د.إبراهيم علوش
البناء 26/11/2014
يمكن أن يقودنا الحديث الدائر اليوم عن رفض ما يسمى “يهودية إسرائيل” باتجاهين: اتجاه تسووي تفريطي، وأخر جذري مقاوم.
فهناك من يجعل مناهضته ليهودية دولة “إسرائيل” مدخلاً للتأكيد على مطلب “دولة لكافة مواطنيها” أو “الدولة ثنائية القومية”، باعتبار ذلك رداً على الهوية اليهودية الصافية لدولة “إسرائيل”. وهذا البرنامج يعني فعلياً: 1) نفي الهوية العربية عن فلسطين، باعتبارها لمواطنيها كافة من غزاة وغير غزاة، أو ثنائية القومية، عربية ويهودية، 2) المطالبة بالتعايش مع الغزاة في فلسطين تحت عنوان “حقوق المواطنة”، وهنا تصبح “مقاومة التمييز العنصري”، لا التحرير، إستراتيجيتنا الأساسية، 3) تبني الوسائل السلمية في النضال، بالأخص تلك التي تضم “تقدميين يهوداً” أو “أمميين!”.
لكننا لا يجوز أن ننجر بخفةٍ وطيشٍ للمطالبة بالتعايش، وبحقوق “أقلية” على ارضنا، وبتقبل الغزاة لنا، لأن الصهاينة قرروا تبني برنامج “يهودية الدولة”. بل يجب أن نصر على برنامجنا الأصلي، وهو الميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل، الذي يقول ببساطة أن فلسطين عربية من البحر إلى النهر، وأن اليهود فيها غزاة، وأنها لا تحرر إلا بالكفاح المسلح.
فالرد على خطاب “يهودية الدولة” لا يكون بتبني خطاب رث من نوع: “نرجوكم أن لا تهمشونا في دولة إسرائيل!”، و”نرجوكم أن تفسحوا لنا حيزاً صغيراً على أرضنا التي تحتلونها!”، حتى لمن يريدون التفاوض، ويريدون دويلة سخيفة، باتت اليوم غير ممكنة أكثر وأكثر، في حدود الـ67…
وقد تصاعد خطاب “يهودية الدولة” وعلا بالأخص بعد احتلال العراق عام 2003، مع أنه كان موجوداً قبلها، ومع أن “يهودية الدولة” هي الثمرة الطبيعية ل”الدولة اليهودية”، ومع أن “يهودية الدولة” هي الخطوة المنطقية التالية للحركة الصهيونية بعد مقولة “الوطن القومي اليهودي”. لكن الخطاب السياسي الذي تتبناه بشكل متزايد شرائح أوسع وأوسع من اليهود الصهاينة، وغير اليهود من الصهاينة، لا يعكس خدعةً تكتيكية أو حبكة إعلامية عابرة، بل يعكس تزايد انتقال الجمهور الصهيوني إلى اليمين، ويعبر عن النزعة العنصرية المتأصلة في الفكر اليهودي الصهيوني، فكر “شعب الله المختار” و”أرض الميعاد”، لا بل أن “يهودية الدولة” هي النتاج التاريخي لفكرة “أرض الميعاد”!
بيد أن المشروع السياسي لا يمثل نزعة يمكن أن نتركها لعلم الاجتماع السياسي فحسب. ف”يهودية الدولة” تمثل الجزء المكمل لمشروع “الشرق أوسطية”. و”الشرق الأوسط”، كتعبير استعماري، يحمل كثيراً من المهانة لأبناء وطننا. فأنت لا تسمع من يقول عن أوروبا الغربية “الغرب الأوسط”، وعن أمريكا الشمالية “الغرب الأقصى”!
لكن “الشرق الأوسط” كمشروع إمبريالي-صهيوني مشترك يصبح هنا مشروعاً ضرورياً لبقاء “إسرائيل” واندماجها في المنطقة من موقع فوقي، أي من موقع المهيمن الذي يحول بلادنا إلى إمبراطورية “إسرائيلية”.
