في التطبيع و”الربيع العربي”

الصورة الرمزية لـ ramahu



د. إبــراهـيـم علـــوش

محاضرة ألقيت في مجمع النقابات المهنية في عمان في 7/3/2011 بدعوة من نقابة أطباء الأسنان الأردنيين تحت عنوان “التطبيع والحراك الشعبي العربي”، بالاشتراك مع د. حياة عطية، وتمكن مشاهدة الفيديو على موقع http://www.jordandays.tv/


في تعريف التطبيع: سبق أن عرفنا التطبيع في مادة تتناول ذلك الشأن بأنه جعل العلاقات طبيعية بين طرفين ليست العلاقات بينهما طبيعية حالياً، سواءٌ كانت طبيعية سابقاً أم لا، وبأنه عملية وصيرورة دائبة وصولاً لتحقيق غاية، لا خطوة واحدة عابرة سريعة أو غير سريعة. وقلنا أن التطبيع، بالنسبة لصراع الأمة العربية مع العدو الصهيوني، هو نهج وأداء وعقلية جوهرها كسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكال مختلفة، سواء كانت ثقافية أو إعلامية أو سياسية أو اقتصادية أو سياحية أو دينية أو أمنية أو إستراتيجية أو غيرها. لكن بغض النظر عن شكله، فإن فحوى التطبيع مع العدو الصهيوني يبقى واحداً وهو جعل الوجود اليهودي في فلسطين أمراً طبيعياً، وبالتالي فإن أي عمل أو قول أو صمت أو تقاعس يؤدي إلى التعامل مع الوجود اليهودي في فلسطين كأمر طبيعي يحمل في طياته معنىً تطبيعياً.


حول ابتعاد “الربيع العربي” عن التناقض مع الإمبريالية والصهيونية: وقد لاحظنا مبكراً في أكثر من مادة أن ثورات ما يسمى ب”الربيع العربي” قد ركزت على قضية الديموقراطية بالمعنى الغربي، بمعنى الانتخابات والتعددية وتداول السلطة وما شابه، وأنها أهملت منذ البداية التناقض المركزي مع الإمبريالية والصهيونية، وقلنا منذ بداية ربيع عام 2011 ما مفاده على هذا الصعيد:
فإذا بدأنا من فرضية أن الأساس هو الحريات الفردية، وأن كل من يعيق الحريات الفردية هو العدو، وكل من يسهل نيلها هو الصديق، يصبح من السهل عندها أن نتعامل مع الولايات المتحدة وحلف الناتو والدول العربية التابعة لهما، لا على أساس مشاريعها في المنطقة، والاصطفاف القائم على الأساس القومي، بل على أساس الشعارات السياسية التي يرفعونها لتمرير مشاريعهم السياسية. وقد رأينا ما جرى في العراق، على سبيل المثال لا الحصر، ونعرف بالتالي أن المشروع الأمريكي في المنطقة هو مشروع: 1) هيمنة، و2) تفكيك، 3) بغلاف “ديموقراطي”.


أما إذا بدأنا من أولوية التناقض الرئيسي مع الإمبريالية والصهيونية، وهو التناقض الذي لاحظنا تغييبه إلى حدٍ بعيد في الانتفاضات الشعبية الأخيرة، فإن الاصطفاف يصبح مختلفاً بالضرورة، وعندها تصبح الدول والقوى التي تشكل عائقاً أمام المشاريع الإمبريالية والصهيونية قوى صديقة بالضرورة، حتى لو كانت لنا ملاحظات كبيرة عليها، ولو كان تناقضها مع الإمبريالية والصهيونية نابعاً ببساطة من مخطط قوى العولمة في تكسير الدول المركزية، مثل يوغوسلافيا السابقة أو كوريا الشمالية، المعيقة لمخططاتها. في تلك الحالة، لا نسقط مطلب الإصلاح والتغيير طبعاً، ولا نسقط مطلب الحقوق الفردية، ولكننا نشترط بالحد الأدنى ما يلي:
1) أن يكون صاحب ذلك المطلب غير مرتبط بأجندة خارجية أو بعلاقة مع الخارج الاستعماري المعادي،
2) أن لا يكون جزءاً من مشروع تفكيك الوطن باسم تغيير النظام.


