عزمي بشارة من الترويج للاندماج بالكيان الصهيوني للترويج ل”ديموقراطية” الإسلامويين الجدد!.

الصورة الرمزية لـ ramahu


د.ابراهيم علوش

6/8/2012
سبق أن أشار الكاتب نارام سرجون للبعد السياسي المفخخ، والمأجور، في أطروحة عزمي بشارة يوم 23/7/2012، عبر برنامج تلفزيوني على قناة “الجزيرة”، تحت عنوان “الديموقراطية مفهومها وتطبيقاتها”، التي قامت على الخلط ما بين الإصلاح البروتستنتي في أوروبا خلال القرون الوسطى، وسيطرة الإسلامويين على “الربيع العربي”، باعتبار أن الإصلاح البروتستنتي أنتج أنظمة ديموقراطية أوروبية، والثاني سيقود بدوره إلى أنظمة ديموقراطية عربية أيضاً! وهي الأطروحة التي تفيد فقط في تعزيز هيمنة البترودولار على المشهد السياسي العربي المعاصر…

وحيث أن دور بشارة السياسي في اختراق الوعي الوطني الفلسطيني والقومي العربي كان مكشوفاً لدينا منذ نهاية التسعينات، أولاً من خلال الدعوة لمشاركة جماهيرنا في النظام السياسي “الإسرائيلي” (كبديل عن التحرير الكامل)، وثانياً من خلال الترويج لفلسطين ثنائية القومية (كبديل عن فلسطين العربية من البحر إلى النهر)، وثالثاً من خلال اختراق الوعي القومي واليساري العربي بمفاهيم ليبرالية مستوردة (كبديل عن الوعي الجمعي القائم على الانتماء لأمة عربية أو طبقة مقابل الحق الفردي بالبيع والشراء المنقطع عن الهوية التاريخية والحضارية)، فإننا لم نفاجأ أبداً بدوره التالي خارج فلسطين عبر قناة “الجزيرة” في الترويج لمشروع “الإصلاح” الأمريكي، المسمى “الشرق الأوسط الكبير”، ثم “الجديد”، الذي روج له كولن باول من ثم كوندوليزا رايس بعيد احتلال العراق عام 2003.


وهذا الدور نفسه يجد تجسيده اليوم فيما يسمى “الربيع العربي”، إذ أن “الديموقراطية”، و”الإصلاح” الدستوري والانتخابي، باتتا صرخة الحرب الأيديولوجية للهجمة الاستعمارية الجديدة على وطننا العربي، وهما أساس برنامج التحالف الإسلاموي-الليبرالي في “الربيع العربي”، وهما في نفس الوقت برنامج “الإصلاح الأمريكي”، الذي يقوم على مأسسة التبعية للخارج والعلاقات التطبيعية مع العدو الصهيوني خلف دولاب الانتخابات والوجوه الدوارة و”التعددية” المنهارة في قاسم مشترك واحد.

ولا يلاحظ كثيرون اليوم، في خضم متابعتهم لدور بشارة التخريبي في مخاطبة العقل الجماهيري عبر “الجزيرة”، دوره الأكثر خطورة في محاولة مصادرة النخبة الثقافية العربية عبر مؤسسة دراساته البترودولارية المتمركزة في الكازية الخليجية، وهي مؤسسة تحاول الاتصال على قدمٍ وساقٍ بالمثقفين، وأساتذة الجامعات العرب، ودعوتهم، وربطهم بها، واستقطاب عناصر رئيسية منهم، في مشروع إجهاضي لا يبدو أنه اقل خطورة على المدى البعيد من مؤسسة “الجزيرة”، هو بالضرورة أكبر بكثير من قطر، وأكبر بالتأكيد من مخلب اسمه عزمي بشارة. وهذا لمن حار لمّ غاب بشارة عن “الجزيرة” فترة…

