الاشتراكية من منظور قومي ديمقراطي
جميل ناجي
لقد اختلفت مفاهيم الاقتصاد السياسي كثيرا منذ أن وضع كارل ماركس مفهوم الاشتراكية العلمية في مواجهة تغول الرأسمالية كنظام اقتصادي خلف ورائه ملايين المقهورين. وإذا اعتبرنا أن الماركسية الكلاسيكية تنظر لحتمية خروج النظام الاشتراكي من رحم المعاناة داخل النظام الرأسمالي، خروجاً يفرضه وجود قوة منظمة نشأت داخل المصانع وتشربت المفاهيم العقلانية والديمقراطية وبدأت في الدفاع عن مصالحها كطبقة تشكل بنية المجتمع الرئيسية، فقد اختلف التحليل فيما بعد مع قدوم البلاشفة للسلطة في روسيا بقيادة فلاديمير لينين، أو ماوتسي تونغ في الصين، ليأخذ منحىً ذا بعد قومي ديمقراطي في المجتمعات التي لم تتحقق فيها المكتسبات التاريخية لرسملة المجتمع كالحداثة والوحدة القومية والمواطنة وغيرها، إضافة إلى التدليل التاريخي على دور الحزب/ التنظيم في القدرة على القيام بالمهام التقدمية المفوتة للبرجوازية الصناعية في هذه المجتمعات.
لقد دلل ماوتسي تونغ في محور حديثه حول المسألة الاشتراكية أن المجتمعات التابعة والمحكومة ببقايا الإقطاع لا بد لها من مواجهة تاريخية على صعيدين: واحدة في مواجهة الإمبريالية، وأخرى في مواجهة القوى الاقطاعية في سبيل بناء مجتمع مستقل ديمقراطي، مما وضع الصين أمام تحقيق ثورة هي أقرب في طبيعتها لثورة ديمقراطية برجوازية، مما جعل من الاشتراكية خياراً مؤجلاً لا يصح إلا بتحقيق الثورة الديمقراطية البرجوازية. وماوتسي تونغ هنا يتجاوز الخطأ الذي ارتكبه لينين في الدخول إلى الاشتراكية بدون تحقيق متطلباتها الرئيسية في تحديث بنية المجتمع باتجاه ديمقراطي أولا.
فماذا نعني بالمرحلة الديمقراطية؟ لا تعني الديمقراطية هنا إطلاقا صناديق الاقتراع التي تلعب لصالح واضع قوانين اللعبة الانتخابية سلفا، بل ما نعنيه هو المحتوى الواسع والعميق لانقلابات وهزات باتجاه تحديثي يصيب الأمة على المستوى القومي، الأيديولوجي، الاجتماعي، الثقافي، والسياسي، وهي تعني في حالة الأمة العربية تحقيق الوحدة والتحرير والنهضة بالمعنى الذي حددته لائحة القومي العربي في أدبياتها. وعند الحديث عن الأمة العربية يصبح السؤال الرئيسي: من هي القوى الحقيقية المعنية بالتصدي لهذه الثورة القومية الديمقراطية؟؟؟
مما لا شك فيه أن الحديث عن دور تقدمي برجوازي عربي (إن وجد) أو الرهان على طبقة بروليتارية (غير موجودة أصلا) بات ضربا عبثيا اليوم مع هيمنة الكمبرادور على الاقتصاد العربي. فلقد دللت التجربة التاريخية المصرية في المرحلة الناصرية على ضعف البرجوازية العربية عامة في مصر وسورية والعراق لدرجة وقوفها في مواجهة المد القومي في تلك المرحلة، حتى أن ياسين الحافظ وصفها بالرثة المخصية لدورها القذر في إعاقة المشروع القومي الذي مثلته الإرادة السياسية في مصر بقيادة جمال عبد الناصر، كما سنرى في مقال د. إبراهيم علوش في هذا العدد بما يخص التجربة الناصرية في مصر.
على صعيد آخر لا نرى عربيا اليوم أي دور بارز لحزب سياسي يدفع عملياً باتجاه قومي ديمقراطي متجاوزاً القُطرية الضيقة على شاكلة ما حدث في روسيا والصين، لنصل لمستوى التدمير المباشر للدول التي كانت تقف على احتمال لعب مثل هذا الدور السياسي عربيا، مثل سورية والعراق ومصر، على الرغم من الأعين الشاخصة باتجاه مصر حاملة الاحتمالات في لعب مثل هذا الدور الذي يشكل قدر مصر التاريخي في حال أرادت النخبة السياسية المصرية خروج مصر من عنق الزجاجة فعلاً، وعلى الرغم من الأمل في استعادة سورية لدورها القومي الطليعي عند خروجها من أزمتها، لا بل نرى أن الخروج من الأزمة يتطلب من سورية أن تعيد تفعيل المشروع القومي في الشارع العربي.
إن أي رافعة سياسية قومية كانت أو يسارية لا بد أن تمر من خلال المدخل القومي الديمقراطي، وهو ما يمثله المنظور الاشتراكي الحق. وإن هذا المدخل يمثل كافة شرائح الأمة ولا يخص أي شريحة أو طبقة بذاتها، فالتصدي للمهام القومية والدفاع عن الأمة مسألة تعني كل أبنائها إذا وضعنا جانباً الكمبرادور وما يرتبط به. فهنالك حاجة ملحة لتجاوز كل ما هو إثني، طائفي، قبلي، محلي، وعشائري لما هو أعم وأشمل أي لما هو قومي، والخيار القومي هو ما يمثل اليوم الخيار الوحيد لتجاوز مشروع التفكيك، وهو وحده ما يفتح الواقع على احتمالات ديمقراطية وعدالة اجتماعية أكثر رحابةً.
لا بد من التأكيد مجددا على أن الاشتراكي الحقيقي هو الذي يتجاوز الاعتبار المحلي والقطري لحساب المصلحة القومية الأعم في بناء الوحدة السياسية والاقتصادية، مما يصب في مصلحة المشروع القومي وخروج الأمة من المستنقع الآسن الذي تعيش فيه. فالاشتراكي الأكثر عمقا في الزمن العربي المعاصر هو الذي يتجاوز ذاته في خدمة الأمة العربية، وفي صنع وحدتها على الصعيد السياسي، وهو الذي يلعب دوراً طليعياً في المواجهة الشرسة التي تخوضها ضد الإمبريالية وحاشيتها، بعيدا عن التلهّي بالدفاع عن الحقوق الثانوية والترهات، فالأمة تخوض اليوم أكثر من أي وقت مضى معركة حق الوجود على مسرح التاريخ.
المعنى القومي العربي للتنمية المستقلة
إبراهيم حرشاوي
تتبادر إلى الأذهان دولٌ مثل مصر في عهد جمال عبد الناصر أو فنزويلا في عهد تشافيز كلما طُرِحت التنمية المستقلة كمشروع اقتصادي بديل لنهج التبعية الاقتصادية الذي تتّسم به معظم دول العالم الثالث بشكل عام، والدول العربية بشكل خاص. فمن جهة، تقوم دينامية التبعية على عملية التصنيع المحيطي، أي إعادة هيكلة التقسيم الدولي للعمل الذي تحكمه قوانين التراكم والنمو في المركز، ويتجلى ذلك من خلال توزيع الصناعات والأنشطة من بلدان المركز إلى بلدان المحيط التي تديرها البورجوازية التابعة والمعروفة في القاموس السياسي باسم الكمبرادور. أما من جهة أخرى، تندرج التنمية المستقلة في جوهرها ضمن مشروع قائم على الانفلات من شبكة التبعية التي تكرّس قانون النمو اللامتكافئ. وما يهمّنا هنا هو فهم الركائز التي تحكم نهج التنمية المستقلة بشكلها العام بعيدا عن التفاصيل التطبيقية التي تختلف من دولة إلى أخرى.
تتّسم التنمية المستقلة حسب المفكر الاقتصادي المصري د. إبراهيم العيسوي أولا وقبل كل شيء بالاعتماد على الذات. فالعجلة الاقتصادية الوطنية لا يمكنها التحرك إلى الأمام إلّا بالمدّخرات الوطنية وتراكم رأس المال الوطني. وتلعب الدولة في هذا الصدد دورا رئيسيا في ضبط الاستهلاك والاستيراد بهدف رفع معدّل الادخار المحلي لاطّراد التنمية. كما ينبغي على الدولة رفع فعالية القطاع العام، بالأخص في مجال الإنتاج والاستثمار الإنتاجي، لتنفيذ البرنامج التنموي الشامل، معتمدة على صيانة وتطوير المستوى الفني والإداري والتسويقي لهذا القطاع . واتصالا بهذه المهمة، يجب أن تستثمر الدولة في النهوض بالمقدرات العلمية والتكنولوجية الوطنية عبر التعليم بحسب متطلبات المخطط الوطني للتصنيع والتنمية الشاملة. ويعزز هذا الموقف “تقرير التنمية الصناعية لعام 2005م” الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو)، الذي يعتبر الإنتاج المحلي للمعرفة شرطا أساسيا للالتحاق بالدول المتقدمة اقتصاديا. ويقول أحد رواد التجربة التنموية العراقية إبان حكم حزب البعث د.سعدون حمادي في هذا الخصوص أن أي دولة ترغب بتحقيق التنمية من ألفها إلى يائها ينبغي عليها تطوير قدراتها التكنولوجية لإنتاج الآلات والتجهيزات التي تتكون منها المصانع المنتجة (السلع الإنتاجية)، بالإضافة إلى إنتاج السلع الجاهزة للاستهلاك. وهنا تأتي أهمية الطرح الاندماجي الإقليمي والوحدوي العربي والتعاون بين دول الجنوب من منطلق اقتصادي، لتوسيع السوق، واستيعاب الإنتاج المحلي بغاية تحقيق اقتصاديات الحجم.
أما فيما يتعلق بعلاقة الدولة التنموية مع السوق الحرة، فيجب التركيز على عدم وجود تناقض من حيث المبدأ بين دور القطاع العام ودور القطاع الخاص طالما كان رأس المال المحلي يعمل داخل الخطة الوطنية للتنمية الشاملة لا داخل مخططات الشركات الدولية. ومن المهم التذكير أن للسوق قدرات محدودة في سياق التنمية المستقلة كونه لا يعترف بالحاجات الأساسية لغالبية الشعب، وإنما يأخذ – من حيث طبيعته – فقط الشريحة التي تملك القدرة الشرائية بعين الاعتبار. لذا فعلى الدولة أن تأخذ على عاتقها مهمة إشباع الحاجات الأساسية للسكان كالتعليم والصحة والغذاء والتشغيل خدمةً للدور الذي تلعبه الطاقة البشرية في التنمية. كما ينبغي على الدولة، ولاعتبارات اجتماعية، فرْض بعض الإشراف على القطاع الخاص، وبالأخص مؤسسات مثل البنوك للحد من المحسوبية في القروض، ومنع التجاوزات التي يتم بموجبها توفير قروض لمن هم غير قادرين على سدادها. من جهة أخرى ينبغي على الدولة التي تسعى إلى تحويل اقتصادها من النمط التبعيّ إلى النمط المستقل، أن تصحّح علاقتها مع رأس المال الدولي المتواجد على أراضيها والمتجسد في الشركات متعدية الجنسية، من خلال رفع المعدلات الضريبية وتشديد المراقبة عليها، وفرض حصة للدولة في مشروعات تلك الشركات (كخطوة نحو التأميم) وإصدار قوانين اجتماعية مواتية لضمان حقوق اليد العاملة، وهو النموذج الذي اتبعه تشافيز في فنزويلا قبل الدخول في مرحلة التأميم.
أما بخصوص ضبط علاقات الاقتصاد التنموي بالخارج، فلا بد للدولة النامية أن يكون سلوكها إزاء القوى الاقتصادية العالمية محسوبا ومنسجما مع الشوط الذي قطعته في المسيرة نحو تطوير المزايا التنافسية التي تؤهل هذه الدول لدخول حلبة بدون تبعية (كما فعلت الصين مثلاً). أما العلاقات مع دول الجنوب فيجب أن تسير نحو تنمية قدرتها التفاوضية مع الدول المتقدمة داخل منظمات مثل “منظمة التجارية العالمية” من جهة، وتبادل الخبرات وتشبيك التبادل الاقتصادي بشكل تكاملي من جهة أخرى، بغية تشكيل تكتلات إقليمية أو دولية قادرة على تحييد الهيمنة الاقتصادية الغربية على غرار تحالف “ألبا” في أمريكا اللاتينية أو “منظمة شانغهاي للتعاون” في آسيا أو “مجموعة البريكس” التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين. وهذا لا يعني عدم وجود تناقضات بين دول الجنوب على المستوى الاقتصادي، مما يجعل خيار التركيز على الإنتاج المشترك هو الخيار الأنسب بدلا من تحرير التجارة بدون مراعاة التناقضات بين هذه الدول. ومن المهم ملاحظة أن الدول الرأسمالية تحاول إفشال التقارب الاندماجي والتكتل في دول الجنوب عبر محاولة إلحاق تلك الدول بمنظومة دول المركز، ونذكر هنا على سبيل المثال اتفاقات “الكويز”(المناطق الصناعية المؤهلة) التي تسهّل للأردن ولمصر الدخول للسوق الأمريكية عبر البوابة الصهيونية.
من البديهي أن تبنّي التنمية المستقلة يؤدي إلى الدخول في صراعات وصدامات مع دول المركز الرأسمالي كنتيجة للحد تدريجيا من استيراد المنتجات من هذه الدول ودعم الصادرات وتقييد حرية المستثمر الأجنبي ودعم الصناعات الاستراتيجية. ويُضاف إلى ذلك الاصطدام المحتمل مع الشرائح والشركات المحلية التي تشابكت مصالحها مع مصالح رأس المال الأجنبي المعادي. ولذا يلزم توفّر درجة عالية من الوعي عند شرائح واسعة من الشعب العربي حول العواقب المحتملة، لأن هذا التناقض قد يصل إلى الحصار الاقتصادي أو العدوان العسكري، إذا لم يكن التعاون بين دول عربية أو غيرها قد تطور إلى مستوى يتيح بدائل اقتصادية داخل دول الجنوب أو قادر على ردع الخيارات العسكرية للدول الغربية.
باختصار، لابد من إعادة الاعتبار لمشروع الوحدة العربية من بابه الاقتصادي، لاسيما إذا تمّ ذلك من خلال قراءة نقدية لتجارب التنمية المستقلة التي شهدها الوطن العربي. إنّ المقاربة الاقتصادية لفكرة الوحدة تجذب فئة مهمة من المجتمع العربي مثل الصناعيين والتجار والعاطلين عن العمل لأنها مرتبطة بمصلحتهم المادية على المدى الطويل بشكل مباشر. وترويج مشروع التنمية المستقلة قوميا بإمكانه تحريك هذه الفئات نحو مشروع الوحدة العربية، بالأخص إذا تمّ إقناعها أنْه لم تبقَ دولة في العالم إلا وهي مندمجة في كتلة إقليمية أو قارية كما هو الحال في القارة الآسيوية وأمريكا اللاتينية. إنّ اندماج هذه الدول اقتصاديا فيما بينها وتبنّيها نهج التنمية المستقلة يجعلها أكثر نجاحا في بناء القدرات الاقتصادية والعلمية والعسكرية وتوسيع دائرة الطبقة الوسطى، بعكس الدول التي اختارت أن تدور في فلك “وفاق واشنطن” المتمثّل في الإذعان لشروط البنك الدولي وصندوق نقد الدولي.
المراجع:
– الدكتور إبراهيم العيسوي. نموذج التنمية المستقلة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012م.
– الدكتور محمود عبد الفضيل. الفكر الاقتصادي العربي وقضايا التحرر والتنمية والوحدة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1982م
– الدكتور سعدون حمادي، عن القومية والوحدة العربية: سألني سائل فأجبت، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2000م.