وقلنا في أكثر من مادة أن ثمة عوامل موضوعية متشابهة للحراك الشعبي العربي عندما بدأ في مصر وتونس، ومنها: 1 – ذلك المزيج المتفجر من بطالة الشباب وارتفاع مستواهم التعليمي في آنٍ معاً، 2 – إفقار الشعب بالترابط مع استشراء الفساد وتمتعه بالحماية السياسية على أعلى المستويات، 3 – التفريط بالثروات العامة وإخضاع البلاد لنهج اقتصادي ليبرالي متطرف لا يطبق حتى في الولايات المتحدة نفسها، 4 – التبعية للخارج ورهن القرار السيادي بقوى الهيمنة الخارجية وممارسة التطبيع مع العدو الصهيوني، 5 – مصادرة القرار السياسي للمواطن وحقه في تقرير شؤونه العامة إما بشكل قمعي مباشر أو من خلال واجهات شكلية مثل مجلس نواب لا يغني ولا يسمن وتم تفصيله على مقاسات الأجهزة الأمنية والسلطة التنفيذية…


لذلك، وهذه موجهة لمن يتصيدون الكلام فقط، لم نقل أن الحراك مفتعل إمبريالياً، بل أنه اخترق إمبرياليا، وأن ثمة قوى انتهازية لم تطلقه ركبت موجته، وأن الحراك المفتقد للبرنامج الثوري والقيادة الثورية يصبح فريسة سهلة للاختراق والانحراف، وأنه يصبح قابلاً للتوظيف لمصلحة الإمبريالية والصهيونية، خاصة في الدول ذات النزعة المستقلة، إذا فقد بوصلة العداء للإمبريالية والصهيونية، ويصبح عرضة للانخراط في التطبيع.


وقلنا بعد اتضاح الصورة إلى حد الغثيان في نهاية عام 2011: الديموقراطية في الغرب نشأت في الدول المركزية القومية المستقرة، بعد تكريس مفهوم المواطنة، على حساب الطوائف والأقاليم، وبعد الثورة الصناعية وعصري النهضة والتنوير. أما الانتخابات والتعددية التي تكرس الانقسامات الطائفية والعرقية والعشائرية والمناطقية فهي وصفة للدمار، ولتفكيك الدول والمجتمعات.
المشروع الديموقراطي الحقيقي بالتالي هو المشروع الوطني والقومي، مشروع التنمية المستقلة، ومشروع التحرر عن الإمبريالية، لأنه يحقق الشروط الموضوعية للمجتمع الديموقراطي، أما “الديموقراطية” في ظل الانقسام فتمهد للحروب الأهلية والدمار.


إذن قلنا ان التحرر القومي والسيادة هما شرطان ضروريان، غير كافيين، للديموقراطية في الوطن العربي، وبالتالي فإن أي مشروع ديموقراطي حقيقي، كنقيض للديموقراطية الليبرالية، لا بد أن يبدأ بأولوية الصراع مع الإمبريالية والصهيونية.


لكن ما حدث كان عكس ذلك بالضبط. فبعد تسرب تقارير روسية وغير روسية عن اختراق الحراك الشعبي العربي من قبل الإمبريالية، بدات تظهر قسمات مشؤومة على وجه ما سمي ب”الربيع العربي” سبق أن تطرقنا إليها في ورقة تحت عنوان تداعيات التدخل الأجنبي في الوطن العربي، ومنها:
1) دور الإمبريالية والصهيونية الواضح في مشروع إسقاط النظام في ليبيا وسوريا، من خلال دور الصهيوني هنري برنار ليفي مثلاً، واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة (أنظر ورقة أليوت إبرامز التي تطرح مشروع إسقاط النظام في سوريا)، أو من خلال المواقف المعلنة في وسائل الإعلام، أو من خلال مجلس الأمن الدولي، أو من خلال أقرب حلفاء الإمبريالية والصهيونية في المنطقة (مثلاً موقف قوى 14 آذار في لبنان)،
2) انكشاف علاقات التنسيق والشراكة الإستراتيجية بين “ثوار” ليبيا وسوريا، من جهة، وبين الإمبريالية والصهيونية من جهة أخرى، ومن ذلك العلاقة مع الصهيوني هنري برنار ليفي مثلاً،
3) ابتعاد “ثوار” ما يسمى ب”الربيع العربي” عن طرح أي تناقض مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، والتركيز على موضوعة “الإصلاح الدستوري والانتخابي”، دون المساس ببنى التبعية والعلاقات مع العدو الصهيوني، ومن ذلك تصريحات راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة الإخوانية، في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الصهيوني، بعد لقاء للغنوشي في 30/11/2011 في ذلك المعهد قال فيه: أن “النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي” لا يعنيه، لأنه شأن الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، وأنه جاء للتحدث عن تونس ومصلحته الخاصة (هكذا!)، وأضاف بأن حزبه لم يضع في برنامجه الانتخابي شيئاً يمنع إمكانية نشوء علاقة مع “إسرائيل”، وأكد على التنسيق مع الناتو الذي لن ينقطع…
4) انكشاف حجم الاختراق عبر منظمات التمويل الأجنبي وشبكات “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان”، وهو ما وثق له أكثر من كاتب في روسيا والصين، ناهيك عما كتبه بعض الكتاب المصريين،
5) انكشاف التحالف الذي عقدته بعض قوى الإسلام السياسي في المنطقة مع الإمبريالية الأمريكية، ومن ذلك ما صرح به جيفري فلتمان، مساعد وزير الخارجية الأمريكية، لصحيفة يديعوت أحرونوت، والتي ترجمت منها صحيفة العرب اليوم مقتطفات في 9/12/2011، قال فيها أن ثمة تفاهماً مع حركة الإخوان المسلمين في مصر، وتنسيقاً وشراكة إستراتيجية مع السلفيين!


