حول خطاب مشعل: الدولة الفلسطينية مشروع تصفية للقضية لا برنامج تحرير على مراحل

الصورة الرمزية لـ ramahu

عصام حنفي
عصام حنفي

 

د. إبراهيم علوش

  الذين يجادلون بأن حماس لم تقترب بخطوات واسعة من خط حركة فتح، بعد خطاب خالد مشعل في دمشق مساء يوم الخميس الموافق في 25/6/2009، لم يقرأوا جيداً على ما يبدو برنامج النقاط العشر الذي تبناه المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة في القاهرة عام 1974، وهو البرنامج الذي كرس رسمياً، بإجماع المحللين والمؤرخين المعاصرين، التحول المفصلي لمنظمة التحرير الفلسطينية من المقاومة إلى التسوية.  فهو الحلقة المركزية الذي تم الانحدار عبرها للاعتراف بالكيان الصهيوني في الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988، ومن ثم الانحدار أكثر لأوسلو وللتنسيق الأمني والسياسي مع العدو الصهيوني في مسيرة استغرقت قرابة عشرين عاماً انتقلت خلالها تنظيمات م.ت.ف من مشروع التحرير إلى الحالة الرثة التي تعيشها اليوم.

  برنامج النقاط العشر لعام 1974 في الواقع يمثل بالمقارنة سقفاً سياسياً أعلى بكثير من مشروع الدولة الفلسطينية الذي باتت تتبناه حماس رسمياً للأسف، بعدما كان يُقال سابقاً بأنه مجرد تكتيك.  وإليكم مقتطفات منه يستطيع كل من يرغب أن يعود للنص الأصلي للنقاط العشر على الإنترنت وغيره ليتأكد منها ومن سياقها:  “تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة عل كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها... تناضل منظمة التحرير ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة والتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وتقرير مصيره فوق ترابه الوطني… إن أية خطوة تحريرية تتم هي حلقة لمتابعة تحقيق إستراتيجية منظمة التحرير في إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المنصوص عليها في قرارات المجالس الوطنية السابقة...”.

  وبالرغم من الحديث الوارد في النقاط العشر عن التحرير والكفاح المسلح ورفض الاعتراف بالكيان كثمن للكيان الفلسطيني، وبالرغم من اعتبار ما ورد “خطوة” على طريق الدولة الفلسطينية “المنصوص عليها” سابقاً، أي على كامل فلسطين، فإن التنازل المبدئي المهم والجديد فيها كان الحديث عن قبول تأسيس “سلطة وطنية” فلسطينية على جزء من فلسطين، والحديث عن تقرير المصير للشعب الفلسطيني “فوق ترابه الوطني”، وليس على كل ترابه الوطني مثلاً، ثم أن الجديد الذي تم البناء عليه لاحقاً كان تكريس فكرة “المرحلية”، واستبدال هدف التحرير بهدف الدولة. 

  وفي النقطة الأولى من النقاط العشر تم رفض القرار 242 لأنه “يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين” فحسب، وليس لأنه يعترف بالكيان الصهيوني مثلاً، كما أن ديباجة النقاط العشر التي تقدم لها وتبررها تبنيها على أن عملية التسوية تحركت بفعل حرب تشرين عام 1973، وكما جاء نصاً: “كان من نتائج حرب تشرين أن تحركت قضية الشرق الأوسط على الصعيد الدولي بعد أن كانت تمر قبل ذلك بحالة ركود اصطلح تسميتها ” حالة اللاحرب واللاسلم” وصدر عن مجلس الأمن القرار رقم 338 في 22/11/1973 الذي جاء يؤكد القرار رقم 242″، وبالتالي فإن م.ت.ف هي الممثل الشرعي الوحيد ولا يحق لأحد أن يتفاوض بالنيابة عنها…  إذن السياق السياسي لطرح النقاط العشر كان سياقاً تسووياً، ومحاولة قيادة م.ت.ف وضع موطئ قدم لها على طاولة الحلول السياسية، ولم يكن أبداً سياق تحرير على مراحل أو بلا مراحل كما ما برح يُقال ذراً للرماد في الأعين.

  المهم بالنسبة لنا ليس تقييم النقاط العشر التي تجاوزها واضعوها إلى ما هو أدنى منها بكثير، بل الصيرورة وعملية التحول التي أسست لها النقاط العشر ببرنامج “المرحلية” والدولة، فكما تتحول الشرنقة إلى فراشة، والبذرة إلى نبتة، لا يمكن للنهج المرحلي إلا أن يطلق آلية يتجاوز بها ذاته إلى أسفل سافلين في صيرورة معاكسة لقانون نفي النفي، نحو الاختفاء، بدلاً من الارتقاء، ما دامت القدم قد بدأت تنزلق، لينبثق عباس من رحم عرفات، ولينبثق عبد ربه من رحم حواتمة، كنتيجة موضوعية للخط السياسي التسووي، وليعمل عباس وفياض على شطب حركة فتح بعدما لعبت دور القابلة القانونية لولادة السلطة… فالصيرورة هنا هي الأساس وكيفية تحول الإنسان التسووي بالضرورة من عميل بالقوة إلى عميل بالفعل.