– الدكتور سالم توفيق النجفي. التنمية العربية بين الثوابت والمتغيرات، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012م.
قناة السويس: بداية مصرية جديدة
بشار شخاترة
شكلت قناة السويس في الذاكرة الوطنية المصرية قيمة معنوية كبيرة، دفعت مصر ثمنا باهظا لقاء حفرها أول مرة، ودفعت ثمنا لا يقل عنه حين أممها الزعيم جمال عبد الناصر، وقد كانت بحق منطلقا لزعامة عبد الناصر ونقطة تحول في الوعي القومي العربي مصريا حين واجهت مصر العدوان الثلاثي.
من جديد تتصدر قناة السويس المشهد المصري والعربي والدولي، وفي الفترة الماضية كُتِب الكثير حولها بين مؤيد وناقد ومشكك، إلا أنّ النقطة التي لم تنلْ حظها من البحث، والتي غابت عن التحليل الذي تستحقه، هي الظروف المصاحبة للمشروع الجديد من زاوية اجتماعية واقتصادية، وما يلي محاولة لقراءة أهمية المشروع الجديد من تلك الزاوية.
بعد إحجام البنوك عن تمويل حفر القناة بحجة انعدام دراسات الجدوى، وطول إجراءات تأسيس شركة مساهمة عامة لغايات الحصول على التمويل، فضلا عن التعقيدات القانونية لهذا الخيار مع رغبة الدولة السير بالمشروع بأسرع الطرق، لجأت الحكومة المصرية إلى تمويل المشروع الجديد عن طريق شهادات الاستثمار مع إعطاء عائد مرتفع عليها بلغ 12% ولمدة خمس سنوات بضمان الدولة لهذه الشهادات نظراً لسهولة الإصدار والبيع، فلا يبقى بعدها إلا إقبال المواطنين عليها بالإضافة إلى المؤسسات. المفاجأة أنه وفي غضون أسبوعين، أو ما يعادل ثمانية أيام عمل فعلياً، تم بيع شهادات استثمار بما يعادل 8.54 مليار دولار وهو ما يزيد عن المطلوب، واللافت أن 90% من المستثمرين هم من الأفراد، والباقي اشترته مؤسسات، وجميعهم مصريون أفرادا ومؤسسات، وهو ما كانت تحرص عليه الحكومة المصرية عند طرح الشهادات للبيع.
بقراءة بسيطة لما سبق يمكننا القول أنه إعادة اعتبار لفكرة القطاع العام. وهذه المنظومة الاقتصادية الاجتماعية بالأساس المسمّاة قطاعاً عاماً، حوربت بشراسة منذ انقلاب السادات على مصر ومقدراتها التي أنجِزَت في المرحلة الناصرية، ولم تتوقف الحملة على القطاع العام في عهد مبارك بل دخل هذا القطاع في مرحلة التصفية النهائية، وكانت المرحلة الإخوانية مشروع تصفية الدولة كنتيجة لإعلان تصفية القطاع العام، وكانت البداية المطروحة من قناة السويس ببيعها لقطر ومن لفّ لفّها. والقيمة المضافة في مشروع قناة السويس كانت الجهة المنفّذة للمشروع وهو الجيش المصري، هذا أعطى دفعا لفكرة أن الدولة يمكنها أن تشرع في أضخم المشاريع ولا تحتاج أكثر من توجيه نقاط القوة لديها وتوظيفها في خطة عمل، شاهدَ العالم مثالها في قناة السويس.
الملاحظ أنّ الناس أقبلت وبنَهَم على شراء الشهادات وهذا لا يعكس فقط الرغبة في الحصول على عائد جيد، بل الأهم أن المواطن يشعر أنه جزء من بناء الدولة، وأنه برغم المحاذير الأمنية على الاستثمار- والتي دعت بيوت التمويل المحلي للابتعاد بسبب ظروف مصر الراهنة والحرب التي يشنها عليها الإرهاب ومن خلفه – إلا أن المصريين اشتروا الشهادات بمدخراتهم وموّلوا المشروع.
تستحق هذه التجربة التأمل فعلا من حيث أنها تقطع الطريق على أكذوبة التمويل لغايات الاستثمار، وأنها تعيد الهيبة لدور الدولة، وتؤذِن ببداية نهاية مرحلة الدولة الحارسة، وتعلن أنّ الدولة لها دور هام في الرعاية الاجتماعية ودور أهم اقتصادياً، والمهم في هذا المجال أنه استثمار آمن سياسياً لأنه محلي وبعيد عن الإملاءات الأجنبية. فاستعادة دور الدولة في الحياة الاقتصادية والزجّ بها في مشاريع عملاقة نقطة تحوّل في رسم السياسة الاقتصادية وتوجيه للرأسمال الوطني، علاوة أن المشاريع الكبرى ذات قيمة عالية من حيث تشغيل العمالة والقضاء على البطالة.
المشروع الطموح الذي تشكل عملية حفر القناة أولى مراحله، تليها مرحلتان تتعلقان بتقديم الخدمات البحرية وتوفير الخدمات اللوجستية وما يقتضيه ذلك من بناء مرافق وبنى تحية تمتد على جانبي المجرى الملاحي، خصوصا أن المشروع يتضمن بناء أنفاق تحت القناة لنقل الأشخاص والبضائع عبر المركبات والسكك الحديدية، فإذا تمّت عملية الانطلاق نحو هاتين المرحلتين من المشروع، لا شك أنها ستكون فاتحة اقتصادية هامة من حيث أنها ستغدو – قناة السويس – قِبلة ملاحية ومركزاً بحرياً منافساً لدبي على سبيل المثال بما للموقع من أهمية إذا نُفّذ المشروع كما يجب وكما هو مُخطط له. ومن الأهمية الإشارة إلى عملية الربط بين البر المصري، كما يُصطلح عليه، مع سيناء عبر شبكة الأنفاق المخطط لها، مما سيسهل حركة انتقال الأفراد والبضائع ويسهم في إعادة رسم الخارطة السكّانية المشوّهة أساسا في مصر نتيجة تركّز الكتلة البشرية الكبرى في مدن الدلتا، وبما يسمح بالتمدد شرقا نحو سيناء. غير خافٍ هنا الأهمية الاستراتيجية في تحقيق الأمن القومي والمختلّ أساسا نتيجة كبر مساحة سيناء وقلة عدد سكانها مما كان يعطي “إسرائيل”والجماعات الإرهابية ميزة عسكرية وأمنية، وكل ذلك يقتضي حسن إدارة المشروع والتزام الخط العام له بمراحله، وهذا ليس من باب الدفاع عن القناة الجديدة، ولكن من باب الانتصار لحق الفقراء بتدخل الدولة في تصحيح مسار الدولة الاقتصادي ولحق المجتمع بالأمن أيضا مهما قيل عن عدم جدوى المشروع.
فالدولة بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي ليست تاجرا يهدف أساسا إلى الربح السريع، وإن كان أيضا ليس من بين أهدافها الخسارة والإنفاق على مشاريع خاسرة، ولكن وظيفة الدولة بالمفهوم القومي تهيئة الظروف الاقتصادية للقيام بدورها الاجتماعي، إضافة إلى وظيفتها في الأمن وحماية حدودها، لذلك قد يبدو للبعض أن كثيرا من النفقات تدخل في باب الهدر والفساد، وإن كان يصح في مواضعِ القول أن عدم الإنفاق خيانة من الدولة لشعبها بعيدا عن حسابات الربح والخسارة، وأنه من مقتضيات عمل الدولة رسم سياسة اقتصادية اجتماعية تضمن عدم تكدس رؤوس الأموال بيد قلة على حساب أكثرية مسحوقة، وأنه من العدالة الاجتماعية أن تفتح الدولة الباب للعمل مع أخذ مسألة الجدوى بعين الاعتبار طبعاً.
الحكم على النظم السياسية بشكل عام يجب أن يراعي البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي تنتهجها وهذا ليس بالمطلق ولكنه من المؤشرات المهمة على سلامة توجه هذا النظام أو ذاك من عدمه. قناة السويس، بداية طريق وهي تشكل قاعدة بناء نظام اقتصادي تكون الدولة ركنا هاما فيه، وبالنتيجة يلحق بها جانبها الاجتماعي، وليس من قبيل المبالغة القول أن ذلك مقدمة لهزيمة الإرهاب لأن التفاف الجماهير حول الدولة، وأداة الدولة هنا قطاعها العام، سيجعل الجماهير تشعر ان لها مصلحة مباشرة مع الدولة بالنهاية، لأن الإرهاب التكفيري يناوئ فكرة الدولة ويحارب أدواتها ومؤسساتها وجميع مكوناتها، ومن السخف محاربة الإرهاب على جبهة الأمن فقط، فحيث هناك بطالة وفقر وجوع هناك مفرخة للإرهاب وما يفوق كل ذلك خطورةً هو انسداد الأمل أمام المجتمع، لذا فمنظومة القطاع العام، وإن زدنا عليها القطاع المختلط بين العام والخاص مع مراعاة صغار المدخرين، سوف تجعل الجميع يدرك أنّ له فرصة في وطنه، وأنّ مصلحته مع الدولة ومؤسساتها بالصيغة المذكورة، وقد أثبتت التجارب التاريخية للدول، ومصر منها، أن رجال الأعمال بالطبعة الليبرالية والكمبرادور ليسوا مصلحة وطنية.
وعودٌ على التمويل، نعم مصر كسرت الاحتكار المالي لدى البنوك المحلية والدولية ولدى “المستثمرين” عن طريق اللجوء إلى الشعب، وإن كان هذا الباب قد لا يكون كافيا لخطة بناء اقتصادي طموحة وعملاقة، إلا أنه يبقى رأسمال ليس جبانا ووطني الطابع أيضا، لكنه يحتاج إلى أن يثق بمن يضع الخطة وينفذها. مشروع القناة الجديد يدلل أن التجربة الأولى نجحت ولكنها لبنة تحتاج فوقها للبِنات أملا أن تشكل دافعا للقرار الاقتصادي المصري بإعادة دور الدولة، فالمستثمرون يبحثون عن مشاريع سهلة بمرابح طائلة، مردودها بمفهوم الأمن القومي وبمفهوم دولة الرعاية الاجتماعية ضئيل، أما المشاريع الكبرى التي فيها مخاطرة والتي قد تتأخر فترة استرداد كلفتها سنوات طويلة، فلا بد من دخول الدولة على خطها.
يشكل هذا المشروع بالنهاية، بالميزان الاستراتيجي وبالميزان القومي، رابطا لشطريْ الامة الآسيوي والإفريقي، ويخلق حالة امتداد بشري متصل شرقا بالنسبة لمصر وغربا بالنسبة لبلاد الشام، ويمكن التجاوز عن الانتقادات التي تحسب المردود الآني أو تحسب تراجع حركة التجارة الدولية بسبب الركود وغير ذلك من الحسابات الليبرالية التي لا تقيم وزنا للمنظور الاستراتيجي لأمة كالأمة العربية، ولا تقيم وزنا لدور الدولة والقطاع العام في صياغة تفاصيل حياة الأفراد في بوتقة المجتمع كونها دول غير صناعية وتطمح لولوج عالم الصناعة، ولم تتوفر لها فرصة الاستعمار الأوروبي والأمريكي الذي نهب خيرات العالم وأقام قلاعه الصناعية على أشلاء الشعوب، وأمتنا لا تسعى لذلك أساسا، فإنها لا سبيل لها سوى أداة واحدة وهي الدولة للتصدي لهذا الدور.
ثورة النظام الاقتصادي في مصر
د. إبراهيم علوش
تعالج هذه الورقة تاريخ العلاقة بين النظام الناصري والرأسمالية في مصر في نقاط مدها وجزرها. الفترة التي تغطيها تمتد بين عام 1952 وأواسط الستينيات، وقد اختيرت تلك الفترة لأنها تشتمل على الحلبة الزمنية للصراع، أو التعاون، بين ثورة 23 يوليو والرأسمالية كنظام والبرجوازية كطبقة.
بعد تعريف الأبعاد الاقتصادية لتجربة “الاشتراكية العربية”، سيصبح من الممكن أن نتحدث بشكل أكثر دقة عن الموقع الذي احتلته مصر الناصرية في طيف الأنظمة الاقتصادية الممتد ما بين الرأسمالية من جهة والاشتراكية الشيوعية من جهةٍ أخرى. وهنا يتبادر السؤال: هل كانت مصر الناصرية اشتراكيةً أم رأسماليةً أم في منزلة ما بين المنزلتين؟ فإذا كان نظامها الاقتصادي في منزلةٍ ما بين الاشتراكية والرأسمالية، يصبح من المنطقي التساؤل: أين بالضبط بينهما؟ والجواب على مثل تلك الأسئلة لا بد أن نجده في موقف ثورة يوليو إزاء الرأسمالية.
الإجابة على السؤال أعلاه يقودنا بالتالي إلى أسئلة أخرى تتعلق بالتنمية الاقتصادية وتوزيع الدخل في مصر والوطن العربي ودول العالم الثالث عامة. بالتحديد أكثر: كيف كان تأثير السياسات الاقتصادية الناصرية على بنية ونمو الاقتصاد المصري، وعلى توزيع الدخل في المجتمع المصري وبين طبقاته؟
ليس هناك شك في أن طبيعة النظام الاقتصادي، وتأثيره على بنية الاقتصاد، كانت ذات تأثير حاسم على السياسات المصرية على المستويين العربي والدولي. ثمة أمثلة عديدة يمكن أن نسوقها هنا: تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي الإنكليزي-الفرنسي-الصهيوني على مصر عام 1956؛ بناء السد العالي وتطور العلاقة مع الاتحاد السوفييتي؛ “الاشتراكية العربية” والصراعات العربية المريرة ما بين محورين تقود مصر أحدهما، وتقود المملكة العربية السعودية الآخر؛ إلخ… فالقائمة لا تنتهي. لذلك، يشكل فهم فكر وسياسات جمال عبد الناصر، وطبيعة النظام الذي قاده في تلك الفترة، أداة لا غنى عنها لفهم بعض الأحداث العربية المهمة التي وقعت بين عامي 1952 و1970.
تنقسم هذه الورقة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول يقدم خلفية عامة عن البرجوازية المصرية والحالة العامة للاقتصاد المصري عندما وصلت حركة الضباط الأحرار إلى الحكم. وينقسم القسم الثاني إلى ثلاثة أجزاء فرعية مطابقة للمراحل الثلاث التي مر بها موقع البرجوازية المصرية في الاقتصاد في ظل ثورة 23 يوليو. ويضم ذلك الجزء (الثاني) من الورقة الجسم الأساسي من البحث لأنه يدرس الفترة التي اتُخذت فيها الإجراءات لتشجيع أو تقييد الرأسمالية في مصر، من حيث تحليل الأحداث ودراسة آثار السياسات الاقتصادية. أما القسم الثالث والأخير من الورقة فقد وضع لعرض النتائج التي توصلت إليها الدراسة.
الأطروحة الرئيسية التي تقدمها هذه الورقة هي أن المسيرة الناصرية باتجاه الاشتراكية كانت حتمية فيما لو أرادت مصر أن تحقق مشروع التصنيع المنشود، وأن قلاع الرأسمالية المصرية، على المقلب الآخر، لم تدمر تماماً ولا اجتُثت الطبقة البرجوازية المصرية نهائياً في ظل النظام الناصري في مصر.
أولاً – البرجوازية والاقتصاد المصريان قبل عام 1952:
خلال النصف الأول من القرن العشرين، هيمنت (هيمن) القطاع الزراعي على الاقتصاد المصري، حيث شكلت (شكل) 45% من الناتج الوطني الإجمالي عام 1945، و33% من الناتج الوطني الإجمالي عام 1952 عندما وصل الضباط الأحرار للسلطة. وتُقارن تلك النسب من حصة الصناعة التي شكلت 11% من الناتج الوطني الإجمالي عام 1945، و8،7% منه عام 1952. وكانت القوة العاملة زراعية بالأساس. ففي عام 1947 مثلاً، اشتغل 58،4% من القوة العاملة في الزراعة، مقابل 10،2% من القوة العاملة في الصناعة، و1،4% منها في قطاع الإنشاءات.
