د.إبراهيم علوش
الحرب، أية حرب، قذرة وبشعة بالضرورة، وأي مجتمع يضطر للاضطلاع بمهام تاريخية كبرى سيجد نفسه مضطراً لتقديم التضحيات الجسام إلى درجة تجعل الوعي السياسي والتماسك الداخلي والصلابة العقائدية خط الدفاع الأهم في مواجهة خطر الانهيار.
وهذا يصح على المعتقل السياسي كما يصح في بيروت في العام 82، أو على الشعب العربي السوري اليوم، وعلى العراقيين في مواجهة الحصار الأمريكي في التسعينات، وعلى المصريين خلال فترة حكم عبد الناصر أو محمد علي باشا وعلى أي مجتمع في أي مكان وزمان ينتدبه التاريخ لرسالة، من مجتمع الصحابة في الأيام الأولى للرسالة النبوية إلى المجتمع الفرنسي خلال حروب نابليون إلى المجتمع الروسي بعد الثورة البلشفية إلى المجتمع الأمريكي (بالرغم من كونه استيطانياً إحلالياً بالأساس ولا يشكل نموذجاً للقيم العليا) في حرب توحيد أمريكا في القرن التاسع عشر التي خسر فيها الأمريكيون ستمئة ألف ضحية عندما كان عدد السكان لا يتجاوز 31 مليوناً فقط، وهي أكبر خسارة مني بها الأمريكيون منذ تأسست أمريكا، ومن ضمنها مشاركتهم في الحربين العالمييتن الأولى والثانية، فهذا هو ثمن الوحدة الذي لا بد منه.
والبديل للصمود هو الانهيار دائماً، مما يجعل قانون الإنجازات التاريخية الكبرى وشرطها دائماً قدرة المجتمعات على تقديم التضحيات، وإني لمن المؤمنين أن نشر العقلية الاستهلاكية والميوعة بين شبابنا وشاباتنا يستهدف خلق أجيال عاجزة عن الصمود أو عن حمل المهمات التاريخية.
وليست القضية أن صدام حسين أو محمد علي باشا أو عبد الناصر أو غيرهم يختار أن يزج مجتمعه في حروب لا ضرورة لها كما يتصور البعض (وقد قال الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم في هذا تهكماً: وأكلنا عيش اسود علشان المعركة!)، بل هو التاريخ الذي يضع المجتمعات على مفترق طرق حيث المسألة مسالة حياة أو موت…
فليس لمصر أن تقول:” أنا مالي ومال العرب أو قضية فلسطين؟!” كما بدأ يحدث في عهد السادات، وما زال يجري على لسان بعض الأخوة المصريين الذين يقولون، كما يقول آخرون خارج مصر، بأن عليهم التركيز على ذاتهم فحسب…
فمصر لا توجد في فراغ، ولا تتركها القوى الدولية لشأنها لو هي قررت أن تنزوي. مثلاً، بريطانيا كانت تقتات اقتصادياً على مستعمرتها في الهند خلال القرن التاسع عشر، وبالتالي فإن الطريق إلى الهند والمستعمرات البريطانية الأخرى يجب أن تبقى مفتوحة، ولا تقبل القوى الدولية أن تنشأ دول مستقلة فعلاً على تلك الطريق. ولذلك، فإن الوطن العربي، على طرق التجارة الدولية، يوضع هكذا أمام خيارين: إما أن يكون مستعمراً أو أن يكون حراً، أي إما أن يصادم الاستعمار وإما أن يصبح نهباً له، ولا يغنيه عن هذين الخيارين أن يدفن رأسه في الرمال لأن القوى الاستعمارية القديمة والحديثة خرجت للساحة العالمية تتصيد الفرائس.
ومصر هي أكبر دولة عربية، فالسيطرة عليها بشكلٍ مباشر أو غير مباشر أصبح شرطاً لحكم الوطن العربي منذ دخلها الإسلام، لا بل قبل الإسلام منذ حكمها الفرس والرومان.
وهذا قانون موضوعي، بمعنى أن الخلافة التي تفقد السيطرة على مصر كأهم مركز إقليمي، كانت تفقد سريعاً السيطرة على الوطن العربي. وبالمقابل، فإن عاصمةالخلافة كانت بالضرورة مركزاً إقليمياً أساسياً مثل العراق أو سوريا أو مصر أو المغرب، فلا يمكن أن تكون عاصمة الخلافة فلسطين أو دجيبوتي مثلاً.
وهو قانون موضوعي بمعنى أن الدور الذي حاول العراق أن يلعبه في الثمانينات لم يكن ممكناً لو لم تخرج مصر من الصف العربي بعد كامب ديفيد لتترك فراغاً كبيراً في الساحة العربية.
وبالتالي، فإن قدر مصر هو موقعها الجغرافي السياسي ووزنها، وهو قدر تاريخي لا مهرب منه إلا بالعبودية.
فلا وحدة ولا سوق عربية مشتركة ولا مواجهة، بالمعنى الشمولي الجذري، مع الطرف الأمريكي-الصهيوني دون مصر، ولذلك، فإن هدف اتفاقيات كامب ديفيد المنفردة كان إخراج مصر من ميزان القوى العربي الصهيوني. والنقطة المركزية هنا هي أن ذلك يعني بالضرورة تدهوراً شاملاً ليس فقط للوطن العربي، بل لمصر نفسها.
