عبد الناصر بدروشي/ لائحة القومي العربي
31/10/2014
قبل الشروع في تحليل الانتخابات وتقييمها من حيث الجدوى والفائدة يجب أن لا ننسى أنها جاءت في نطاق حملة عدوانية على الوطن العربي تعود الى غزو العراق الذي كان بتعلة جلب الديموقراطية الموبوءة على ظهر الدبابات الامريكية، ثم محاولة اخراج سورية من لبنان عام 2006، وصولا الى اعتماد أسلوب الثورات الملونة المسمات زورا “ربيعا عربيا”، من أجل إعادة رسم خريطة المنطقة وإعادة تفكيك الدول العربية المفككة أصلا.
الملفت للانتباه أن العملية الانتخابية وما يسمى بالانتقال الديموقراطي في الوطن العربي كان يتم دائما بوصاية أجنبية وتحت رقابة السفارات الامبريالية من بول بريمر في العراق الى نوح فيلتمان في تونس الذي كان حضوره ملفتا في العديد من جلسات المجلس التأسيسي وصولا الى برنارد ليفي وجون ماكين في كل من ليبيا و مصر.
تأتي اليوم انتخابات 26 أكتوبر 2014 التشريعية للإعلان عن انتهاء مرحلة انتقالية في تونس كانت حركة النهضة الاخوانية أبرز عناوينها، ولا يمكن تحليل المشهد السياسي في تونس اليوم بمعزل عن المشهد العربي الذي سجل سقوطا مدويا لحركة الاخوان في مصر نتيجة انتفاضة شعبية، وليبيا التي تشهد مواجهات عنيفة بين الاسلام السياسي من جهة و ما يسمى اليوم الجيش الليبي، ونتيجة انتفاضة شعبية تونسية ضد حكم الإخوان أجبرتهم على التخلي عن السلطة قبل الإنتخابات، فليس صحيحاً الزعم أن الانتخابات التونسية تثبت استعداد حركة الإخوان المسلمين للتخلي عن الحكم عبر صندوق الاقتراع، لأن السياق الإقليمي والمحلي التونسي افهمهم إلى أين ستؤول الأمور لو أصروا على التمسك بالحكم عنوةً فيما شعبيتهم بانخفاض.
المهم يمكننا القول ولو بتحفظ أن الشارع العربي بدأ يلفظ المشروع الاخواني الذي كشف عن سوءته في وقت قياسي. ويمكننا القول بأن فترة حكم حركة النهضة في تونس كانت شاهدة على فظاعات حكم الاخوان وتخندقهم في خندق العداء للأمة العربية، ولعل أبرز أمثلة على ذلك زيارات الغنوشي عراب النهضة المتكررة للأيباك، ورفض كتلة حركة النهضة في المجلس التأسيسي المصادقة على فصل في الدستور التونسي يجرم التطبيع مع العدو الصهيوني، وتجنيد الحركة وتغريرها بشباب تونس العربي وإرسالهم لقتال اخوانهم في سورية واستقبالهم لمؤتمر أعداء الشعب السوري والأمة العربية، وتنامي ظاهرة الارهاب والتكفير والاغتيال في عهدهم، بالإضافة الى تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية بشكل كارثي و تنامي ظاهرة الرشوة والفساد والمحسوبية وتعيين المحسوبين عليهم في مفاصل الدولة في محاولة للمسك بدواليب السلطة.
لذلك كله أفرزت نتائج الانتخابات التشريعية تراجعا ملحوظا في شعبية حركة النهضة المتأسلمة وصعودا لحزب حركة نداء تونس التي تضم في صفوفها رموز النظام السابق ومطبعين مع العدو الصهيوني. وتأتي هذه النتيجة في الوقت الذي يندفع فيه البعض للتهليل بنتائج الانتخابات التونسية وفرحهم بما يسمونه “سقوط” الاخوان المتأسلمين أو حركة النهضة، بينما ينزع آخرون الى اعتبار نتائج الانتخابات كارثية كونها أعادت المنظومة الحاكمة السابقة متمثلة في حزب نداء تونس الى السلطة، وهي المنظومة التي أذاقت شعبنا العربي في تونس الويلات ورسخت تبعية تونس للاحتلال الفرنسي منذ تولي بورقيبة السلطة وصولا الى نظام بن علي المتأمرك والمتصهين.
بين الفرحين بسقوط النهضة والساخطين لصعود النظام السابق يجب ان لا تضيع البوصلة.. فعندما يلتبس الامر ويصبح المشهد ضبابيا يجب أن نستنجد ببوصلتنا التي لا تخيب وهي مصلحة الامة العربية، وسنجد أن كل الصادقين يهتدون الى نفس الموقف اذا ما اعتمدوا نفس البوصلة واتبعوا الخطوات المنطقية في التحليل.
