كيف نتعامل مع الوطنجية الشوفينية؟

الصورة الرمزية لـ ramahu

naji

دياب أبو جهجه

أزمة هوية عميقة تعصف بنا و ببلادنا لا تكفي أبدا للاحاطة بها نظرياتنا الايديولوجية الجامدة و انما هي بحاجة لفهم ديناميكي لطبيعة التخلف على كل الصعد بما فيها الهوياتي. أن الأمة العربية التي تكونت و اكتملت تحت جنح الدولتين الأموية و العباسية و لم تتراجع كثيرا تحت الحكم العثماني لأنها كانت لا تزال في اطار سياسي واحد عموما و بحدود مفتوحة و بوعي جمعي مشترك دخلت منذ تسلل الاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر طور التفكيك المدروس و منذ حرب الكويت 1990 و من ثم حروب العراق المتتالية و حرب غزة الأخيرة و تنامي الشعوبية و المذهبية و انحسار الفكر القومي و تمادي الانظمة في التركيز على أولوية الانتماء المحلي و بث وطنجية شوفينية كهوية بديلة للعروبة و للاسلام بدأت مرحلة جديدة من التفكك الحقيقي. لا بد من اعادة بناء و من تصادم مع هذه الحالات الشوفينية لانه اذا فشلنا في كيها من وعينا لن يكون أمامنا سوى الانصياع لها و المرور الى الوحدة التكاملية من خلالها. فهل أصبحنا في هذه المرحلة؟

لا شك أن الدولة القطرية العربية التي  و ضعت لبناتها الأولى من خلال الاستعمار في عشرينيات القرن الماضي مع أن بعضها له جذور أعمق من ذلك نجحت في شيء واحد و هو تركيب وعي جمعي بالانتماء اليها. هي لم تنجح لا في التنمية و لا في احقاق العدل و لا في تحرير الأرض و لا في دخول العصر و ما زالت أداة في يد زمر حاكمة فاسدة و مرتبطة بالخارج عموما, و لكنها نجحت في اضافة مرض جديد الى أمراضنا و هو التشقق الهوياتي و الشوفينية الوطنجية.

ظهر ذلك جليا في لبنان خلال مرحلة 14 اذار 2005 حيث تضخمت السرطانية الوطنجية و بدأ قتل العمال العرب في الشوارع و تعالت الحناجر هتافا بعظمة لبنان و خلوده و تميزه و تفوقه على غيره من الشعوب المحاورة الأكثر تخلفا برأي الشوفينيين اللبنانيين.  و كان من الطبيعي أن تصدح الحناجر بصرخة لبنان أولا و أن يكون الخطاب المهيمن هو ” لقد قدمنا الكثير من التضحيات للقضايا العربية بينما العرب يتفرجون فكفى,  و للننظر اليوم لمصالحنا”.

و كان من الطبيعي أن تجد القوى الاسلامية و القومية نفسها في مواجهة هذا الخطاب نتيجة لتمسكها العميق بمفهوم الأمة و ادراكها لترابط المشاكل في بلادنا و لكونها مشاكل مشتركة تتطلب حلولا مشتركة. فانتفض الاسلاميون و القوميون في لبنان ضد المنطق الفئوي و الوطنجي و نزلوا الى الشارع بشكل صدامي جريئ رافعين شعارات أفقدت الشوفينيين صوابهم مثل “شكرا سوريا” في زمن كان اسم سوريا يمثل في لبنان عند الوطنجيين مرادفا لكل الشرور.

و دخل لبنان صراعا مريرا بين المنطقين و ان كان مشوها بالنزعة الطائفية و المذهبية الا أنه و في خلفيته صراع بين خط التفتت الشرق أوسطي التسووي تحت شعار القطر أولا و خط المقاومة المتمسك بمفهوم الأمة عربية أم اسلامية كانت. و هبت “اسرائيل” في 2006 لنصرة الخط الوطنجي التفتيتي و تصفية الخط المقاوم لتبدأ كما قالت رايس في حينها مخاضات ولادة الشرق الأوسط الجديد. فكان أن انتصرت المقاومة و ردت العدو على أعقابه و أكملت انتصارها في 7 أيار 2008 بأن وجهت ضربة قاسمة عسكريا للقوى التفتيتية الوطنجية و فرضت توازن قوى لصالح الخط المقاوم العروبي. و لم تسقط المقاومة في لبنان حرية الرأي و التعبير و الديمقراطية و انما وضعت لها خطوطا حمراء أهمها سلاحها الموجه نحو الصهيوني و انخراط لبنان المستمر و الدائم في معركة الأمة.