أصلاً، جاءت فكرة تأسيس دولة الكيان الصهيوني عام 1840، بعد خروج محمد علي باشا من بلاد الشام والجزيرة العربية، فقال وزير خارجية بريطانيا آنذاكبالمرستون، الذي أصبح فيما بعد رئيساً للوزراء وكتب إلى سفير بريطانيا في إستانبول: أن “عودة الشعب اليهودي” إلى فلسطين تشكل سداً منيعاً في وجه اية مخططات شريرة يعدها محمد علي باشا أو أي من يخلفه.
فكل فكرة “إسرائيل” أتت لمواجهة تمدد النفوذ المصري شرقاً، وبالعكس طبعاً، لمنع تمدد أي دولة وحدة عربية غرباً باتجاه الشمال الأفريقي كما حدث في الفتوحات الإسلامية.
حسناً، فلننس الجغرافيا السياسية، ولنفترض أن مصر مثلاً أو العراق أو سوريا أرادت ببساطة أن تنسى العرب وفلسطين وأن تبني لنفسها فقط قاعدة اقتصادية وعلمية تكنولوجية متقدمة:
أولاً، هذا يؤثر على ميزان القوى الإقليمي والدولي، فلا يمكن أن تسمح به الإمبريالية دون مواجهة.
ثانياً، بناء القاعدة الاقتصادية غير ممكن دون السوق الكبيرة والموارد الهائلة، وهو ما يعني الوحدة العربية أو السوق العربية المشتركة، وهو ما يؤثر على ميزان القوى الدولي.
ثالثاً، التكنولوجيا المتقدمة لها استخدامات عسكرية كما لها استخدامات مدنية.
إذن لو ابتدأنا من رغبة بسيطة لتحسين شروط الحياة المادية والتوظيف في الوطن العربي، سنجد أننا سنرتطم فوراً بقضية الوحدة والتوازنات الإقليمية والدولية، ومن ثم بالطرف الأمريكي-الصهيوني. وهذه هي تجربة محمد علي باشا في القرن التاسع عشر (مع بريطانيا وفرنسا وغيرهما)، وهي تجربة مصر عبد الناصر وتجربة عراق صدام حسين أيضاً عندما حاول أن يلعب كلٌ منهما دوراً قومياً نهضوياً.
إذ أن هناك مثلثاً من نار تتألف أضلاعه من الوحدة والتحرير والنهضة (والتنمية الاقتصادية ليست سوى أحد الأبعاد الاقتصادية للنهضة) لا بد للأمة العربية أن تقفز عبره إلى فضاء الحرية. وهو تحدٍ فرضته ظروف التاريخ علينا ولم نختره.
بالمقابل، من لا يدرك هذه المعادلة سينظر إلى ظاهر الأمور فقط وسيرى حروباً ومعاناة وحصاراً يفرضه الطرف الأمريكي-الصهيوني وسيفكر: لمَ كل هذا؟ فلنتفاهم مع الطرف القوي الذي لا قبل لنا به.. الخ.. فالمشروع التنموي يستهلك كثيراً من الموارد والمشروع التحرري الوحدوي يستهلك كثيراً من التضحيات. إذن فلنفتح الأبواب للشركات المتعدية الحدود والمؤسسات الدولية، ولنعقد السلام مع العدو الصهيوني، ولنفعل للأمريكان ما يريدون كي نتمكن عندها من صنع قالب حلوى أو جاتوه أو تورتة، وكفى الله المؤمنين شر القتال! وأصحاب هذا المشروع “الوحدوي التحرري التنموي الخ…” جديون أكثر من اللازم أصلاً، ويجب أن يأخذوا الحياة بشيء من الفرفشة والدعابة على روح الأمة، أليس كذلك؟!
ولكن هل تعلمون ماذا؟ الاستسلام للطرف الأمريكي-الصهيوني يجعل الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، وواقعنا الحالي أكبر دليل على صدق هذا القول. فالمخطط الأمريكي-الصهيوني كما تكشف في أكثر من قطر عربي يستهدف السيطرة على موارد هذه الأمة ونفطها وشعبها وأسواقها وثقافتها وجغرافيتها السياسية ووحدة أقطارها. وهو لا يأت برفاهية أو سلام كما رأينا في العراق وفلسطين … ومصر وغيرها من أقطار الوطن العربي. وإذا كانت له فوائد، فهي تذهب لشريحة صغيرة من رجال الأعمال والسياسيين والمثقفين المتعاونين مع هذا المخطط (الكمبرادور)، وشتان ما بين هذا ومصلحة الأمة. والمصريون في هذه الأمة واسطة العقد والكتلة الأكبر، فإما أن يكونوا أكثرها عزةً وإما أن يكونوا أكثرها ذلةً، وهذا ليس لهم فيه خيار، فقد وضعهم قدرهم الجغرافي السياسي ووزنهم على مفترق طرق: إما أن يكونواقادة، يدفعون على طريق الوحدة والاستقلال الكثير من التضحيات من أجل غدٍ عربي يمتلئ بالأمل، وإما أن يكونوا عبيداً يدفعون في طريق البحث عن سراب قالب الحلوى كثيراً من المعاناة. والطريق الأول فيه معاناة تقود إلى قمة، والطريق الثاني فيه معاناة تقود إلى هاوية، ولمصر فقط أن تختار بينهما.
للمشاركة على الفيسبوك:
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=686314728052432&set=a.306925965991312.96654.100000217333066&type=1
اترك تعليقاً