كان القطاع الزراعي إذن ثروة مصر الأهم، وكان القطن المحصول الأكثر ربحيةً وانتشاراً. يكفي أن نشير على هذا الصعيد أن قيمة الإنتاج القطني بلغت نصف قيمة الإنتاج الزراعي المصري عام 1947. كان القطن قد أصبح من الصادرات الأساسية لمصر من ستينيات القرن التاسع عشر عندما وجه الاستعمار البريطاني مصر لتصبح مصدراً رخيصاً للقطن لصناعة الحياكة والنسيج في لانكشيير. وقبل ثورة 23 يوليو مباشرة انخفضت أسعار القطن في الأسواق الدولية، وحاولت الحكومات المتعاقبة أن تفرض حداً أدنى من قطع الأراضي التي يفترض أن تزرع قمحاً، لكن القطن في بلدٍ كان قد شرع بتأسيس صناعة للحياكة والنسيج منذ أيام محمد علي باشا لم يصبح قليل الأهمية ابداً، وحتى عام 1952 شكل القطن الخام 84% من الصادرات المصرية.
يصبح من السهل، بالتالي، أن نفهم لماذا باتت “المهمة الرئيسية للبنوك تمويل القطن وتجارة الواردات. ولم يخاطر أيٌ من البنوك المصرية في ميدان الإقراض الصناعي ما عدا بنك مصر الذي كان يسهم فحسب في رأسمال الشركات منفرداً أو بالتعاون مع رأس المال الأجنبي”، أي أن بنك مصر كان يشارك ولم يكن يقرض المؤسسات الصناعية، أي كان يسيطر عليها.
الحالة العامة وحصة قطاعات التجارة والخدمات والنشاطات الحكومية كانت تزداد أهمية وتأثيراً في الناتج الوطني الإجمالي والتوظيف بشكلٍ متزايد. وقد بلغ نصيب التجارة والخدمات من الناتج الوطني الإجمالي 32،8% عام 1945، وبلغت حصة القطاع الحكومي 14،26% من الناتج الوطني الإجمالي في العام نفسه. لاحقاً في العام 1952 ارتفعت تلك النسب إلى 35،9% لقطاع التجارة والخدمات وإلى 16،58% للقطاع الحكومي.
أما بالنسبة للصناعة، فيمكننا القول أنها كانت تمر بالمرحلة الثانية من نموها الجنيني، على الرغم من أن الصناعة الثقيلة والمرسملة كانت إما غير موجودة أو ضعيفة جداً. وكان ذلك لأن الصناعة تركزت على معالجة القطن أو السكر، مواد البناء، والكيماويات. كان هناك بعض الإنتاج للمعادن والطاقة أيضاً. وفي عام 1947، شكل النسيج 32% من الإنتاج الصناعي، وشكل تصنيع الأغذية والمشروبات 46% من الإنتاج الصناعي، والمعادن والكيماويات 21% منه.
في عام 1952، شكل النسيج وصناعة الملابس 35% من الإنتاج الصناعي، وتصنيع الأغذية والمشروبات 29%، وبقية الصناعات مجتمعة 35%. أي أن الصناعة في مصر، حتى مجيء عبد الناصر، كانت خفيفةً بالمجمل، ومعتمدةً على الزراعة أو الموارد الطبيعية أكثر من اعتمادها على المهارة ورأس المال. وفي عام 1947، على سبيل المثال، شكل تصنيع الآلات ومعدات النقل خُمس واحد بالمئة (0،2%) من إجمالي الإنتاج الصناعي، وارتفعت تلك النسبة عام 1952 إلى 0،7%، أي بقيت أقل من واحد بالمئة من إجمالي الإنتاج الصناعي.
في تلك الفترة، لم يكن رأس المال المستثمر في المشاريع الصناعية مذهلاً على الإطلاق. ومع أن بنك مصر الذي تأسس عام 1919 كان مسؤولاً عملياً عن أكثر من نصف مشاريع تصنيع القطن، ومع أن البنك الصناعي شرع بتمويل المشاريع منذ أسسته الحكومة المصرية عام 1949، فإن الجاذبية بين الصناعة ورأس المال لم تتحول إلى قصة حب أبداً. لم يتجاوز ادخار المصريين السنوي آنذاك أكثر من 12% من الناتج الوطني الإجمالي، وقد فضل أصحاب رؤوس الأموال توجيه استثماراتهم نحو نشاطات اقتصادية أكثر ربحية وأماناً في التجارة بالعقارات والبناء والمنازل والتجارة العامة. وكان على مدراء الشركات المساهمة أن يقللوا من الأرباح الموزعة للمساهمين إن أرادوا تمويل المزيد من الاستثمارات، لكن توزيع أرباح أقل جعل من الصعوبة بمكان أن يجتذب القطاع الصناعي الاستثمارات. فالقطاع الصناعي يستغرق وقتاً أطول من العقارات والتجارة ليسترد أرباحه، وكان في ذلك مقتله لو تُرك أمره للقطاع الخاص.
صحيحٌ أن الضرائب على الواردات تم رفعها، والضرائب على الصادرات تم تخفيضها، بعد عام 1930، وصحيح أن القطاع الصناعي بدأ يتمتع ببعض الإعفاءات الضريبية وقتها، لكن كل ذلك لم يكن ليعني كثيراً في بلدٍ عالم ثالثيٍ يفتقر لرأس مالٍ كافٍ يمكن استثماره في الصناعة.
وقد تميزت الصناعة المصرية في أواسط القرن العشرين بشكلين متناقضين من الملكية، إذ تظهر إحصائيات الإنتاج الصناعي لعام 1950 وجود 19527 مشروعاً صناعياً في مصر آنذاك كان يملكها 18304 أشخاص، فيما كان تعداد المصريين يزيد عن 20 مليوناً. بيد أن معظم تلك المشاريع كانت أشبه بورش صناعية صغيرة الحجم. لكن إنتاج المشاريع الصناعية الكبيرة من بينها بلغ 27،69 مليون جنيه مصري، فيما بلغ إنتاج المصانع الصغيرة ومتوسطة الحجم في الفترة نفسها 5 ملايين جنيه مصري فقط. والمذهل أن المشاريع التي بلغت قيمتها الرأسمالية أكثر من عشرة آلاف جنيه، وكان عددها 312 مشروعاً فحسب من أصل حوالي عشرين ألف مشروع صناعي، كانت توظف 84% من إجمالي رأس المال المستثمر في الصناعة و83% من القوة العاملة الصناعية. لذا تميزت بنية الملكية في الصناعة المصرية قبل ثورة يوليو بوجود كثرة من بقايا الورش الحرفية المتحدرة من العصر الإقطاعي وقلة من المصانع الكبيرة المهيمنة مما يشبه بعض مظاهر الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة حيث الأسواق إما احتكارية أو شبه احتكارية.
يمكن أن نفهم طبيعة الرأسمالية في مصر في هذا السياق فقط. كانت البرجوازية المصرية أكثر اعتماداً على التجارة والخدمات منها على الصناعة. ولم يكن ذلك مستغرباً بالنظر إلى حصة كلٍ من تلك القطاعات في الناتج الوطني الإجمالي، غير أن البرجوازية المصرية كانت تمتلك حصوناً قوية في القطاع الصناعي الضعيف أيضاً، وفي رأس المال المالي الذي يشكل روح الصناعة في الدول الرأسمالية. فلنأخذ “بنك مصر” مثالاً كمصرفٍ كان يمتلك منشآت في مجال الشحن والفنادق والتأمين، ويملك شركات تنتج الكيماويات والنسيج. تحكّم “بنك مصر”، في الواقع، بـ60% من إنتاج النسيج ووظف 53% من كل القوة العاملة المنخرطة في مصانع النسيج، وقد كان دور “البنك الوطني” و”البنك البلجيكي” في الاقتصاد المصري كبيراً، كمؤسستين انطبق عليهما ما انطبق على بنك مصر.
إن وجود مواقع لنمط الإنتاج الرأسمالي في حالة مصر قبل الثورة لا يعني بتاتاً أن نمط الإنتاج الإقطاعي كان قد تم التخلص منه. فقد كان على الرأسمالية والإقطاع أن يتعايشا في مصر لأكثر من نصف قرن قبل أن تضرب الثورة الناصرية الإقطاع كنظام ضربة الإصلاح الزراعي المميتة في العقد الأول للثورة. ففي عام 1950 كان توزيع ملكية الأراضي في مصر على الشكل التالي: امتلك 1901518 شخصاً أقل من فدان واحد من الأرض لكلٍ منهم، وهي فئة أغلبية المالكين، أي فئة الملكية الصغيرة؛ وامتلك 2199 شخصاً أكثر من مئتي فدان من الأرض لكلٍ منهم، وهي فئة أقلية المالكين، أي فئة الملكية الكبيرة؛ وامتلك 640233 شخصاً أكثر من فدانين وأقل من خمسة فدادين لكل منهم، وهي فئة الملكية المتوسطة. ونستطيع من هذه الإحصائيات أن نستنتج ما يلي:
- أن الإقطاع لم يكن مطلقاً، بدلالة وجود ملايين ملاك الأراضي الصغار،
- أن وجود إقطاعيات كبيرة الحجم لعدد قليل من المالكين كان لا بد له أن يخلق شريحةً واسعة في الريف من العمال الزراعيين ومستأجري الأراضي (المرابعين).
أحد أسباب التعايش بين الإقطاع والرأسمالية في مصر قد يكون أن البرجوازية المصرية لم تولد من رحم الطبقة الوسطى، كما جرى في أوروبا، بل نبتت من الأرستقراطية نفسها ومن المجموعات الثرية التي كانت على احتكاك برأس المال الأجنبي ومشاريعه في مصر، وبما أن معظم تلك المشاريع تعلق بالتجارة والنقل والخدمات، فإن مصالح البرجوازية المصرية الناشئة تكاملت، بدلاً من أن تتناقض، مع مصالح الإقطاعيين. وكما في كل بلدان العالم الثالث، كانت قد نشأت في مصر، على هامش الهيمنة الاستعمارية، شريحةٌ من الرأسماليين الطفيليين الذين يعيشون على تصدير القطن واستيراد المنتجات الصناعية من الغرب، أي الذين يعيشون من التجارة والخدمات، بدلاً من الإنتاج والتصنيع، خصوصاً الكبير منه. ورغم وجود حيز صغير للبرجوازية المنتجة في مصر في الصناعة الخفيفة والتعدينية آنذاك، فإنها كانت مجموعة صغيرة نسبياً تعتمد على شحنات القطن من الريف الذي يهيمن عليه الإقطاع أساساً. كما أن بعض مطلقي المشاريع الصناعية الخفيفة كانوا من الأوروبيين الساعين خلف ربحٍ سريع، لا جزءاً من مشروع طبقة وطنية تسعى لتصنيع الاقتصاد وتعزيز مواقعها في النظام السياسي. وقد فاق دور وتأثير الأوروبيين في مصر دور وتأثير المصريين كما شهد الكاتب باتريك أوبريان: “كان الأجانب يملكون ويديرون معظم الوحدات الصناعية الكبيرة في حقول الصناعة والتجارة”. لكن بمقدار ما كانت البرجوازية المصرية وطنيةً، فقد اصطدمت مع البريطانيين، وحتى مع الملك فاروق. في الواقع اختلفت مصر عن الكثير من دول العالم الثالث بوجود حالة جنينية من الرأسمالية المنتجة تعود جذورها لمحمد علي باشا الكبير. وقد كانت تلك الرأسمالية الوطنية هي التي بنت الصناعات الأساسية في مصر. ومع أنها لم تكمل مهمتها أبداً، فإننا يمكن أن نقول أنها بمقدار ما مضت بمشروعها التصنيعي، فإنها كانت تساهم بالقضاء على الإقطاع. فالرأسمالية الصناعية والإقطاع هما تاريخياً خصمان لدودان.
ثانياً – تطور العلاقة بين النظام الناصري والبرجوازية المصرية:
أ – مرحلة شهر العسل: 1952-1956
لم يكن للضباط الأحرار، عندما وصلوا للحكم في 23 تموز 1952، تصوراً مسبقاً في أذهانهم حول طبيعة النظام الاقتصادي الذي كانوا سيقيمونه في مصر، ما عدا ضرورة تطبيق الإصلاح الزراعي. وقد ضم مجلس قيادة الثورة رجالاً يحملون أيديولوجيات متناقضة مثل أنور السادات القادم من خلفية إخوانية وخالد محيي الدين القادم من خلفية شيوعية. ويقال أن جمال عبد الناصر كان قد قرأ كل أعمال المنظر الاشتراكي البريطاني هارولد لاسكي، وكان قد تواصل مع المنظمات السياسية في البلاد قبل وصوله للسلطة. وكانت ستة مبادئ قد شكلت الأهداف الرئيسية للثورة:
- تدمير الاستعمار والمتعاونين معه،
- تدمير الإقطاع،
- تدمير الاحتكار وهيمنة رأس المال على الدولة،
- بناء العدالة الاجتماعية،
- بناء جيش وطني قوي،
- بناء حياة ديموقراطية سليمة.
لكن السنوات الأربعة الأولى للثورة انقضت في صراعات مع الحركات السياسية المنافسة، اليمينية واليسارية، وفي محاولة التخلص من الاحتلال البريطاني، وفي تطبيق الإصلاح الزراعي على أساس تحديد مئتي فدان للفرد كسقف أعلى للملكية الزراعية بشرط أن لا تتجاوز ملكية أفراد العائلة مجتمعين أكثر من 300 فدان.
كانت السنوات الأربعة الأولى من عمر الثورة أيضاً الفترة التي وصلت فيها العلاقة بين البرجوازية المصرية والنظام الناصري إلى أفضل حالاتها. فقد أدرك النظام الجديد بسرعة أهمية التصنيع بسرعة من أجل تحقيق الاستقلال الوطني، والتزم في تلك المرحلة بفكرة مفادها أن تصنيع مصر سيكون ممكناً فقط من خلال تشجيع الرأسمالية في مصر، وعبر التعاون الحميم بين الدولة طبقة البرجوازية. وكان ذلك يعني عملياً أن على الدولة تبني سياسات تسهل عمل الرأسمالية بقدر الإمكان، فتم تخفيض الضرائب وزيادة الحماية الجمركية للصناعة المحلية، وازدادت أهمية نقابة الصناعيين المصريين من خلال إجبار كل المشاريع الاقتصادية التي تستثمر أكثر من حد أدنى من رأس المال بالانتساب إليها.
تم كذلك التراجع عن سياسة الـ”تمصير” التي اتبعها النظام السابق، فسمح للأجانب أن يتملكوا أكثر من 51% من أسهم الشركات المساهمة، فيما كان الحد الأعلى للملكية من قبلُ لا يزيد عن 49%، وقد اعتبر الضباط الأحرار سياسة “تمصير” الصناعة وقتها عائقاً أمام اجتذاب رأس المال الأجنبي الذي تحتاجه البلاد بصورةٍ ماسة.
قدم مجلس قيادة الثورة آنذاك، ووزراء الحكومة والإعلام ضمانات وتشجيعاً لرجال الأعمال والمصرفيين والصناعيين. وكان هؤلاء قد ارتعبوا من الأيديولوجية التي تقف خلف الإصلاح الزراعي. لكن المدى المحدود للإصلاح الزراعي في المرحلة الأولى للثورة، الذي لم يمس أكثر من 10% من الأراضي، والضمانات الشفوية، والانجراف الأولي نحو الولايات المتحدة، التي كانت وقتها تحاول الحلول محل بريطانيا وفرنسا، في السياسة الخارجية، وقمع الشيوعيين، كل ذلك أدى للتخفيف من قلق البرجوازية.
