسمح لي ان أقدم لك نفسي.. أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا..اسمي : حنظلة، اسم أبي مش ضروري، أمي.. اسمها نكبة وأختي الصغيرة فاطمة.. نمرة رجلي:ما بعرف لأني دايماً حافي.. تاريخ الولادة: ولدت في (5 حزيران 67) جنسيتي: أنا مش فلسطيني، مش أردني مش كويتي مش لبناني مش مصري مش حدا.. الخ، باختصار معيش هوية ولا ناوي أتجنس.. محسوبك إنسان عربي وبس..

التقيت بالصدفة بالرسام ناجي …. كاره فنه لأنه مش عارف يرسم.. وشرحلي السبب.. وكيف كل ما رسم عن بلد.. السفارة بتحتج.. الإرشاد والأنباء (الرقابة) بتنذر.. قلي الناس كلها أوادم.. صاروا ملايكة.. وآل ما في أحسن من هيك.. وبهالحالة.. بدي أرسم بدي أعيش.. وناوي يشوف شغلة غير هالشغلة.. قلتله أنت شخص جبان وبتهرب من المعركة.. وقسيت عليه بالكلام، وبعدما طيبت خاطرو.. وعرفتو على نفسي واني إنسان عربي واعي بعرف كل اللغات وبحكي كل اللهجات معاشر كل الناس المليح والعاطل والادمي والازعر.. كل الأنواع.. اللي بيشتغلوا مزبوط واللي هيك وهيك.. وقلتله اني مستعد ارسم عنه الكاريكاتير. كل يوم وفهمته اني ما بخاف من حدا غير من الله واللي بدوا يزعل يروح يبلط البحر.. وقلتلو عن اللي بيفكروا بالكنديشن والسيارة وشو يطبخوا اكتر من مابفكروا بفلسطين..

وياعزيزي القارئ.. انا اسف لاني طولت عليك.. وما تظن اني قلتلك هالشي عشان اعبي هالمساحة.. واني بالاصالة عن نفسي وبالنيابة عن صديقي الرسام اشكرك على طول.. وبس..» – التوقيع : حنظلة

 

هنا نذكر أن ناجي العلي بدأ حياته السياسية في حركة القوميين العرب، ونؤكد على قومية ناجي العلي لأنه رغم همومه وخوفه على فلسطين إلا أنه كان مشغولا بالقضايا العربية، ورسم للوطن العربي كما رسم لفلسطين، وتحدث في رسوماته عن الطائفية وخطرها على الوطن العربي فكان بعيد النظر ففي إحدى رسوماته سئل عن طائفته: أنت مسيحي أم مسلم سني أم شيعي؟ فكان الرد أنا عربي يا جحش، لم يحمل في صدره سوى القومية العربية وحبه للوطن العربي ببعد نظره، واليوم بعد أكثر من 28 عام على وفاته، ما زلنا نعيش هم الكثير من رسوماته كأنها نشرت هذا الصباح.

 

أصدر ثلاثة كتب في الأعوام (1976، 1983، 1985) ضمت مجموعة من رسوماته المختارة، كان يتهيأ لإصدار كتاب رابع لكن الرصاص الغادر حال دون ذلك.
حصلت أعماله على الجوائز الأولى في معرضي الكاريكاتير للفنانين العرب اللذين أقيما في دمشق في سنتي 1979 و1980 م.

 

كان ناجي العلي لاذعاَ في انتقاده لكل ما هو منحرف عن بوصلته فكان له أعداء ممن يدّعون رفعهم للبندقية في وجه العدو، فكان من الأوائل الذين رسم عن منظمة التحرير الفلسطينية وعلاقة أبو عمار برشيدة مهران، ورسم أكثر من رسمة لأبي الزعيم الذي كان من المتّهمين بتسليم ناصر السعيد للنظام السعودي، وعندما تلقى اتصالاَ هاتفياَ يحمل تهديد من “صديقه” محمود درويش لنهييه عن نقد رشيدة مهران المحسوبة على أبي عمار، رسم “محمود خيبتنا الأخيرة”، وكان ذلك أحد أسباب عدم معرفة القاتل الحقيقي لناجي العلي، فالبعض يقول أن رشيدة مهران من اغتالته بالتعاون مع الموساد الصهيوني، وعندما وجدت مذكراته كان قد كتب عن التهديد الذي وجهه محمود درويش لناجي العلي، والذي كان صريحاَ عندما قال له كما خرجت من الكويت بإمكاني أن أخرجك من لندن.  لكن أغلبية من كتبوا مالوا لاتهام الكيان الصهيوني في بإغتيال ناجي العلي، وهو الأمر غير المستبعد على عدوٍ كان يعلم خطورة ناجي عليه، ولا يزال  يعاني منها فرسومات ناجي العلي وحنظلة تحتل المرتبة الأولى في كل الأحداث والتطورات العربية والفلسطينية، كما أن البعض اتهم بعض الأنظمة العربية الرجعية والمستسلمة.

