تداعيات شخصية حول عرض تأبين مانديلا

الصورة الرمزية لـ ramahu

محمد أبو النصر

12/12/2013

نحن نعيش أياما مزعجة للغاية…



تحول حفل تأبين مانديلا إلى سيركٍ ضخم، فلو كنت مكان أحد قيادات جنوب إفريقيا الحاليين، كنت سأشعر الآن بإهانة بالغة، بعد ما رأيت ما آل إليه ذلك العرض، ولكن بما أن جنوب إفريقيا ومنذ زمن بعيدة جدا عن أن تكون معقلا للنضال من أجل التحرير، فأنا لم أعد أهتمّ. أستطيع ببرود أن أشير لما حدث بوصفه كوميديا سوداء على المسرح العالمي، ويبدو أنني أتفق مع عامة الشعب في جنوب إفريقيا، فهم لم يظهروا كبير اهتمام على ما يبدو.



في حفل التأبين، جاء أولئك القلة من جنوب الأفريقيين الذين كلفوا أنفسهم عناء الحضور فرقصوا وقفزوا وهاجوا وماجوا، صارخين باستمرار _ذكروني بصراحة بطلبة الصف الأول الابتدائي خلال الاستراحة _ فيما كان زعماء العالم يلقون كلماتهم التي غرقت في الضوضاء حتى أنها لم تكن مفهومة بسبب نظام الصوت السيء.



كان الإعلام قد تنبأ بطوفان بشري هائل سيأتي ليحتشد في الملاعب، لكن أغلب المقاعد كانت فارغة وهذا يوضح أنهم بالفعل يهتمون أكثر بمباريات كرة القدم وما شابهها، ونحن نعيش في النهاية في عالم تقدم فيه المباريات الرياضية مضموناً أكثر واقعيةً من عروض النخب السياسية المبتذلة.



عدا عن ذلك، كان هناك مهرج يقوم بالترجمة للغة الصم والبكم، يقف بجانب أوباما وغيره من زعماء العالم وهم يلقون كلماتهم، لكن تبين أن ذلك الشاب، حسب قول موظفين من المؤتمر الوطني الإفريقي، كان يحرك يديه فقط، ولم يكن يعرف أي لغة إشارة أبدا، كان مزيفا بالكامل ويبدو أنه دُفع له مبلغ كبير قبل أن يختفي.



أنا متأكد من أن أليكس جونز وغيره من العنصريين المعادين لمؤسسة الحكم، سيعرجون على هذا التأبين الغرائبي، إن كان على العلن أو في جلسات خاصة.  بالفعل لقد كان التأبين نكتة سمجة، ومن المؤسف للغاية أن هؤلاء العنصريين سيستفيدون منه في التباكي على اختفاء سيادة الرجل الأبيض، لكن كالمعتاد سيجانبون الصواب، لأن المشكلة ليست في العرق، فالتغيير الثوري الجذري ليس مجرد وضع السود في مناصب رسمية كانت سابقا حكرا على البيض، فأنت إما أن تقوم بتغيير ثوري جذري حقيقي أو تجلس مكان البيض  لتفعل ما كانوا يفعلون، مضفيا الطابع المؤسسي الزائف على النظام القديم، ومطيلا أمد تعفّنه، بإعطائه وجها محليا أسود.



بالتأكيد وكما توقعت، حصل أوباما على الاستقبال الأكثر حفاوة من جمهور التأبين، ليس أن هذا الجمهور كان يصغي لما يقوله بالفعل، فالجمهور حسب ما أظن لم يكن يسمع أحدا، لكن هذا نموذجي ومتوقع جدا من هذا العالم الليبرالي الفارغ من أي مضمون حقيقي، أن يستقبل الهراء الفارغ الذي ألقاه أوباما بحفاوة وحماس، فقط لأن بشرته سوداء، وهذا انعكاس للكيفية التي التفت بها الإمبريالية على مناهضيها الجذريين.



أعني أنهم تمكنوا من حرف الجماهير عن مسارها الحقيقي، من صراع الطبقات إلى “المساواة بين الأعراق”.  فماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أنك بدلاً من سعي الناس للتخلص من النظام الإستغلالي، فإنك توجه انتباههم إلى مسائل عرقية، وحينها إذا ملأت المناصب الحكومية بما يكفي من الوجوه السوداء، فلا أحد سيعود يلاحظ أن الاستغلال لم يزل قائما كالسابق، سوى أن النظام وظف أيدٍ عاملة محلية لتعمل في خدمته.



بنفس الطريقة تماما نجد أوباما يعطي الإمبريالية الأمريكية وجها أسود، وقبل أشهر قرأت مقالة لليبرالي هوليوودي ذي ميول يسارية اشتكى من أن أحدا في هوليود لن يجرؤ على إبداء شكوك في أوباما لمجرد أنه أسود.



يا للخديعة الماكرة، بدل أن تدافع عن الاستغلال علنا وبوقاحة، تتلاعب بانتباه الناس فتحوّله من الصراع الطيقي إلى “المساواة بين الأعراق” و “تساوي الفرص”، وهكذا تستمر الطغمة المستغِلة في الحكم دون أن يزعجها أحد، ببساطة كل ما عليها أن تفعله هو حشو مكاتبها بما يكفي من “الملونين” المدفوع لهم جيدا، وهم سيكونون أبواق الطغمة وأدوات البروباغاندا عندها.



وينشر على نطاقٍ واسعٍ بان النظام السياسي جنوب الأفريقي يعتريه فسادٌ كبير.  بالطبع هو فاسد! فهو نظام مصمم لوضع واجهة محلية سوداء لنشاط الشركات المعولمة، فهكذا تضمن أن الساسة السود يقومون بعملهم لصالحك دون شكوى من خلال شراء ذممهم، وهذا ما يسمى أيضا (الفساد)، فهم لن يطرقوا جدران الخزان ماداموا مستفيدين من الوضع القائم، ولن يغرقوا قاربا يحصلون على المال لقاء ترقيعه.



