عبد الحليم قنديل يكتب :
أقول لمستر أوباما
ربما تعرف ـ يا مستر أوباما ـ أن الكثيرين في الأمة العربية والعالم الإسلامي تابعوا بإعجاب أشواط رحلتك الدرامية إلى البيت الأبيض، رحلة الفتى المنسوب لعذاب السود، والذي نقل أجداده إلى أمريكا في سفن شحن البضائع، واقتيدوا للعمل كعبيد في مزارع الدنيا الجديدة، وعوملوا بطريقة أحط من معاملة الكلاب، وكانوا إلى عقود يمنعون من ركوب ‘باص’ مع سادتهم البيض، وسقط شهداؤهم أكواما في حروب التمييز العنصري، وتطلعت جموعهم إلى رحــــمة الإسلام كخشبة خلاص إنساني، وحلم مارتن لوثر كينغ ـ قبل اغتياله ـ بأن يكونوا كالناس، سواسية كأمر الرب، ثم أتى أوباما ليجعل الحلم أملا، وهو ابن الزنجي الذي نقل إلى أمريكا في رحم سيدة بيضاء، وصار أول رئيس أسود للبيت الأبيض، ولا تكاد تلحظ من تاريخه غير اسم أبيه حسين ـ الزنجي المسلم ـ الضائع في التفاصيل .
وربما تعرف ـ يا مستر أوباما ـ أن قصة صعودك الدرامي بدت أحيانا كحملة علاقات عامة، أو كفيلم أمريكي متقن الصنع، وأن أحلامك في التغيير ـ الذي تستطيعه ـ قد تواضعت رويدا رويدا، فقد صعد الرئيس الأسود إلى قمة المؤسسة البيضاء، ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، وراحت المؤسسة تملي قوانينها، وتهذب من جموح الفتى الشارد في البرية، وتلقنه أسرارها ومصالحها ومطامعها، تبطئ الخطى، وتمتص طاقة الدفع، وتستفيد ـ فقط ـ من طلاقة لسانك، وبلاغتك الفطرية، فيما لم تخف حدة حقدها العنصري الموروث ضد العالم الإسلامي الذي تجيء لمخاطبته من القاهرة .
ويحق لك أن تعرف ـ يا مستر أوباما ـ أننا قوم لانكره إلا الذين يكرهوننا، وأن القصة ـ على أي حال ـ ليست مشاعر حب أو كره، بل هو دمنا الذي يسيل، وأرواحنا التي تزهق بمدافعكم وطائراتكم وصواريخكم، وبيوتنا التي تهدم، وثرواتنا التي تنهب، وكرامتنا التي تستباح، وانسانيتنا التي تتنكرون لها، وتعاملنا السياسة الأمريكية كأننا عبيد العصر وكل عصر، وربما تكون ـ يا مستر أوباما ـ على معرفة بالعالم الإسلامي الذي تخاطبه، أو قد لاتكون تعرف، فالمؤسسة البيضاء تتكفل بالتفاصيل، وتحشرنا أرقاما في مقابر الكومبيوتر، وأخشى أنهم أقنعوك أننا قوم سذج، وأن كلمة طيبة تكفي، وأن خطاب علاقات عامة بليغ سوف يغير في صورة أمريكا الكريهة، وهذا كله وهم مطلق، فالمشكلة ليست في الصورة بل في الأصل، والخطأ ـ بل هي الخطيئة ـ في السياسة الأمريكية العدوانية الوحشية، وقد غضبت أمريكا، وأقامت الدنيا فلم تقعدها، ولا لشيء، إلا لأن ثلاثة آلاف من أبنائها راحوا في حوادث سبتمبر 2001، فماذا عن شعورنا نحن؟، وقد قتلت أمريكا منا الملايين في العراق وأفغانستان، وجعلت من قوتها سندا ثابتا لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، وتواطأت على اقتلاع شعب من أرضه، ودعمت حروب إسرائيل التي أهلكت الحرث والنسل، وجعلت من ‘أمن إسرائيل’ بقرة مقدسة، ولا تنظر إلينا إلا من ثقب الباب، أو من نافذة طائرة مقاتلة، أو من فوق حاملة طائرات أو من سفينة ذرية، تنظر إلينا ليس كبشر، بل كمحتلين لأرضنا، وتنشر فينا سلاحها، وقواعدها العسكرية، وتجلب لنا حكامنا، أو تجلبهم إلى طاعتها، وتشطر جغرافياتنا، كان أسلافها ـ الإنكليز والفرنسيون ـ قد قسموا بلادنا باتفاقية سايكس ـ بيكو، قسموا الأمة إلى أقطار، وجاءت السياسة الأمريكية لتقسم الأقطار إلى أمم، وتستبدل أمم الطوائف بأمة الرسالة، جاءت لتغير أسماءنا، وتحول اسم العالم الإسلامي إلى الشرق الأوسط الكبير، ومن حدود الصين إلى حافة مراكش، لا ترى كيانا يستحق البقاء بامتياز سوى ‘إسرائيل، لا ترى علما يحق إلا لها، ولا