Qawmi

Just another WordPress site

دياب أبو جهجه

ان كل موقف سياسي أو حراك اجتماعي تحكمه مجموعة من الضوابط والمعطيات منها الذاتي ومنها الموضوعي ومنها القيمي وتحدد له هذه المعطيات افقه وسقفه وأبعاده. ومن غير تبيان الجوانب المتعددة المكونة لموقف ما أو المأطرة لحراك ما يتحول الأمر الى نوع من الارتجالية العشوائية التي لا يمكن أن تقود الى النتيجة المرجوة. من هنا لا بد لنا دوما من أن نطرح ليس فقط سؤال ‘ماذا نريد’ بل كذلكلماذا نريده’ عندما يتعلق الأمر بمسائل ذات أهمية. عندما نحصل على اجابة على هذين السؤالين نستطيع عندها، وفقط عندها، أن نعرف ما لا نريده


العوامل الذاتية المحددة للمصلحة لا تكفي لخلق وعي شامل للمصلحة الحقيقية للانسان لأنها تميل عموما الى وضع حدود المصلحة في الاطار الأناني الضيق والمرتبط بغريزة البقاء. أي أن الانسان عموما على المستوى الذاتي يحدد مصلحته في الاكتفاء المادي له ولعائلته وعندما يصل الى هذا الاكتفاء يحاول أن يراكم الثروة المادية ليحصل على ما يظنه ضمانة مطلقة ومن ثم تدفعه أنانيته الى السعي لتقوية مكانته وسلطته وتأثيره في المجتمع. وقد يتداخل مع الجانب الذاتي المادي الأناني جانب ذاتي معنوي عاطفي مرده الى قناعات ما أو دين ما أو تجربة شخصية ما تدفع الانسان أحيانا الى أن يبتعد عن أنانيته ويكرس نفسه من أجل قضية أو دعوة الا أن ذلك النوع من البشر يبقى أقلية صغيرة في حشد من اللاهثين وراء اشباع حاجاتهم المادية


والمشكلة مع المقاربات الذاتية لمفهوم المصلحة مثلا أنها تنتج تصورات على المدى القصير ولا تحقق المصلحة الا لجمع قليل من الناس. فهذا الفهم الليبرالي لتحقيق الذات الفردية لا يغير الواقع الذي يعلمنا أن الغالبية العظمى من البشر في بلادنا تكد وتتعب وتشقى لتموت في نهاية المطاف وهي لم تحقق لا الاكتفاء المادي ولا الأمان لمستقبل ذريتها. وبالتالي فان الفكرة التي تقول بأن الواقعية تقتضي الابتعاد عن المشاريع الكبيرة لتغيير المجتمع والتركيز على المسارات الفردية لأنها الطريق الواقعي لتحقيق المصلحة هي فكرة مخادعة وغير واقعية. ان تعميم هذا الفكر الليبرالي الذي ينفي كل بعد اجتماعي للمصلحة ويحولها الى سلعة فردية انما يقوم بافراغ مفهوم المصلحة من كل جانب موضوعي وتحويلها الى اسطورة هدفها المحافظة على الوضع القائم خدمة لمصالح الفئات المستفيدة من هذا الوضع القائم والتي هي تدرك مصالحها جماعيا وتعمل من أجلها جماعيا


ان ادراك الانسان لكون المجتمع مكونا موضوعيا أساسيا من مكونات ظروفه وبأن تقدمه هو مرتبط حكما بظروف هذا المجتمع وبالأفاق التي يفتحها وبالآليات التي تسري داخله وبالعقلية السائدة فيه لا بد من أن يبين للفرد أهمية العامل الاجتماعي في نجاح أي مشروع ذاتي. ومن هنا فان بناء مجتمع حديث مثلا يغدو شرطا اساسيا من شروط تحقق أي مشروع فردي طموح يريد أن يضاهي المعيار العالمي في أي مجال كان


فهل يستطيع مهندس معماري مثلا أن يطور عمله الى مستوى ابداعي في مجتمع لا يعرف التخطيط المدني ولا يطبقه كما ينبغي؟ وهل يستطيع باحث مهما كان عبقريا أن يبتكر في مجتمع لا يمول البحث العلمي في معاهد جامعية متخصصة؟ وهل بامكان فنان أن يبدع ويتألق ويصل الى قمة انتاجيته في مجتمع لا توجد فيه مؤسسات ترعى الفن الراقي غيرالتجاري وتشجعه وتموله، أو في مجتمع لا يوجد فيه جمهور ذواق للفن الرفيع؟ وماذا عن رجل الأعمال الذي يريد بناء مصنع فلا يجد الا اقتصادا خدماتيا مبنيا على الطفيليات الاقتصادية والمقاولات ولا أبعاد انتاجية له، هذا ناهيك عن تغلغل الفساد المالي في جسم المجتمع والمافيات الاحتكارية الخ.