وهو على كل حال مشروع “ثقافي” يبقى مآله نخر الفكر العربي حتى النخاع بالمال الخليجي، وبالمفاهيم الإسلاموية والليبرالية في آنٍ معاً، وهو ما يذكرنا مجدداً بأهمية إيجاد مشروع ثقافي عربي مقاوم، كمشروع قومي ينطلق من مفهوم الحقوق الجمعية (مقابل مفهوم الحقوق الفردية أو مشروع الهروب إلى الماضي الذهبي) في تحقيق الوحدة والتحرير والنهضة والعدالة الاجتماعية.
ونتناول من هذه الزاوية اليوم عملية تشويه الوعي التي مارسها بشارة بالخلط ما بين الإصلاح البروتستنتي في أوروبا وسيطرة الإسلامويين على “الربيع العربي” من زاوية معرفية، لا من زاوية سياسية فحسب، لأن المرحلة القادمة، بعد إحكام السيطرة على الخطاب الإعلامي، هي إحكام السيطرة على الخطاب المعرفي، لكي لا تبقى طليعة ولا مثقف ثوري ينقذ الوعي الجماهيري “من الخارج”، حسب تعبير لينين في كتابه “ما العمل؟”، باعتبار أن الواقع الراهن أثبت من جديد أن نخبةً مختارةً أدركت المؤامرة على الأمة وعلى سورية فيما اندفع كثيرٌ من عامة الناس خلف خطابٍ إعلاميٍ مسطح للأسف.

وفي خضم انشغالي بعزاء والدي ناجي علوش، الذي يجب أن يعرف من لا يعرف، أو يتجاهل، ممن كتبوا عنه، أنه وقف مع سورية حتى اللحظة الأخيرة، تلقيت رسالة من صديقي الكاتب محمد أبو نصر تعالج البعد المعرفي في مقارنة عزمي بشارة العوجاء بين الإصلاح البروتستنتي في أوروبا في القرون الوسطى وسيطرة الإسلامويين على “الربيع العربي”، كانت قد جاءت على خلفية حوارات طويلة بيننا حول “الربيع العربي” والإخوان، والسلفيين، والليبراليين. وربما أراد محمد أن يلهيني عن حزني. وهي رسالة تستحق أن ينشر بعض ما جاء فيها، مع الكثير من التصرف. وكان فحواها أن مقارنة عزمي بشارة استيلاء الإسلامويين على “الربيع العربي” بالإصلاح البروتستنتي في أوروبا هي مقارنة غير علمية، ولا دقيقة، وبشكل عام، غبية بشكل مثير للشفقة.

فالإصلاح البروتستنتي كان حركة إصلاح دينية لمجتمع غربي كانت تهيمن عليه الكنيسة الكاثوليكية إلى حدٍ قل فيه وجود السياسة أو الفكر العلماني أو الديني المتنور إلى حد العدم.. فهو لم يفرض التدين المسيحي على عالمٍ علماني أو متنور دينياً، بل أصلح الظلامية الذي انتشرت في العالم الغربي.

أما الإسلامويون في الوطن العربي فيحاولون أن ينفوا وأن يحلوا محل العقل القومي واليساري والإسلامي المتنور والمناهض للاستعمار الذي بقي المحرك الفكري الرئيسي في الوطن العربي منذ محمد علي باشا في مصر. فالإسلامويون لا يحاولون بأي شكل إصلاح الفكر أو الممارسة الدينية لجعلهما أكثر اتساقاً مع حاجات العصر في الألفية الثالثة، أو حتى الثانية، مع حاجات التنمية القومية والوطنية والتحرر الاجتماعي، بل يحاولون أن يفرضوا قيوداً إقطاعية متحجرة على مجتمع عربي كان منطلقاً قبل عقودٍ فقط في مشروع كبيرٍ للوحدة والتحرير والنهضة والعدالة الاجتماعية ساقاً بساق مع حركة التحرر العالمية في أي مكان حول الكوكب.

والإسلامويون، في مسيرهم عكس اتجاه التاريخ، لا يعززون الحس الإنساني أو الوحدة الوطنية بنزعة عالمية مماثلة لما نادى به رهبان “لاهوت التحرر” في أمريكا اللاتينية، أو فلاسفة العرب والمسلمين الذي أعلوا شأن العقل والإنسان، من ابن طفيل إلى ابن رشد، بل راحوا يروجون لطائفية تشق المجتمعات وتشرذمها، تحت ثنائيات سني-شيعي أو مسيحي-مسلم، بذريعة أن الحكم ليس للإنسان، بل للنص، كما يؤولونه حسب مرجعيات الانحطاط في القرون الوسطى، عندما انتشر الاقطاع العسكري، وهيمن الأجانب على العرب باسم الدين، ليشوهوه من جهة، ولينهوا أي أثر للنهضة العربية القديمة، ثم الحديثة، من جهة أخرى، وهي نفسها اليوم مرجعيات الكازيات الخليجية في القرن الواحد والعشرين التي تنتج ثقافة فتاوى الهبل العربي.

