من فكرنا القومي الجذري: ال”أنا” وال”نحن” في المفهوم القومي

الصورة الرمزية لـ ramahu




أبو ذر القومي


فلنفتتح هذه المعالجة حول الفرد (الأنا) والجماعة (ال”نحن”) بالسؤال التالي: لو قال لك أحدهم رداً على رفضك للتطبيع مع العدو الصهيوني أو للتعاون مع قوى الهيمنة الخارجية أو تلقي التمويل الأجنبي (بذريعة “الحرية” و”الديموقراطية” مثلاً): يا أخي، من يريد أن يطبع، فليطبع!  ومن لا يريد أن يطبع، فهو حر بذلك!  ولا أحد يجبرك على تلقي التمويل الأجنبي أو على التعاون مع حلف الناتو وأذنابه، وأنت بدورك ليس من حقك أن تفرض رأيك على من يريد التعاون مع حلف الناتو أو تلقي التمويل الأجنبي… لقد انتهى عهد الوصاية على الناس وعقولهم وخياراتهم في الحياة!


فكيف ترد على مثل ذلك القول؟  وأنت تشعر في أعماقك أن ثمة خطأ جوهري في ثناياه، ولكن ما هو ذلك الخطأ بالضبط؟  وإذا كان شعورك بأن ثمة خطأ جنوني في تبرير التطبيع والتعاون مع حلف الناتو وتلقي التمويل الأجنبي، بذريعة “الخيارات الفردية”، كافياً بالنسبة لك لكي لا تقتنع أنت به، ولكي لا تنزلق إليه، فماذا تقول، لمن يمكن أن يتأثر بمثل هذا الطرح من حولك، بصورة منطقية ومقنعة، خاصة أن كل شيء من حولنا بات يركز على خيارات الناس الفردية في الحياة؟


في الرد، نقول كلمتين:  “الحق العام”.  والحق العام هو حق الجماعة على الفرد.  فكما لا يصح القول: من يريد أن يقتل ويسرق ويعتدي ويشهّر بغيره فهو حر بذلك! ومن لا يريد فهو حر بذلك أيضاً! كذلك لا يصح تبرير إقامة العلاقات الطبيعية مع أعداء الأمة أو التعاون معهم لأنه اعتداءٌ على الحق العام، حق الجماعة، وهو اعتداء على الحق القومي بالتحديد، في حالة التجاوزات السياسية على حق الجماعة.


لكن ترداد كلمتي “الحق العام”، أو “الحق القومي”، لن يكفي بالضرورة في مواجهة تعمق حالات التطبيع والتعاون مع أعداء الأمة وتلقي التمويل الأجنبي اجتماعياً. فالمشكلة لا تتلخص بسوء الفهم أو الجهل، بل تمتد جذورها إلى تفشي القيم والمفاهيم الليبرالية في كل مكان، حتى بين بعض القوميين واليساريين والإسلاميين. والليبرالية تتخذ اشكالاً مختلفة، ولكن جوهرها يمكن اختزاله بكلمتين: “المرجعية الفردية”، أي أولوية حق الفرد بالبيع والشراء والتملك والتعبير والسعي لتحقيق سعادته كما يرى مناسباً لنفسه، وهو ما يقتضي جعله الحكم الأول والأخير حول ما هو صح وخطأ وحق وباطل، وهو ما يفترض كنتيجة منطقية نسبية الأخلاق والحقيقة والقيم عامةً، وقد انتشرت الليبرالية كمذهب بين الفلاسفة وعلماء الاقتصاد في عصر التنوير في أوروبا، مع الثورة الصناعية وصعود الطبقة البرجوازية غرب أوروبا، ولعل أبرز وأول ممثل  لليبرالية هو الفيلسوف السياسي البريطاني جون لوك.


وكي لا يساء فهمنا: نحن لسنا ضد حقوق الفرد أبداً، ولكننا نقيدها بالحق العام، ونضبطها بأولوية حق الجماعة، وهنا يكمن جوهر المشكلة.  ويتلخص ذلك الجوهر بالسؤال التالي: الأولوية لمن، حق الجماعة، أم حق الفرد؟  وليس إذا ما كان المرء يرفض حق الجماعة أو الحق الفردي بشكل مطلق… وأولوية الحق الفردي تشكل التبرير الفلسفي للاحتكار… ولما لخصه في القرن التاسع عشر الشاعر السوري أديب إسحاق (القومي العروبي المؤيد لثورة عرابي باشا في مصر، المناهض للاحتلالين التركي في بلاد الشام والبريطاني في مصر، الذي جمع ناجي علوش كتاباته ونشرها عام 1978 عن دار الطليعة في بيروت) بالبيت التالي:


قتلُ امرئٍ في غابةٍ                 جريمةٌ لا تغتفر
وقتلُ شعبٍ آمنٍ                     مسألة فيها نظر


ولهذا يعرف كل عربي عاش في الغرب كيف يتعامل الرأي العام هناك مع قضية فلسطين أو حصار العراق أو تدمير ليبيا وسورية أو الاستعمار عامةً كقضية “خلافية”… لأنها تتعلق بحقوق جمعية.  أما سقوط قطة في بئر أو اعتقال فرد واحد على خلفية قضية رأي أو حرمان أحد المثليين من ممارسة قناعاته الجنسية، فجريمةٌ لا تغتفر، لأنها تتعلق بحقوق فردية.  والقصة ليست قصة سفاهة، كما يراها بعض العرب،  بل قصة فرق فلسفي عميق بين أولوية الحقوق الفردية، وأولوية الحقوق الجمعية.


