نحو فهم أعمق للحسابات الروسية والصينية في معركة سوريا

الصورة الرمزية لـ ramahu

 

د. إبراهيم علوش

8/7/2012

 كثيراً ما تختلط حدود الموقفين الروسي والصيني لدى أنصار سوريا في المواجهة الدائرة حالياً مع الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين. 

 فحتى لو خصمنا من المشهد السياسي حملات التضليل الإعلامي التي حاولت الإيحاء تكراراً بأن روسيا والصين على وشك التضحية بسوريا، في مؤتمر جنيف حول سوريا في نهاية شهر حزيران مثلاً، وقبلها من خلال إساءة تأويل تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في بداية شهر أيار، وتصريحات نائب وزير الخارجية غينادي غاتيلوف في شهر حزيران… والأمثلة كثيرة على مثل تلك الأكاذيب التي كانت تذروها الرياح بسرعة مع مصداقية من يروجون لها… فإن المراقب السياسي لا يسعه إلا أن يلاحظ أن الموقفين الروسي والصيني لا يتخذان صورةً واحدة دوماً، فهما يشتدان تارةً ليتراخيا طوراً ليعودا للاشتداد والمواجهة في دورة يفهمها الأعداء أكثر من الأصدقاء لسوء الحظ.  فالمحور الأساسي للسياسة الخارجية الروسية والصينية يبقى دعم الدول والمواقف التي تنزع بعيداً عن الهيمنة الأمريكية والناتوية، ولكن ضمن شروط معادلات ما بعد الحرب الباردة، لا ضمن شروط النزعة الثورية للبلاشفة الأوائل وماوتسي تونغ، وهو ما سيأتي تفصيله لاحقاً. 

 لكن بالنسبة لنا يتساءل كثيرون: لماذا تشارك روسيا والصين في مؤتمر جنيف مثلاً وتقاطعان مؤتمر “أصدقاء” سوريا في باريس؟  ولماذا تصدر عنهما أحياناً بعض التصريحات الملتبسة؟  ولماذا تقيمان أحياناً بعض الاتصالات والعلاقات الباعثة على التساؤل؟  ولماذا لم تحاول روسيا والصين الوقوف في وجه تمدد الناتو وحلفائه في ليبيا فيما تقفان حجر عثرة حقيقي أمام التدخل العسكري الدولي المباشر في سوريا؟  وعلى نطاق أوسع، لماذا لا تدعم روسيا والصين حركات التحرر في وجه الولايات المتحدة وحلفائها، كما كان يفعل الاتحاد السوفييتي والصين الشيوعية، وكما تدعم الولايات المتحدة والناتو الثورات المضادة والحركات الانفصالية في روسيا والصين والدول المتحالفة معهما؟!

سوريا في حالة حرب حقيقية.  وفي مثل تلك الحالة، فإنها وأنصارها بحاجة لليقين الثابت.  وكم كان سيكون الواقع أفضل لو كان خالياً من المناطق الرمادية والرمال المتحركة والأجواء المتحولة!  لكن اليقين لا يأتي إلا من امتلاك الحقيقة، أي من فهم قوانين الواقع، لا من لي عنقه، حسب حالتنا النفسية، إما إلى اطمئنانٍ أكيد أو تشاؤمٍ وطيد.  وما يلي محاولة لوضع تصور عام عن السياسيتين الخارجيتين الروسية والصينية في المرحلة الراهنة لعلها تساعدنا على فهمهما، وبالتالي التعامل معهما، بشكلٍ أفضل.

 أولاً، روسيا والصين كلاهما يعتبر أن أولويتهما في المرحلة التاريخية الراهنة هي بناء اقتصاد قوي ومتين.  وهما تعتبران، بالتوالي، أن الاتحاد السوفييتي السابق والصين الماوية دخلتا مواجهة عالمية ضارية مع حلف الناتو كلفتهما موارد اقتصادية ضخمة كان يمكن أن تذهب لرفع مستوى معيشة الشعب ورفع سوية الاقتصاد، وأن انهيار الاتحاد السوفييتي كان أحد أهم أسبابه الرئيسية اضطراره لخوض سباق تسلح نووي ولدعم حركات التحرر العالمية والدول المستقلة عن الإمبريالية باقتصاد متخلف تكنولوجياً، وبإمكانات مالية، تقل كثيراً عن إمكانات الغرب. 

 وعليه، فإن السياسة العامة للصين وروسيا، منذ سنوات، هي تجنب المواجهة المباشرة السياسية أو العسكرية مع الغرب، حتى تستكملاً عملية التنمية الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية اللازمة لزحزحة الغرب عن موقعه على عرش العالم.  وهذا يعني، في الوقت الراهن، محاولة حل النزاعات سلمياً وتجنب الانجرار لمواجهات إقليمية ولو كان ذلك على حساب المصالح الصينية والروسية، كما جرى في ليبيا. 

