حزب الله وخطابه عربياً

الصورة الرمزية لـ ramahu

د. إبراهيم علوش

البناء 3/6/2015

كان هنيبعل برقة، ابن بلادنا وحضارتنا، أحد أعظم القادة العسكريين الذين عرفهم التاريخ، وقد هزم الجيوش الرومانية تكراراً في القرن الثالث قبل الميلاد بعد وصوله روما، عبر جبال الألب، من شبه الجزيرة الأيبرية.  وعلى رغم تفوق القائد هنيبعل في مجال الاستراتيجية الحربية، وتفوق جيشه القرطاجي  في مجال الانضباط والتماسك والاحتراف، فإن نقطة الانقلاب ضده في سير المعارك لم تأتِ بمعركة حاسمة، بل بتجنب الرومان المواجهات الكبرى معه واستخدام اسلوب الاستنزاف، بسلسلة من المعارك الصغيرة المفاجئة، وحرمانه من تجديد موارده في البر الإيطالي عبر حرقها قبل وصوله إليها.  فكان عليه إذن تجديد الموارد البشرية والتموينية والمالية المفقودة في المعارك من قرطاج نفسها.  لكن الصراعات السياسية منعت ذلك، إذ كانت هناك طائفة من السكان في الوطن تناهض هنيبعل وعائلة برقة التي ينتمي إليها، وكان ذلك جناح مناهضة الحرب ضد روما في قرطاج الذي أوقف فعلياً تدفق الدعم للجيش القرطاجي في البر الإيطالي.  ومع أن ذلك الجناح، الذي قاده التاجر الارستقراطي هانو الثاني الكبير، دفع في النهاية ثمن حمقه الاستراتيجي مع بقية القرطاجيين عندما جاءت روما لاحقاً وسوت قرطاج بالأرض، فإن العبرة تبقى في أن القيادة الاستراتيجية الجيدة، وامتلاك قوات مبهرة في قدارتها العسكرية، ربما يكفي لكسب بعض المعارك المهمة مع روما، ولكنه لا يكفي بالضرورة لكسب الحرب، لأن الحروب، كل الحروب، لا تخاض بالقوة العسكرية وحدها، بل بالمشروع السياسي الذي أنشئت القوة العسكرية لتحقيقه.



كسب هنيبعل في زحفه ضد روما تأييد الشعوب الأوروبية التي حمل إليها وعد التحرر من العبودية الرومانية، فقاتل بعضها معه.  لكن عدم قدرته على تجديد موارده التي يخسرها في المعارك الكبيرة ضد خصم امبراطوري عملاق، بسبب الصراعات السياسية المحلية، كانت نقطة ضعفه الاستراتيجية التي استخدمتها روما ضده.  لم يكن ثمة شك بصحة قضية القتال ضد روما وعدالتها وحتى في وجاهتها الاستراتيجية، لكن خوض المعارك الكبرى دون يافطة عقائدية كبيرة قادرة على جمع قطاعات المواطنين تحت لوائها يمثل مخاطرة بحد ذاته، كما علمتنا تجربة هنيبعل.



اليافطة العقائدية بالمناسبة قد تفرضها حقائق الجغرافيا السياسية.  فحاجة روسيا التاريخية مثلاً لتأمين سيطرتها على محيط أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، اللذين هوجمت عبرهما مراراً، يتطلب بالضرورة خطاباً أممياً عبر عنه الاتحاد السوفييتي السابق.  وحاجة يوغوسلافيا السابقة للخروج من هيمنة موسكو ضمن معسكر اليسار العالمي تطلب بالضرورة خطاباً مناهضاً للستالينية عند يوغوسلافيا، وحاجة أنور خوجة في ألبانيا لدرء الهيمنة المحتملة ليوغوسلافيا السابقة تطلب في ألبانيا السابقة خطاباً ستالينياً متشدداً.   كذلك احتاجت الصين كقطب كبير في المعسكر الاشتراكي لخطاب ماوي متميز.  ومصر لا تستطيع أن تلعب دوراً عربياً بدون خطاب قومي عربي.  وحاجة الولايات المتحدة وحلف الناتو اليوم للتدخل في أي مكان في العالم، من فوق رأس الدول الوطنية، يتطلب بالضرورة خطاباً “عالمياً” يتمحور حول الديموقراطية وحقوق الإنسان والحيوان والباذنجان، وهكذا…