أما الإصلاح البروتستنتي فكان حراكاً تاريخياً إلى الأمام بمرجعيات دينية ضد الإقطاع والإكليروس الأوروبي، وكان أشبه بحركات قومية في الواقع، لأنه نقل الكتاب المقدس من اللغة اللاتينية التي كانت تفرضها الكنيسة الكاثوليكية إلى اللغات القومية المحلية، فأسس بذلك للتمرد والإنشقاق على سلطة الكنيسة الكاثوليكية عابرة الحدود والقوميات، التي كانت تمثل آنذاك “عولمة” ذلك الزمان. وكان نتيجة ذلك سحب المرجعية الدينية من أيدي الكهنة المتخصصين، الذين كانوا يمتلكون ناصية اللغة اللاتينية المنقرضة التي لم يتحدثها عامة الأوروبيين، وسحب السلطة الدنيوية من الهرمية الدينية التي كانت تحكم أوروبا، ووضعها بأيدي الحكام الوطنيين المحليين والعامة، على الأقل القادرون منهم على القراءة والكتابة. وكانت عاقبة ذلك تشكيل رافعة للقومية والحس القومي، والمساعدة على نمو وحدات سياسية قومية أصبحت فيما بعد دولاً قومية.

إذن حركة الإصلاح البروتستنتي في أوروبا كانت تعكس الصعود التاريخي لقوى البرجوازيات القومية النامية في مواجهة قوى الكنيسة الكاثوليكية عابرة القوميات وهرمها الاجتماعي الذي يعلوه النبلاء الإقطاعيون والأساقفة والمطارنة القائمون على أملاك الوقف الكنسي الذي ضم مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الأوروبية، والذي شكل الأساس الاقتصادي-الاجتماعي لهيمنة الكنيسة المتحدة مع البارونات واللوردات والدوقات. وقد حطم الإصلاح البروتستنتي السلطة المركزية للكنيسة الكاثوليكية في روما ووضع السلطة بيد الملوك القوميين المدعومين من الطبقات الوسطى الصاعدة، وأخضع المؤسسة الدينية، في كل بلدٍ، لسلطات الدولة المحلية، مطلقاً عملية تدريجية أدت بعد قرونٍ إلى العلمنة.
أما إسلامويو “الربيع العربي” فإنهم لا يحطمون السلطة الاقتصادية عابرة الحدود أو يقاومون العولمة، ولا يهاجمون الثقافة الإقطاعية أو يسهلون صعود القومية، ولا يطلقون موجة من أجل التحرر، بل من أجل العودة للعبودية، الخارجية والداخلية، وهم يهاجمون القومية بزعم أنها ملحدة، محاولين ضرب الأسافين بين القومية العربية والإسلام.

إنهم يروجون فعلياً لهيمنة الرأسمالية المعولمة عابرة القوميات فيما يعيدون فرض سلطة القيم الإقطاعية ونفوذ ملكيات الخليج العربي كوكيل محلي وممول للعولمة في المنطقة العربية، أما تأويلهم الإقطاعي-الريعي للدين فيؤدي فقط لتشظية المجتمع العربي وتفكيكه إلى مجموعات طائفية تنحدر إلى حروب دينية لا تنتهي أبداً محطمةً الوحدة الوطنية وقدرة الأمة العربية على مقاومة العولمة وحلفائها من الملوك الإقطاعيين في المنطقة.