 ولذلك نلاحظ أن سياسة الولايات المتحدة العامة هي التأزيم، فيما سياسة روسيا والصين العامة هي التهدئة، إلا في حالة واحدة هي وقوع التأزيم المدفوع إمبريالياً في الجوار الجغرافي المباشر للصين وروسيا، في جورجيا مثلاً أو في القوقاز أو في التيبت أو إقليم شينجيانغ المسلم أو بحر الصين الجنوبي.  وهنا نذكر بأن سوريا أقرب بكثير لروسيا من ليبيا، وأقرب لروسيا من الصين، وهو عامل من بين عوامل عدة يمكن أن توضح الصورة.

 ثانياً،  بعدما دخلت الولايات المتحدة في مغامراتها الدموية في أفغانستان والعراق، بعد شعورها بامتلاك ما اسمته “فائض قوة” في عالمٍ أحادي القطبية بعد نهاية الحرب الباردة، وبعد انطلاق مشروع التنمية الاقتصادية والتكنولوجية في روسيا منذ مجئ بوتين وفي الصين منذ التسعينات، بدأ النظام الدولي باستعادة توازنه تدريجياً مع أفول الولايات المتحدة اقتصادياً وانطلاقة دول البريكس (روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا)، وأفلتت مجموعة من دول أمريكا اللاتينية من الهيمنة الأمريكية، وهو إلى حد بعيد فضل المقاومة العراقية على العالم التي تدفع سوريا اليوم جزئياً مسؤولية دعمها. 

 هنا نشأت معادلة جديدة.  فالقوة الأكثر تقدماً عسكرياً، القوة القادرة على التدخل في أي بلد أو محيط بالعالم حين ترغب، باتت نفسها القوة التي تعايش انحدارها الاقتصادي والسياسي وتتخبط في أزماتها المالية وتشاهد صعود القوى الدولية المنافسة لها ملء عينيها. فماذا يمكن أن تفعل قوة من هذا النوع في مواجهة مثل تلك الحالة (القوة الأولى عسكرياً إذ تجد نفسها عاجزة عن تدارك أفولها الاقتصادي والسياسي الدولي)؟    

 الحقيقة أن تحولات إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة تلك الحالة بدأ في فترة رئاسة بوش الثانية بين عامي 2004 و2008، وتبلور لدى النخبة الحاكمة للولايات المتحدة في إيصال باراك أوباما للحكم ضمن برنامج جديد للسياسة الخارجية يقوم على التفاهم مع الحركات الإسلاموية، أو أجزاء منها على الأقل، بدلاً من “الحرب على الإرهاب”. 

 وعوضاً عن فرض الهيمنة المباشرة، أو الاحتلال، تحت وهم “فائض القوة”، صار هم الولايات المتحدة المباشر زعزعة الأرض تحت أقدام منافسيها من خلال التفكيك وإثارة القلاقل الداخلية تحت ذرائع شتى.   والأهم، قررت الولايات المتحدة إقامة سد جغرافي-سياسي منيع في وجه روسيا والصين في الوطن العربي والعالم الإسلامي، ومن هنا جاءت استعادة تحالف الحرب الباردة مع بعض الحركات الإسلاموية تحت عناوين شتى لتطويق روسيا والصين بحزام إسلاموي يمنعهما من التمدد غرباً وجنوباً. 

 هنا يجب أن ننبه بالأخص إلى أن تركيا العدالة والتنمية تلعب دوراً محورياً في تلك الإستراتيجية بسبب الامتدادات الديموغرافية واللغوية التركية في آسيا الوسطى السوفييتية سابقاً، وفي إقليم شينجيانغ المسلم في الصين.  مثلاً، أقلية الإيغور هناك التي نشأت من لدنها حركات انفصالية في إقليم الصين الأساسي المنتج للنفط والغاز، ليست أكبر أقلية مسلمة في الصين، لأن أكبر أقلية مسلمة في الصين هي المسلمون من أصل صيني، وهؤلاء لا يطرحون مشروعاً انفصالياً ولا يقومون بعمليات إرهابية، أما الإيغور، فأقلية تركية… ومن هنا فإن روسيا أولاً، ومن ثم الصين، تفهمان جيداً أن صعود الدور التركي في الإقليم، كوكيل للناتو، خاصة بعد وضع الدرع الصاروخي للناتو في تركيا في خريف عام 2011، هو مقدمة لمشروع تفكيك روسيا والصين، فسوريا تصبح هكذا خط الدفاع الأول لروسيا، وما قبل الأول للصين، في صراع ذي أبعاد دولية على الجغرافيا السياسية لعالم ما بعد الحرب الباردة وما قبل التعددية القطبية.

 ثالثاً، لكن دعم روسيا والصين لسوريا، أو لنفسيهما في سوريا، لا يأتي كيفما اتفق، إذ ينشأ عن كل ما  سبق صراع سياسي وأيديولوجي حاد على تحديد أسس اللعبة الدولية.  فالعالم اليوم يعيش صراعاً ما بين نزعتين في القانون الدولي، الأولى منهما هي “حق التدخل الإنساني” فوق سيادة الدول، والثانية هي “احترام سيادة الدولة الوطنية”، المثبت كلاهما في ميثاق الأمم المتحدة.  أما الإمبريالية فتدعم بكل شكل ممكن أولوية التدخل الإنساني، لحماية حقوق الإنسان أو الحيوان أو الباذنجان، لتبرر تدخلها في أي مكان في العالم، أما الصين وروسيا والدول الصاعدة فتحاول أن تثبت مبدأ أولوية سيادة الدول الوطنية. 

 ولنلاحظ، في عالم اليوم بالذات، أن أجندة التدخل الإنساني هي في النهاية إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لضرب الدول المستقلة بشكل مباشر أو غير مباشر، من زيمبابوي إلى كوريا الشمالية إلى فنزويلا إلى سوريا، وأن أجندة السيادة الوطنية هي الحفاظ على هامش الاستقلال الوطني وتعزيزه في مواجهة الإمبريالية العالمية.  وليس ضرورياً هنا أن نؤيد كل سياسة أو موقف لكل دولة مستقلة، ولا أن نخون أو نخطئ كل من يطرح شعار “الحرية” و”الديموقراطية”، بل المهم أن نفهم التناقض الرئيسي في عالمنا المعاصر باعتباره تناقضاً ما بين الإمبريالية من جهة والاستقلال الوطني من جهة أخرى، وأن ندرك أن المشروع العقائدي للإمبريالية هو تجاوز الاستقلال الوطني بشعارات “الحرية” و”الديموقراطية”، وأن المشروع العقائدي، بالتالي، لمناهضة الإمبريالية لا يمكن إلا أن يكون مشروعاً وطنياً وقومياً ولو أخذ شكلاً يسارياً في فنزويلا أو إسلامياً لدى بعض حركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق.

 لكن إصرار روسيا والصين على صيانة الاستقلال الوطني للدول، ونزع الذريعة من يد الإمبريالية للتدخل في شؤونهما الداخلية، من خلال الحركات الانفصالية أو المنظمات غير الحكومية الممولة أجنبياً، يعني أن روسيا والصين لا تستطيعان، ولسوف ترفضان، تقديم الدعم المباشر لحركات التحرر والمقاومة، حتى لو أقامت معهما علاقات، وستقصران دعمهما على الدول، خاصة الدول المستقلة المقاومة للهيمنة الإمبريالية.  وهذا ما يفسر حيرة بعض حركات المقاومة والتحرر من تلكؤ روسيا والصين في دعمها.  فهذه ليست دولاً ثورية بالبرنامج، بل هي دول ثورية موضوعياً بمقدار ما تعطي نزعتها لخلق عالمٍ متعدد الأقطاب حيزاً للدول والحركات المستقلة لتحقق برنامجها. فإذا وصلت الحركة الثورية أو التحررية للحكم، لن تتردد روسيا والصين في دعمها.  وإذا تبين أنها فقدت الحكم أو على وشك، لن تدخل روسيا والصين معركة عسكرية مباشرة للدفاع عنها، إلا بمقدار اقترابها جغرافياً منهما، وبالتالي بمقدار تأثيرها المباشر على الأمن القومي لروسيا والصين. 

 وقد تقيم روسيا والصين علاقات مع الدول التي تنجح الولايات المتحدة بالإطاحة باستقلالها، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ذرائعياً، ولأنها تريد أن تكرس الدول كمرجعية قانونية، لا الكيانات العابرة للدول أو التي تخترق الدول. 

 ومن هذا المنظور أيضاً، يمكن أن نتخيل توجس روسيا والصين من بعض الحركات الإسلامية العابرة للدول، ومنها العابرة لدولتي روسيا والصين، كما يمكن أن نتخيل مدى التقاطع، لا المصلحي فحسب، بل العقائدي أيضاً، العابر للقوميات، والمعادي للقومية، بين تلك الحركات من جهة والإمبريالية من جهة أخرى.

 نستنتج مما سبق أن معركة سوريا هي معركة مصيرية بالنسبة لروسيا والصين، وهذا هو الأساس، وعليه فإنهما تصطفان مع سوريا لا بشكل عابر، بل دفاعاً عن أمنهما القومي. 

 لكن داخل روسيا والصين توازنات، وتيارات أطلسية النزعة، وبالتالي تمارس ضغطاً باتجاه معاكس.  كما أن روسيا والصين ليستا دولتين ثوريتين، وبالتالي فإنهما لا تقطعان بشكل نهائي مع أي طرف، وتتركان جسوراً للرجعة دوماً. 

 ولكن يبقى أن أهم عامل، بالإضافة للأمن القومي لروسيا والصين، يمكن أن يدفعهما للتمسك بسوريا هو تأكدهما بأن سوريا قادرة على حسم المعركة على الأرض، وليست رهاناً ضائعاً، وهو ما نراه يتجسد الآن أخيراً.  وهذا لا يتعارض مع الانسحابات التكتيكية التي قام بها الجيش السوري من بعض المناطق ضمن خطة عنان، ومبادرة الجامعة العربية قبلها، ليثبت لروسيا والصين أن مثل تلك الانسحابات لن تؤدي للتهدئة، بل لتزايد الإرهاب واختراق الناتو في تلك المناطق.  

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..