ويقوم مشروع “الشرق الأوسط” على دعامتين:
الأولى، نفي الهوية المشتركة للمنطقة، وإبراز النزعات الطائفية والعرقية والمناطقية في بلادنا باعتبارها قضايا “حق تقرير مصير” تتطلب الانفصال وتشكيل دويلات خاصة بها، من العراق للسودان، ومن سورية لليبيا، ومن الجزائر لليمن.
ففي بيئة من هذا النوع، يصبح وجود “إسرائيل” طبيعياً، لا بل مرغوباً، أما إذا كان هذا الجزء من العالم هو الوطن العربي، لا “الشرق الأوسط”، فإن “إسرائيل” لن تصبح دولة طبيعية مقبولة فيه يوماً.
الثاني، تفجير الصراعات والنزاعات، خاصة النزاعات الطائفية، وعلى رأسها الصراع السني-الشيعي في بلدان المشرق العربي، وهنا نصل إلى بيت القصيد، لأن “يهودية الدولة” هي المتمم الطبيعي للدولة السنية والشيعية والدرزية والمسيحية الخ… واليمين الصهيوني الداعي لنقاء وصفاء “الدولة اليهودية” هو المتمم الطبيعي لدعاة الدولة المذهبية العربية، بغض النظر عن نوع مذهبها، ولدعاة الانفصال على أسس عرقية من دارفور إلى كردستان، خاصة أن الحركة الصهيونية تقدم نفسها كحركة قومية-دينية، لا كحركة دينية فحسب.
ومن الملفت أن القاسم المشترك بين دعم “الدولة اليهودية” ودعم الحراكات الطائفية والانفصالية في الوطن العربي كان هنري برنار ليفي، القائد العام لما يسمى “الربيع العربي”. ففي بيئة تزدهر فيها الدويلات الطائفية المتعصبة، تصبح “يهودية الدولة” تحصيلاً حاصلاً، ويصبح من الطبيعي أن يكون نتنياهو واليمين الصهيوني، من أكبر مؤيدي إسلامويي “الثورة السورية”، والإسلام منهم براء.
ونحن نسير اليوم باتجاه إعادة هيكلة إستراتيجية للوطن العربي لخلق حزام جغرافي-سياسي يمنع تمدد نفوذ روسيا والصين الصاعدتين في مواجهة الناتو والولايات المتحدة الأمريكية.
وقد طُرح مشروع إعادة فك وتركيب المنطقة منذ أمدٍ بعيد، كما نلاحظ في وثيقة “كيفونيم”، ووثيقة “كارينجا” من قبلها، ومشروع المستشرق الصهيوني برنار لويس، أما التبني الفعلي لهذا المشروع كإستراتيجيات عملية لتحديث اتفاقية “سايكس-بيكو” التي قسمت المشرق العربي، فتبلور مع مجيء بوش مع فريق المحافظين الجدد للحكم عام 2000، وقد وضع المحافظون الجدد أنفسهم وثيقة “بداية جديدة” لنتياهو لإسقاط الأنظمة في سورية وليبيا والعراق وغيرها، وضرب المقاومة اللبنانية والفلسطينية، في عام 1996، قبل أحداث 11 سبتمبر بأمدٍ بعيد.
وإذا كان جورج بوش قد جرب تطبيق ذلك المشروع عبر “الحرب على الإرهاب” مباشرة، ومن فوق، وبالقوة، وبشكل أحادي، ففشل، فإن مرحلة أوباما تمثل مرحلة التحول لتطبيق نفس المشروع عبر “الحرب الديموقراطية”، بشكل غير مباشر عامة، ومن تحت، وبالقوة الناعمة، وبشكل غير أحادي، خاصة بعد إعادة إحياء التحالف الناتوي مع الإسلامويين الذي كان قد فُصم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، فجاءت إعادة إحيائه في خطاب أوباما الشهير في القاهرة عام 2009، ويحكي لنا “الربيع العربي” بقية القصة…
وفي هذا السياق بالتحديد يمكن أن نفهم مسالة الإصرار على “يهودية الدولة”… وعدم وجود فرق حقيقي بين معارضيها ومؤيدها في الكيان الصهيوني كما تتجلى في رفض عودة اللاجئين عند ليفني ولابيد وبقية النخبة الصهيونية الحاكمة.
للمشاركة على الفيسبوك:
اترك تعليقاً