وعليه، فإن مقارنة عزمي بشارة المخترقة للإصلاح البروتستنتي في أوروبا بالقرون الوسطى بالسيطرة الإسلاموية على “الربيع العربي” تشي بالكثير بحد ذاتها. فالتفحص السريع للحالتين يكشف مدى رجعية الموجة الإسلاموية المعاصرة، وكيف تخدم الإمبريالية وحلفائها بشكلٍ مباشر من خلال تقويض قوى الوحدة والتقدم في الوطن العربي.
وإذا كانت السيطرة الإسلاموية على “الربيع العربي” ستقارن بأحداثٍ من أوروبا القرن السادس عشر، فإنها يجدر أن تقارن بحركة مناهضة الإصلاح الكاثوليكية ومحاكم التفتيش التي سعت، بالإرهاب، لإعادة فرض القيم الإقطاعية والسيطرة عابرة القوميات للكنيسة على أوروبا. ولا شك إن الفشل الختامي لحركة مناهضة الإصلاح تثير فينا الأمل بالنصر فيما نواجه اليوم موجةً رجعية كتلك التي نواجهها، لكن الحروب الطائفية وسفك الدماء غير المسبوق الذي اطلقته حركة مناهضة الإصلاح هو أمرٌ لا يمكن أن يسعى عاقلٌ لتكراره أو تقليده.

ويأمل المرء بأن بشارة لا يتطلع قدماً لحذو الوطن العربي حذو أوروبا القرن السادس عشر التي كان عليها أن تحتمل قرنين من المجازر الطائفية وسفك الدماء لكي تصل، أخيراً، للقرف العام من هيمنة رجال الدين على السياسة. فالوطن العربي، أولاً، لديه تقليدٌ قومي تقدمي يقوم على مفهوم المواطنة فوق الطوائف، ولا يحتاج لإعادة اختراع العجلة لكي يكتشفه من جديد. والإمبريالية، ثانياً، تراقب وتلقي بظلها فوق كل العملية، وبالتالي فإننا لا نملك رفاهية تجاهل ما يجري حولنا من تآمرٍ لكي نخوض حروباً طائفية فيما بيننا على أمل أن نكتشف، بعد مئة عام مثلاً، مخرجاً ما من الفوضى الدموية المحدقة. إن “أخونة” و”سلفنة” ما يسمى “الربيع العربي”، و”بركات” الولايات المتحدة والناتو والكيان الصهيوني على الموجة الإسلاموية تكشف بأن تلك الموجة ليس في الواقع أكثر من غطاء لمصادرة الإمبريالية لعقل المنطقة وقلبها.

سبق أن أشار الكاتب نارام سرجون للبعد السياسي المفخخ، والمأجور، في أطروحة عزمي بشارة يوم 23/7/2012، عبر برنامج تلفزيوني على قناة “الجزيرة”، تحت عنوان “الديموقراطية مفهومها وتطبيقاتها”، التي قامت على الخلط ما بين الإصلاح البروتستنتي في أوروبا خلال القرون الوسطى، وسيطرة الإسلامويين على “الربيع العربي”، باعتبار أن الإصلاح البروتستنتي أنتج أنظمة ديموقراطية أوروبية، والثاني سيقود بدوره إلى أنظمة ديموقراطية عربية أيضاً! وهي الأطروحة التي تفيد فقط في تعزيز هيمنة البترودولار على المشهد السياسي العربي المعاصر…

وحيث أن دور بشارة السياسي في اختراق الوعي الوطني الفلسطيني والقومي العربي كان مكشوفاً لدينا منذ نهاية التسعينات، أولاً من خلال الدعوة لمشاركة جماهيرنا في النظام السياسي “الإسرائيلي” (كبديل عن التحرير الكامل)، وثانياً من خلال الترويج لفلسطين ثنائية القومية (كبديل عن فلسطين العربية من البحر إلى النهر)، وثالثاً من خلال اختراق الوعي القومي واليساري العربي بمفاهيم ليبرالية مستوردة (كبديل عن الوعي الجمعي القائم على الانتماء لأمة عربية أو طبقة مقابل الحق الفردي بالبيع والشراء المنقطع عن الهوية التاريخية والحضارية)، فإننا لم نفاجأ أبداً بدوره التالي خارج فلسطين عبر قناة “الجزيرة” في الترويج لمشروع “الإصلاح” الأمريكي، المسمى “الشرق الأوسط الكبير”، ثم “الجديد”، الذي روج له كولن باول من ثم كوندوليزا رايس بعيد احتلال العراق عام 2003.