لا يعني ذلك قط أن دولة الضباط الأحرار تركت، أو آمنت بضرورة ترك، كل مسألة التصنيع ليتم حلها من قبل القطاع الخاص. فقد شكلت الدولة مجلساً أسمته “المجلس الدائم لتنمية الناتج القومي”، لكنها تركت فيه مقاعد لعضوية المصرفيين ورجال الأعمال والصناعيين. وقد نسق ذلك المجلس نشاطاته مع القطاع الخاص لمنع التضارب ما بين القطاعين العام والخاص. وركز المجلس إنفاقه وتخطيطه على حقول تقليدية تاريخياً: الري وتجفيف الترع واستصلاح الأراضي 61%، فيما ذهبت بقية موازنته للكهرباء والنقل. وقد دشن المجلس تغييرات بنيوية مهمة في قطاع التصنيع من خلال الترويج لصناعتين جديدتين كلياً هما المطاط، والحديد والصلب، كذلك تم إنتاج دفعات من الطاقة.
حاولت الدولة أيضاً زيادة استثماراتها من خلال القطاع العام. فارتفع الاستثمار الحكومي من متوسط مقداره 28 مليون جنيه سنوياً في العامين 1950-1952، إلى 34 مليوناً عام 1953، إلى 53 مليون جنيه عام 1954، إلى 62 مليون جنيه عام 1955، إلى 66 مليون جنيه عام 1956. كذلك تم إنجاز مخططات تشييد السد العالي عام 1954، وكان يفترض بالسد العالي أن يزيد حجم الرقعة الزراعية بمقدار مليون ونصف المليون فدان. وكان المجلس قد أنجز عام 1953 خطة موسعة للاستثمارات التي يتولاها القطاع العام على مدى أربع سنوات.
وضعت أيضاً مجموعة من الأنظمة الهادفة لتحسين ظروف العمال، مثل الحد الأدنى للأجور، وتنظيم التعاونيات الزراعية، وإدارة بعض الوجوه الأخرى في الاقتصاد جزئياً، وقد تم تشريع تلك الأنظمة قانونياً وتطبيقها بصرامة. وقد أدى ذلك، بالإضافة إلى ازدياد الإنفاق الحكومي وتوظيف القوة العاملة في القطاع العام، إلى تشكيل الرابط بين مرحلة الاقتصاد الحر الذي يحكمه القطاع الخاص ومرحلة الاقتصاد المختلط بعد عام 1956. بتعبير أخر، مثلت تلك التنظيمات الحكومية للاقتصاد بداية ما أصبح فيما بعد تدخلاً حكومياً واسع النطاق في الاقتصاد المصري، وبداية نهاية الحالة النسبية من اقتصاد الـLaissez-faire (دعه يعمل) الذي كان سائداً خلال تلك الفترة، وكان من أوضح الأمثلة على هذا التوجه ممارسة التضييق الحكومي على ترخيص استيراد السلع من الخارج منذ نهاية عام 1952.
فماذا كانت الحصيلة النهائية لمجمل تلك السياسات وماذا كان تأثيرها على الاقتصاد والرأسمالية المصرية بشكلٍ عام؟
- لم يتم استدراج رأس المال الأجنبي إلى مصر بالمقدار الذي تخيلته الدولة،
- لم يتجاوز الاستثمار السنوي في القطاع الصناعي أكثر من 34 مليون جنيه بالمتوسط بين عامي 1952 و1956، فيما كان المطلوب أكثر من 45 مليوناً سنوياً،
- ارتفع الناتج الوطني الإجمالي من 806 مليون جنيهاً عام 1952/1953 إلى 920 مليوناً عام 1954/1955 إلى 1067 مليون جنيهاً عام 1956/1957، وارتفع الانتاج الصناعي بمعدل 6،7% سنوياً، لكن ذلك لم يكن كافياً لتحويل بنية الاقتصاد أو الصناعة نفسها، فلم يتحول الاقتصاد المصري إلى اقتصاد صناعي، ولم تتحول الصناعة المصرية إلى صناعة ثقيلة أو متقدمة،
- ارتفع الناتج الوطني الإجمالي 2،6% سنوياً، لكن التزايد السكاني بلغ نسبة انفجارية مقدارها 2،9%، مما أدى لانخفاض متوسط الدخل الفردي بمقدار 0،3%، أي أنه بقي على حاله تقريباً، لكن العمال تحسنت أحوالهم نسبياً مع تشريع قوانين العمل والضمان الاجتماعي وحق الانضمام للنقابات والتفاوض على الأجور، أي أن إعادة توزيع للدخل بدأت تجري بين الأغنياء والفقراء،
- استفاد قلةٌ من الفلاحين من الإصلاح الزراعي، ولكن وضعهم بات أفضل طبعاً مما كان عليه في ظل الملك فاروق،
- استفادت البرجوازية المصرية من إجراءات تشجيع الصناعة بين عامي 1952 و1956، وقد جاءت تلك الفائدة على شكل زيادة أرباح من زيادة الإنتاج، وحماية جمركية، وقروض قليلة الفائدة. وكانت مشاركة نقابة الصناعيين في اتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية من أهم معالم النظام الناصري في مرحلته الأولى.
ب – محاولة ترويض الرأسمالية: 1956-1960
اندلعت حرب السويس عام 1956، وهو ما أدى لمصادرة ممتلكات البريطانيين والفرنسيين وبعض اليهود. وقبل ذلك كانت قناة السويس نفسها قد أممت. وتم تأسيس “التنظيم الاقتصادي” لإدارة تلك الأصول المصادرة، وكان منها “حصص أغلبية في 7 بنوك تجارية، ومؤسستان متخصصتان هما Crédit Foncier و Land Bank، و5 شركات تأمين”. من البديهي إذن أن فيضاً مفاجئاً من “تمصير” المنشآت قد بدأ. فإذا أضفنا إلى ذلك أن رأس المال المدفوع في الشركات التي يسيطر عليها التنظيم الاقتصادي قد بلغ 59 مليوناً من الجنيهات، فإننا ننتهي إلى صورة ضخمة عن الحجم الذي بلغه فجأة القطاع العام المصري، ومثل ذلك النمو، في ميزان الأوزان النسبية، لا يمكن أن يكون إلا على حساب القطاع الخاص، خصوصاً أن الأخير لم يكن قد نما بما فيه الكفاية ليعوض النمو الذي اعترى القطاع العام.
تأسس في العام 1957 “مجلس التخطيط القومي”، وكانت مهمته وضع خطة لنمو اقتصادي طويل المدى مع تركيز خاص على الصناعة. وتم حل “المجلس الدائم لتنمية الناتج القومي” ليحل “مجلس التخطيط” و”التنظيم الاقتصادي” محله، وقد عنى هذا أن دور البرجوازية المصرية في التخطيط الاقتصادي، التي كانت تتمتع بمقاعد في “المجلس الدائم”، قد تم شطبه بكل بساطة. فقد كانت عضوية مجلس التخطيط والتنظيم الاقتصادي مقتصرة على الموظفين الحكوميين حصرياً.
لم يكن توجه الدولة المصرية الأنف الذكر عشوائياً أو بلا أسباب وجيهة. فأولاً وقبل كل شيء كانت هنالك الملاحظة البادية للعيان وهي أن القطاع الخاص لم يشارك فعلياً في المبادرة الحكومية لتصنيع البلاد. وبالرغم من كل الإعفاءات الضريبية، والحماية الجمركية، والقروض قليلة الفائدة، وبقية التسهيلات التي قدمتها الدولة للقطاع الخاص، فإنه قام ببساطة بتحويل المدخرات إلى الاستثمار في القطاعات الأكثر ربحيةً في الاقتصاد مثل تشييد المنازل. مثلاً، إجمالي الاستثمار في البناء ارتفع من 40 مليون جنيهاً عام 1954 إلى 59 مليوناً عام 1959. وكانت الأرباح المرتفعة في قطاع تشييد المنازل أمراً طبيعياً مع ازدياد الطلب عليها بسبب النمو الإنفجاري للسكان وانتقال سكان الأرياف إلى المدن. وقد تجاوبت الدولة مع زيادة الطلب بتسهيل ترخيص تشييد المنازل وتخفيض الإيجارات لكل المنازل المشيدة بعد عام 1952 بنسبة 20%.
أرادت الدولة الناصرية أن تصنّع مصر، فبحثت عن كل المصادر الممكنة للمدخرات لتمويل حملة التصنيع التي تقودها. لكن المدخرات الخاصة لعامة المصريين كانت قليلة بسبب انخفاض مستوى الدخل، وكانت هناك صعوبات إدارية جمة في تنظيم الجباية الضريبية من عددٍ هائلٍ من المشاريع الخاصة الصغيرة أو العشوائية والمرتجلة لعامة المواطنين. لذلك، بقي مصدرٌ وحيدٌ ممكن للمدخرات المعتبرة وهو مدخرات رجال نقابة الصناعة الذين كانوا يملكون، على قلتهم كنسبة من عدد السكان، نصف مدخرات مصر، وللحفاظ على تلك المدخرات، تم سن قانون يحظر توزيع أرباح من الشركات المساهمة في أي عام تزيد عشرة بالمئة عما تم توزيعه في العام السابق.
قام “التنظيم الاقتصادي” بتعبئة كل المشاريع الصناعية والتجارية العامة تحت قيادته، بالإضافة للشركات المشكلة برأس مال مختلط عام-خاص، وكان “بنك مصر” القلعة الرأسمالية الأخرى التي كان على الدولة أن تخضعها لإنجاز خططها. أما بالنسبة للزراعة، فقد وضعت تحت تنظيمات إدارية تزيد من دور التعاونيات ودور الدولة في العلاقة مع الفلاحين، ومن ذلك تقديم القروض، مما أضعف بشكل حاد دور وتأثير المرابين، دون أن يتم اجتثاثهم تماماً.
تضخمت مهمات الدولة الاقتصادية وتضاعفت أضعافاً خلال تلك العملية. ففي عام 1955/1956، كانت حصة القطاع العام من الاستثمار الصناعي قد بلغت 7،9 مليون جنيه بينما كانت حصة القطاع الخاص 41،3 مليوناً. وفي عام 1958/1959، ارتفعت حصة القطاع العام في الاستثمار الصناعي إلى 17،4 مليون جنيه، بينما انخفضت حصة القطاع الخاص إلى 30،4 مليون جنيه. ومع عام 1959/1960، استثمر القطاع العام 49،4 مليون جنيه في الصناعة، أما القطاع الخاص فلم يستثمر فيها شيئاً!
وقاد عاملان آخران لتضخم حجم القطاع العام:
- المساعدة الخارجية، بخاصةً من الاتحاد السوفييتي السابق، التي كانت تمرر وتنفق عبر القطاع العام أساساً. وقد بلغت المساعدات الأجنبية والعربية حوالي 7% من الناتج الوطني الإجمالي في بعض سنوات الثورة،
- الحاجة للمزيد من العسكرة في الاقتصاد لمواجهة التهديدات الخارجية الصهيونية والغربية على نطاق عربي. ويقال أن حرب السويس، وما نتج عنها من عجزٍ في بعض السلع المستوردة من الخارج (ومنها بريطانيا وفرنسا)، كانت العامل الأساسي وراء بلورة قناعة القادة المصريين بضرورة التصنيع سريعاً. لكن التصنيع سريعاً لم يكن الاتجاه الطبيعي لنظام السوق الحرة في مصر آنذاك. لذا، تحول الاتجاه الطبيعي للسوق إلى خطرٍ طبيعي في دولة تسعى لتحقيق الاستقلال الوطني.
كان الصراع المرتبط بتشييد السد العالي أحد أهم الأحداث الاقتصادية في تلك الفترة. لكن الحدث الآخر الذي لا يقل عنه أهميةً هو وضع أول خطة خمسية لتنمية الاقتصاد المصري. وقد تركت تلك الخطة حيزاً كبيراً للقطاع الخاص في ما كان يفترض أن يصبح التنمية الاقتصادية القادمة. مثلاً، كان يفترض بالقطاع الخاص، بحسب الخطة الخمسية الأولى، أن يبادر بـ60% من الاستثمار في قطاع الإنشاءات، و25% من الاستثمار في قطاع الصناعة، وأن يسهم بـ80% من النمو في الناتج الإجمالي. لذا، مثل تقاعس القطاع الخاص عن لعب دوره المحدد في الخطة الخمسية سبباً رئيسياً في شلها عملياً.
لكن كانت هنالك مشكلة كبيرة. فالقطاع الخاص لم تتم استشارته جدياً في الخطة التي كان يفترض أن يشارك في تنفيذها. وفي اقتصاد مختلط، في دولة عالم ثالث، يمكن للتعاون بين القطاعين العام والخاص أن يكون مستحيلاً في التطبيق، إن لم يكن لشيء فلصعوبة توفيق مصالح البرجوازية والمصلحة العامة، وذلك لأن البرجوازية تكره طبيعياً أية قيود على مساعيها لتحقيق أعلى الأرباح بأسرع وقت، التي قد تجدها في قطاعات اقتصادية ليست بالضرورة القطاعات الأهم من المنظور الاستراتيجي للمصلحة العامة على المدى الطويل.
فماذا كان تأثير الإجراءات الحكومية المصرية في تلك المرحلة على الاقتصاد والرأسمالية في مصر؟
- التركيز على الصناعة أتى أكله، إذ نما القطاع الصناعي 7% بين عامي 1955 و1959، ونمت الزراعة 4،2% خلال الفترة نفسها، أما استيراد السلع المصنعة فانخفض من 26% إلى 12% من إجمالي السلع المستوردة، وازداد استيراد المواد الخام الصناعية والسلع الوسيطة والآلات خلال تلك الفترة من 24% إلى 40% من مجموع الواردات. وحدث العكس مع الصادرات إذ ازداد تصدير السلع المصنعة خلال تلك الفترة ،
- ارتفع مستوى المعيشة مع ازدياد الاستهلاك الحقيقي (المحسوب بالأسعار الثابتة) ما بين 15-20% بين عامي 1954 و1960،
- لكن مع مجيء العام 1960 لم تتجاوز حصة القطاع العام من الناتج الوطني الإجمالي 18%. وهذا يعني أن البرجوازية كانت لا تزال تملك الأصول في الصناعة الخفيفة والخدمات والمنازل، لكن قدرة البرجوازية على التحكم بالأصول التي تملكها كانت قد تقلصت مع سن المزيد الإجراءات التنظيمية التي تنظم إدارة وحركة رأس المال. وقد قادت تلك الإجراءات، مع ازدياد حجم القطاع العام، إلى تدهور السلطة السياسية والاقتصادية للبرجوازية المصرية. وخلال تلك السنوات كان يفترض بتلك البرجوازية أن تشارك في تطبيق خطة اقتصادية تثير حنقها.
خلقت تلك الظروف حالة رعب لدى البرجوازية المصرية، وكان رد الفعل النموذجي لطبقة لم تعد قادرة على حماية نظامها بالقوة أو بالقانون هو نفسه رد فعل أي طريدة ضعيفة: أن تركض، وأن تستمر بالركض. وهكذا بدأ رأسماليون كثيرون يهربون أموالهم خارج مصر بصورة غير قانونية.