 

رغم انتقاده اللاذع لكل من ذُكر سابقاً، كان ناجي ينصف الوطنيين والقوميين الشرفاء فهو من رسم للقائد القومي العربي جمال عبد الناصر فكتب كلنا: جمال عبد الناصر يا أعداء الحرية والاشتراكية وأعداء فلسطين، وكتب في رسمة ثانية: على زمن عبد الناصر كانت فلسطين وشم على زنود الشباب بهالأيام أنا مجبر أرسمها بالحبر السرّي…

 

نفذت عملية الاغتيال صباح يوم 22 تموز 1987 عندما أطلق شاب الرصاص عليه في إحدى شوارع لندن من مسدس كاتم صوت، وجاءت الرصاصة تحت عينه اليمنى، ومكث في غيبوبة حتى يوم وفاته في 29 آب 1987 أي بقي في غيبوبة حوالي 39 يوم، ودُفن في مقبرة بروك وود الإسلامية في لندن وقبره يحمل الرقم 230191.  نعم توفي ناجي علي لكن حنظلة ما زال بيننا لليوم، ويذكرنا بكل الخيبات والخيانات، كان طلب ناجي العلي أن يدفن في مخيم عين الحلوة لكن القدر لم ينصفه حتى في آخر طلب له.

 

من أقوال ناجي العلي:

  • أرسم لأصل فلسطين.
  • قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة في البداية قدمته كطفل فلسطيني، لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي ثم أفق كوني إنساني .
  • أريد أن أؤذن في آذان الناس وأقول لهم أين قضيتهم، وإلى أين وصلت.. أريد أن أرسم للناس البسطاء الذين يفكرون والذين لا يقرأون ولا يكتبون.
  • ياعمي لو قطعوا أصابع يدي سأرسم بأصابع رجلي.
  • كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي .. أنا أعرف خطا أحمر واحدا، أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف و استسلام “لإسرائيل”.
  • لا أفهم هذه المناورات … لا أفهم السياسة، لفلسطين طريق واحد وحيد هو البندقية.

29  ابريل- نيسان.. ذكرى هزيمة الإيطاليين فى معركة القرضابية بليبيا

صالح بدروشي

 

في مواجهة الغزو الايطالي هبّ شعبنا الأعزل في ليبيا لمقارعة قوات الاستعمار الشرسة ببسالة منقطعة النظير في معارك متعدّدة خاضها الأبطال العرب الليبيين ضد المستعمر .. ونستحضر اليوم معركة القرضابية التي تعتبر معركة فاصلة في الجهاد الليبي ضد الطليان، فهي تعرف بمعركة الوحدة الوطنية إذ شارك فيها جميع أبناء ليبيا، كما أنها شكلت البداية لاندحار الإيطاليين، فعقب هذه المعركة سقطت الحاميات الإيطالية الواحدة تلو الأخرى وبحلول منتصف أغسطس من نفس العام الذي وقعت فيه معركة القرضابية لم يبقى بيد الإيطاليين إلا مدينتي طرابلس والخمس.

 

كان الكفاح العربي الليبي ضد الغزو الايطالي قد انطلق في شكل مقاومة بقوات مشتركة ليبية وعثمانية لفترة قصيرة، ولكن تركيا تنازلت عن ليبيا لإيطاليا بمقتضى معاهدة تمّ توقيعها في سويسرا بين مملكة إيطاليا والسلطنة العثمانية (تركيا) في  أكتوبر 1912 انسحبت الدولة العثمانية بموجبها من ليبيا، مقابل بعض الامتيازات، وتركت أهل ليبيا وحدهم وجهًا لوجه أمام الإيطاليين. وقد وقّع المعاهدة من الجانب العثماني محمد نبيه بيك، ومن الجانب الإيطالي بييترو بورتيليني.

معاهدة لوزان (أوشي)

 

بعد أن بسطت إيطاليا نفوذها على طرابلس وغرب ليبيا، تحركت القوة الإيطالية من ناحية الغرب ومعها المحلات الليبية الذين اعتبروا فيما بعد مجاهدين فأرادت ربط طرابلس الغرب ببرقة.