من هنا، لم تعد القصة قصة انحراف عن جادة الصواب وخلط للأولويات، بل تعدتها إلى ممارسة التطبيع مع العدو الصهيوني مباشرة، وليس فقط التنسيق الأمني والعسكري والسياسي مع حلف الناتو، الذراع العسكرية للإمبريالية، حاضنة العدو الصهيوني وراعيته. ولعل أبرز مثال على ذلك إعلان الإخوان والسلفيين في مصر احترام معاهدة كامب ديفيد، وكانت وسائل إعلام شتى قد نقلت في 18/12/2011 عن الدكتور سعيد الكتاتني، الناطق الإعلامي باسم جماعة “الإخوان المسلمون” في مصر، في تصريحات له على قناة “سي أن أن” الأمريكية: “الجماعة عارضت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، حينما كانت تناقَش، ولكن عندما تم توقيعها وأُقرت، أصبحت واقعاً ومعاهدة يجب احترامها”، مشدداً على أن “الجماعة تحترم جميع المعاهدات الدولية التى وقعتها مصر”.


وقد تكررت مثل تلك التصريحات مراراً، ومنها ما نقلته هآرتس في 28/11/2011 عن تطمينات قدمتها جماعة “الإخوان المسلمون” في مصر لحكومة الولايات المتحدة حول عدم إلغاء معاهدة كامب ديفيد، وما نشره موقع العربية نت في 12/1/2012 عن د. رفيق حبيب، نائب رئيس حزب الحرية والعدالة الإخواني، بعد لقائه مع مساعد وزير الخارجية الأمريكية وليام بيرنز في مقر الحزب، من أن “أن الدولة المصرية عليها التزامات وأن حصول أي حزب على أغلبية برلمانية فيهدم هذه الالتزامات والاتفاقيات غير وارد”. الخ…


وكذلك يسير سلفيو حزب النور على نفس المنوال كما كتبت وكالة الصحافة الفرنسية في تقرير لها في 21/12/2011: أجرى يسري حماد المتحدث باسم “حزب النور” السلفي المصري مقابلة غير مسبوقة عبر الهاتف من القاهرة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي اليوم الأربعاء قال فيها إن حزبه “يحترم جميع المعاهدات” التي وقعتها مصر بما فيها اتفاقية السلام الموقعة مع إسرائيل عام 1979.


ويشار أن جماعة “الإخوان المسلمون” وقفوا ضد اقتحام السفارة الصهيونية في القاهرة في 9/9/2011 بالقول والعمل، وأنهم أعلنوا والسلفيون عدم المشاركة في جمعة “تصحيح المسار” وقتها، كما حاولوا منع المتظاهرين من اقتحام السفارة تحت عنوان الأمن والنظام في الوقت الذي انتقدوا فيه أي استغلال للأحداث للضغط على الحريات أو تأجيل الانتخابات همهم الرئيسي…