على هذه الأرض لا بد من تثبيت النقاط التالية فيما يتعلق بالانتخابات التونسية ونتائجها وأبعادها:
– خطأ الاعتقاد السائد بأن العملية الانتخابية هي مجرد عملية تقنية تظهر خيارات الشعب، فالعملية الانتخابية تتم عبر آلية متكونة من المال السياسي، صناعة الرأي العام عن طريق الاعلام، اشراف السفارات الاجنبية، إلخ… مع السماح ببعض التنوع الطفيف من قوميين ويساريين ومستقلين كديكور للعملية الانتخابية واضفاء المشروعية عليها بما لا يفسد الخيارات الامبريالية..
– وقد تم ذلك ابتداءً عن طريق اغراق الساحة السياسية بعشرات الاحزاب ومئات القوائم الانتخابية لتشتيت الرأي العام ليتدخل الاعلام بعدها لإبراز اطراف على حساب اخرى.
– العملية السياسية التي تنتج عن شبه الثورة أو الخدعة الثورية أو الثورات الملوّنة هي عملية لها مفاتيح اساسية لا يمكن بدونها الدخول واخذ موقع يسمح بالتأثير ولو بأدنى الدرجات المطلوبة، وأهمّ هذه المفاتيح المال والإعلام والسند من خارج القطُر – وفي مهرجان “الربيع العربي” تتوفّر للإخوان المسلمين حاضنة مالية قوية من قطَر وغيرها ولهم قنواتهم الاعلامية الخاصة بهم بالإضافة الى شرائهم أصواتٍ في المنابر العمومية، وكذلك لهم سند داعم من خارج القطر من داخل الوطن العربي (الخليج) والسودان … ومن خارجه من طرف تركيا (دون الحديث عن صداقتهم الصهيو-امريكي، والأمر نفسه ينطبق على الليبراليين (النداء) وما يحظون به من حاضنة مالية ووسائل اعلام ودعم خارجي (من الامارات والأمريكان والأوروبيين) بالإضافة الى امكانياتهم فيما يسمّى بالدولة العميقة … وبالنسبة لليسار وكل القوميين الذين وقعوا في شراك العملية السياسية يتم دعمهم بقليل من الاعلام والدعم المالي من المنظمات الحقوقية وغيرها بقدر تخليهم عن مبادئهم وابتعادهم عن الخيارات الثورية ومعاداتهم للخيارات الهوياتية بالانفتاح الفرنكوفوني … وما يحصلون عليه يكون فقط لكي لا يغادروا المركب ويبقوا يتأمّلون في تحسين وضعهم معتقدين ان التطوّر سوف يمكّنهم من التقدم لدرجة يشملهم فيها “التداول السلمي” اذا بدون حاضنة توفر مثل هذه المفاتيح، ماذا يفعل القوميون داخل هذا المركب غير تزيين المشهد بالعنوان الذي يحملونه؟!
– إذن مقاطعتنا للانتخابات ليست موقفا سلبيا كما يحاول البعض تصويره، فمشكلات الواقع العربي لا تحل عن طريق الصندوق، خاصة في ظل سياق مماثل لما سبق ذكره، بل عن طريق الثورة ولا يمكن حل مشكلات تونس جذريا بمعزل عن محيطها العربي.
– إن نسبة المشاركة الضعيفة في الانتخابات، وحالة العزوف الشعبي عن صندوق الاقتراع، لا تعكس “لا شرعية” العملية الديموقراطية بقدر ما تعكس فشل القوى الثورية التقدمية في تحريك واستقطاب الأغلبية الصامتة التي يعبر صمتها عن سخطها على الوضع وعدم رضاها عن أداء القوى السياسية برمتها كما تعكس عجز القوى التقدمية عن دفع الجماهير المستاءة نحو خيارات ثورية حقيقية تحول القطر التونسي من مجرد محمية غربية الى ساحة اشتباك تمهيدا لاستقلاله والحاقه بأمته.
– إن القول بأن نتائج الانتخابات تظهر سقوط حركة النهضة هو قول غير دقيق لان حركة النهضة تراجعت و حلت في المركز الثاني الا انها لم تخرج من المشهد برمته.
– القول بعودة النظام السابق للمشهد السياسي قول غير دقيق، وفيه نوع من المغالطة هو الاخر، حيث أن النظام السابق موجود في المشهد منذ البداية، فهو من قاد الفترة الانتقالية الاولى وهو من جهّز للانتخابات الاولى، كما أن حركة النهضة هي المسؤول الرئيسي عن عودة المنظومة القديمة عن طريق رفضها تمرير قانون العزل السياسي في المجلس التأسيسي الذي يقضي بإقصاء رموز النظام السابق من الترشح للانتخابات، وهو الشرط الامريكي و ليس مجرد خطأ من النهضة ويجسد حالة خضوع الحركة لقرارات السيد الامريكي.