وهذا الدور نفسه يجد تجسيده اليوم فيما يسمى “الربيع العربي”، إذ أن “الديموقراطية”، و”الإصلاح” الدستوري والانتخابي، باتتا صرخة الحرب الأيديولوجية للهجمة الاستعمارية الجديدة على وطننا العربي، وهما أساس برنامج التحالف الإسلاموي-الليبرالي في “الربيع العربي”، وهما في نفس الوقت برنامج “الإصلاح الأمريكي”، الذي يقوم على مأسسة التبعية للخارج والعلاقات التطبيعية مع العدو الصهيوني خلف دولاب الانتخابات والوجوه الدوارة و”التعددية” المنهارة في قاسم مشترك واحد.

ولا يلاحظ كثيرون اليوم، في خضم متابعتهم لدور بشارة التخريبي في مخاطبة العقل الجماهيري عبر “الجزيرة”، دوره الأكثر خطورة في محاولة مصادرة النخبة الثقافية العربية عبر مؤسسة دراساته البترودولارية المتمركزة في الكازية الخليجية، وهي مؤسسة تحاول الاتصال على قدمٍ وساقٍ بالمثقفين، وأساتذة الجامعات العرب، ودعوتهم، وربطهم بها، واستقطاب عناصر رئيسية منهم، في مشروع إجهاضي لا يبدو أنه اقل خطورة على المدى البعيد من مؤسسة “الجزيرة”، هو بالضرورة أكبر بكثير من قطر، وأكبر بالتأكيد من مخلب اسمه عزمي بشارة. وهذا لمن حار لمّ غاب بشارة عن “الجزيرة” فترة…

وهو على كل حال مشروع “ثقافي” يبقى مآله نخر الفكر العربي حتى النخاع بالمال الخليجي، وبالمفاهيم الإسلاموية والليبرالية في آنٍ معاً، وهو ما يذكرنا مجدداً بأهمية إيجاد مشروع ثقافي عربي مقاوم، كمشروع قومي ينطلق من مفهوم الحقوق الجمعية (مقابل مفهوم الحقوق الفردية أو مشروع الهروب إلى الماضي الذهبي) في تحقيق الوحدة والتحرير والنهضة والعدالة الاجتماعية.

ونتناول من هذه الزاوية اليوم عملية تشويه الوعي التي مارسها بشارة بالخلط ما بين الإصلاح البروتستنتي في أوروبا وسيطرة الإسلامويين على “الربيع العربي” من زاوية معرفية، لا من زاوية سياسية فحسب، لأن المرحلة القادمة، بعد إحكام السيطرة على الخطاب الإعلامي، هي إحكام السيطرة على الخطاب المعرفي، لكي لا تبقى طليعة ولا مثقف ثوري ينقذ الوعي الجماهيري “من الخارج”، حسب تعبير لينين في كتابه “ما العمل؟”، باعتبار أن الواقع الراهن أثبت من جديد أن نخبةً مختارةً أدركت المؤامرة على الأمة وعلى سورية فيما اندفع كثيرٌ من عامة الناس خلف خطابٍ إعلاميٍ مسطح للأسف.

وفي خضم انشغالي بعزاء والدي ناجي علوش، الذي يجب أن يعرف من لا يعرف، أو يتجاهل، ممن كتبوا عنه، أنه وقف مع سورية حتى اللحظة الأخيرة، تلقيت رسالة من صديقي الكاتب محمد أبو نصر تعالج البعد المعرفي في مقارنة عزمي بشارة العوجاء بين الإصلاح البروتستنتي في أوروبا في القرون الوسطى وسيطرة الإسلامويين على “الربيع العربي”، كانت قد جاءت على خلفية حوارات طويلة بيننا حول “الربيع العربي” والإخوان، والسلفيين، والليبراليين. وربما أراد محمد أن يلهيني عن حزني. وهي رسالة تستحق أن ينشر بعض ما جاء فيها، مع الكثير من التصرف. وكان فحواها أن مقارنة عزمي بشارة استيلاء الإسلامويين على “الربيع العربي” بالإصلاح البروتستنتي في أوروبا هي مقارنة غير علمية، ولا دقيقة، وبشكل عام، غبية بشكل مثير للشفقة.