ج – مرحلة الاشتراكية: 1960-1967
في خضم مرحلة الوحدة المصرية-السورية، بدأت سلسلة من عمليات التأميم في تموز عام 1960 لم تنته حتى أعماق سنة 1964. وفي أواسط الستينيات كان القطاع العام المصري يسيطر على القطاعات الاقتصادية التالية: كل البنوك والتأمين، كل التجارة الخارجية، كل الصناعات الاستراتيجية، وبشكل عام كل الصناعات الثقيلة والمتوسطة، وكل مصانع النسيج وتكرير السكر وتصنيع الغذاء، ومعظم وسائل النقل البحرية وكل وسائل النقل الجوية، وكل المنافع العامة ووسائل النقل المدنية (ما عدا سيارات الأجرة)، بعض باصات النقل بين المحافظات، وبعض المساكن، وجزءاً من تجارة التجزئة في المدن، والمتاجر الأساسية والفنادق ودور السينما والمسارح، وكل الصحف ودور النشر والحقوق الحصرية لاستيراد وتوزيع المواد المطبوعة، وكل الأراضي المستصلحة، وجزء من الأراضي المصادرة في الإصلاح الزراعي، وقنوات الري والتجفيف الرئيسية، والإقراض الزراعي والمدخلات الزراعية الأساسية مثل الأسمدة والبذار المسجلة والمبيدات، وكل شركات الإنشاءات الرئيسية، وبعض الأصول الكبيرة للبنية التحتية مثل السد العالي وغيره ومثل قناة السويس، وكل المرافئ والمطارات وخدماتها.
فكيف تضخم القطاع العام بهذا الشكل؟ وكيف بدأت المرحلة الثالثة من العلاقة بين النظام الناصري والبرجوازية المصرية؟
أولاً، بدأ المسؤولون الحكوميون يظهرون حججاً أيديولوجية لتأميم رأس المال المصري، كان معظمها مستعاراً ومعدلاً من الفكر الاشتراكي التقليدي. وفي عام 1962، ظهر “الميثاق القومي”، وكان منطقه السياسي الأساسي أن الهوة الكبيرة بين الغني والفقير يمكن أن تحفز حرباً أهلية قد تدمر الوحدة الوطنية، فلا بد من ردم تلك الهوة بتحويل كل المواطنين إلى ملاكين ليحل الصراع الطبقي سلمياً من خلال الاشتراكية، لكن، ليس الاشتراكية الماركسية. وكان من الحجج التي استخدمت أيضاً لتبرير عمليات التأميم أن الرأسماليين استغلوا السياسة العامة الهادفة لتشجيع التصنيع، مثل الاعفاءات الضريبية والحماية الجمركية، ليجنوا أرباحاً غير عادية من المستهلكين في غياب المنافسة الأجنبية.
ثانياً، على الصعيد الاقتصادي، تم اعتبار مؤسسات القطاع الخاص غير فعالة أو غير مجدية على مستويين: 1) أنها تفضل استخدام رؤوس الأموال الشحيحة في نشاطات غير منتجة، مثل المضاربات العقارية والتجارية والمالية، إذا كانت الأرباح المتأتية منها عالية بما فيه الكفاية، 2) أنها تفضل استخدام رؤوس الأموال الشحيحة في ميادين اقتصادية أقل أهمية، مثل الخدمات، على ميادين أكثر أهمية، مثل الصناعة، حيث الفائدة الاجتماعية أعلى والأرباح مؤجلة. بالنسبة لبلدٍ جعل من التصنيع أولويته الاقتصادية الأولى، فإن مثل تلك الممارسات لا يمكن تحملها. وهكذا تم تأميم معظم المنشآت المختلطة المملوكة جزئياً للدولة ما بين عامي 1962 و1964 تحت حججٍ تنموية الطابع.
ثالثاً، جاء انقلاب عبد الكريم النحلاوي في سورية عام 1961 الذي أنهى الوحدة المصرية-السورية ليوجد سبباً آخر للتأميم، فالتحالف بين القطاع التجاري وبعض ضباط الجيش في سورية كان خلف ذلك الانقلاب، مما أنذر جمال عبد الناصر للإمكانات الكامنة للبرجوازية المصرية، وبما أن أفضل دفاع هو الهجوم، فقد أمم القواعد الاقتصادية لنفوذ البرجوازية لكي ينزع منها القدرة على الانقلاب عليه، تماماً كما فعل محمد علي باشا الكبير مع الأوقاف وكبار المماليك عندما صادر أملاكهم.
تؤخذ العوامل الثلاثة أعلاه مجتمعة لا منفردة، لأن العلاقات الجدلية فيما بينها تكتسب قوة زخم خاصة بها. فكلٌ من تلك العوامل يعزز الآخر. فالتصنيع بات يعتبر غير ممكن إلا من خلال السيطرة على آلية عمل الاقتصاد، والسيطرة على آلية عمل الاقتصاد باتت تعني تنظيمه من قبل الدولة وتأميمه. لكن تدخل الدولة في الاقتصاد وتأميمه بات ينظر إليه برعبٍ من قبل الرأسماليين داخل مصر وخارجها، وقادهم ذلك إلى مواجهات صريحة ومستترة مع جمال عبد الناصر، فلم يكن هناك مفر من تقويض نفوذهم السياسي المستند إلى نفوذهم الاقتصادي، ومن هنا البعد السياسي لمصادرة أملاكهم، وهكذا.
شهدت بداية الستينيات أيضاً حركة إصلاح زراعي جديدة أكثر عمقاً من تلك التي وقعت في بداية عهد الثورة، فتم تحديد قطع الأرض المسموح بامتلاكها بمئة فدان للفرد الواحد، وخسر 7300 ملاك أراضيهم في إصلاح عام 1961. فضلاً عن ذلك، ازدادت سلطة الدولة على الفلاحين مع تحولها إلى مدير للتعاونيات الزراعية والإنتاج.
سنت سلسلة من التشريعات الاجتماعية في تلك الفترة ذات الطابع الاشتراكي. فقانون الإيجارات لعام 1962 قرر أنها لا يجوز أن تتجاوز 5% من سعر الأرض وكلفة تشييد المبنى (وليس سعره) زائد 3% للصيانة. وفي عام 1961 تم تخفيض ساعات العمل الاسبوعية إلى 42 من دون أي تخفيض في الرواتب. ومع مجيء عام 1962، بات على كل المنشآت الكبيرة، العامة والخاصة، أن توزع 25% من أرباحها الصافية على عمالها وموظفيها بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي عام 1963، بات على كل الشركات الكبيرة أن تعيد تشكيل نفسها للسماح بتمثيل أربعة مندوبين عن عمالها وموظفيها في مجلس إدارتها عن طريق الانتخاب.
أما بالنسبة للاقتصاد ككل، فقد شهدت تلك الفترة واحدة من أكبر حالات التوسع الاقتصادي التي شهدتها مصر في تاريخها. وفي الفترة الواقعة بين عامي 1960 و1965 نما الانتاج الصناعي بمعدل 8،5% سنوياً، ونما الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 6% سنوياً، وارتفع متوسط الدخل الفردي الحقيقي، أي بعد أخذ التضخم بعين الاعتبار، بمعدل 3،2 % في فترة 1964-1965.
بالنسبة للإنتاج الصناعي، لو أخذنا الفترة الواقعة بين عامي 1952 و1962 مثالاً، ارتفع إنتاج الفوسفات 30% وإنتاج المنغنيز 90% والنسيج 120% وحلج القطن 250% والسكر 100% والإسمنت 150%.
فماذا فعلت البرجوازية المصرية في مواجهة موجة التأميم الكاسحة؟ لا شيء تقريباً، لأنها لم تكن تقدر أن تفعل شيئاً. فالتأييد الشعبي، والجيش، والشرطة، والإعلام، كانوا جميعاً بأيدي الثورة الناصرية، لا بأيدي الرأسماليين.
بيد أن ذلك لا يعني أن البرجوازية المصرية لم تفعل شيئاً على الإطلاق. إذ نقرأ عن مواجهة وقعت في عام 1960، قبل موجة التأميمات، عندما لم تعجب الخطة الخمسية إدارة “بنك مصر” ودور البنك فيها، فهددت بالإعلان عن مناقصة لبيع كل أسهم البنك وسنداته، أي بتصفيته فعلياً، وهو ما كان يعني انهياراً في جزء أساسي من الاقتصاد بالنظر للدور الكبير الذي تلعبه الشركات التي يملكها “بنك مصر” فيه. فما كان من الدولة المصرية إلا أن استخدمت ذلك التهديد الحقيقي كحجةٍ لتأميم البنك وما يملكه.
ثالثاً – طبيعة النظام الاقتصادي الناصري وأثره على توزيع الدخل والتنمية في مصر
عندما استلم الضباط الأحرار الحكم عام 1952، كانت مصر في قبضة منحنى انكماشيٍ للدورة الاقتصادية. وكانت الصناعة المصرية قد وقعت في فخٍ محكمٍ وجدت نفسها فيه ما بين نارين. فمن جهة، كان عليها أن تأخذ كلفة المدخلات التي تستخدمها مثل المواد الخام والشحن واليد العاملة الفنية النادرة كما هي، دون أي قدرة على التأثير على سعرها. لذلك كانت منتجاتها أعلى سعراً، على أساس تبادلي، من المنتجات الزراعية، بخاصةً بعد الحماية الجمركية الجزئية التي نالتها عام 1930. وكان ذلك يعني أن الصناعة المصرية لم تكن تستطيع التوسع عن طريق توسع الطلب الداخلي بما أن أغلبية السكان كانت قوتهم الشرائية ضعيفة بسبب اعتمادهم على بيع المنتجات الزراعية رخيصة الثمن. وقد تفاقمت هذه المشكلة مع انخفاض السعر العالمي لصادرات مصر الأساسية وهي القطن. من جهة أخرى، لم تستوعب الأسواق العربية والأجنبية أكثر من 10% من الصادرات الصناعية المصرية لأن أسعارها لم تكن تنافسية بما فيه الكفاية. لذا فإن توسع الصناعة عن طريق التجارة الخارجية لم يكن متاحاً أيضاً.
الزراعة المصرية، من ناحية أخرى، كانت قد استنفذت إمكانات توسعها عبر القرون إلى درجة جعلت أي انتباه استثنائي يوجه إليها غير مجدي اقتصادياً. فمساحة الأراضي المزروعة ارتفعت 74% ما بين عامي 1820 و1914، ومع العام 1944 كانت تلك المساحة قد ازدادت مجدداً بنسبة 44%. وكانت الإنتاجية في الزراعة قد ارتفعت بفعل استخدام وسائل أفضل في الزراعة والري… ومع مجيء العام 1950، لم يكن من الممكن أن يقال أن الزراعة المصرية تحتاج إلى تنمية. بتعبير آخر: مع أن الزراعة كانت تحتاج لتحسينات في تنظيمها الاجتماعي وفي التكنولوجيا التي تستخدمها، فإنها لم تكن القطاع الذي يمتلك القوة الكامنة لانتشال مصر من ركودها النسبي.
أما الخدمات فهي غير قادرة بطبيعتها على استيعاب قوة عاملة متزايدة باضطراد لشعبٍ تتزايد أعداده بسرعة. كما أنها شديدة الحساسية للكثير من العوامل غير المسيطر عليها. فالسياحة والتجارة لا يستطيعان وحدهما أن يكونا أساساً لاقتصاد قوي معافى في بلدٍ محتاجٍ ويسعى للتقدم كقضية حياة أو موت. لذا كان لا بد من التأكيد على الصناعة، وطريق التصنيع كان لا بد من طرقه.
اعتقد جمال عبد الناصر في البداية أن الصناعة المصرية يمكن أن تقف على قدميها من خلال حل مشكلة الضرائب والقروض والجمرك، لكن تلك الفكرة اصطدمت بمعدلات أرباح أعلى، وأسرع، في قطاعات الاقتصاد غير الصناعية، وعلى رأسها تشييد المنازل. فكان الحل الوحيد لتلك المعضلة هو أخذ المدخرات الوطنية ووضعها بيد الدولة لتوجيهها نحو مسارات مخالفة لاتجاه السوق، نحو الصناعة، ومن هنا جاء التأميم واسع النطاق وتقييد عمل القطاع الخاص بالقوانين والتشريعات. وقد نجحت تلك الطريقة إلى حدٍ بعيد، فارتفعت معدلات نمو الإنتاج الصناعي، وتم تدشين عهد الصناعة الثقيلة المصرية، كما يثبت تكوين الصادرات والواردات خلال الستينيات.
لا شك أن التصنيع عبر التخطيط الاشتراكي حقق نتائج أكبر بكثير مما يمكن أن تحققه أي سوق حرة في مصر، غير أن التصنيع عبر القطاع العام وتدخل الدولة، رغم التقدم الكبير الذي حققه، فإنه لم يكن ناجحاً بتحقيق الهدف تماماً، على الأقل في الفترة الزمنية التي تم تبني تلك الاستراتيجية فيها. فحتى عام 1965، شكلت الصناعة مثلاً 22،4% من الدخل القومي. وكان يمكن لمشروع التصنيع الناصري أن يتخذ أبعاداً أكبر بكثير لو قيض له أن يتم في سياق عربي، أي ضمن سوق عربية مشتركة، لأن الصناعة الثقيلة تعتمد على اقتصاديات الحجم التي لا يمكن تحقيقها إلا في الأسواق الكبيرة بالتعريف. فلا نهضة في أي قطر عربي من دون مشروع قومي.
كان للنظام الناصري إنجازات اقتصادية لا يمكن إنكارها من قبل أي باحث محايد، وكان منها السد العالي، تطوير بنية الصناعة المصرية بعمق، تأسيس الصناعة العسكرية، وغيرها، وهي إنجازات لا يمكن فصلها عن الإجراءات الاقتصادية التي تبنتها ثورة 23 يوليو. غير أنه من غير المنصف أن يقال أن كل تلك الإجراءات الاقتصادية جاءت حصرياً لتحقيق التصنيع، لأن قسماً منها، ومن دوافعها، انطلق اجتماعياً من التحيز الاشتراكي للنظام الناصري.
لكن، كما سبق، لم تكن اشتراكية عبد الناصر اشتراكية شيوعية، ومن المفيد التذكر هنا أن ثورة 23 يوليو اعترفت بالملكية الخاصة في الزراعة والصناعة والخدمات ما دامت ليست كبيرة إلى حدٍ يعطيها قوةً احتكارية في السوق. لا بل أن القطاع الخاص (الصغير والمتوسط) ظل يسيطر على إنتاج عدة قطاعات اقتصادية، ومنها الصناعة، حتى في خضم موجة التأميمات الكبرى، وأن القطاع الخاص غير الاحتكاري شهد ازدهاراً كبيراً في ظل المشروع الاقتصادي لثورة 23 يوليو، كما يظهر الجدول التالي:
إنتاج المؤسسات العامة والخاصة في قطاعات الاقتصاد المصري المختلفة بين عامي 1953 و1963 (الأرقام بملايين الجنيهات) | ||||
القطاع | انتاج المؤسسات العامة عام 1953 | انتاج المؤسسات الخاصة عام 1953 | انتاج المؤسسات العامة عام 1963 | إنتاج المؤسسات الخاصة عام 1953 |
الزراعة | —- | 273،8 | 28،5 | 440،7 |
الصناعة والكهرباء | 1،4 | 74،3 | 167،7 | 208،7 |
النقل | 16،6 | 55،0 | 92،9 | 30،7 |
التمويل | —- | 20،8 | 30،8 | —- |
التجارة | —- | 129،4 | 30،5 | 116،0 |
المنازل | —- | 57،7 | —- | 78،0 |
التشييد | —- | 20،3 | 210،0 | 70،0 |
الإدارة العامة | 110،0 | —- | 184،0 | —- |
قطاعات أخرى | —- | 106،3 | 3،9 | 1،307 |
المجموع | 128،0 | 736،6 | 559،3 | 1074،5 |
هكذا نرى أن حصة الدولة من الناتج الإجمالي المصري لم تتجاوز 35% عام 1963، وهي النسبة التي بلغتها حصة الدولة من الناتج القومي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1985 مثلاً. والفرق هو هيمنة البنوك والشركات الكبرى على القطاع الخاص (والعام؟) في الولايات المتحدة، وأن القطاع الخاص في مصر الناصرية لم يتسم بوجود كتل كبرى، لأنه كان يتشكل من مؤسسات صغيرة ومتوسطة الحجم، وأن القطاع العام في مصر كان يدير القطاع الخاص إلى حدٍ ما من خلال القوانين والتشريعات. بالرغم من ذلك، لا تجعل القوانين والتشريعات أي دولة، بحد ذاتها، اشتراكية، بل تجعلها دولة متدخلة فحسب. وقد بقي الأفراد والشركات يملكون معظم الأراضي والعقارات والقوى الإنتاجية في مصر في ظل الثورة، من دون امتلاك قوة احتكارية.