– القول أن الانتخابات التونسية تشكل نصراً لـ”الربيع العربي” قول غير دقيق هو الآخر لأن النظام السابق عاد للحكم من خلال مشروعية انتخابية جديدة، ومن خلال حيوية سياسية جديدة، مع الاستفادة من الإخوان المسلمين كفزاعةٍ لتكريس مشروعيته عند الشعب التونسي وفي البلدان العربية المجاورة.
– ستسعى النهضة خلال فترة حكم نداء تونس الى تبييض صورتها وستحاول اللعب على مخزون الحقد في الذاكرة الشعبية تجاه البورقيبية وستحاول استمالة القوميين الذين ذاقوا الويلات خلال الفترة البورقيبية وفترة بن علي، فلا ينبغي أن يدفعنا كرهنا للمنظومة القديمة الى الارتماء في أحضان الاخوان الذين عبروا عن حقدهم الدفين للقوميين وللمشروع القومي بأبشع الصور في كل من مصر و ليبيا وسورية فلا صلح بيننا وبين أكلة الأكباد والقلوب.
– علينا ان نبيّن للمواطن بوضوح، وان ننبّه المناضلين من خطر الوقوع في عملية تبييض للإخوان على حساب النداء – فالوضع هو كالآتي: بعد فترة حكم سوداء انهارت صورة حركة النهضة لدى المواطنين وحتى ناخبيها ومناصريها، وبعد الضغوطات التي واجهتها خيّرت الانسحاب لفترة قبل الموعد الانتخابي تمكّنت فيها من فسخ الكثير من السواد من صورتها خاصة امام مهازل الصراعات عن تشكيل التحالفات عند الاطراف الاخرى – فالتوقعات كانت تتحدّث عن سقوط مدوّي لحركة النهضة في الانتخابات التشريعية الى مابين 15 و 5 بالمائة. ولذلك هم فرحون بالسقوط المحدود وسيسعون الى اعادة تلميع صورتهم بفضل اخطاء النداء في الحكم (وهذا واضح في كلمة الاحتفال للغنوشي وسمير ديلو ليلة الانتخابات).
– يجب التنبه الى عدم الإنزلاق الى تبييض صفحة النهضة بتعلة محاربة النظام السابق كما أن عداءنا للمشروع الاخواني لا يجب أن يجعلنا نرتمي في أحضان أي مخلّص فعلينا أن نعي تمام أن الحل للتخلص من براثن كلا الرجعيتين بشكليها الحداثوي والمتأسلم يكمن في بناء مشروع قومي حقيقي يقلب المعادلة السائد و يكسر حالة الاستقطاب الثنائي بين خيارين أحلاهما مر.
– لا شك أن المشهد السياسي اليوم هو ترجمة للقاء الذي جمع كل من السبسي والغنوشي في الاليزيه برعاية فرنسية اثر الخلاف الحاد الذي نشأ بين الفريقين قبيل الانتخابات.
– عندما نقيم نتيجة الانتخابات بتجرد يمكننا القول بأن النتيجة يمكن أن تعتبر ايجابية الى حد ما لأن تراجع المشروع الإخواني في المنطقة لا يمكن الا أن يصب في مصلحة الامة العربية، كما أن توجه اغلب المشاركين في الانتخابات نحو التصويت لحزب نداء تونس هو النتيجة الموضوعية لغياب مشروع ثوري تقدمي حقيقي، فالمواطن اختار بين خيارين لم يرَ ثالثا لهما واختار الهروب نحو المنظومة الاقل دموية والاقل تطرفا وإن اشتركت مع الاسلام السياسي في العمالة و الفساد. فالقوى القومية و التقدمية وحدها من يتحمل مسؤولية الفراغ الذي تكوه لأعدائهم يتنازعونه فيما بينهم.
– سحب البساط من تحت أقدام التيار الحداثوي الفرنكوفوني أسهل من سحبه من تحت أقدام النهضة، لأن التيار الاول بعيد كل البعد عن هوية الشعب، والدخول في صدام مع النظام الحداثوي الفرنكوفوني سيكون صداماً معه و مع أجهزته الامنية والميليشياوية فحسب، بينما الخطورة في الاسلام السياسي هي انه يلعب على وتر الهوية والدين وهو يصدر خطاباً يشبه الى حد ما خطابنا، فالصدام معه قد يكلفنا أكثر لأنه سيدخلنا في صدام اشبه ما يكون بحرب اهلية، لهذا نعتبر ان تراجع شعبية حركة النهضة في حد ذاتها مكسب وأن توجهت الجماهير الى انتخاب التيار الليبرالي الحداثوي.
أخيراً نؤكد أن الديموقراطية الحقيقية، في تونس أو في غيرها، لا تأتي إلا في سياق مشروع قومي.
للمشاركة على الفيسبوك:
اترك تعليقاً