د. إبراهيم علوش
تشرين 16/8/2017
تحفل الصحف والمجلات الأمريكية الجادة هذه الأيام بأعمدة رأي وتحليلات تتناول إعلان وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA عن إيقاف برنامج دعمها للعصابات الإرهابية المسلحة في سورية، ومع أن هنالك اتفاقاً عاماً فيما يكتب بأن إعلان إيقاف البرنامج جاء بسبب فشله في تحقيق أهدافه، وعلى رأسها “إسقاط” الدولة السورية، فإن زوايا معالجة الموضوع تختلف باختلاف ولاء الكاتب والصحيفة، فالبعض يلوم الرئيس السابق أوباما على التورط في البرنامج أصلاً، والبعض الآخر يلوم الرئيس الحالي ترامب لأنه “يتخلى عن سورية لروسيا وإيران… ويرسل رسالة خاطئة لمن يتحالف مع الولايات المتحدة في المنطقة”! لكن ثمة شبه إجماع فيما يتسرب بأن المستفيد الأول من برنامج دعم العصابات المسلحة كان “النصرة”، فرع تنظيم “القاعدة” في سورية، لا الجماعات المسلحة المسماة “معتدلة” التي يفترض أن مئات ملايين الدولارات وأصناف الأسلحة الثقيلة والاستخبارات والتدريب كانت تُغدق عليها، وأن القائمين على البرنامج كانوا يعرفون جيداً منذ سنوات أن ما قدموه كان يتسرب إلى “جبهة النصرة” سراً وعلناً.
هذا يعادل الاعتراف بأن الولايات المتحدة لم تخلق “داعش” فحسب، بل اسهمت بتعزيز موارد “جبهة النصرة”، إن لم نرِد القول أنها خلقتها أيضاً، وإلا فما معنى الاستمرار ببرنامج ثمة إدراكٌ مسبقٌ بأنه يقدم الدعم لـ”جبهة النصرة” لو لم يكن دعمُها هدفاً (غير معلن) بحد ذاته؟! وما معنى السكوت الأمريكي، في الفترة نفسها، عن برامج دعم أخرى للعصابات التكفيرية المسلحة بدأ يتكشف رأس جبلها الجليدي مع تصاعد الخلاف القطري-السعودي؟! فقد كان للنظامين السعودي والقطري، وللكيان الصهيوني، ولتركيا وفرنسا وبريطانيا، ولغيرها، برامج دعم خاصة للعصابات المسلحة في سورية تجري على قدمٍ وساق تحت مجهر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، مما يعزز الاستنتاج السابق بأن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها لعبوا الدور الرئيس في تقديم الدعم لـ”داعش” و”النصرة” في سورية.
المعلومات المتوفرة تتحدث عن عملية سرية ضخمة صممها ديفيد بتريوس في خريف عام 2011، عندما كان لا يزال مديراً لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، لنقل مخزونات الدولة الليبية من الأسلحة من بنغازي إلى سورية عبر قنوات شتى، وكان ذلك البرنامج الأول الذي تم إيقافه بعد عام تقريباً عشية هجوم تنظيم “أنصار الشريعة” على السفارة الأمريكية في بنغازي. لكن هدف نقل المخزونات الليبية لتسعير أوار الصراع في سورية كان قد تحقق. كما أن تركيا ودولاً عربية لا تستخدم السلاح الشرقي بدأت في تلك الفترة بشراء كميات ضخمة من الأسلحة من ثماني دول في أوروبا الشرقية لشحنها إلى سورية واليمن عبر تركيا والسعودية والإمارات والأردن، كان تقرير لصحيفة “ذي غارديان” البريطانية قد كشف في أواخر شهر تموز عام 2016 أن قيمتها بلغت 1،2 مليار يورو خلال أربع سنوات.
أما البرنامج الثاني لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية الذي أُعلن عن إيقافه مؤخراً، فقد بدأ رسمياً في حزيران عام 2013، وكان يتضمن هدفاً فرعياً، بالإضافة للعمل على “إسقاط النظام”، هو تقوية ما يسمى بـ”الجيش الحر” مقابل الجماعات التكفيرية. وقد تم تمرير البرنامج الثاني، أمريكياً ودولياً، بعد وقف البرنامج الأول بعد هجوم بنغازي، بحملة إعلامية منهجية أدارتها الأجهزة الأمنية الأمريكية والحليفة اختلقت خلالها مزاعم “استخدام الدولة السورية للسلاح الكيماوي” وعممتها دولياً وعربياً بكثافة على مدى أشهر عبر منظومة الإعلام الإمبريالي والبترودولاري، ولا تزال تحاول تعميمها حتى يومنا هذا كأداة للابتزاز السياسي في جهدٍ مستميت للتعويض عن وطأة رجوح كفة الميدان والسياسة بوضوح لمصلحة سورية وحلفائها.