اليوم, و من أجل مصالحها الضيقة و المتعلقة بنهب خيرات الشعب و توريثه للعائلات الحاكمة, تقوم الزمر الحاكمة في مصر و الجزائر بعملية مماثلة لتضخيم الوعي السرطاني الوطنجي على حساب الانتماء العربي و الاسلامي.  و ينساق الشعب العربي في مصر الى خطاب نظامه العميل بشكل كبير جدا نتيجة للجذور العميقة للشعور الوطنجي في مصر و ذلك منذ أن عزلت بريطانيا مصر عن كافة الأقطار العربية الأخرى و عن السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر و نمت شعورا محليا لدى العرب المصريين مبني على اساطير الانتساب للفراعنة و حضارتهم و هو كلام لا اساس علمي أو تاريخي له. فمعظم المصريين اليوم أساسا من سلالة القبائل العربية التي دخلت شمال أفريقيا مثل بنو هلال و بنو سليم و غيرها و لا يمتون بصلة للفراعنة أصلا ما عدى الأقباط اللذين هم يمثلون أحفاد المصريين الأصليين. كما أن العروبة كبوتقة غير عرقية شكلت الهوية المشتركة لكل المصريين أقباط و مسلمين في مواجهة الحكم المملوكي لقرون عديدة فكان هنالك الباشاوات و الباهوات و كان هنالك في مواجهتهم “أولاد العرب” بلسان الشعب المصري. و ثورة عرابي كانت تسمى “ثورة أولاد العرب” و كل هذا قبل أن يتسعيد عبد الناصر وعي مصر القومي بعروبتها و يضعه فوق الانتماء المصراوي الوطنجي البريطاني الصنع و يزيل حتى اسم مصر من اسم الدولة لتصبح الجمعورية العربية المتحدة و تبقى كذلك بعد الانفصال حتى الانقلاب الساداتي.

و نحن لا نقول هنا أن العرب لا يجب أن يحبوا أقطارهم لأن كل انسان في العالم يحب المنطقة التي يسكن فيها و نشأ فيها و يميزها عن غيرها. فالشعور “الجهوي” طبيعي على شرط ألا يأسطر ليتحول الى هوية بديلة للهوية الجامعة. نعم أنا أحب لبنان و تحديدا جنوبه أكثر من مصر و من الجزائر و انتمي اليه كمنطقة من وطني العربي و لكنني لا أنخدع أبدا بهذا الشعور المناطقي و أستبدل به انتمائي القومي. و عندمل يوضع الوطن الأصغر في مواجهة الوطن الأكبر لا بد من أن نقول سحقا للوطنجية.  فلا قيمة لا للبنان و لا لمصر و لا للمغرب و لا للجزائر من دون العروبة هوية حضارية جامعة و سمحة. 

يجب أن ندافع عن الوطنية في مواجهة الطائفية و المذهبية و الاثنية, و لكننا أيضا يجب أن ندافع عن العروبة في وجه الوطنية المفرطة. هذه هي المعادلة التي يجب أن نتمسك بها دوما كقوميين و تقدميين. تماما كما يجب أن ندافع عن الأممية في وجه التعصب القومي الشوفيني . كل هذا دون أن نكف عن كوننا وطنيين و قوميين و بشر.

أما الدولة القطرية فواجبنا أن نحافظ عليها في وجه الاحتلال الخارجي و محاولات التفتيت و لكن واجبنا هو أيضا أن نحولها الى ديمقراطية و نخرجها من يد الزمر الفاسدة و العميلة التي تستعملها أداة للقمع و النهب. الدولة في لبنان و مصر و الجزائر و غيرها من الأقطار يجب أن تكون أداة في يد الشعب لا أن يكون الشعب أداة في يدها. عندها فقط تتحول الدولة الى رافد للتقدم و العروبة و الانفتاح و تتوقف عن كونها عائق قي وجه الأمة.  الدولة القطرية اذا ما كانت ديكتاتورية أو فاسدة هي عدو للأمة العربية و اذا ما كانت ديمقراطية و حرة هي لبنة في بناء الوحدة العربية.

 و أخيرا, أقول لمن اساء فهمي في مقالتي التي تحدثت فيها عن مدى الفقر و الجهل و الانحلال في بلادنا أن عليهم أن يعرفوا أن القومي العربي لا يكتب تشفيا و لا شماتة عندما يتكلم عن أزمات أمته و شعبه و انما يكتب بعض الأحيان غاضبا على أبناء جلدته, خاصة عندما ينساقون وراء الأعداء من طغاة و غزاة و لصوص. فأما القوميون الحقيقيون فيفهمون و أما مدعي القومية ممن تشبعو بشوفينيات الدول المصطنعة فيشتاطون و ينفضحون.



Dyab Abou Jahjah
www.aboujahjah.com

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

رد واحد على “كيف نتعامل مع الوطنجية الشوفينية؟”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..