وهكذا تحصل على: “المصالحة”! بأن تتابع نخبة اقتصادية كولونيالية نشاطها من خلف رجال سود البشرة في “حكومة” مستأجرة.  والآن الكل “متصالح” والناس تحب بعضها بعضاً… كم هذا جميل! ويبقى الفقير فقيرا، لكن مهلاً، بفضل إزالة الحواجز العرقية، وأنه لم يعد هناك عنصرية، يستطيع كل طفل أسود الآن أن يجد ويكافح لكي يكون مسؤولا فاسدا يوماً ما، إذا كان يريد أن يحسن وضعه الشخصي.



وهنا في الولايات المتحدة الأمر مماثل، إدارة أوباما مليئة بالإمبرياليين السود، مثل المدعي العام  إيريك هولدر، الذي يلاحق مسربي المعلومات، ويعمل على إنفاذ “قانون الباتريوت” (الذي سن بعد احداث 11 سبتمر لتقييد الحريات)، وهم ما يزالون يحتفظون ببطاقة “عنصري” كاحتياط في حال اشتكى أي أحد، بالضبط كما فعلت أوبرا وينفري في مقابلتها الأوروبية عندما قالت: “جميعهم يهاجمون أوباما فقط لأنه أسود.”



كنت أفكر في مانديلا في ليلة سالفة وأنا أطالع عدداً قديماً من النسخة الإنكليزية من صحيفة “غرانما” الكوبية تعود للعام ١٩٨٧، حين كان الكوبيون في أنغولا يقاتلون النظام العنصري في جنوب إفريقيا، تلك الحرب الملحمية ضد الاستعمار كانت تستعر حتى في أواخر الثمانينيات، وبعدها بفترة في بداية التسعينيات أخرج مانديلا من السجن، أي في الوقت الذي كان ينهار فيه الاتحاد السوفياتي، وكانت تستعد الولايات المتحدة فيه للعدوان الغاشم على العراق وللسيطرة على العالم.



هكذا في بداية التسعينيات أُطلق مانديلا من الأسر، لكنه كان يفتقر للدعم.  سبق أن كان رئيسا لحركة التمرد المدعومة من المجتمع الاشتراكي والشيوعيين والتقدميين المناهضين للإمبريالية حول العالم، لكن في ١٩٩٠ كان الاتحاد السوفييتي يضمحل، ولذلك لم يكن هناك معسكر اشتراكي أو حركة جذرية منظمة، فقد أُطلق مانديلا من الأسر لأنه لا حول له ولا قوة، كان يمثل هيبةً معنوية “برستيج” فحسب، فاطلقوا سراحه وعرضوا عليه سلطة سياسية اسمية بشرط ألا يمسّ المؤسسة الاقتصادية، هل كان لديه خيار؟!  لم يعد هناك معسكر شرقي اشتراكي ليضغط بثقله السياسي في سبيل مناهضة حقيقية للاستعمار.  ربما لم يكن مانديلا يدرك ذلك، كان صعبا على الجميع أن يدركوا عمق ما كان يحدث في العالم ومداه.  اعتقد الشهيد صدام حسين أن الاتحاد السوفييتي سوف يصد أي هجوم مباشر من الأمريكيين، لكن الاتحاد السوفييتي كان يقف على آخر دعائمه ومستعد للتعاون حتى مع الولايات المتحدة.



وقبل مانديلا الصفقة، من يدري! فقد يكون مانديلا فكر فعلا بأنه يستطيع أن يستغل ثقل المعسكر الاشتراكي، والحركة التي اعتاد وقوفها خلفه، لكي يضغط باتجاه تحوّل حقيقي، ربما لم يثبت له إلا متأخرا أنه كان قائدا بلا جيش مستعدٍ أن يحارب في سبيل التغيير الحقيقي، وبأنه كان بلا حول ولا قوة.  لقد أعطوه سلطة سياسية لكن مع الاقتصاد الاستعماري سالماً بشبكته المعولمة، كان له إما أن يعمل معهم، أو أن يركلوه إلى زوايا السجن مجددا، أو إلى حيز النسيان، لو تحدث بشكلٍ “سلبيٍ” عن “الكراهية” و”الانتقام” بدلا من التسامح والحب والمصالحة، وهذه المرة لم يكن هناك حركة تضامن دولية يعتمد عليها.



وربما لهذا أيضا لم يبق مانديلا في سدّة الحكم إلا لفترة واحدة، ربما عرف أن تلك الصفقة كانت محض مسرحية، إذ أنه كان قد خاض حربه بشجاعة لسنوات طويلة لكنهم تفوقوا عليه وأغرقوه.   لقد ماشى مانديلا المسرحية، حتى أن تأبينه، ذلك العرض الكبير، كان فصلاً أخر منها، حيث أدت قلة قليلة من المحليين رقصتها، وتطوع بوقاحة بالغة شخص لا يعرف لغة الصم والبكم للترجمة مع أنه لا دخل له فيها، وحيث اقتطع زعماء الليبرالية الغربية مثل أوباما بعضاً من وقتهم المخصص لاستعراض لائحة أهداف الطائرات بلا طيار ليقدموا المواعظ على الملأ حول تكرسهم للحب الأخوي.



* ترجمة خاصة بلائحة القومي العربي من موقع “الصوت العربي الحر” الالكتروني



للمشاركة على الفيسبوك:

https://www.facebook.com/photo.php?fbid=783440721673165&set=a.306925965991312.96654.100000217333066&type=1

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..