المهم ظلت الموارد وشحنات الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة تتدفق على سورية، ومن بينها صواريخ “تاو” المضادة للدبابات، وراجمات الصواريخ والمدفعية الثقيلة والمدرعات وغيرها، وظلت “تقع” بقدرة قادر بأيدي “داعش” و”النصرة” وأخواتهما على مر السنوات، حتى انقلب السحر على الساحر. فالدعم السخي الغربي والرجعي العربي والصهيوني والتركي لقاطعي الرؤوس وآكلي القلوب والأكباد وبائعي السبايا وكارهي الإنسان وأعداءِ الأوطان جاء ضمن حسبة توظيف همجيتهم المقطّرة من “روح” القرون الوسطى ضد سورية شعباً ودولةً وجيشاً، في مسعى لتحقيق الهدف الاستراتيجي للإمبريالية وحلفائها في تدمير الدولة والمجتمع السوريين، لا “إسقاط النظام” فحسب، على طريق تدمير الدول العربية المركزية، فأسسوا مواطئ قدمٍ لهم في سورية والعراق وغيرهما، فأصبحت حواضن طبيعية لتكاثر مخلوقات الظلام وبثِ أثرها في كل العالم، ومنها الدول الغربية والرجعية العربية نفسها، لأن طبيعة الكائن التكفيري الجوهرية هي العداء للحضارة ونفي أي خط مخالف ولو انبعث من الأرومة التكفيرية نفسها، وهو معادٍ للدولة الحديثة مبدئياً، ولو كانت ولي نعمته، وهو يكفّر المجتمع العربي الإسلامي، فما بالك بالمجتمعات الغربية؟!
إذاً، كانت الفكرة توظيف التكفيريين في مشروع يستهدف الدولة العربية السورية، ففقد الإمبرياليون والرجعيون العرب والأتراك السيطرة على اللعبة، وباتوا أنفسهُم مهددين بالمسخ الدموي الذي أطلقوه على سورية، أما سورية فلم تنهزم، بل صمدت وقاومت وتقدمت وانتصرت، دفاعاً عن الحضارة والإنسان والعقل، وعن كل الوطن العربي، لا عن نفسها فحسب.
كان التكفيريون قد تولوا تحجيم “الإرهابيين المعتدلين” وتصفيتهم دموياً، وبمقدار ما نجحوا مؤقتاً بالتأثير على سيطرة الدولة العربية السورية على شمال البلاد بدعمٍ تركي، بمقدار ما برز خطرٌ على تركيا يفوق أي فائدة ترجى من مطمع مد الظل العثماني إلى شمال سورية والعراق، وكان ذلك الخطر هو المشروع الكردي المدعوم أمريكياً وصهيونياً ضمن السياق التفكيكي نفسه الذي دعا أعداء سورية لدعم التكفيريين، بالإضافة لتصاعد الإرهاب التكفيري في تركيا نفسها، فنشأت نقطة تقاطع موضوعية بين روسيا وتركيا في سورية، لكنْ أنّى لأردوغان أن ينزل عن الشجرة العالية التي صعد إليها؟!
لا شك في أن أداء الجيش العربي السوري وحلفائه في الميدان هو ما أفشل المشروع المعادي في المحصلة، لكن حسن الإدارة السياسية لعبت دوراً مفصلياً في توجيه الموارد العسكرية نحو الهدف الأهم، ففي اللحظة التي تم فيها الاعتراف من قِبل الولايات المتحدة وتركيا والأردن وغيرها أن محاربة الإرهاب التكفيري هي الهدف الاستراتيجي الأول، بات أي مسعى لمحاربة الدولة السورية تناقضاً مباشراً مع ذلك الهدف، وفي اللحظة الذي تم فيها تصنيف “داعش” و”النصرة” كعنوانين رئيسيين للإرهاب التكفيري، بات على الدول الداعمة للإرهاب أن تثبت حسن نياتها ومصداقيتها بتوجيه أدواتها في الساحة السورية لمحاربتهما، من إدلب إلى الغوطة الشرقية إلى حوض اليرموك، وفي اللحظة التي بدأت فيها الأمور تنحو بذلك الاتجاه، بات من الواضح أن الدول الداعمة للإرهاب في سورية راحت تتخبط في سياساتها وأن المجموعات الإرهابية المناهضة لـ”داعش” و”النصرة” التي لم تتمكن من إثبات وجودها في مواجهتهما إلا في جيوب صغيرة مدعومة من الخارج باتت مهددة بفقدان الدعم وبتضارب الأجندات الخارجية، وأنها لم تكن نداً لمن هزمهم الجيش العربي السوري وحلفاؤه، فكيف تكون نداً للدولة السورية؟! لا طريق أمامها إذاً إلا المصالحات، أو أن تلتحق بتكفيريي “داعش” و”النصرة” بطريقة أو بأخرى.
http://tishreen.news.sy/?p=105858
للمشاركة على فيسبوك:
https://www.facebook.com/Qawmi
اترك تعليقاً