د. إبراهيم علوش
15/8/2012
لعل من أهم العناصر التي تفيد سورية، في الصراع الوجودي الذي تخوضه اليوم دفاعاً عن نفسها وعن الأمة العربية،أن يشعر أبناؤها وأنصارها وأعداؤها على حدٍ سواء، أن من يصطفون معها ينتمون لمدارس واتجاهات مختلفة، لا لمدرسة واتجاهٍ واحد. وهو ما يؤكد أن اختلاف المخلصين حقاً في الرأي لا يجوز أن يتحول إلى خلافٍ على الوطن…
ومثل هذه التعددية ضمن حدود الثوابت الوطنية والقومية تساعد أولاً على حشد الصفوف في مواجهة ضلالات من يحاولون استغلال اختلاف اللون وزاوية الرؤية ضد سورية، ومن يحاولون خلط الأوراق لتصبح الخيانة، المتمثلة بالتعاون مع التدخل الأجنبي وتفكيك الوطن طائفياً، مجرد وجهة نظر.
كما أن التعددية ضمن حدود الثوابت تساعد ثانياً على تأكيد الموقف الذي عبر عنه تكراراً الرئيس بشار الأسد بأن مشكلة سورية ليست مع من يختلفون مع القيادة بهذا الرأي أو ذاك، ما داموا تحت سقف الوطن وما داموا ينطلقون من اعتبارات وطنية وقومية، بل تكمن مشكلتها مع من يسعون لتدميرها بالتعاون مع قوى الهيمنة الخارجية، الناتوية منها والرسمية العربية.
من هذا المنطلق نتناول في السطور التالية موضوعا حساساً، ربما يكون خلافياً، هو “حفر الباطن”، والمقصود هنا بالطبع ذلك التحالف الذي عقد في مدينة حفر الباطن في شرقي الجزيرة العربية ضد العراق في حرب الخليج الثانية في نهاية عام 1990 وبداية عام 1991.
إذ كثيراً ما يتحجج بعض من يصطفون ضد سورية اليوم بذريعة تحالف “حفر الباطن” الذي انتهى إلى إخراج القوات العراقية من الكويت واقتحام جنوب العراق بقيادة الولايات المتحدة.
وكانت الولايات المتحدة قد قدمت حوالي ثلاثة أرباع القوة العسكرية آنذاك في الحملة التي اصطلح على تسميتها باسم “عاصفة الصحراء”، والتي شكلت واحدة من أشرس أشكال العدوان الأجنبي على الأمة العربية في التاريخ العربي المعاصر، والتي تجاوزت هدفها المعلن، وهو إخراج القوات العراقية من الكويت، إلى تدمير البنية التحتية المدنية للعراق تدميراً لا مثيل له (يا دعاة التدخل الأجنبي في سورية…).
وبما أن الموقف القومي واحدٌ لا يتجزأ، فأن كاتب هذه السطور ينطلق من رفض مبدئي لحفر الباطن، من منطلق رفض أي تعاون مع التدخل الأجنبي، ورفض تدمير أو حصار أي دولة مستقلة في العالم من قبل الإمبريالية بأية ذريعة.
لا بد من الاعتراف، بالرغم من ذلك، بأننا إذا أردنا توزيع نسب “الذنب” على المشاركين العرب في حفر الباطن، فإن النسبة الأقل سوف تذهب لسورية التي شاركت بالفرقة التاسعة المدرعة التي تموضعت على الأراضي السعودية خلف القوات المصرية والسعودية، ولم يسقط من صفوفها طوال حرب الخليج الأولى إلا جنديان، أي أنها لم تشترك بالمعارك فعلياً، ولم تدخل الأراضي العراقية خلال المعركة، إذ كان رأي القيادة السورية آنذاك، الذي لا نتفق معه بالضرورة، أن الهدف هو فقط دعم إخراج القوات العراقية من الكويت لا محاربة العراق، وأن القيادة العراقية أغلقت باب الحل السياسي، الخ…
وقد جاء ذلك على خلفية صراع مؤسف بين جناحي حزب البعث في سورية والعراق، امتد ليشمل الإقليم بأسره، من لبنان إلى الساحة الفلسطينية إلى دعم كل من النظامين لمعارضة القطر الآخر، ومنه دعم الإخوان المسلمين عسكرياً في سورية، ودعم ميشال عون في لبنان.
وهذا لا يعني تبرير المشاركة بحفر الباطن بأي شكل، لكن العبرة تبقى أن من يرفض حفر الباطن حقاً لا يتحالف مع من قاموا عليه ورتبوا أمره، ولا يشارك بما هو أسوأ منه ضد سورية… ومن يدعمون حراكاً يتبناه حلف الناتو وحكام الخليج، ومن ثم يحاسبون القيادة السورية على مشاركتها بحفر الباطن قبل أكثر من عشرين عاماً، يتوجب عليهم أولاً أن يحاسبوا أنفسهم على اصطفافهم أو مشاركتهم اليوم بالمؤامرة على سورية!
الخطاب هنا موجهٌ بالتحديد لبعض القوميين العرب والناصريين والبعثيين، لا لمن لم يستحوا يوماً من مناصرة التدخل الأجنبي، ومن تآمروا على الأمة وناهضوا التيار القومي العربي بكل ألوانه بشكل منهجي منتظم. فالمرء يحتار فقط فيمن يقف مع حكام السعودية وقطر وتركيا، ومع حلف الناتو وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، ضد سورية، بذريعة حفر الباطن… خاصة إذا سبق لهؤلاء أن ناهضوا التدخل الأجنبي ضد مصر عبد الناصر أو العراق أو ليبيا! فيما تراهم يصطفون اليوم مع الإمبريالية ضد سورية موضوعياً…
ونقول يصطفون موضوعياً، أي بغض النظر عن مدى إدراكهم لمثل ذلك الاصطفاف، لأن في سورية في هذه اللحظة معسكرين لا ثالث لهما: معسكر من يدافعون عن سورية وسيادتها وقرارها المستقل ووحدة أراضيها ونسيجها الاجتماعي من جهة، ومعسكر من يعملون على تدميرها أرضاً وشعباً ودولة من جهة أخرى.
وعندما يشتد التناقض ويرتفع مستوى التوتر بين هذين المعسكرين على النحو الذي نراه اليوم، فإن أي حراك سياسي إما أن يصب في جيب المعسكر الأول أو جيب المعسكر الثاني، مما لا يترك مجالاً لأي حيادٍ مزعوم.
ولا يعني ذلك أن لا حاجة للإصلاح وإزالة الفساد والتجاوزات، لكن ما يجري الآن في سورية لا علاقة له بأي مشروع إصلاحي أو تصحيحي من قريب أو بعيد، بل هو خطر وجودي، لا على سورية وحدها، بل على الأمة العربية برمتها.
إن القومي الحقيقي لا يمكن أن ينشغل، في خضم مواجهة تاريخية مصيرية مع أعداء الأمة، بتصفية حسابات ثأرية أو انتقامية من عقود ولت بين جناحي البعث أو ما بين البعث والناصرية، وهي صراعات لعبت دوراً سلبياً في إضعاف المشروع القومي وتأخيره عقوداً للوراء، ونصنع جميعاً خيراً لو تمكنا من تجاوزها وتعلم دروسها..
وفي سياق الرد على مقالة لعبد الحليم قنديل بعنوان “إذا كنت قومياً عربياً”، زعم فيها أن القومي العربي هو من يصطف مع الشعب لا مع النظام، سبق أن أشرنا: “أن ثورة يتبناها مجلس التعاون الخليجي وحلف الناتو إعلاميا وماليا وإستخباريا وعسكريا وسياسياً لا يمكن أن تكون ثورة شعب، بل هي ثورة مضادة بالضرورة.”
“والسؤال الحقيقي هنا: كيف يجرؤ قومي عربي أن يصطف، ولو بالتلميح، مع أعداء الأمة، ومع أعداء المشروع القومي العربي منذ أيام محمد علي باشا؟ ومع من يحاول تصفية الحساب التاريخي معه اليوم لو تتبعنا مسار حراك ما يسمى “الربيع العربي”؟”
“وكيف يجرؤ قومي عربي أن يسمي نفسه قومياً، أو وحدوياً، وهو يصطف مع قوى طائفية قروسطية، ومع مشروع تفكيك طائفي في سورية، سوف تمتد شرايينه الدموية من الخليج العربي إلى لبنان مروراً بالعراق، بذريعة الوقوف ضد نظام طائفي؟!”
وإذا عدنا لذريعة حفر الباطن، يجب أن نضيف أن من كان حريصاً على العراق حقاً، ومن ناهض العدوان عليه، لا يمكن أن يتعاون مع أعداء العراق أنفسهم الذين دمروه، لا في سورية ولا في ليبيا ولا في بقعة أخرى من الوطن العربي…. أو حتى في فنزويلا.
ومن كان ضد المشاركة في حفر الباطن حقاً لا يتمدد بالكامل، في حضن حفر الباطن اليوم، أي في حضن حكام الجزيرة العربية التابعين للخارج، مبرراً ذلك بأنه يقف ضد سورية بسبب حفر الباطن!
فالقوات التي غزت العراق لم تنطلق من سورية، بل انطلقت من السعودية والكويت وقطر.
الأولى إذن بمن يناهض حفر الباطن حقاً أن يناهض أولاً حكام الخليج الذين سعوا لتدمير العراق منذ نهاية الحرب العراقية-الإيرانية حتى اليوم، وليس مفهوماً على الإطلاق انجرار البعض للتجييش الطائفي في العراق ضد القيادة السورية، وخلف حكام الخليج وتركيا، باسم القائد الشهيد صدام حسين… وقد كان التجييش الطائفي معكوساً قبلها في مواجهة صدام حسين، من قبل نفس الأطراف، من أجل تدمير العراق، ولا زلنا ننساق للعبة التجييش الطائفي نفسها التي يتم زجنا فيها دوماً بكل سذاجة أو حمق لتبرير التدخل الأجنبي وتفكيك الأمة، خاصة الدول المستقلة فيها، سواء اتفقنا مع كل سياساتها أم لم نتفق.
ونذكر من يزعم أنه يتأسى بصدام حسين وهو يصطف مع التدخل الأجنبي ضد سورية بالمدد العراقي لسورية في حرب 1973، على الرغم من الخلاف الضاري بين جناحي البعث في سورية والعراق وقتها، لأن القومي العربي الحقيقي يفكر بمصلحة الأمة أولاً، لا بالحسابات الصغيرة، ومصلحة الأمة تكون بدعم من يخوض معركة وجود الأمة ضد الإمبريالية والصهيونية (القيادة السورية الآن)، ولو وجدت أي خلافات أخرى قديمة أو جانبية معها، وتكون بكشف الغطاء عمن يتحالف مع الإمبريالية والصهيونية (الليبراليون وبعض قوى الإسلام السياسي الآن)، بغض النظر عن الذريعة. والأصح أن لا ننشغل بفتح الملفات القديمة بعيداً عن المعركة الرئيسية والتناقض الرئيسي، مع أن كثيرٌ ممن يتاجرون بحفر الباطن ملفاتهم أكبر بكثير.
أخيراً، لو افترضنا أن رأي القارئ الكريم اختلف مع كل جملة واردة أعلاه، فإنه لا يستطيع أن ينكر أن الرئيس بشار الأسد اتبع سياسة انفتاح وفك حصار عن العراق منذ عام 2000، وأنه رفض المشاركة في حفر الباطن الثاني ضد العراق عام 2003، مما استتبع تهديدات جدية للقيادة السورية بعد احتلال العراق لم تثنها أبداً عن تبني نهج استقلالي مناهض للسياسات الإمبريالية والصهيونية في الوطن العربي.
بل احتضنت القيادة السورية المقاومات العربية ودعمتها، ومنها المقاومة العراقية، ودفعت أثماناً سياسية باهظة بسبب ذلك، ولا تزال القيادة السورية تتهم رسمياً من قبل الولايات المتحدة بأن ذلك الدعم أسهم بمقتل مئات الجنود الأمريكيين في العراق…
كما أن سورية احتضنت مئات آلاف اللاجئين السياسيين من العراق بعد احتلاله عام 2003، واعتبرت ذلك جزءاً من دورها القومي دون منةٍ أو شكوى.
وعليه فإن سورية تكون قد خرجت تماماً، ومنذ أمدٍ بعيد، من عباءة حفر الباطن العابرة عام 1990-1991، سواء فيما يتعلق بالعراق، أو فيما يتعلق بمجمل سياساتها المستقلة المناهضة للإمبريالية والصهيونية، ويكون التذرع بحفر الباطن للمشاركة بمثله، أو أسوأ، انقلاباً للأدوار يدين من انساقوا للمشاركة بحلف غير مقدس ضد سورية تقوده قوى البترودولار والتدخل الأجنبي والتفكيك الطائفي، مع التذكير دوماً أن القيادة السورية لم تشارك بفعالية في العمل العسكري ضد العراق عام 1991، فيما تحول بعض منتقدي حفر الباطن إلى بيادق دموية نشطة ومأجورة بأيدي أعداء سورية والأمة العربية. وهو ما لا يرضاه أي مواطن عربي شريف لنفسه، ناهيك عن مواطن يقول أنه يتبنى قناعات قومية عربية؟!
للمشاركة على الفي سبوك:
http://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=418942634808797&id=100000217333066¬if_t=like
اترك تعليقاً