أما حاجة آل سعود للعب دور إقليمي في مواجهة جمال عبد الناصر وحركات التحرر الوطني العربية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، فتطلبت تأجيج الخطاب الديني في مواجهة “الإلحاد” المزعوم، وهو الخطاب نفسه الذي اتخذ نكهةً تكفيريةً طائفية صارخة فيما بعد عندما أصبح المطلوب مواجهة إيران وتفكيك قاعدة تأييد معسكر المقاومة في المنطقة، وعلى رأسه حزب الله بما يمثله من رأس حربة وقوة وازنة في مواجهة المشروع الإمبريالي-الصهيوني-الرجعي العربي، كما تم الإيضاح في مقالات سابقة في هذه الزاوية.



السؤال الآن: ما هو الخطاب العقائدي المقاوِم الأقدر على مواجهة مثل تلك الهجمة؟



يمكن على الأقل أن نحدد ما لا يصلح بتاتاً لمواجهة الخطاب الطائفي التكفيري، وهو أي خطاب طائفي مضاد.  ونذكّر هنا مثلاً بأن الحركة الوطنية اللبنانية تمكنت لفترة على الأقل، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، من احتواء الخطاب الطائفي الانعزالي للقوات اللبنانية، وحزبي الكتائب والأحرار من قبلها، من خلال خطاب وطني لبناني وعروبي عابر للطوائف، وهو ما دفع عشرات آلاف المسيحيين، إن لم يكن أكثر،  للاصطفاف والقتال والاستشهاد مع فصائل الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية المختلفة.  فالتوجه الطائفي لا تمكن محاربته إلا بتوجه مناهض للطائفية، لأن الطائفية تتغذى على الطائفية المضادة، وتختنق عندما يختنق نقيضها.



من حسن الحظ أن ظروف لبنان فرضت على حزب الله منذ البداية أن يتعامل مع بيئة متعددة الطوائف سعى لتكييفها لشروط إنجاح المشروع المقاوِم المناهض للعدو الصهيوني، فلم يتخلَ عن عقيدته، وليس ذلك مطلوباً منه، خاصةً أنها أحد عناصر تماسكه، لكنه نجح في التركيز على البعد الوطني اللبناني لمشروعه المقاوِم.  أما اليوم، فإن المطلوب من حزب الله، في وقتٍ تفرض عليه قوانين الجغرافيا السياسية بالضرورة أن ينشط خارج حدود لبنان، أن يطور خطابه ليلائم جمهوراً عربياً واسعاً بات يتعرض لضخ طائفي مسعور غير مسبوق، ولن يتحول إلى التشيع من جهة أخرى، على رغم ما تزعمه وسائل الإعلام البترودولارية.



العراق هو النموذج الأبرز للتجربة الفاشلة هنا، حيث أتت قوى طائفية على ظهر دبابات الاحتلال الأمريكي معتقدةً أنها غير مضطرة، لكونها تمثل غالبية سكانية، أن تحمل مشروعاً وطنياً عراقياً، مما أسهم بتمدد داعش والقاعدة فعلياً.  وهي تجربة تختلف جذرياً بالطبع عن تجربة حزب الله الذي قهر دبابات الاحتلال، وكان عليه، منذ البداية، البحث عن عقد اجتماعي للمقاومة يحيّد التناقضات الداخلية.



المهم، مهما بحث حزب الله عن صيغة تحمي تماسك قواعده في الشارع العربي، خارج طائفته، وتغطي  ضرورات تدخله خارج لبنان، فلن يجد خيراً من الخطاب الوطني والعروبي الجامع… لأننا لا نريد للإمبريالية أن تضع الحزب على مسار استنزافي طويل المدى.

للمشاركة على فيسبوك:

https://www.facebook.com/Qawmi

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..