فالإصلاح البروتستنتي كان حركة إصلاح دينية لمجتمع غربي كانت تهيمن عليه الكنيسة الكاثوليكية إلى حدٍ قل فيه وجود السياسة أو الفكر العلماني أو الديني المتنور إلى حد العدم.. فهو لم يفرض التدين المسيحي على عالمٍ علماني أو متنور دينياً، بل أصلح الظلامية الذي انتشرت في العالم الغربي.

أما الإسلامويون في الوطن العربي فيحاولون أن ينفوا وأن يحلوا محل العقل القومي واليساري والإسلامي المتنور والمناهض للاستعمار الذي بقي المحرك الفكري الرئيسي في الوطن العربي منذ محمد علي باشا في مصر. فالإسلامويون لا يحاولون بأي شكل إصلاح الفكر أو الممارسة الدينية لجعلهما أكثر اتساقاً مع حاجات العصر في الألفية الثالثة، أو حتى الثانية، مع حاجات التنمية القومية والوطنية والتحرر الاجتماعي، بل يحاولون أن يفرضوا قيوداً إقطاعية متحجرة على مجتمع عربي كان منطلقاً قبل عقودٍ فقط في مشروع كبيرٍ للوحدة والتحرير والنهضة والعدالة الاجتماعية ساقاً بساق مع حركة التحرر العالمية في أي مكان حول الكوكب.

والإسلامويون، في مسيرهم عكس اتجاه التاريخ، لا يعززون الحس الإنساني أو الوحدة الوطنية بنزعة عالمية مماثلة لما نادى به رهبان “لاهوت التحرر” في أمريكا اللاتينية، أو فلاسفة العرب والمسلمين الذي أعلوا شأن العقل والإنسان، من ابن طفيل إلى ابن رشد، بل راحوا يروجون لطائفية تشق المجتمعات وتشرذمها، تحت ثنائيات سني-شيعي أو مسيحي-مسلم، بذريعة أن الحكم ليس للإنسان، بل للنص، كما يؤولونه حسب مرجعيات الانحطاط في القرون الوسطى، عندما انتشر الاقطاع العسكري، وهيمن الأجانب على العرب باسم الدين، ليشوهوه من جهة، ولينهوا أي أثر للنهضة العربية القديمة، ثم الحديثة، من جهة أخرى، وهي نفسها اليوم مرجعيات الكازيات الخليجية في القرن الواحد والعشرين التي تنتج ثقافة فتاوى الهبل العربي.

أما الإصلاح البروتستنتي فكان حراكاً تاريخياً إلى الأمام بمرجعيات دينية ضد الإقطاع والإكليروس الأوروبي، وكان أشبه بحركات قومية في الواقع، لأنه نقل الكتاب المقدس من اللغة اللاتينية التي كانت تفرضها الكنيسة الكاثوليكية إلى اللغات القومية المحلية، فأسس بذلك للتمرد والإنشقاق على سلطة الكنيسة الكاثوليكية عابرة الحدود والقوميات، التي كانت تمثل آنذاك “عولمة” ذلك الزمان. وكان نتيجة ذلك سحب المرجعية الدينية من أيدي الكهنة المتخصصين، الذين كانوا يمتلكون ناصية اللغة اللاتينية المنقرضة التي لم يتحدثها عامة الأوروبيين، وسحب السلطة الدنيوية من الهرمية الدينية التي كانت تحكم أوروبا، ووضعها بأيدي الحكام الوطنيين المحليين والعامة، على الأقل القادرون منهم على القراءة والكتابة. وكانت عاقبة ذلك تشكيل رافعة للقومية والحس القومي، والمساعدة على نمو وحدات سياسية قومية أصبحت فيما بعد دولاً قومية.