فماذا عن تأثير التشريعات الاجتماعية في أوائل الستينيات، والموجة الثانية من الإصلاح الزراعي في مصر؟
أولاً، لا شك أن الإصلاح الزراعي حسّن حياة الكثير من الفلاحين، غير أن فجوات كبيرة استمرت بين كبار وصغار الفلاحين. فقد امتلك 6946 شخصاً حصصاً يتراوح حجمها ما بين 50 إلى 100 فدان لكلٍ منهم، فيما امتلك 2164520 شخصاً أقل من فدان واحد لكلٍ منهم، وامتلك 761413 شخصاً ما بين فدانين وخمسة فدادين لكلٍ منهم، وامتلك 23301 شخصاً ما بين 20 إلى 50 فداناً لكلٍ منهم.
ثانياً، على الرغم من القانون الذي يفرض توزيع 25% من الأرباح الصافية لكل مؤسسة لعمالها وموظفيها بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن العمال الذين كانوا يعملون في المنشآت الكبيرة التي ينطبق عليها مثل ذلك القانون لم تشكل أكثر من 6% من القوة العاملة. كما أن توزيع الأرباح اعتمد على الراتب الأساسي للموظف، مما يعني أن الحصة من الأرباح تزيد كلما ازداد ذلك الراتب، مما يمثل تحيزاً لمصلحة الإدارة والعمالة الماهرة في توزيع الأرباح. لكن العمال عامة استفادوا بالتأكيد من تحديد حد أدنى للأجور وساعات العمل الأسبوعية والضمان الاجتماعي..
ثالثاً، على الرغم من أن إيجارات المنازل المشيدة بعد عام 1952 تم تخفيضها 20%، فإن الإيجارات كان قد تم تخفيضها مرتين قبل ذلك، والكمية الإجمالية لرأس المال التي انتقلت من الأغنياء للفقراء من جراء تطبيق هذا القانون لم تكن كبيرة بحد ذاتها. كذلك نص القانون رقم 168 لعام 1961 على أن من يدفعون إيجارات أعلى سوف يتلقون تعويضات أكبر من الدولة، مما يمثل تحيزاً لأصحاب المنازل الأكبر حجماً أو المناطق الأعلى إيجاراً فعلياً، دون إنكار استفادة الكثير من العائلات من سياسة تخفيض الإيجارات وتسهيل تشييد المنازل.
رابعاً، توفير التعليم مجاناً بكل مراحله، والطبابة المجانية، ترك آثاراً إيجابيةً محسوسةً على كل شرائح المجتمع، المصري والعربي، بعد تحرير التعليم والعلاج من سيطرة القطاع الخاص.
خامساً، كانت ظروف العمال الزراعيين الذين يشكلون 40% من القوة العاملة في الريف بالغة السوء، أساساً لأن قانون الحد الأدنى للأجور تم تجاهله في المناطق الريفية. كذلك نشأ تحالف غير معلن بين بعض الموظفين الحكوميين في الريف والفلاحين الأغنياء، وذلك لأن الموظفين الحكوميين القائمين على التعاونيات الزراعية لم يكونوا مسؤولين إزاء عامة الفلاحين أو السكان الريفيين، بل إزاء الموظفين الذين يعلونهم مرتبةً في الدولة، مما فتح باباً للفساد.
يمكن أن نقول، بناء على كل ما سبق، أن الثورة قامت على أساس تحالف عضوي ما بين الجيش والطبقة الوسطى (البرجوازية الصغيرة). فقد كان الجيش هو الأكثر قوةً وتنظيماً في بلدٍ نامٍ مثل مصر. وعندما تراكمت الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في البلاد، وعندما تكاثفت تلك التراكمات وبدأت تفرز تغييراً جذرياً على شكل ثورة، كانت الطبقة الوسطى القطاع الأكبر في الهرم الاجتماعي. فقد كان العمال، الذين يعيشون من بيع قوة عملهم فحسب، لا يزيدون عن 10% من مجموع السكان، وهذه النسبة تبقى أقلية حتى لو أضفنا عائلاتهم لتلك العشرة بالمئة. أما القسم الأكبر من العمال الزراعيين فقد كانوا يملكون قطع أرض صغيرة أو صغيرة جداً. في تلك الفترة أيضاً كانت هناك انقسامات في صفوف البرجوازيين الكبار وملاك الأراضي الإقطاعيين، وكانت البرجوازية الكبيرة تفتقد لقاعدة سياسية قوية بما فيه الكفاية في المجتمع المصري لتعادل نفوذ ووزن الجيش المصري والطبقة الوسطى التي كان يمثلها في ظل الثورة. لذلك، كان الجيش هو الأكثر تأهيلاً للتقدم في الميدان السياسي لقلب الحالة القديمة رأساً على عقب.
الانقلاب/ الثورة الذي وقع في 23 يوليو عام 1952 بدأ أقرب إلى اليمين ثم أصبح أقرب إلى اليسار حتى عام 1967. وبعد عام 1967، عاد للانجراف تدريجياً إلى اليمين. لكن مصالح الطبقة الوسطى، أي أغلبية السكان، ظلت في كل سنوات الثورة في المقام الأعلى من الاولويات عند النظام الناصري، مقارنة بمصالح الطبقات الأخرى. فمن الإصلاح الزراعي إلى تأميم المنشآت الخاصة الكبيرة، كانت الطبقة التي استفادت أكثر من غيرها من إجراءات النظام الناصري هي الطبقة الوسطى البرجوازية الصغيرة. ولم تكن أيديولوجية “الاشتراكية العربية” التي تم تبنيها رسمياً من قبل الدولة أكثر من أيديولوجية الطبقة الوسطى التي تدعو للعدالة الاجتماعية وتؤمن أن تحقيقها ممكن فقط من خلال تطبيق إجراءات حكومية تحد من الملكية الخاصة الكبيرة وتعزز أشكال الملكية الصغيرة والمتوسطة وتحميها.
كانت إحدى عواقب حكم الطبقة الوسطى بعد ذلك نشوء جهاز دولة كبير يسيطر على “القمم العليا للاقتصاد” بحسب تعبير لينين، وينظم ويدير بقية الاقتصاد الخاص. وقد كان نشوء مثل ذلك الجهاز ضرورياً للسببين التاليين:
أولاً، الحاجة لمؤسسات كبيرة الحجم يمكن أن تتولى دور المؤسسات الخاصة الكبيرة التي تم تفكيكها، خصوصاً في مجال الاستثمار. غير أن تلك المؤسسات الجديدة كان عليها أن تختلف عن القديمة في أنها: أ – توجه الاستثمار نحو التصنيع، المخرج الوحيد للاقتصاد من الكارثة والكساد، ب – لا تدخل في منافسة مع بعضها البعض، كما تفعل مؤسسات القطاع الخاص في الدول الرأسمالية، أو مع المؤسسات الخاصة المتوسطة والصغيرة.
ثانياً، الحاجة لتدمير قواعد القوة الاقتصادية للإقطاع والبرجوازية الكبيرة، والحاجة المضادة في الاتجاه والمتساوية في القوة لبناء قاعدة قوة اقتصادية صلبة لدولة الطبقة الوسطى التي تمثل أغلبية السكان. وكان ذلك ضرورياً من أجل إخضاع كل الطبقات الأخرى في المجتمع لحكم دولة الطبقة الوسطى. صحيحٌ أن جهاز الدولة المصرية دخل عملياً منافسةً مع أصحاب الدكاكين الصغيرة، الذين يمثلون شريحة من الطبقة الوسطى طبقياً، عندما أسس المخازن الكبرى والتعاونيات الاستهلاكية من أجل محاربة ارتفاع الأسعار والاستغلال، غير أن هذا الإجراء لم يطبق بصورة مكثفة وموسعة إلى درجة تشكل خطراً حقيقياً على الدكاكين الصغيرة. فقد كان إجراءً جزئياً ضرورياً لضمان استقرار المجتمع والحكم ككل، أي أنه كان إجراءً أبوياً لحماية حكم الطبقة الوسطى من مخاطر تجاوزات أحد أجنحتها، ولم يكن يهدف، ولم يؤدي، للقضاء على أصحاب المتاجر الصغيرة. بالمقابل، كانت كل الإجراءات الأخرى التي اتخذتها الثورة موجهةً لتحسين ظروف الطبقة الوسطى، وقد نتجت عنها بالفعل زيادةٌ كبيرةٌ في حجمها، فقد كانت تنتج مجتمعاً على صورتها.
غير أن أحد المنتجات الفرعية لنمو حجم ودور الدولة المصرية في ظل الثورة الناصرية كان نمو حجم ووزن بيروقراطية الدولة، وكانت تلك نتيجة لا مفر منها لسببين: أولاً، سيطرة القطاع العام على العديد من المهمات الاقتصادية والإدارية التي كانت سابقاً بعهدة القطاع الخاص، ثانياً، الحاجة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الخريجين العاطلين عن العمل الذين ولدتهم السياسات التعليمية الديموقراطية للنظام الجديد، وولدهم الانفجار السكاني، وعدم قدرة الاقتصاد على خلق ما يكفي من الوظائف لكل القادرين على العمل.
لكن الزيادة غير المسيطر عليها في أعداد الموظفين العاملين في القطاع العام لم تكن بلا آثارٍ سلبية. فأولئك الموظفون العموميون كانوا يتلقون رواتب لا تكاد تفي بحاجاتهم الحياتية الأساسية لأن موازنات المؤسسات العامة لم تكن كبيرةً بما فيه الكفاية لاستيعابهم جميعاً. لذلك لجأ الموظفون في كثيرٍ من الحالات لاستغلال مواقعهم الوظيفية العامة لاستخلاص مصادر إضافية (غير قانونية) للدخل. فأصبحوا بذلك فريسةً سهلة لأعداء الثورة الناصرية من خلال الرشاوى التي راحت تنخر المؤسسات لتخلق تدريجياً ثقافة فساد أسست عملياً لما جاء بعد جمال عبد الناصر. وفي بعض المدن الكبرى راحت بعض السلع الاستهلاكية الضرورية “تختفي” من الأسواق والمخازن خالقة عجوزات مفتعلة سمحت بإعادة ظهور تلك السلع “المختفية” في الأسواق السوداء بأسعار أعلى بكثير. وتمكن بعض الموظفين العموميين القائمين على توزيع المنتجات من بناء ثروات هائلة من تلك السلع “المختفية”، وكذلك فعل بعض المسؤولين الفاسدين في قطاعات أخرى من الاقتصاد. وكان أولئك الموظفون الفاسدون مسؤولين جزئياً، فيما بعد، عن ظهور وهيمنة ظاهرة الرأسمالية الطفيلية في ظل أنور السادات، وعن وصولها للحكم وتغيير القوانين الاشتراكية عندما أرادت أن تستثمر ثرواتها الفاسدة بشكلٍ قانوني. لذلك يمكن أن نقول أن الطبقة الوسطى التي دمرت الطبقة البرجوازية الكبيرة في ظل الثورة الناصرية لم تتمكن من إنتاج تغيير جذري بما فيه الكفاية، وأن تبني نظاماً قادراً على أن يحميها من إنقلاب أنور السادات عليها وعلى النظام الناصري من الداخل، بالتعاون مع اصحاب الثروات الفاسدة والرجعية العربية، فتعرضت هي للسحق. لقد حقق حكم الطبقة الوسطى في مصر تقدماً اقتصادياً وسياسياً كبيرين، لكنه كان حكماً ارتبط بهيمنة البيروقراط، بعيداً عن الرقابة والمشاركة الشعبية والقيادة الحزبية، فاعتمدت عملياً على فرد. لقد خلقت الثورة الناصرية نهضة سياسية واقتصادية واجتماعية رائعة، لكنها ظلت غير مكتملة، وعرضة للانتكاس، من الجهاز البيروقراطي نفسه الذي أنتجته لتحكم.
على الرغم من ذلك من الضروري التأكيد هنا أن وصول البرجوازية الصغيرة للحكم في مصر لم يأتِ على حساب ثورة أخرى “بروليتارية” أو عمالية-فلاحية مثلاً. فقد كان وصول الطبقة الوسطى للحكم التطور المنطقي التالي الوحيد من وجهة النظر التاريخية، أولاً، لأن ميزان القوى الاجتماعي منح ميزة التفوق العددي والسياسي للبرجوازية الصغيرة وأيديولوجيتها الهلامية والمتأرجحة من خلال الجيش، ثانياً، لأن ذلك كان العاقبة الطبيعية لمستوى التطور الاقتصادي-الاجتماعي في مصر آنذاك: فالاقتصاد المصري لم يكن مصنّعاً بما فيه الكفاية لينتج طبقة عاملة صناعية كبيرة، ولينتج لازمتها التاريخية: الوعي الطبقي، ولم تكن المنظمات السياسية التي تتبنى ما تعتبره “أيديولوجية الطبقة العاملة” مكتملة النمو أو واسعة الانتشار، ولم تكن القاعدة الاقتصادية والسياسة لذلك الجزء الفسيفسائي من البرجوازية الكبيرة التي يمكن اعتبارها وطنية قد نمت بما فيه الكفاية لتتمخض عن ثورة “ديموقراطية” بالمعني الماركسي للتعبير.
في الخلاصة، كانت الثورة الناصرية في مصر، بالمقارنة مع أي بديل آخر، مسؤولةً عن بعض الإنجازات العملاقة في بنية الصناعة وتطورها، وفي الزراعة، والبنية التحتية (السد العالي نموذجاً)، والإصلاح الزراعي (بالرغم من أي نقائص في طريقة إدارته)، وفي التشريعات الاجتماعية، وفي الحياة السياسية للوطن العربي (مقارعة الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية)، وفي أفريقيا والعالم (دعم حركات التحرر والمشاركة في تأسيس حركة عدم الانحياز). وهذا ليس حكماً أخلاقياً على الثورة، بل محاولة لتحليل معلم تاريخي ظل بالرغم من كل نجاحاته الكبيرة يعاني من مشاكل ونقاط ضعف كثيرة أدت في النهاية لانتكاسه على الرغم من أنه ترك أثراً عميقاً في بنية العقل العربي ما انفك يفعل فعله فينا.
Bibliography:
(Edited by) Abdul-Khalek and Tignor, The Political Economy of Income Distribution in Egypt, Holmes-Meir Publishers, Inc., 1982.
Deutsch, Karl W., “Egypt: A Mixture of Nationalism and Popular Obedience”, (pp. 578-86), in Politics and Government, 3rd ed., Houghton Mifflin Company, 1980.
El-Kammash, Magdi M., Economic Development and Planning in Egypt, Fredrick A. Praeger Publishers, 1968.
Hansen and Marzouk, Development and Economic Policy in the U.A.R (Egypt), North-Holland Publishing Co., 1965.
Issawi, Charles, Egypt at Mid-Century, Oxford University Press, 1954.
Issawi, Charles, Egypt in Revolution, Oxford University Press, 1965.
Marbo, Robert, The Egyptian Economy 1952-72, Clanderon Press, Oxford, 1974.
Marbo and Radwan, The Industrialization of Egypt 1939-1973, Clanderon Press, Oxford, 1976.
Mead, Donald C., Growth and Structural Change in the Egyptian Economy, Richard D. Irwin, Inc., 1967.
O’Brien, Patrick, The Revolution in Egypt’s Economic System, Oxford University Press, 1966.
Waterbury, John, The Egypt of Nasser and Sadat, Princeton University Press, 1983.
المراجع العربية:
د. علي الغريتلي، التاريخ الاقتصادي للثورة، 1952-66، ناشرو المعارف، القاهرة، 1974.
إبراهيم سعد الدين، “المشروع الاجتماعي لثورة يوليو”، في مصر، العروبة، وثورة يوليو، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1982.
من وحي الصراع على القمّة
صالح بدروشي
كتاب الصراع على القمة هو كتاب قيّم من حيث المعلومات والتحاليل التي يقدّمها في حديثه عن مستقبل المنافسة الاقتصادية بين أمريكا واليابان وعن نسق النموّ الاقتصادي في عدة دول، بالإضافة إلى المحتوى الذي أرى من واجب كل مناضل عربي الاطلاع على فحواه لما يقدّمه من مقاربات تجعل القارئ العربي يسأل بحدّة: أين نحن العرب ودولنا واقتصاديينا ممّا يجري في العالم؟ وماذا نفعل أو يجب أن نفعل للبقاء فوق الأرض وتحت الشمس؟ وما معنى النموّ والتنمية بالنسبة لنا ولاقتصادنا؟ لقد اخترت أن أقدّم منه فقرة قيّمة تبيّن خطأ ما يذهب إليه الكثيرون من الصناعيين والمستثمرين والاقتصاديين من أن سياسات التقشف وخفض الأجور وفصل عدد من العمّال هي الطريقة الأنجع لتحسين الأداء والربحية والإنتاجية والمردودية للمشاريع الاستثمارية. وهذا المثال يقارب بين وضع صناعة النسيج في ألمانيا والولايات المتحدة والدول الأوروبية التي تستثمر في مناطق آسيوية وأفريقية منخفضة الأجور ومعدومة الحقوق المعيشية ومرتفعة المخاطرة من حيث حفظ السلامة المهنية. ومؤلف هذا الكتاب هو لستر ثارو أستاذ مادة الاقتصاد بمعهد مساشوستس للتكنولوجيا الأمريكي. وقد قام بترجمته أحمد فؤاد بلبع. ومع أن الكتاب وضع منذ حوالي عقدين إلّا أنه لا يزال يعتبر قيّما ومفيدا بتحليلاته.
“… السعي إلى تخفيض الأجور ليس هو اسم اللعبة:
إن تاريخ صناعة النسيج الأمريكيـة هـو فـي الأسـاس تـاريـخ سـعـى إلـى الأجور المنخفضة. فبعد أن استقرت هذه الصناعة في نيوإنجلند تحركـت إلى الجنوب الشرقي، وبعد ذلك إلى قواعد إنتاج في الخـارج. ولـكـن هـذه القواعد ليست اليوم إلا حلا مؤقتا. فالأمريكيون ليست لهم ميزة تنافسية طويلة الأجل فيما يتعلق بالعمل في العالم الثالث الذي يستـطـيـع أن يـؤدي هذا الدور بصورة أفضل. وإذا كانت المسألة الوحيدة هي الأجور المنخفضة فانه يوجد دائما آخرون أقدر على ممارسة اللعبة، وسيكونون كذلك دائماً. والاتجاهات واضحة: فقد ارتفعت واردات الملابس في الولايات المتحدة من 2 في المائة في عام 1963 إلى 50 في المائة في عام 1988، وضاعفت المصنوعات الأجنبية حصتها في السوق في العقد الماضي. وإذا كانت الأجور الأدنى هي الحل، فإن المؤسسـات الأمـريـكـيـة لا بـد أن تكون أكثر نجاحا من تلك الموجودة في البلدان المتقدمة الأخرى. فقد تمكنت من أن تطور بشكل كامل قواعد للإنتاج في الخارج، كما أن أجور صنـاعـة النسيج الأمريكية في الداخل أدنى كثـيـرا مـن مـثـيـلاتـهـا فـي بـقـيـة الـعـالـم الصناعي. ومع ذلك فإن هذه الصناعة لم تحقق النجـاح الـذي تحـقـق فـي بلدان أخرى عالية الأجر. إن الطريق إلى النجاح ليس الأجور المـنـخـفـضـة. ومـا عـلـى المـرء إلا أن ينظر إلى صناعات النسيج في البلدان الأخرى العالية الأجر ليرى أن شيئا آخر غير الأجور هو موضع الخلاف. فألمانيا، على سبيل المثال، هي أكـبـر مصدّر في العالم للمنسوجات، على الرغم من أن الأجور فيها أعلى بمقدار أربعة دولارات/ساعة من الأجور في الولايات المتحدة. وتوجد الصنـاعـات الناجحة لآلات النسيج – وهي صناعة بلغت مرحلة متقدمة من الانهيار فـي الولايات المتحدة- في سويسرا، ألمانيا، اليابان، وفرنسا. فالمؤسسات في هذه البلدان كانت تقدم المنتجات (تصنع في أنوال تعمل من غير نافورة مـاء أو هواء)، والجودة والمتانة، وفي نهاية الأمر كانت تقدّم الخدمة التي لم يـكـن يقدّمها منتجو الآلات الأمريكيون. وعلى أية حـال فـإن الأوروبـيـون نجـحـوا على الرغم من أنهم واجهوا صعوبات أكثر من تلك التي يواجهها المنتجون الأمريكيون. فنقابات العمال أقوى كثيرا في أوروبا، وتشريعات العمل أكثر تقييدا. وهناك قواعد قانونية متشددة بشأن تسريح العمال وإغلاق المصانع. وبدلا من تصفية الصناعة المحلية أو نقل الإنتاج إلى الخارج، فان الألمان يستثمرون بكثافة في التكنولوجيات الجديدة، وفي الآلات الموفِرة لـلأيـدي العاملة والمصانع الجديدة التي تنتج سـلـعـا ذات جـودة أعـلـى. وقـد ازدادت الاستثمارات لكل مستخدَم إلى أكـثـر مـن الـضـعـف فـيـمـا بـين عـامـي 1980 و1986، كما أن نسبة رأس المال إلى العمل في صناعة النسيج الألمانية أعلى بمقـدار 40 في المائة منها في صنـاعـة الـسـيـارات، وتـكـاد أن تـكـون ضـعـف مثيلتها في مكنات القطع والتشكيل- وهذه نسب لا توجد في الولايات المتحدة. كذلك فإن نجاح الدول الأخرى ليس مرجعه الحماية الحكومية الأفضل. فألمانيا هي أكبر مستورد بالنسبة للمنسوجات والملابس، فهي تستورد أربعة أمثال ما تستورده الولايات المتحدة. ومع ذلك فقد تمكنت ألمانيا بنجاح في الوقت نفسه من تحديث وتطوير قطاع النسيج بـهـا. وقـد قـفـزت إنـتـاجـيـة صناعة النسيج فيها بمقدار 24 في المائة فيما بين عامي 1980 و1986، وارتفعت صادراتها من 11 في المائة من مجموع الناتج في عام 1960 إلى 48 في المائة من الإنتاج بحلول عام 1984. إن كلا من إيطاليا (ثاني أكبر مصدر للمنسوجات في العالم، كما أنهـا بلد آخر تعتبر أجور صناعة النسيج فيه أعلى من تلك الموجودة في الولايات المتحدة) وألمانيا لهما موضعا قدم في السوق تواجهان فيهما منافسة محدودة نسبيا من المنتجين الذين لديهم أجور منخفضة، وتزداد فيهما أهمية التصميم والنوعية والاستجابة للأزياء السائدة «الموضات» والـتـكـيـف الـسـريـع. وقـد أقام الايطاليون علاقات عمل وثيقة مع مصممين مشهورين يضعون علاماتهم على الملابس الجاهزة. وقد كان تطبيق هذا النظام ميسرا بفضـل المـعـونـة الكبيرة المقدمة من الحكومة. وعلى خلاف ذلك كان المنتجون في الولايات المتحدة يـركـزون تـقـلـيـديـا على الاستمرار لفترة طويلة في إنتاج منتجات نمطية للأسواق الجماهيرية. غير أنه مع ارتفاع الأجور اتجهت رغبات الأفراد إلى التمايز بملابسهم، وأصبحت الأسواق الجماهيرية بدرجة متزايدة سلسلة من أسواق المنتجات ذات الطابع المتميز. والآن فقط شرع المنتجون الأمريكيون في تنظيم أنفسهم لخدمة هذه الأسواق. فشركة ميلليكن، على سبيل المثال، خفضت متوسط حجم الطاقة التشغيلية من عشرين ألف ياردة منذ بضعـة أعـوام إلـى أربـعـة آلاف ياردة اليوم، وتسمح الصباغة النافورية بصباغة تشغيلات تتراوح بين ألف وألفي ياردة. وتعتبر المرونة ذات أهمية جوهرية في استراتيجية محدودة. ولتحقيقها يكون تعاون قوة العمل أمرا محوريا، ولكن لا يمكن كسبها إذا كـان الـهـدف هو تخفيض الأجور. وتصف تعليقات مدير مصنع ناجح في برجامو، إيطاليا، لأقمشة الدنيم (الجينز) الأزرق اللون الرفيعة الذوق، الطريقة التـي كـانـت مؤسسته تتودد بها إلى العمال، على حين أن ذكرياته عن زيارة لمصنع للدنيم في تكساس، حيث كانت وجوه العمال زرقاء من غبار الدنيم بدرجة يتعـذر معها حتى التعرف عليهم، كانت تعكس عدم مبالاة الإدارة الأمريكية: «ليس لدي عمال زرق الوجوه! إن النقابة لا يمكن أن تسمح لي بأن أفعل ذلك، وإلا تعرضت لعواقب وخيمة. وقد كان على أن اسـتـثـمـر فـي أنـظـمـة لـتـنـظـيـف الهواء تزيل كل هذا الغبار. وحسنا أننا فعلنا ذلك، فنحن نعمل عـلـى نـحـو أفضل في مصنع أنظف. والأهمّ من ذلـك كـلـه أنـك لا يمـكـن أن تـأمـل فـي كسب تعاون حقيقي من عمال «زرق الوجوه». وقد وصلنا الآن إلى درجة من الاتفاق مع نقابات العمال، بحيث إننا عندما قررنا ضرورة العمل سبعة أيام في الأسبوع، وقام الأسقف بمهاجمتها علانية بسبب اشتغـال الـعـمـال يـوم الأحد، كانت النقابات أول من تصدي للدفاع عنا”.
هذه الفقرة مقتطعة من فصل في الكتاب بعنوان: “الولايات المتحدة الأمريكية: السور العظيم ينهار”. وهو يتناول نقاط التراجع والضعف في الاقتصاد الولايات المتحدة في سبعة مجالات يعتبرها الكاتب الـرئـيـسـيـة الـلازمـة للمحافظة على مستوى المعيشة المرتفع وهي: صناعة المعلومات وصناعة الطائرات التجارية والإلكترونيات الاستهلاكية وصناعة الحديد والصلب والمواد الكيميائية وصناعة النسيج وصناعة السيارات.
يخلص المؤلف في كتابه هذا إلى أن أهم خاصية للمنافسة الجديدة في القرن المقبل أنه سيكون من أبرز مقومات النجاح فيها اكتساب مهارات أساسية جديدة وابتكار طرق تفكير أساسية جديدة. ويدعم حججه بما يلي: أنه لن يكون في هذا القرن فائزون واضـحـون، ولـكـن الخـاسـريـن يمـكـن أن يدمروا، وأن المقدرة على التعاون الفعّال مع الخصم التجاري المباشر ستكـون شرطا ضروريا للبقاء، وأنـه لـكـي تـزدهـر أي دولة فـي هـذه البيئة فإن أفكارها عن الموارد الجوهرية يجب أن تدرس بعناية، وأن تكون لديها قدرة تنافسية في الصناعات السبع الـرئـيـسـيـة، وأن التعليم هو السلاح الأكثر فعالية في الحرب الجديدة، ولـذلـك لا بـد لـهـا من غـلـق الـفـجـوات فـي التعليم والتكيّف مع كل مستجدّات المنافسة الجـديـدة وغـيـر المألوفة لتصبح لاعبا ناجحا في المباراة الاقتصادية الجديدة.
وبما أن عملية التنمية جوهرها الإنسان، وغايتها إسعاد الإنسان، وتوفير الرفاه له، فإن التفكير يجب أن يتطوّر باتجاه عدم اعتبار الأجور عبئاً على عملية التنمية وإنّما اعتبار رفع مستوى الأجور هدفاً من أهداف التنمية ومؤشّر نجاح الإقتصاد، وكذلك بالنسبة لتمكين العاملين من حقوقهم فإنه المحفّز الحقيقي للعطاء وتحسين الأداء والمردودية .. وفي إحدى الدورات التدريبية سأل المدرب الحضور ما هو أهمّ مورد في المؤسسة؟ فأجاب معظمهم: الموارد البشرية.. ما عدا واحد قال: لا أوافق هذا الرأي، فاقترب منه المدرّب وقال: أنا أيضا لا أوافقكم الرأي .. وعندما سئل لماذا؟ أجاب: العنصر البشري ليس مورداً من موارد المؤسسة، وإنّما هو المؤسسة بحدّ ذاتها، فمن دونه لا وجود لها.
.. وفي حفل أقامته شركة فورد للسيارات لتدشين مكن آلي (رجل آلي) تقدّم السيد فورد صاحب الشركة ليلقي كلمته ثم التفت إلى رئيس نقابة العمال وقال له متباهيا بكل كبرياء: هذه الآلة تستطيع القيام بما يقوم به العشرات من العمال دون توقف ولا كلل ولا مطالبات.. فردّ عليه مبتسما من الذي سيشتري سياراتكم وبضائعكم إذًا!؟ .. فالالتجاء إلى تسريح العمّال وخفض الأجور علاوة على أنه ضد مبدأ التنمية، وأن البطالة تعيق الازدهار الاقتصادي، فإن هذا التوجّه ينحرف بنا ويعيق رؤيتنا لأسباب الفشل الحقيقية ويحجب عنّا مكامن الهدر الحقيقية للطاقات والموارد الخفية لتحسين الجودة والأداء مثل التنظيم والتدريب والتحليل الآلي للأخطاء وتحسين الشراءات وترشيد استهلاك الطاقة والمياه والمواد وتحسين الإدارة المالية والاستفادة من مواكبة التطورات العلمية والتعاون مع الحرفاء إلخ.. ولكن الكثيرين يتركون هذا الطريق ويسلكون طريقاً سهلاً بالاعتداء على حقوق العاملين التي يعتبرونها عبئا وهي في الواقع روح العملية الإنتاجية والتنموية.
شخصية العدد: الثائر القومي الاشتراكي هوغو تشافيز
نسرين الصغير
ولد هوغو تشافيز في الثامن والعشرين من يوليو عام 1954 لعائله متوسطة في بيت جدته، درس حتى سن الثامنة عشر في المدرسة، ثم التحق في جامعة سيمون بوليفار، تزوج من ميرازابيل دو شافيز وله خمسة أولاد وقد سرقه الموت في 5 آذار 2013.
كان هوغو تشافيز اشتراكياً في مبادئه، عدواً للإمبريالية بكافة أشكالها، كان عدوه الأول الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن هوغو يعمل لمصلحة فنزويلا فحسب خلال فترة حكمه بل كان هدفه وحلمه هو توحيد القارة اللاتينية، فكان مثله الأعلى سيمون بوليفار محرر أمريكا اللاتينية و محارب الاستعمار الإسباني، كما كان له إطلاع على القضايا العالمية المفصلية لعلمه المسبق أنه لن يصل إلى هدفه من دون تحالفات مع القوى المناهضة للإمبريالية حول العالم. فكانت علاقاته بالدول اللاتينية غير المسيطر عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية قوية وكانت علاقته بالقضايا العربية، القضية الفلسطينية بالأخص، علاقة لا مثيل لها بالنسبة لرئيس غير عربي، طبعاً عندما نقول غير عربي نقولها فقط بالنسبة للجنسية لا للمبادئ.
كان تشافيز عربياً أكثر من بعض العرب، فكان يتفاخر بحبه لجمال عبد الناصر، لأن ناصر بنظر تشافيز كان يمثل الرئيس العربي الاشتراكي المناهض للكيان الصهيوني ولحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، وكان يشبّه نفسه بعبد الناصر وكان تشافيز متفائلاً بالقومية العربية لأن أفكار ناصر ما زالت موجودة في الوطن العربي حيث يقول أنا ناصري، وفي الحرب الصهيونية على لبنان عام 2006، عندما كانت الأنظمة العربية تقول أن الحرب محسومة لصالح الكيان الصهيوني وقف تشافيز بجانب المقاومة اللبنانية والمقاومة العربية، ووقف تشافيز بكل ما لديه من قوة في وجه الاحتلال الصهيوني الأمريكي في المنطقة وقام بقطع العلاقات الفنزويلية-الصهيونية في الحرب الصهيونية على لبنان عام 2006 وإبان الحرب الصهيونية على غزة عام 2008.
تشافيز وعلاقته بدول الجوار: تبنى تشافيز، منذ مجيئه للحكم، كوبا الاشتراكية التي كانت تحاصرها الولايات المتحدة. كان تشافيز متأكداً أنه من دون الوحدة وتوسيع نطاق العمل السياسي والاقتصادي في القارة اللاتينية فإنه لن ينجح في محاربة الولايات المتحدة الأمريكية والإمبريالية العالمية ولم يحقق وحدة القارة اللاتينية، فبعد توليه الحكم تحت الراية الاشتراكية بدأت الانتصارات اليسارية الاشتراكية في القارة اللاتينية، وبدأت الدول التابعة تستقل الواحدة تلو الأخرى، فلم تعد تتلقى أوامرها من الولايات المتحدة الأمريكية وأصبحت ذات قرار ذاتي، وهنا شهدنا التحالف البوليفاري في وجه الولايات المتحدة الأمريكية وسياستها، وكان يعتبر أن السياسة الليبرالية هي سياسة إفقار الشعوب وتركيعها.
أدرك تشافيز حجم المؤامرة الصهيو-أمريكية على محور المقاومة في الوطن العربي وكان من أوائل الذين اكتشفوا أكذوبة “الربيع العربي”، فوقف إلى جانب الرئيس الليبي الشهيد معمر القذافي، وضد عدوان النيتو على ليبيا تحت اسم الثورة، كذلك وقف إلى جانب سورية، فكان متأكدا بأن كذبة “الربيع العربي” جاءت لتدمير وتفتيت ما بقي من الدول العربية غير المسيطر عليها من الولايات المتحدة الأمريكية، وكان تشافيز أيضاً ممن وقفوا إلى جانب العراق في حربه مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت له لقاءات مع الرئيس الشهيد صدام حسين وكانت تربطهما علاقة قوية حيث زار العراق عام 2000 ووصف الرئيس الأمريكي في خطاب له أنه حمار، وكان تشافيز قومياً عربياً فلسطينياً في مواجهة الكيان الصهيوني، فهو الذي قطع علاقته مع الكيان الصهيوني عندما كانت بعض الأنظمة العربية تبات في حضنه.
قام تشافيز بمحاولة انقلاب على الرئيس الفنزويلي كارلوس أندريس بيريز عام 1992 لكنها لم تنجح، وسجن على أثرها. وبعد تنحي الرئيس الفنزويلي خرج هوجو تشافيز من السجن وترشح للانتخابات عام 1998 وفاز فيها وتولى الحكم في مطلع عام 1999 وكان ذلك تحت راية “حركة الجمهورية الخامسة”. وكان برنامجه الانتخابي برنامجاً نهضوياً يدعو لوحدة قارة أمريكا الجنوبية وللخروج من الفقر والجهل والتخلف، فحارب الجهل تماماً كما حارب الليبرالية وكانت من أهم نقاط برنامجه الاقتصادي تأميم النفط الفنزويلي وإعادة توزيع الثروة النفطية على الشعب، والنهوض الاقتصادي والعسكري، مما رفع شعبيته، وجعل الشعب الفنزويلي يزداد ثقةً به.
دخل تشافيز القصر الرئاسي هذه المرة بأصوات ناخبيه الفقراء الذين كان منهم وبقي معهم، ولكن الاستخبارات الأمريكية حاولت الانقلاب عليه عام 2002 عن طريق بعض عملائها داخل فنزويلا ولكن المحاولة فشلت، وكان الشعب الفنزويلي الذي انتخبه رئيساً هو من أفشلها، إذ كان يرى فيه محرراً كسيمون بوليفار.
كان عنوان تشافيز الرئيسي هو الاستقلال الحقيقي عن الولايات المتحدة الأمريكية سياسياً واقتصادياً، إذ رفض أن يكون تابعاً كغيره للولايات المتحدة الأمريكية، وقام بتأميم الموارد الاقتصادية لفنزويلا لاستعادة السيطرة على ثرواتها من أجل رفع دخل الشعب، ومن ذلك تأميم النفط الفنزويلي، حيث تعد فنزويلا -رابع منتج للنفط في العالم- ثاني أكبر مصدر للولايات المتحدة الأميركية. وهنا أصبح لفنزويلا قرارها الاقتصادي المستقل، فرفع دخل الدولة اقتصادياً وفك التبعية عن الشركات متعددة الجنسيات، وكان رافضاً للسياسات النيوليبرالية التي تفرضها الرأسمالية الأمريكية ومن ورائها المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولى والبنك الدولى ومنظمة التجارة العالمية، فسخر عائد النفط الفنزويلي لتطوير الاقتصاد الفنزويلي ولنهضة القطاع الصحي والعلمي والزراعي، وقام بتحسين الوضع المعيشي لأبناء فنزويلا، فقام بترميم مساكن الفقراء، وتماماً كما حارب الشركات متعددة الجنسيات قام بمحاربة المنظمات “الإنسانية” الممولة دولياً أي NGO’s، وفي ظله نهضت فنزويلا ثقافياً حيث قام بوضع برامج لمحاربة الأمية وتطوير التعليم، وبحكم علاقته القوية بكوبا قام بإبرام اتفاقية معها لاستبدال المدرسيين بالنفط الفنزويلي أي إحضار أساتذة كوبيين لفنزويلا للتعليم مقابل تقديم النفط الفنزويلي لكوبا.
قام البرلمان بتعديل المدة الرئاسية في أول دورة لحكم تشافيز، فأصبحت مدة الرئاسة ست سنوات، وقام بالترشح لفترة جديدة في عام 2006 . فاز تشافيز بأصوات العقلاء من الفقراء الذين تأكدوا بأن تشافيز هو محررهم وانتصر في آخر معركة انتخابية له عام 2012 بفارق 10% عن منافسه الليبرالي إنريكه كابريليس، إلا أن القدر كان أقوى من أصوات الناخبين وقرار الشعب الفنزويلي، إذ سرق مرض السرطان هوغو تشافيز ابن الثمانية وخمسين عاماً من فنزويلا وأمريكا اللاتينية والوطن العربي، وقد فتحت لتشافيز عند وفاته بيوت عزاء حول العالم، وزار تلك البيوت في السفارات الفنزويلية أحرار العالم. وفي سنوية تشافيز الأولى قامت لائحة القومي العربي في الأردن، بالمشاركة مع جمعية الثقافة البديلة راديكال، بتنظيم حفل تأبين مهيب له بالتعاون مع السفارة الفنزويلية في الأردن. واشتمل الحفل على كلمة للسفير الفنزويلي في الأردن فاوستو فرناندز ورئيس جمعية الثقافة البديلة محمد فرج والمنسق العام للائحة القومي العربي الدكتور إبراهيم علوش، وقام الرفيق أحمد عدنان الرمحي بإخراج فيلم عن حياة هوغو تشافيز تحت اسم “غنِ معي يا رفيق”، من إنتاج لائحة القومي العربي.
قالوا عن هوغو تشافيز:
- د.إبراهيم علوش: بدأ تشافيز ريادياً في محاولة إنتاج تجربة اشتراكية تلائم القرن الواحد و العشرين ومن هنا قام تشافيز بطرح فكرة الديمقراطية التشاركية المنسجمة مع الاشتراكية في محاولة لتجاوز أخطاء التجارب الاشتراكية السابقة.
- رئيسة البرازيل ديلما روسيف: إن وفاة تشافيز خسارة لا تعوض، ووصفته بأنه صديق للشعب البرازيلي وأميركي لاتيني عظيم.
من أهم أقوال الراحل جسداً الخالد فكراً هوغو تشافيز:
- أكبر خطر على كوكب الأرض هو حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.
- أنت حمار يا سيد بوش.
- يجب أن نواجه الخاصة الأثرياء الذين دمروا جزءاً كبير من العالم.
- لقد عاد اليسار وهو السبيل الوحيد لدينا للخروج من المكان الذي أغرقنا فيه اليمين، الاشتراكية تبني والرأسمالية تدمر.
- أنا مقتنع أن الطريق إلى عالم جديد أفضل وممكن ليس الرأسمالية، الطريق هي الاشتراكية.
- الرأسمالية تقودنا مباشرة إلى الجحيم.
مدينة عربية: صور
علي بابل
تناثرت أشلاء صور تحت ضربات المقدونيين واليونانيين بعد حصار دام سبعة أشهر مرت طويلة على أهل صور الشرقيين الذين لونوا البشرية بالأرجوان، لم تجد منقذها القرطاجي لطمع في نفوس التجار وخسة حكام قرطاجة آنذاك فلم يكن هملقار برقة وأبنه حنبعل قد ولدوا بعد !!!
أحرِقت صور رغم صمودها، اشتعلت نيران حقد الإسكندر المقدوني ببيوت صور الجميلة وقطفت ورد الساحل المتوسطي قبل الآوان، ولا لوم إلا على أهل السلطة في فنيقيا الأخرى على ساحل تونس الحبيبة التي ذاقت آلام صور وشعبها بعد مائتي عام لنفس الطمع ونفس الخطيئة ألا وهي المال والسلطة وجشعهما.
مدينة صور “الصخرة” درة المدن الفنيقية العربية وإحدى أهم المدن الساحلية على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط تسيّدت ما حولها من مدن بقوتها الاقتصادية ومنعتها العسكرية التي اكتسبتها من خلال قوتها البحرية وحصونها المنيعة وجغرافيتها الصخرية المطلة على المتوسط هذا البحر الهائج.
تعتبر المدينة من أقدم المدن الآهلة بالسكان حتى الآن، وكتب لها أن تزدهر في بداية الألف الأولى قبل الميلاد على يد ملكها حيرام بن أبي بعل الذي عزز سيطرته على جزيرة قبرص وسواحل المتوسط وأنجز ثورة عمرانية في المدينة على رأسها ربط الجزيرتين الشمالية والجنوبية ببعضهما بعض عن طريق ردم القناة المائية الفاصلة بينهما.
بجماليون الشهير ملك صور الذي ظلم أليسار فكان لها أن أسست قرطاجة الفنيقية التي قهرت أعدائها ورحلت بعيد رحيل صور الحزينة لكن بطريقة أكثر تراجيدية.
قيل الكثير بحق صور المدينة وحضارتها التي هي جزء من الحضارة العربية الفنيقية، إلا أن جشع من كان في السلطة أسقطها كما غيرها من المدن وربما هو الزمان يدور ليترك الجديد يستبيح القديم هكذا بكل بساطة.
قصيدة العدد:
يقول الشاعر المغربي أحمد ابن الصديق في قصيدته:
العدل لا تمــطــــره الســمــاءُ
العدل لا تمــطــــرُه السَّــمــاءُ والجور قد يرفعُــــــه الدعـاءُ
و الظلم لا يغالــــبه نـــحيـــبٌ والحق لا يـنـاصـره الـبـكــاءُ
فــلا تركـع لغـيـر الله يـومـــاً فخـلـق الله أصــلـهـمُ ســواءُ
ولا تجزع في الشدائد أوتُداهنْ وكُن جَلـْداً ولو غلب العـيـاءُ
لئنْ ترضخ مُهانا خوفَ بطشٍ فنفس الحُرِّ يجـرحُها انـحناءُ
وبطشُ الله لـــيــس لــه مــردٌّ وبطش العــبـدِ أقصاهُ انـتهاءُ
وحـكـمُ الظلم ليـس لـه دوامٌ وحكـم الحق شــيمـتُه الـبـقـاءُ
وغمضُ العين عن شرّ ضلالٌ وغضّ الطرف عن جورٍ غباءُ
فجاهِر بقـول الحقِّ واصْـــبِرْ وعــند الله فـي ذاك الـجــزاءُ
بِقولِ الصدقِ أوصى أتـقـيـاءٌ بـقول الصدق أوصى أنـبيـاءُ
ولا تخــذلْ ضعيفا أو غـــريباً وعــندك قــدرةٌ ولـــه رجــاءُ
لئنْ تـبخــلْ بـمال أو بـعــلـــمٍ فـطبْـعُ الأكرَمين هو السّـخاءُ
وإنْ تـبذلْ بقرشٍ عــزَّ نـفــسٍ فـعِـــزّ النفس سومـته غــلاءُ
ويــمدحُ مادحٌ قـومًا لــكـــسبٍ ومِــــلءُ فـؤادِه لـــهُـمُ هـجاءُ
ولو نطقَ النـفاقُ بحرفِ رُشـدٍ فــقد لا يُعـــوزُ الغـيَّ الـذّكاءُ
وإن لبسَ الظلامُ لَبُوسَ ضوءٍ فـإن الفـسـقَ لـيس له حيـاءُ
وقد يبدو الخطيبُ وعاءَ عـلمٍ وكــــلّ كلامه عســلٌ صفــاءُ
فتحسبه أبرَّ الــنــاس لـكــــنْ إلى الإخلاص ليس له انـتماءُ
وإنَّ فــساده من شــرِّ جِـنْـسٍ وقــد عَــلِقـتْ بذِمَّـته دِمــــاءُ
وإنَّ الأمــنَ كلَّ الأمـنِ عــدلٌ يـُلاذ بظــلّه وبه احـتـمـــاءُ
ورمز القسط قاضٍ قد تساوَى ذَوُو ضـعـفٍ لديهِ وأقـويــاءُ
وعينُ القسط مـيـزانٌ تساوَى أخو فــقـــرٍ لــديهِ وأغـنيـاءُ
فإن صلُحَ القضاء فـنمْ قريراً وإنْ فسدَ القضاء فما العزاءُ
وإن وَهَنَ القضاةُ طغى طغاةٌ سلاحهُمُ الخراب والاعـتداءُ
إذا ما الــرياءُ فـَـــشَا بــشعبٍ وأوشـك أنْ تُعاقـبه السمــاءُ
وأضـحى للمظاهر ألـفُ شأنٍ وغاب عن الجواهرِ الاعتناءُ
وأعدِمَتِ المروءةُ ليت شعري يُــشــيِّـعـها لمَـرقــدهـا رثـاءُ
وصاح الـجهل يعلو كل صوتٍ كدأبِ الــسَّـيلُ يعـلـوه الغـثاءُ
ونــُظـِّـم للسـفـاهةِ مهـرجـانٌ لـتعـبثَ بالأنـامِ كـما تــشــاءُ
وأمسى لِلِّــئام بهـم ضجـيـجٌ وأسْـنِـدَ للــقـراصنة اللِّـــواءُ
وطأطأت الرؤوس لهُمْ وهانتْ كـحال الليث ترْهَـبُه الظـِّبـاءُ
هلـمّوا ارتَعوا وارْعَوْا هـنيـئاً فعُـشـبُكم الـتَّـفاهة والهُـراءُ
اترك تعليقاً