 

وصل جيش العدو الإيطالي وقوامه 14000 جندياً بقيادة الجنرال أمياني، مصحوبا بالليبيين المتعاملين معه (تمّ تجنيدهم قسرا)، وكان مدعماً بمرتزقة أحباش وإرترييين، إلى مدينة سرت، وزحف يوم 29 ابريل 1915 على المجاهدين الذين تحشّدوا جنوب سرت. على الفور هاجم المجاهدون المرابطون القوة الإيطالية هناك وكانت النتيجة اندحار العدو الإيطالي وانتصار المجاهدين.. يذكر أن قائد قوات ورفلّة قد أتفق مع أحد قادة المحلات الليبية “المتعاونة” مع العدوّ على الغدر بالطليان، وهذا ما يؤكده الجنرال جرازياني في مذكراته، ومن بين ما يذكره التاريخ من خطط المجاهدين في هذه المعركة أن قائد قوات ورفلّة قد أنسحب من المعركة وهم في بئر بنعيزار حيث خدع مياني وأقنعه بأن المجاهدين سوف يهاجمون الحامية الإيطالية بقيادة قسطنطين بريجنيتي في بني وليد، ويقومون باحتلال بني وليد عندما يهاجم مياني القرضابية، فأنسحب ومعه جل جيشه وذلك لضمان ملاذ أمن له وللمجاهدين في حالتي النصر أو الهزيمة عندما يقوم هو ومن معه بالاستيلاء على مدينة بني وليد.

 

في صبيحة يوم الخميس 29 نيسان/ أبريل سنة 1915 صدر الأمر بالهجوم وما هي إلا لحظات حتى التقت طلائعه بالمجاهدين، فابتدروهم بالرصاص، وتدفقت سيوله عليهم من كل جهة، وحمي وطيس المعركة فاستشهد من المجاهدين لأول وهلة نحو 400 شهيد، واشتد الكرب على المسلمين، ففرح إمياني بذلك وبرق السرور في عينيه.

 

كل هذا وجماعة رمضان السويحلي “المتعاونين” مع جيش العدوّ لم يشتركوا في المعركة، فلما رآهم إمياني على هذه الحال استفهم من قائدهم على هذا الموقف فقال له: هم ينتظرون قدومي إليهم، فأذن له فذهب إليهم، وكان فريق من المجاهدين قد أغار بخيله على قلب الجيش الإيطالي وانتزعوا سارية علم الجيش الايطالي. وصادف مجيء السويحلي وقت إغارة المجاهدين فأمر من معه بإطلاق النار على الطليان من الخلف فكانت بداية النهاية، فحاص الجيش في بعضه حيصة الحمر، ورجعت أولاه على أخراه، واختلطت خيله برجله، وارتكس بعضه في بعض طلبا للفرار ولا فرار، وركب العرب أقفيتهم واشتدت الضربة على العدو، وأنزل الله ساعة النصر، فتمزق ذلك الجيش ولم ينج منه إلا 500 جندي، ونجا الكولونيل إمياني إلى سرت مجروحاً مع من بقي من الجيش، وبقي في مكان المعركة كل ما كان مع الجيش من معدات الحرب وعتادها: من إبل وخيل وبنادق ومدافع ورشاشات.

 

بحلول الظهر كانت فلول الإيطاليين قد تقطعت أوصالها، والتجأت إلى مدينة سرت حيث عاثت فيها فسادا وشهدت المدينة مذابح انتقامية مروّعة استمرّت ثلاثة أيام.  وبمجرد وصول إمياني إلى سرت جرّد جميع الليبيين من الأسلحة وعقد مجلسا عسكريا وحكم بالإعدام على كثير من السكان وأصدر أمرا بالقتل العام، وبملاحقة وقتل الأعيان ورؤساء القبائل، فصار الجند يقتلون الناس في الشوارع وعلى أبواب البيوت، ويربطون العشرة والعشرين في حبل واحد ثم يقتلونهم، فقتل نحو سبعمائة وكان منظرا مريعا. ولكن ذلك لم يلغي هزيمة الجيش الايطالي بل زاد من إشعال جذوة المقاومة الباسلة ضدّ الغزاة.

 

 

 

ش

العدد رقم 13 – 1 حزيران 2015 للميلاد

لقراءة المجلة عن طريق فايل الــ PDF

للمشاركة على الفيسبوك



Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *