التفسير الليبرالي للظاهرة التكفيرية

الصورة الرمزية لـ ramahu




د. إبراهيم علوش
جريدة البناء 2014/12/3


يشيع هراء أجوف في أعمدة بعض من يزعمون أن الظاهرة التكفيرية نتجت بالأساس عن “الديكتاتورية والفساد والاستبداد” و”تهميش المواطن ومصادرة حقوقه الأساسية”.  النتيجة المنطقية لهذه المقولة تصبح بالطبع أنّ تبنّي “الديموقراطية” و”الانتخابات”  و”حقوق الإنسان” و”استقلال القضاء” و”رقابة السلطة التشريعية على التنفيذية” كفيلٌ بإزالة ذلك التهميش السياسي والاجتماعي الذي يدفع المواطن للغلو والتطرف، وأن “الإصلاح السياسي والدستوري” هو الأقدرُ على تجفيف منابع التكفير والإرهاب!


الطريف سياسياً في هذه الرؤيا أنها تنتهي لتبرير أو حتى لتبني مواقف أطراف دموية وهمجية  أقل ديموقراطية وانفتاحاً وتنوراً واستعداداً لـ”تقبل الآخر الليبرالي” بكثير من “الديكتاتورية والاستبداد” اللذين يفترض حسب المنطق الليبرالي أنهما استفزا ظاهرة التطرف الدموي والتكفير إلى حيز الوجود!  فالليبرالي الذي يدافع عن تكفيري في مواجهة “الديكتاتورية والاستبداد” المزعومين متناقض مع نفسه بمقدار ما تتخطى ديكتاتورية التكفيري الحيز السياسي إلى الحيز الشخصي والاجتماعي والثقافي مقارنةً بأي نظام سياسي ديكتاتوري حقاً، مع التحفظ الشديد على اعتبار انتفاضة 30 يونيو الشعبية في مصر “انقلاباً”، واعتبار العشرية السوداء في الجزائر أو ما يجري في سورية اليوم “نضالاً من أجل الديموقراطية”!


يستند التكفير في خطابه لمنطلقات دينية فقهية من القرون الوسطى بالأساس، أما الديكتاتورية والاستبداد فيمثلان ظاهرة سياسية أساساً من نتاج الدولة الحديثة، على الأقل من الزاوية التي يتناولهما الليبراليون من خلالها، ولا يتبنى التكفيريون نموذجاً سياسياً مناهضاً للديكتاتورية يقوم على تعميم الحريات السياسية مثلاً أو غير السياسية، بل على اعتراض متعصب على الحداثة، لا على الديكتاتورية والاستبداد، فمشكلة التكفيري مع الدولة الحديثة سواء كانت ديكتاتورية أم ديموقراطية، وليس من الواضح تماماً كيف يربط الليبراليون ما بين انتهاك حقوق المواطن أو مصادرة العملية السياسية من جهة، وما بين رمي الآخرين بالكفر بذرائع دينية لا تكتفي باتهام الحكام بأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، بل تكفر مجتمعات برمتها، حتى لو كان جلّها من المسلمين، لأتفه الأسباب أحياناً.  فمشكلة التكفيري أيضاً أنه لا يؤمن بالمواطنة لأن عقله السياسي مستقى من المرحلة الإقطاعية في أقصى حالات تعفنها، أي مرحلة الطوائف والرعايا والقنانة، أي أن جذوره الفكرية ليست مستمدة من وحي التجربة السياسية للقرون الأخيرة.


فإذا كان التفسير الليبرالي للظاهرة التكفيرية كنتاج للديكتاتورية تفسيراً فرويدياً يحوّل “الكبت السياسي” للأنا العليا إلى عقدٍ نفسية مستعصية لدى الفرد التكفيري يمكن أن تتفجر على شكل نزعات إجرامية، فإن المطلوب يصبح تحليلاً نفسياً، أو مصحة نفسية بالأحرى، للمجتمع العربي، وربما يكون مثل ذلك ضرورياً لفهم الحالات الهروبية التي تشكل بعض قواعد الحركات التكفيرية، وتلك الحالات الهروبية ليست على كل حال ما صنع الظاهرة التكفيرية، بل من لجأ إليها.


ولو افترضنا جدلاً أن الظاهرة التكفيرية هي نتاج الديكتاتورية والاستبداد بالمفهوم الليبرالي، كيف نفسر تكاثر التكفيريين في باكستان التي يحكمها نظام برلماني فيدرالي يقوم على تداول السلطة وتوزيع الصلاحيات بين المركز والحكومات المحلية؟  وكيف نفسر تكاثر التكفيريين في ليبيا والصومال والعراق بالضبط بعد تفكيك الحكومات المركزية “الديكتاتورية” في تلك البلدان؟  وكيف نفسر تكاثر التكفيريين في الهند وفي أوروبا الغربية نفسها حيث تسود حكومات “ديموقراطية ليبرالية”؟  وفي اليمن بعد إضعاف حكومته المركزية؟  وفي دول أفريقية ليست الحكومة المركزية قوية فيها أصلاً؟!!  أو في لبنان؟  أو في تونس بعد وصول حركة “النهضة” للحكم؟


فلنفترض جدلاً أن الديكتاتورية تشكل عاملاً رئيسياً في تفاقم ظاهرة التكفير، لماذا لم تنشأ تلك الظاهرة إذن بين البوذيين في تايلند خلال السنوات المنصرمة (لفرض النظام البوذي حسب تفسير البوذيين التكفيريين على أبناء دينهم) أو بين الكاثوليك في تشيلي بعد حكم بينوشيه أو بين الأرثوذكس في دول أوروبا الشرقية التي حكمتها أنظمة اشتراكية على مدى عقود وهي الأنظمة التي يعتبرها الليبراليون قمة الديكتاتورية؟!  وإذا كانت الديكتاتورية محركاً لظاهرة التكفير، لماذا لم نرها في عشرات الدول التي عاشت أقسى أنواع الديكتاتورية على مدى عقود في أمريكا اللاتينية وآسيا؟  وهل جاءت حملات قتل مئات آلاف الشيوعيين وأنصارهم في أندونيسيا في نهاية الستينيات بذريعة التكفير، مع أن الشيوعيين لم يكونوا في الحكم آنذاك، نتاجاً للديكتاتورية المزعومة و”التهميش” أيضاً، أم نتاج شيء آخر؟   ولماذا ظهر التكفير المسيحي في أوروبا كتيار جارف أنتج الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال في القرون الوسطى تحديداً وليس بعد عصري النهضة والتنوير؟  لماذا ظهر التنوير في الوطن العربي فيما كان يظهر التكفير في أوروبا، وظهر التكفير في الوطن العربي بعد أن انتشر التنوير في أوروبا؟  وأخيراً، لماذا ظهر التكفير اليهودي في التوراة أولاً وفي تعاليم التلمود على شكل قصص إبادة للأقوام غير اليهودية في فلسطين وجوارها فيما جاء مؤسسو الحركة الصهيونية من العلمانيين؟


فالواقع هو أن التكفيريين هم دعاة إقصاء وتنكيل وتهميش واستعبادٍ وقتل جماعي، بدلالة أن القضايا التي يكفِّرون الحكام والمجتمع بأسره عليها كثيراً ما تتصل بـ”التساهل” في مسائل اجتماعية وثقافية وشخصية غالباً ما يعطيها الخطاب التكفيري أولوية أعلى بكثير من القضايا السياسية والاقتصادية الأساسية في المجتمع “الكافر”.  إنهم، باختصار، لا يعارضون الأنظمة العربية أو يعادونها، بعد أن حالفوها مراراً، لنفس الأسباب التي قد تجدها عند شخص ليبرالي، ناهيك عن شخص قومي أو يساري أو وطني أو إسلامي متنور، بل بسبب تفاهات… أو حتى بسبب ما قد نعتبره نحن إيجابيات.   إنهم يعارضون مسير عقارب الساعة إلى الأمام، ويريدون أن يعيدوها بالقوة للخلف، فهم بالأساس نتاج صدمة حضارية للمجتمع العربي وأزمة هوية، لا نتاج مشروع حضاري، بل أنهم النقيض التاريخي للمشروع الحضاري العربي، ونتاج التعثر التاريخي لذلك المشروع.



للمشاركة على الفيسبوك:

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..