ونحن في لائحة القومي العربي نعرف مرجعيتنا العليا جيداً، وهي مرجعية مصلحة الأمة.  وقد يختلف الشيوعي والقومي والإسلامي حول تعريف “الجماعة”، فالشيوعي قد يرى المرجعية الجمعية النهائية للبروليتاريا العالمية، كما نرى في مستهل “البيان الشيوعي” لماركس وإنجلز حول الفرق بين الشيوعيين وبقية الاشتراكيين، والقومي يرى المرجعية الجمعية النهائية في “الأمة” ومصلحتها، والإسلامي قد يراها في جماعة المسلمين عامة، لكن كل تلك مرجعيات جمعية بالنهاية، تختلف جوهرياً عن المرجعية الفردية لليبرالي.  فإذا رأيت قومياً أو يسارياً أو إسلامياً، أو أياً كان، يحتكم للمرجعية الفردية كمرجعية نهائية في أحكامه، فاعلم أنه ليبرالي في الجوهر مهما ألقى على مسامعك من شعارات.


ولنلاحظ في القرآن الكريم كيف كان يخاطب النبي مع قومه، أو كيف يخاطب النبي وقومه، مثلاً، قوم ثمود، قوم لوط، قوم شعيب، الخ… ولنلاحظ كيف كان يتم استخدام واو الجماعة في كل حالة كانت تتعلق بشأن عام:  “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”.  لاحظ أن القرآن لم يقل: اعمل فسيرى الله عملك، بل قال “اعملوا”، وذلك أن الشأن العام يتطلب عملاً عاماً.  ولاحظ أن ذلك العمل العام كان دوماً يتعلق بقوم، وبالتالي فالمنهج القرآني هو منهج قومي، وهو منهج جمعي، ولم يقل القرآن يا أيها المؤمن، بل قال مراراً: يا أيها الذين آمنوا… وهذا المنهج الجمعي في القرآن الكريم هو نقيض المنهج الفردي الليبرالي الذي يحاول البعض تسريبه للدين، الذي يعتبر كل الناس مجرد “إنسان”، فرد، لا يختلف عن أي فرد أخر… ولكن الناس لم يولدوا فرادى، بل ولدوا في أمم، وكما جاء في سورة هود: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين.


ومن هنا فإن الأساس هو الجماعة، لا الفرد، وهي ليست أي جماعة، بل جماعة قومية، وهذا يعني أن المنطلق في العمل السياسي هو المنطلق القومي، لا المنطلق الفردي.


ويتصور البعض خطأ بأن الجماعة تساوي مجموعة الأفراد التي تتألف منها تلك الجماعة، بشكل حسابي مباشر، على طريقة 1 + 1+ 1 + 1 + 1 + … = … .  لكن الكل لا يساوي مجموع الأجزاء.  بل يساوي الكل مجموع الأجزاء زائد التفاعلات التي تنشأ بين تلك الأجزاء (أي S= ∑ xi + ∏ xi).  مثلاً، الجماعة لا تساوي الفرد سين زائد الفرد صاد زائد الفرد عين، ولو كان ذلك صحيحاً لما اختلفت جماعة صينية عن جماعة فرنسية عن جماعة عربية، ولما اختلفت جماعة منظمة عن جماعة عشوائية التقت بالصدفة في مظاهرة عن جماعة تربطها روابط القربى.  ولا يتساوى الكل مع مجموع الأجزاء إلا في الجماعة التي لا تربط أجزاؤها أية روابط (أي إذا كانت ∏xi = 0)، وهي الحالة التي تسعى إليها الفلسفة الليبرالية التي لا تؤمن بمجتمع، بل تؤمن بأفراد.  أما المجتمع فأفراد زائد التفاعلات فيما بينهم التي تفرز مع الزمن تقاليد وقيماً ومفاهيم مشتركة، أي ثقافة مشتركة وعلاقاتٍ وروابط، تميز المجموعة المتفاعلة عن غيرها من الجماعات.  وبالتالي فإن العمل القومي هو عمل يستهدف المفاهيم والقيم والعلاقات والروابط المشتركة، وهو عمل ينطلق من الانغماس في الجماعة لأجل هدف جمعي، ضمن إطار جمعي، فلا يمكن أن يفكر أن ال”نحن” تساوي مجموع ال”أنا” الفردية، بل تساوي ال”نحن” شيئاً أكبر بكثير من ال”أنا” يذوب القومي فيه.


العبرة من كل ما سبق أن القومي بالذات لا يستطيع أن يكون فرداً مستقلاً في العمل السياسي، إلا في سياق بحثه المجدي عن إطار قومي عربي يمارس قناعاته من خلاله: تنظيم، حزب، تيار، جبهة، سمه ما شئت… والقومي المستقل بالذات هو نقيض نهجه وفلسفته، لأن القومي حسه جمعي بالسليقة.   والقومي، أكثر من غيره، يدرك بأن ال”أنا” لا قيمة لها إلا بمقدار إسهامها برفعة ال”نحن”.  وهو، أكثر من غيره، يدرك أن “الزعيم” أو “القائد”، بمقدار ما يمثل مفهوماً عاماً يتجاوز العلاقات الشخصية، لا قيمة فردية له، بل قيمته اجتماعية-سياسية، وكذلك الشهيد أو الأسير أو المناضل…



للمشاركة على الفيسبوك:

https://www.facebook.com/photo.php?fbid=632030826809099&set=a.419967428015441.105198.419327771412740&type=1

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..