  هذه الرؤية ليست للمزايدة على أحد، بل لتقييم مسار تاريخي نضجت نواته التسووية حتى سقطت وتعفنت أمام أعيننا جميعاً دون أن تعود علينا إلا بالمزيد من الخراب.  وهذه الطريق سبق أن سار عليها الجمع، فلماذا نجرب ما تم تجريبه من قبل؟!  ولا شك أن قادة حماس قدموا وما زالوا يقدمون دمهم يومياً من أجل فلسطين، وأن جوهم جو استشهاد لا جو فساد، ليس هذا هو النقاش…  لكن التضحية والاستشهاد بحد ذاتهما لا يحميان أحداً من الانحراف السياسي والمبدئي، وها هي حركة فتح قد بذخت بأعدادٍ لا تحصى من الشهداء والأسرى والمناضلين والمقاتلين الذين قدموا أعمارهم للثورة قبل أن يؤدي تبنيها للنهج التسووي إلى خلق شروط دمارها وشروط ازدهار العمالة في السلطة التي أسستها كما تنبت الطحالب والدِمَن على ضفاف المياه الآسنة… فبدون بوصلة سياسية واضحة، وبدون الاحتكام الصارم للثوابت، وعلى رأسها فلسطينياً الميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل، يصبح الانحراف تحصيل حاصل تحت وطأة الضغوط الشديدة والظروف السياسية الصعبة المحيطة بالقضية الفلسطينية، خاصة في غياب مرجعية عربية تتبنى جدياً مشروع التحرير.  وللعلم والخبر، الجسم الأساسي لقواعد حركة فتح ما فتئ يتبنى برنامج دولة في الضفة وغزة زائد مقاومة، تماماً مثل حماس اليوم، لا فرق بينهما!

  من الواضح أن خطاب الأخ أبو الوليد في دمشق لم يكن المرة الأولى التي تقترب فيها حماس من الطرح الفتحاوي، والأمثلة كثيرة، والأهم من التصريحات هنا هو ما يسمى وثيقة الوفاق الوطني التي ذكرها مشعل بالاسم.  وهي وثيقة معيبة تتبنى مشروع الدولة في أراضي ال67 على أساس قرارات “الشرعية الدولية” (الاعتراف بالكيان الصهيوني) و”الشرعية العربية” (مبادرة السلام العربية).  لكن بالرغم من هذا التدهور الخطير، قيل وقتها أن هذا ليس خط حماس بل الهدف هو “الوحدة الوطنية الفلسطينية” وما شابه، بغض النظر عن صحة هذه الذريعة.

  النتيجة واحدة طبعاً، ووثيقة الوفاق الوطني تعادل اعتراف منظمة التحرير بالكيان الصهيوني عام 1988 تحت قناع هزلي هو “إعلان الاستقلال”، لكن الجديد في خطاب مشعل أن برنامج الدويلة لم يعد يقدم تحت غطاء أية ذريعة أخرى سوى الدولة نفسها، وليس “الوحدة الوطنية” أو “التكتيك” أو “إحراج الخصم” أو “شق صفوف العدو” أو غير ذلك من المسوغات المألوفة فلسطينياً والتي تحتاج إلى تفنيد تفصيلي بحد ذاتها في معالجة منفصلة، فكما سبق أن أشرنا: نتناول هنا مآل صيرورة لا موقفٍ ما تم اتخاذه في لحظة من الزمن يمكن أن يخطئ أو يصيب، وهي صيرورة سبق أن مرت فيها فتح والشعبية وغيرها، ويبدو أن حماس باتت تقطع نفس المراحل بعشرة أضعاف السرعة وأكثر إن قارنا الوقت الذي استغرقه وصولها إلى هذه النقطة التي سبقتها إليها فصائل م.ت.ف! 

  مرة أخرى، ليس الهدف هو تصيد أحد أو التخوين والتشويه، والمواقف باتت واضحة للجميع على الملأ، لكنه الرعب الغولي على مصير هذا الشعب وهذه القضية لو اضطررنا لطي هذه الصفحة من تاريخ النضال الفلسطيني، كما طوينا صفحات ثورة ال36 وجيش الإنقاذ عام 48 ومرحلة المد القومي التحرري في الخمسينات والستينات من قبل، ومن ثم صفحة الثورة الفلسطينية المعاصرة، لنفتح صفحة حماس والجهاد… ونقول هذا مع وضوح الرؤية التاريخية بأن هذا الصراع مع الصهيونية تاريخي تناحري طويل الأمد لا مكان للإحباط فيه، وبأن الشعب الفلسطيني يفتح بالضرورة صفحة مقاومة جديدة كل عقد ونيف كلما طوينا صفحة قديمة، فهذا هو درس التاريخ المعاصر للشعب العربي الفلسطيني. 

