د. إبراهيم علوش
الأخبار 5/9/2013
تناولت وسائل إعلام عربية شتى اختلاف موقفي السعودية ومصر إزاء توجيه ضربة عسكرية لسورية، وهو الخلاف الذي طفا بدبلوماسية، لكن بشكل لا تخطئه العين، في اجتماع وزراء خارجية الجامعة العربية المنعقد في القاهرة يوم الأحد المنصرم. فقد جاء وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل للقاء القاهرة حاملاً معه أجندة دعم التدخل العسكري الأجنبي المباشر وتغطيته عربياً، أما وزير الخارجية المصري نبيل فهمي فلم يقدم، بالمقابل، دفاعاً عن موقف الدولة أو القيادة السورية، ولم يبدِ اي تأييد لها، إنما قام فعلياً بإجهاض تبني قرار بتأييد الضربة العسكرية وتغطيتها سياسياً من الجامعة العربية، فتم بالتالي تمرير بيان ختامي يدين جريمة استخدام السلاح الكيماوي في سورية، ويحمل النظام السوري مسؤوليتها، لكن يحول الملف السوري للأمم المتحدة لكي تعمل بناءً على القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة لاتخاذ الإجراءات اللازمة، مما يعني فعلياً عدم القيام بشيء، ويعني أكثر من ذلك رفض التصرف خارج سياق الأمم المتحدة، وما يحمل موضوعياً إدانة ضمنية لأي عمل عسكري من خارج إطار مجلس الأمن، مما يخدم سورية موضوعياً، بغض النظر عن تحميل المسؤولية والإدانات.
وقد شجع الموقف المصري عدداً من الدول العربية مثل الجزائر وغيرها على اتخاذ مواقف أعلى سقفاً تحفظت على البيان الوزاري إما رفضاً لمبدأ الدعوة لتدخل دولي أو محاكمات، أو احتجاجاً على تحميل الدولة السورية مسؤولية استخدام السلاح الكيماوي، الخ… وكلها تحفظات وجيهة وأكثر بالطبع، سوى أن أي بيان مشترك مع السعودية ما كان من الممكن له أن يكون أعلى سقفاً مما خرج عليه. وقد لعبتها الخارجية المصرية وسطياً بإعطاء السعودية كل ما تريده ما دام لا يتعلق بتغطية ضربة عسكرية أو تدخل أجنبي مباشر في سورية، وهنا مربط الفرس في اللحظة السياسية الراهنة.
وهو فرق كبير إذا ما قورن بتذيل مصر للسعودية في الملف السوري وغيره منذ مبارك والمجلس العسكري ومحمد مرسي حتى تاريخ 30 حزيران/ يونيو 2013 مما يؤشر بأن مصر ربما بدأت تخط لنفسها نهجاً مستقلاً مع مراعاة ضوابط الحفاظ على الدعم السعودي والخليجي، المالي بالأخص، في ظل الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تعيشها، وسلسلة الإجراءات التي اخذتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للتضييق عليها. ويذكر أن ما يقارب مليونا مصري يعملون في السعودية حالياً، يحولون عدة مليارات من الدولارات سنوياً لمصر، تليها تحويلات المصريين من الأردن، ثم الكويت.
ويزداد هذا الفرق في السياسة الخارجية المصرية وضوحاً إذا ما اخذنا بعين الاعتبار حجم الاستثمار المالي والسياسي والعسكري والإعلامي والأمني للحكم السعودي في مشروع إسقاط الدولة السورية، لا القيادة السورية فحسب، وسعي الحكم السعودي لقيادة ذلك المشروع منفرداً، من خلال محاولة تحجيم دور منافسيها في جماعة الإخوان المسلمين، والسعي لتحجيم الدول التي يمتلك الإخوان المسلمون نفوذاً فيها مثل قطر وتركيا ومصر محمد مرسي.
ومن المعروف أن الحكم السعودي خاض معركة سياسية ضارية لتعزيز نفوذه في الائتلاف الوطني السوري من خلال فرض استقالة “رئيس الوزراء” غسان هيتو المدعوم قطرياً، والإتيان برجله أحمد الجربا رئيساً للائتلاف في انتخابات دعمت فيها قطر المرشح المنافس أديب الشيشكلي. والأهم أن الحكم السعودي فرض قيوداً على الدعم الذي تقدمه قطر للإخوان المسلمين في سورية، وللجيش الحر، وبالمقابل، حصل الحكم السعودي على موافقة الولايات المتحدة لتزويد الجماعات المسلحة في سورية بصواريخ أرض-جو غير أمريكية، على أن يتم توزيعها تحت إشراف “المجلس العسكري الأعلى”.
وقد جاء الدعم السعودي والخليجي للاطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر ضمن السياق نفسه: تحجيم منافس عقائدي عنيد للوهابية، بالضبط لأنه ينافس على نفس الجمهور (السني) ويمتلك بالإضافة للأدوات الوهابية ربطات عنق وعلاقات جيدة مع الغرب (آن باترسون نموذجاً) وامتلاكاً لمفردات الديموقراطية الليبرالية التي جرى تطويع الخطاب والبرنامج الإخواني ليلائمها. لهذا بات صعود الإخوان في الإقليم خطراً وجودياً، غير مبدئي، لكن حقيقي، على الوهابيين. أما قطر، فيمكن للحكم السعودي أن يقلل من شأنها وحجمها وانتفاخها لولا الغاز وقناة الجزيرة، أما مصر فقيمة تاريخية وجغرافية وسياسية وعسكرية معتبرة لا يمكن التقليل من شأنها، فما بالك إذا وقعت بأيدي الإخوان وتم توظيف إمكاناتها لخدمة مشروعهم الإقليمي؟!