قـــنابل ذرية تستحق إلا لها، ولا أمنا يستحق إلا لها، ولا بشرا يستحقون الحياة إلا أن يكونوا عبيدا خاضعين مستسلمين لإرادة المارينز، ومن نوع عرب الاعتدال أو إسلام التيك أو اي، إنــــه خـــداع الصورة الزائفة، فالسياسة الأمريكية ترى صورتها مضيئة لأنهـــــا تحــب إسرائيل، وترى في عرب خدمة إسرائيل صورة أمثل، وتحب أن ترانا كلنا كذلك، لا ترى الخشبة في عيــــنها، وتبحــــث عن القـــذى في عيون الناس، وتنــكر علينا حقـــوقنا المقــــدسة في المقــاومة والنهوض والتغيير والعلم والكفاح ضد الظلم، وترى في نزوعنا الإنساني عنوانا للإرهاب، بينما هي الإرهابي الأعـــظم، والذي يكرر قصة كل ظالم مستبد مغرور متوحش، وعلى طريقة الإسكندر الأكبر الذي جاءوا إليه بقراصنة صغار من عرض البحر، سألهم: لماذا تسرقون الناس؟، وردوا عليه بالقول الذي صار مثلا، قالوا له : لأننا نسرق الناس بسفن صغيرة يسموننا ‘قراصنة ‘، ولأنك تفعل ما نفعل بسفينة كبيرة يسمونك ‘إمبراطورا’ (!)، ونحن لم نسرق أحدا، ولا قطعنا الطريق على أحد، نحن الضحايا الذين يحلمون بالنجاة، نحن البشر المهانون في أمس الاحتياج إلى زاد الكرامة، نحن الأمة التي تكتب بدم شهدائها سفر أشواقها للعدل والحرية .
يحق لك أن تعرف ـ يامستر أوباما ـ أنك لن تغير شيئا بخطب العلاقات العامة، فليس ما بيننا كلام قد يصح أن يمحوه الكلام، فصورة أمريكا الكريهة عندنا فعل وليست كلاما، والفعل أسبق إنباء من الكتب والخطب، وما قد يصح أن تفعل ـ إن استطعت ـ كثير كثير، ما قد يصح أن تفعل هو كف ظلم وظلامية السياسة الأمريكية، فهل بوسعك ـ مثلا ـ أن تقرر الانسحاب الفوري الناجز من العراق وأفغانستان؟، هل بوسعك أن تأمر بإزالة القواعد العسكرية الأمريكية من مياهنا وأراضينا؟، هل بوسعك أن تأمر بوقف نهب ثرواتنا البترولية وغير البترولية؟، هل بوسعك أن توقف دعم إسرائيل ودعم الديكتاتوريات العربية الحليفة لواشنطن ؟، هل بوسعك أن تتركنا لحالنا؟، ربما تعرف الجواب يامستر أوباما، فأنت لا تستطيع أن تفعل حتى إن أردت، ولأنك إن أردت لن تكون موجودا، فهم فقط يريدونك كواجهة لطيفة لسياسة قبيحة، هم فقط يتاجرون بسيرتك، ويبيعونك كبطل لفيلم هوليوودي، وهم قد يتركونك تقول ما تريد، وقد تفيدهم بلاغتك، وتواضعك البادي، ولون بشرتك التي تجلب العطف، والكاريزما التي خلقت عليها، والأفضل ـ عندهم ـ أن تقول ما تحب، وأن تفعل ما يحبون .. و ما نكره .
وقد يحق لك أن تعرف ـ يا مستر أوباما ـ أنك تأتي إلى مصر التي لا تعرفها، فمصر ليست مكانا على الخريطة، مصر هي التاريخ الوجداني ومخزن أشواق أمة مستباحة، مصر الحقيقة ليست مصر التي تصادفها أو تصافحها، مصر الحقيقية ليست حسني مبارك ولا نظامه، فنظام مبارك ليس إلا سفارتكم في القاهرة، وحسني مبارك ليس إلا سفيركم، وقبل خمس وثلاثين سنة كانت مصر ـ التي تقاطعكم ـ أمة عظمى في سباق التاريخ، كانت مصر ـ حتى حرب أكتوبر 1973 ـ رأسا برأس مع كوريا الجنوبية في معدلات التقدم والتنمية والاختراق التكنولوجي، وانتهت مصر ـ ببركة معوناتكم ونظامكم التابع فيها ـ إلى أن صارت رأسا برأس مع بوركينا فاسو على مؤشر الفساد الدولي، فليس صحيحا أنكم تأتون للقاهرة تقديرا لمكانة مصر المدهوسة، بل تذهبون للقاء رجالكم ونسائكم فيها، تذهبون لدعم ديكتاتورية النظام المصري، تذهبون عرفانا بخدمات النظام المصري لإسرائيل، تذهبون في حراسة مشددة تحجزكم عن أشواق الشعب المصري، فلا يسعكم أن تحبوا إسرائيل ‘والشعب المصري’ في نفس واحد، ولم يخلق الله لأحد من قلبين في جوفه، وقلب أمريكا مع إسرائيل، بينما عصاها فوق رؤوسنا.
اترك تعليقاً