وقد كان صدر الدين البيانوني، المراقب العام السابق لجماعة “الإخوان المسلمون” في سوريا قد أعلن منذ عام 2006 “انه اذا تولت الجماعة السلطة في دمشق فستكون مستعدة لإجراء محادثات سلام مع اسرائيل”، وقد أعادت القناة الثانية “الإسرائيلية” في بداية شهر حزيران 2011 بث تلك المقابلة مع التلفزيون الإسباني، على حد قول الجماعة نفسها، (بعد المقابلة مع حليفه عبد الحليم خدام التي قال فيها أن ثمن سقوط النظام السوري هو الاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود) والتي قال فيها: إن “إسرائيل موجودة، وهناك قرارات الشرعية الدولية التي تطالبها بالعودة إلى حدود العام 1967 ونعتقد أنه إذا نفذت هذه القرارات يمكنها أن تعيش بسلام”.


ويذكر أن واشنطن بدأت تمول المعارضة السورية منذ عام 2006، على حسب برقيات ويكيليكس التي سربتها الواشنطن بوست الأمريكية.


ولا ننسى طبعاً الفيديو الذي ظهرت فيه بسمة القضماني، الناطق باسم “المجلس الوطني السوري” على التلفزيون الفرنسي مع ثلة من المثقفين “الإسرائيليين” عشية الذكرى الستين لتاسيس الكيان الصهيوني، وكما ذكرت شبكة الوحدة الإخبارية في 21/2/2012 عن ذلك الفيديو: “واستضافت الحلقة الحوارية على إحدى القنوات الفرنسية، عددًا من الكتاب الإسرائيليين واليهود وكانت قضماني الضيف العربي الوحيد غير اليهودي في الحلقة. ولم تخفِ القضماني إعجابها بـإسرائيل والإسرائيليين، بحسب المشاهد، حيث قالت القضماني إن العرب بأمس الحاجة لوجود دولة إسرائيل بجانبهم، وأضافت أن حديث طفلها مع زميله اليهودي عن السلام كان لحظة عاطفية. وقالت القضماني إنها تهتم وترتاح أكثر عندما تتحدث مع شخص إسرائيلي. ويذكر أن القضماني عضو في المجلس السوري المقيم في باريس، والمطالب بضرورة التدخل العسكري لإسقاط النظام السوري”.


ومن الواضح أن قضية التطبيع بدأت عند جماعة “الثورة السورية” قبل أمدٍ طويل من بدء تلك الثورة كما نرى مثلاً من مثال مشاركة النائب السابق مأمون الحمصي في مؤتمر للأمن مع الناشطة “الإسرائيلية” فيانا نيرينستين في براغ عام 2007، وبمشاركة الوزير الصهيوني السابق ناتان شارنسكي وآخرين.


لكن مؤتمر باريس الذي عقده الصهيوني الليكودي المهووس هنري برنار ليفي لمساندة المعارضة السورية في أوائل شهر تموز 2011، والذي أثارت المشاركة فيه خلافاً في صفوف تلك المعارضة نفسها، تم بمشاركة عدد من رموز مؤتمر أنطاليا وممثل جماعة “الإخوان المسلمون” في سوريا ملهم الدروبي. ومن المعروف أن ليفي نفسه كان قد لعب دوراً مركزياً فيما يسمى “الثورة الليبية”. وبالإضافة للعلاقة الوطيدة بين حلف الناتو والثورات العربية، فإن شخصية ليفي نفسها، بكل ما تحمله من شحنة تطبيعية غير قابلة للجدل، ربما تكون التعبير الأمثل عن حقيقة ما يسمى “الربيع العربي”، خاصة دوره في نقل رسالة الطمأنة التي تناقلت أخبارها وسائل الإعلام في 4/6/2011 من متمردي الناتو في ليبيا إلى بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني بعد لقاء الأخير مع ليفي لمدة ساعة ونصف في القدس العربية المحتلة…


ولعل كل ما نقلناه ليس إلا رأس جبل الجليد، لكن ذلك لا يهم، فالتطبيع تطبيع، وليس هنالك شيء اسمه نصف قذارة أو ثلث دعارة أو ربع تطبيع، وما رأيناه على الملأ يكفي لنطلق حكماً قاطعاً بالتطبيع مع العدو الصهيوني على المشروع السياسي لما يسمى “الربيع العربي”، حتى دون أن ندخل في تحليل مستنقع تحولات حركة حماس في السياق الإقليمي والفلسطيني الداخلي.

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..