ولعل أشرس الحروب والتنافس السلمي والعنيف كان ولا يزال يجري تاريخياً بين ما يتنافسون على نفس الأرضية، من صراع الدول الاستعمارية على اقتسام العالم في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى الصراع الصيني-السوفييتي في العالم الاشتراكي سابقاً، إلى صراع البعث مع الناصرية في فضاء القومية العربية، إلى صراع جناحي البعث في سورية والعراق، إلى صراع الدولة الصفوية والعثمانية في الفضاء الإسلامي قبل قرونٍ على العراق، الخ… وهو قانونٌ موضوعي للجغرافيا السياسية لا ينحل التناقض الجوهري الذي ينتجه إلا بانتهاء أحد طرفي النزاع، أو توحدهما سلماً أو حرباً تحت سيطرة إدارة واحدة، بغض النظر عن تشابه التوجه العقائدي والشعارات.
وبنفس المقدار الجغرافي-السياسي بالضبط، يعرف حكام السعودية جيداً أن صعود مصر يعني أفول الوهابية. وقد كان صعود مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر في ظل محمد علي باشا مقدمة قيام ابنه إبراهيم باشا باجتياح عاصمتهم الدرعية ودكها دكاً، وهو ما أسس للتعاون الوهابي مع بريطانيا أصلاً. كذلك يعرف حكام السعودية أن صعود مصر في ظل الرئيس القومي العربي جمال عبد الناصر شكل القانون الأساسي للحرب الباردة العربية في الخمسينيات والستينيات التي تحولت إلى حرب حارة على سورية واليمن. ويعرفون بأن إخضاع مصر تم عبر “وهبنة” و”سعودة” المجتمع المصري في ظل أنور السادات بالتعاون مع رئيس المخابرات السعودية آنذاك كمال أدهم، وقد حرص حسني مبارك على تحجيم دور مصر العربي والأفريقي والدولي، مما أسهم بإبقاء العلاقات جيدة مع الحكم السعودي.
باختصار يعرف حكام السعودية بأن مشروعهم الإقليمي لا ينجح إلا إذا بقيت مصر تحت جناحهم، أو تحت الأزمة، ويشكل تقديم 12 مليار دولار، منهم ومن حكام الكويت والإمارات، ثمناً قليلاً لتحقيق مثل ذلك الهدف الجغرافي السياسي المهم للسياسة السعودية. فإذا برز تناقض بين الموقف السعودي من جهة، وبين الموقف الأمريكي والأوروبي من جهة أخرى، إزاء الإطاحة بالحكم الإخواني في مصر، فإنما ينبع ذلك من شعور حكام السعودية أنهم على وشك أن يُستبدلوا بالإخوان، في سياق ما يسمى “الربيع العربي”، وبأن الإخوان منافس عقائدي جدي لهم، وبأن مصر، على مستوى آخر، لا يجوز أن تفلت من الأمريكان ومنهم لتلعب دوراً مستقلاً مما يهددهم مباشرة كما علمتهم تجربتهم التاريخية المرة، وقوانين الجغرافيا السياسية.
كذلك يسعى اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لمنع إيقاف المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر لأنه يدرك جيداً معنى انفلات مصر من العلاقة مع أمريكا، مما يعني بالضرورة تهديد الأمن الإستراتيجي للكيان الصهيوني. ولذلك يضغط الأمريكان والأوروبيون على مصر بشدة، ويلعبون ورقة “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان” ذوداً عن حكم الإخوان، ولكن ليس إلى حد انفراط عقد العلاقة.
بالمقابل تحتمل السعودية من مصر الخلاف حول سورية على مضض لأن مصر المستقلة تعرف أن أمنها الوطني يبدأ من بلاد الشام، وأن اتفاق مصر وسورية يعني بداية النهاية بالنسبة لها، والمصريون بالمقابل يدركون أن تدمير الدولة السورية واستنزاف الجيش السوري في معارك داخلية، بعد الشروع بتفكيك السودان، يهدد أمنهم الوطني إستراتيجياً، ويضعفهم إزاء العدو الصهيوني والغرب، وينقل معركة الاستنزاف والتفكيك والفتنة إلى داخل مصر نفسها.
وعليه، يمكن القول أن حكام السعودية يتبعون الآن إستراتيجية مزدوجة تقوم على تقليم أظافر الإخوان في الإقليم وشطب مشروعهم المستقل، مع توظيفهم ضمن المشروع السعودي وتحت سقفه، وتقوم في الآن عينه على احتواء مصر ومنعها من الانفلات باتجاه مستقل ومنع صعودها. بالمقابل، يقوم حساب الحكم الجديد في مصر على التقاطع مع السعودية حول الإطاحة بحكم الإخوان في مصر، وتأجيل ملفات الخلاف وإدارتها بشكل يتيح شراء الزمن والخروج من المرحلة الانتقالية، لكنه خلاف حاصلٌ لا محالة في النهاية، بمقدار ما تتخذ مصر لنفسها مساراً مستقلاً.
ويمكن تطبيق المقاييس نفسها أعلاه لفهم موقف إيران المرتبك من الإطاحة بحكم الإخوان في مصر…
للمشاركة على الفيسبوك:
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=716965981653973&set=a.306925965991312.96654.100000217333066&type=1
اترك تعليقاً