  الجديد الأخر في خطاب مشعل أنه جعل من خطاب أوباما سقفاً للطرح السياسي الفلسطيني، وأنه رهن الموقف من الإدارة الأمريكية بمدى اقتراب أوباما من تحويل كلماته إلى أفعال، وكأن الإدارة الأمريكية ليست طرفاً في النزاع، وكأنها محايدة لولا التأثير الصهيوني عليها، وكأننا نستطيع أن نفصل موقفها ودورها التاريخي في فلسطين عن موقفها ودورها في الوطن العربي والعالم الثالث كدولة إمبريالية!  وكأن موقف أوباما لا يرتبط بما يقوم به الجنرال دايتون في الضفة الغربية، وهو الذي يأتمر بإمرة أوباما في النهاية كرئيس لهيئة الأركان حسب الدستور الأمريكي!  وكأن أوباما لم يصرح أمام اللوبي اليهودي خلال حملته الانتخابية بأنه يتبنى شعار “يهودية إسرائيل”!! وكأن أوباما ثورة على النظام الأمريكي، لا أعلى ممثل له! 

  والجديد الآخر في خطاب مشعل أنه ربط تأسيس “الدولة” بالإرادة والجهد الأمريكيين لإنجاز “حق تقرير المصير” لشعبنا… وهذا يعني بالضرورة الدخول في نفس النفق الذي دخله عرفات من قبل… وهو مدخل منطقي بالمناسبة لمن يفكر في الدولة، لأن الدولة تحتاج لقرار دولي ورضا دولي، وهذا له شروطه السياسية، وبغض النظر عن القدرة على تلبية هذه الشروط، فإنها بالتأكيد ليست مقدمة لمشروع تحرير فلسطين إلا لمن يروم خداع نفسه.

  إن لعبة مسايرة أوباما تتضح نتائجها منذ الآن فيما قام به وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الاستثنائي في القاهرة الذي قرر دعم تحرك أوباما في “العملية السلمية”، كما ذكرت وسائل الإعلام في 24/6/2009 ، من خلال التنازل عن شروط “المبادرة العربية” المنحلة أصلاً، عن طريق فتح أبواب التطبيع مع الكيان الصهيوني إذا وافق على… وقف الاستيطان وانسحاب القوات الصهيونية من المدن حتى حدود… 28/9/2000، أي عند بدء الانتفاضة الثانية!

  وإذا كانت حرب تشرين قد شكلت السياق السياسي لبرنامج النقاط العشر، فإن تبني حماس رسمياً وبدون مواربة لبرنامج الدولة الفلسطينية يأتي في سياق تحرك أوباما السياسي، وهي في هذا تقدم نفسها موضوعياً، بغض النظر عن النوايا، كبديل أكثر مصداقية من السلطة الفلسطينية نفسها فاقدة المصداقية… فالخطاب بهذا المعنى جزء من التنافس الداخلي الفلسطيني، وليس مشروعاً للتحرير على مراحل!   

  وفي نفس الوقت، فإن حماس تقدم نفسها موضوعياً للفتحاويين كممثل أكثر مصداقية لبرنامجهم نفسه، مع أن خطاب مشعل لم يتضمن شيئاً عن التحرير الكامل، ولو في المستقبل، وسمى برنامج الدولة المستقلة برنامج حد أدنى، لا برنامج مرحلي، ومع أنه لم يقل شيئاً عن رفض الاعتراف أبداً بالكيان الصهيوني، كما ورد في النقاط العشر، بل ركز على رفض يهودية الدولة فقط… والآن فقط لم يعد هناك مبرر للخلاف بين فتح وحماس، فيما لم يكن ممكناً تحقيق تفاهم في السابق بين نهج المقاومة ونهج التسوية.

  أخيراً، عندما يتحدث مشعل عن ضرورة مزج المقاومة بالتفاوض أو بالسياسة، فإن ذلك ربما يشكل خطوة كبيرة للأمام بالنسبة للدول العربية المعتلة (لأن الاعتلال هو صيرورة الاعتدال أيضاً)، لكنه يمثل بالضرورة خطوة كبيرة للخلف بالنسبة لحركة مقاومة ما دام المطروح فعلياً هو التخلي عن برنامج التحرير الكامل من أجل تبني برنامج التسوية والدولة.   فالتحرير على مراحل يعني أن التحرير قد يبدأ من جنوب لبنان أو النقب أو غيرها حسب الظروف الميدانية للقتال، ولا يعني البحث، من خلال حل سياسي و”إرادة وجهد أمريكي ودولي”، عن دولة في الرقعة التي لم يعترف “المجتمع الدولي”، بعد، بحق “إسرائيل” بملكيتها!!  فالنوع الثاني اسمه مشروع تعايش، لا تحرير على مراحل.

  إن ما يجري خطير جداً، ولا بد من التنبيه لخطورته بقوة، وعلى كل مقاوم أن يفهم أن الشعب سوف يدعمه ما دام يقاوم، دون أن يأخذ شيكاً على بياض…!

  وتبقى ماثلة في أذهاننا تجربة الحزب الإسلامي في العراق في التعاون مع الاحتلال، وبعض الأحزاب الإسلامية الأخرى التي لم تتورع بالتعاون مع الأنظمة العربية في مراحل مختلفة…

 

للاستماع للخطاب اضغط على الرابط:

 http://www.alquds.ws/audio/khalid_meshel/2009/meshal_26_6_2009.zip

 getattachmen1t

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..