طبعا قد ينجح مهندس هنا أو هناك أو عالم هنا أو هناك أو فنان هنا أو هناك أو رجل أعمال هنا أو هناك كما ينجح لاعب كرة قدم هنا أو هناك بالوصول الى المستوى العالمي، الا أننا كمجتمع نبقى تحت هذا المستوى بكثير وتبقى هكذا حالات استثناءات تؤكد القاعدة التخلفية ولا تنفيها وكذلك، وهذا الأهم، تشكل هكذا حالات استثنائية ذخيرة للفئات المهيمنة والتي تريد أن تحافظ على الوضع كما هو تستخدم في ايهام أغلبية الأفراد في المجتمع بأن النجاح ممكن فرديا لأن بعض الناس من الموهوبين والعباقرة أو المحظوظين ينجحون فرديا برغم غياب الظروف الموضوعية للنجاح على مستوى المجتمع ككل. ويقتنع معظم الناس بهذه الكذبة ويحلمون بالنجاح ويستهلكون سنين العمر في سباق مستمر من خيبة أمل الى أخرى حتى ينقضي العمر.


في مجتمعات عالمثالثية متخلفة لا يمكن تحقيق التقدم لأكبر عدد ممكن من الأفراد الا من خلال بناء مجتمع حديث وحداثي مبني على التضامن والمواطنية القومية المنزهة من الطائفية والعشائرية ولا يمكن بناء مجتمع كهذا الا على أنقاض مجتمع التخلف والضعف والسرقة والمافيات القائم حاليا ومن خلال مشروع دولة قومية حديثة يفرض بالحديد والنار. أن بعض من يطرحون القيم الما بعد حداثية في مجتمعاتنا اليوم عن حسن نية لا يدركون بأن تخطي الحداثة لا يكون الا من خلال تشييدها أولا. اذا كانت القيم الحداثية في الغرب اليوم محل جدال فذلك يعود الى أن الغرب حقق البناء الحديث، بالحديد والنار أيضا، ويفكر بالخطوة التي تليه أما نحن العرب فطرف ثوبنا لا يزال عالقا على أعتاب القرون الوسطى بينما نخبنا تنظر لما بعد الحداثة.


وهنالك طبعا من يعادي الحداثة وينادي بما بعد الحداثة عن سوء نية وادراك تام لما في ذلك من محاذير وخدمات جمة لمشروع التفتيت الذي يحمله الصهاينة لبلادنا من خلال كبت الهوية القومية الجامعة وتضخيم الهويات الما قبل قومية من شيعية وسنية وفينيقية وفرعونية وأمازيغية للتتحول الى أورام سرطانية تأكل جسم هذه الأمة وتجعلها لقمة سائغة لمشاريع الاستعباد الصهيوني الغربي تحت مسميات عدة منها الشرق الأوسط الكبير أو اتحاد المتوسط


أما البعض الأخر فيخشى الحداثة ويعتبرها مشروعا تغريبيا مستوردا وفي نفس الوقت يقبل بدور المستهلك لمنتجات الحداثة العلمية والتكنولوجية. ان المحافظة على الهوية لا يتناقض مع الحداثة بل يفترض تحويل الهوية العربية الجامعة، أي العروبة، الى هوية قومية واعية لذاتها تبنى على أساسها دولة قومية حديثة بدل هذه الدويلات الطائفية والعشائرية المتخلفة والعاجزة الا عن قمع شعوبها والتنكيل بهم. ان دولة قومية حديثة تحمل مشروعا اجتماعيا تحديثيا مبنيا على العلم والعمل هي فقط القادرة على حفظ الهوية وادخالها العصر لأن العصر يدخل الى الهوية سواء شئنا ذلك أم أبينا وفي غياب وعي قومي وثقافة قومية تحتضنها الدولة القوية القادرة العصرية تتآكل الهوية واللغة والمفاهيم الاجتماعية حتما ونصل الى مجتمع هلامي غير مدرك لذاته يسهل استعباده. وللأسف فأننا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من مجتمع كهذا.

 

10/09/2009
القدس العربي

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *