د. إبراهيم علوش
يوماً ما، كانت كل الدول العربية تقاطع الكيان الصهيوني اقتصادياً، وتقاطع الشركات المتعاملة معه، وشحنات السلع المتوجهة عبر الوطن العربي إلى المرافئ والمطارات “الإسرائيلية”. أما اليوم، فإن سوريا ولبنان وحدهما يلتزمان حرفياً وكلياً بالمقاطعة الاقتصادية التي فرضتها الجامعة العربية على التجمع اليهودي في فلسطين منذ أواسط الأربعينات، ورسمياً وبشكل منهجي وكلي بعد احتلال فلسطين عام 48. وفي لبنان ثمة قوى مع مقاطعة الكيان الصهيوني وأخرى مع إنهائها، ولذلك جاءت عقوبات الجامعة العربية الاقتصادية ضد سوريا كمحاولة لإسقاط القلعة العربية الأخيرة التي ما برحت تلتزم مقاطعة الكيان الصهيوني كلياً، وكانقلاب على عروبة الجامعة العربية ورسالتها مما حوّل المقاطعة من سلاح ضد الصهيونية إلى سلاحٍ ضد مقاطعيها.
ويذكر أن مكتب المقاطعة المركزي للجامعة العربية موجود في دمشق منذ أسس في 19/5/1951. وبسبب تغيب عدد كبير من الدول العربية عن اجتماعاته، لم ينعقد رسمياً بين عامي 1993 و2002، حتى أعيد تفعيله تحت وطأة الانتفاضة الثانية في فلسطين. ولكن هيهات! فالمعاهدات مع العدو الصهيوني دفعت بالنظام المصري أولاً، بعد كامب ديفيد عام 1978، لرفع المقاطعة عن العدو الصهيوني رسمياً عام 1980، وتبعه الأردن عام 1995، بعد توقيع معاهدة وادي عربة عام 1994، وكذلك التزمت السلطة الفلسطينية رسمياً بعدم التقيد بالمقاطعة العربية للكيان الصهيوني عام 1995، وكانت اتفاقية أوسلو الموقعة عام 1993 قد نصت في أحد ملاحقها على تسهيل تصدير المنتجات الصهيونية للأسواق العربية!
وقد فتحت اتفاقية أوسلو بالذات الباب أمام العديد من الدول العربية والأجنبية لكي تقيم علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني، ومنها العلاقات الاقتصادية، وقد تم ذلك بالطبع تحت شعار: “نقبل بما يقبل به الفلسطينيون”، وشعار: “لا يمكن أن نكون أكثر ملكية من الملك”!! إلا سوريا، فقد استمرت على التزامها بالمقاطعة، ولم تتخذ من أوسلو ذريعة للتخلي عنها.
وفي عام 1994 بالتحديد أسقطت مجموعة من دول الخليج العربي المقاطعة من الدرجة الثانية (الثانوية) والدرجة الثالثة ضد العدو الصهيوني. والمقاطعة الأولية، أو المقاطعة من الدرجة الأولى، فهي مقاطعة الكيان الصهيوني نفسه، ومقاطعة الدرجة الثانية هي مقاطعة شركات عالمية، الغربية خاصة، التي تقيم علاقات اقتصادية مع العدو الصهيوني، أما المقاطعة من الدرجة الثالثة فهي حظر التعامل مع الشحنات الواردة ترانزيت عبر الدول العربية من وإلى المرافئ والمطارات “الإسرائيلية”. ويذكر أن وزير الاقتصاد والتجارة السوري محمد نضال الشعار أصدر قراراً حظر بموجبه التعامل مع الشركة الأمريكية “تينيلاف” لميولها الصهيونية مع التجاوز عن تطبيق مبدأ الإنذار بحقها، وقد قالت صحيفة الثورة السورية التي أوردت الخبر في 21/11/2011 أن القرار جاء بناء على كتاب من مكتب مقاطعة “إسرائيل” التابع للجامعة العربية.
وقد سبقت الإشارة أن الانتفاضة الثانية في فلسطين عام 2000 أعادت تفعيل دعوات المقاطعة ضد العدو الصهيوني، وفي النهاية التأم مكتب المقاطعة المركزي عام 2002 لكن لم ينتج عن لقاءاته شيء، فقد كان قطار التطبيع الرسمي العربي مع العدو الصهيوني قد سار بقوة دفع ثلاثية تتمثل بما يلي:
1) المعاهدات الموقعة مع العدو الصهيوني، كما ذُكر آنفاً، والمفاوضات المفتوحة، وما يسمى “عملية السلام” التي توجت في مؤتمر القمة العربية المنعقد في بيروت في آذار 2002 بعرض القيادة السعودية ل”مبادرة السلام العربية” التي لم يُحدد سقفٌ زمنيٌ لسحبها إذا لم يوافق العدو الصهيوني عليها،
2) الضغط الأمريكي على الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة لإيقاف الالتزام بالمقاطعة العربية، وقد بدأ هذا الضغط بحملة شرسة من قبل اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لسن قوانين تعاقب الشركات الأمريكية الملتزمة بالمقاطعة العربية، وهو ما دفع مجلس النواب الأمريكي لسن قانون عام 1977 يفرض عقوبات وغرامات مالية باهظة على الشركات الأمريكية الملتزمة بالمقاطعة العربية الثانوية، وهو القانون الذي وقعه الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، ولذلك، تم تأسيس مكتب “التقيد بمناهضة المقاطعة” وإلحاقه بوزارة التجارة الأمريكية، وتنص العقوبات وتعديلاتها على فرض غرامة تصل إلى خمسة أضعاف الصادرات التي لم تتم للكيان الصهيوني أو عشر سنوات سجن. وقد كان بند إقامة علاقات اقتصادية عادية مع الكيان الصهيوني مطلباً رسمياً أمريكياً دائماً ولحوحاً في كل مبادرة أو مشروع قدموه للمسؤولين العرب، وكانت البحرين قد أعلنت انسحابها رسمياً من المقاطعة العربية للكيان الصهيوني عام 2005 في سياق اتفاقية التجارة الحرة التي وقعتها مع الولايات المتحدة وقتها.
3) الاقتصاد السياسي للعولمة، فالانضمام للمنظمات الاقتصادية الدولية مثل “منظمة التجارة العالمية” يعني فيما يعنيه حظر المقاطعة أو التعامل بمقياسين مع أي دولة عضو في تلك المنظمة. وقد انضمت دولة “إسرائيل” إلى “منظمة التجارة العالمية” في 21/4/1995، أي بعد أربعة أشهر من إعلانها رسمياً، (وكانت تركيا قد سبقتها في الانضمام بشهر تقريباً، حسب موقع “منظمة التجارة العالمية” على الإنترنت)، وبالتالي فإن الدخول في المنظمة يعني فوراً وتلقائياً التطبيع مع الكيان الصهيوني. ويشار أن الكيان الصهيوني أصبح عضواً أيضاً في “منظمة التعاون والتنمية” OECD في 7/9/2010 التي تضم 34 من الاقتصادات الرأسمالية (وتركيا عضو مؤسس في تلك المنظمة منذ عام 1961).
وهذه النقطة بالذات ذات أبعاد تتجاوز موضوع المقاطعة هنا، فهي تتعلق بالتلازم ما بين ظاهرتي العولمة والصهينة، خاصة من ناحية اعتماد الأولى على تجاوز الحدود والسيادة الوطنية وهيمنة القطاع غير المنتج، مثل المضاربة المالية والتراكم الربوي، على الاقتصاد العالمي، واعتماد الثانية منذ نشأت على الشبكات والوعي العابر للحدود والمحتقِر للانتماء الوطني والقومي. فالعولمة باتت تعني، فيما تعنيه، صهينة العالم، والصهيونية كانت منذ البداية ظاهرة دولية، ترتبط بشبكة النفوذ اليهودي العالمي، لا ظاهرة محلية حصراً تتعلق بالاحتلال اليهودي لفلسطين عندما ظن البعض أنها مجرد أداة للخارج لا حول لها ولا طول.
ويصطدم مشروع العولمة والصهينة بالضرورة مع مشاريع التنمية الاقتصادية المستقلة المنفلتة من هيمنة الإمبريالية كنظام، حتى لو لم تكن تلك المشاريع اشتراكية أو ثورية، وذلك هو الأساس الموضوعي للصراع ما بين روسيا والصين من جهة وحلف الناتو من جهة أخرى، ولهبوب رياح الحرب الباردة من جديد، وللتعامل الوحشي مع سوريا، وليبيا من قبلها، وما ذكرنا تركيا أعلاه، مرتين، إلا للإشارة أن اقتصادها جزء من منظومة العولمة/الصهينة، لا مشروع تنمية مستقل، ولا يكفي الانضمام لمنظمة التجارة العالمية وحده طبعاً للجزم بأن دولة ما قد وقعت نهائياً في شراك الإمبريالية، ولعلنا نعود إلى هذه النقطة حول الاقتصاد التركي وروابطه العضوية بالمنظومة الإمبريالية في معالجة منفصلة.
المهم، أعلنت السعودية عام 2005 إنهاءها الحظر على التعامل مع السلع والخدمات “الإسرائيلية” في سياق طلبها الانضمام ل”منظمة التجارة العالمية” الذي تم رسمياً في 11/12/2005. ويشار إلى أن الدول العربية التالية انضمت لمنظمة التجارة العالمية منذ أواسط التسعينات: مصر، البحرين، الكويت، المغرب، قطر، تونس، وموريتانيا. كما انضمت الأردن وعمان للمنظمة عام 2000. وقد ترافق ذلك بشكلٍ عام مع إسقاط المقاطعة الثانوية ضد “إسرائيل”، والمقاطعة من الدرجة الثالثة، وبتخفيف المقاطعة الأولية على الكيان الصهيوني أو تصاعد التطبيع إذا كانت المقاطعة الأولية قد أسقطت أصلاً. وفي الكثير من الحالات، ترافق ذلك مع نشوء علاقات دبلوماسية وغير اقتصادية مع الكيان الصهيوني كما جرى مع المغرب وموريتانيا وعمان وقطر، كما ترافق مع اندفاع الكثير من الشركات العالمية، التي كانت تتردد في الاستثمار والتجارة مع الكيان الصهيوني قبلها، في إقامة أوسع العلاقات معه، وهو ما أعطى الاقتصاد الصهيوني جرعة مكثفة من راس المال والتكنولوجيا المتقدمة ابتداءً من أواسط التسعينات.
بالرغم من ذلك، يبقى ما يزعج الحركة الصهيونية وحلفائها الدوليين أن المقاطعة العربية الأولية لم تسقط بشكل ناجز ونهائي في كل الدول العربية بعد، ما دام هنالك من يصر عليها ويرفع رايتها، وما دامت لم تلغ بقرار رسمي من الجامعة العربية، وهو ما يمهد له قرار مقاطعة سوريا. وتبقى اللازمة الضرورية لإنهاء مقاطعة العدو الصهيوني مقاطعة من يناهضه ومن يقاطعه، فالتطبيع مع العدو الصهيوني هو فعلياً إعلان حرب، لا دعوة سلام، ولكن على قوى المقاومة والممانعة.
أخيراً، نلفت النظر إلى أن القوى الإسلامية والليبرالية الصاعدة في انتخابات “الربيع العربي” تشدد دوماً أنها ستحترم الاتفاقات الدولية المعقودة، وهذا يعني المعاهدات مع العدو الصهيوني والمعاهدات التي تكرس التبعية للخارج. وكما قالها راشد الغنوشي في اللقاء الذي أجراه في زيارته الأخيرة للعاصمة الأمريكية في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”، وهو معهد أسسته إيباك، اللوبي الصهيوني في الكونغرس الأمريكي عام 1985: “لا معاداة للصهيونية في الدستور الجديد”! ويشير تقرير مجلة الويكلي ستاندرد الأمريكية الذي أورد الخبر في 1/12/2011 أن الغنوشي عزف عن مناقشة قضية فلسطين في اللقاء… أما برهان غليون في مقابلته مع صحيفة الوول ستريت جورنال في 2/12/2011، والتي قال فيها أنه سيعيد توجيه السياسة السورية بعيداً عن إيران وحزب الله باتجاه دول الخليج، وأنه سيسعى لاستعادة الجولان بالتفاوض من خلال العلاقة الخاصة التي يتمتع بها مع القوى الأوروبية والغربية، فتأتي ضمن نفس السياق بالضرورة.
العرب اليوم 5/12/2011
اترك تعليقاً