إذن حركة الإصلاح البروتستنتي في أوروبا كانت تعكس الصعود التاريخي لقوى البرجوازيات القومية النامية في مواجهة قوى الكنيسة الكاثوليكية عابرة القوميات وهرمها الاجتماعي الذي يعلوه النبلاء الإقطاعيون والأساقفة والمطارنة القائمون على أملاك الوقف الكنسي الذي ضم مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الأوروبية، والذي شكل الأساس الاقتصادي-الاجتماعي لهيمنة الكنيسة المتحدة مع البارونات واللوردات والدوقات. وقد حطم الإصلاح البروتستنتي السلطة المركزية للكنيسة الكاثوليكية في روما ووضع السلطة بيد الملوك القوميين المدعومين من الطبقات الوسطى الصاعدة، وأخضع المؤسسة الدينية، في كل بلدٍ، لسلطات الدولة المحلية، مطلقاً عملية تدريجية أدت بعد قرونٍ إلى العلمنة.
أما إسلامويو “الربيع العربي” فإنهم لا يحطمون السلطة الاقتصادية عابرة الحدود أو يقاومون العولمة، ولا يهاجمون الثقافة الإقطاعية أو يسهلون صعود القومية، ولا يطلقون موجة من أجل التحرر، بل من أجل العودة للعبودية، الخارجية والداخلية، وهم يهاجمون القومية بزعم أنها ملحدة، محاولين ضرب الأسافين بين القومية العربية والإسلام.

إنهم يروجون فعلياً لهيمنة الرأسمالية المعولمة عابرة القوميات فيما يعيدون فرض سلطة القيم الإقطاعية ونفوذ ملكيات الخليج العربي كوكيل محلي وممول للعولمة في المنطقة العربية، أما تأويلهم الإقطاعي-الريعي للدين فيؤدي فقط لتشظية المجتمع العربي وتفكيكه إلى مجموعات طائفية تنحدر إلى حروب دينية لا تنتهي أبداً محطمةً الوحدة الوطنية وقدرة الأمة العربية على مقاومة العولمة وحلفائها من الملوك الإقطاعيين في المنطقة.

وعليه، فإن مقارنة عزمي بشارة المخترقة للإصلاح البروتستنتي في أوروبا بالقرون الوسطى بالسيطرة الإسلاموية على “الربيع العربي” تشي بالكثير بحد ذاتها. فالتفحص السريع للحالتين يكشف مدى رجعية الموجة الإسلاموية المعاصرة، وكيف تخدم الإمبريالية وحلفائها بشكلٍ مباشر من خلال تقويض قوى الوحدة والتقدم في الوطن العربي.

وإذا كانت السيطرة الإسلاموية على “الربيع العربي” ستقارن بأحداثٍ من أوروبا القرن السادس عشر، فإنها يجدر أن تقارن بحركة مناهضة الإصلاح الكاثوليكية ومحاكم التفتيش التي سعت، بالإرهاب، لإعادة فرض القيم الإقطاعية والسيطرة عابرة القوميات للكنيسة على أوروبا. ولا شك إن الفشل الختامي لحركة مناهضة الإصلاح تثير فينا الأمل بالنصر فيما نواجه اليوم موجةً رجعية كتلك التي نواجهها، لكن الحروب الطائفية وسفك الدماء غير المسبوق الذي اطلقته حركة مناهضة الإصلاح هو أمرٌ لا يمكن أن يسعى عاقلٌ لتكراره أو تقليده.

ويأمل المرء بأن بشارة لا يتطلع قدماً لحذو الوطن العربي حذو أوروبا القرن السادس عشر التي كان عليها أن تحتمل قرنين من المجازر الطائفية وسفك الدماء لكي تصل، أخيراً، للقرف العام من هيمنة رجال الدين على السياسة. فالوطن العربي، أولاً، لديه تقليدٌ قومي تقدمي يقوم على مفهوم المواطنة فوق الطوائف، ولا يحتاج لإعادة اختراع العجلة لكي يكتشفه من جديد. والإمبريالية، ثانياً، تراقب وتلقي بظلها فوق كل العملية، وبالتالي فإننا لا نملك رفاهية تجاهل ما يجري حولنا من تآمرٍ لكي نخوض حروباً طائفية فيما بيننا على أمل أن نكتشف، بعد مئة عام مثلاً، مخرجاً ما من الفوضى الدموية المحدقة. إن “أخونة” و”سلفنة” ما يسمى “الربيع العربي”، و”بركات” الولايات المتحدة والناتو والكيان الصهيوني على الموجة الإسلاموية تكشف بأن تلك الموجة ليس في الواقع أكثر من غطاء لمصادرة الإمبريالية لعقل المنطقة وقلبها.

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..