الحرب الإمبريالية ضد الدول المستقلة

الصورة الرمزية لـ ramahu

د. إبراهيم علوش

14/4/2011 

 

إذا كنا قد تعلمنا شيئاً من الحراك الشعبي العربي خلال الأشهر الأخيرة، فهو أن أي حراك شعبي يفتقد للبرنامج الجذري الواضح والقيادة الثورية المنظمة يصبح عرضة للاختراق والإجهاض والتلاعب فيه من قوى دولية وإقليمية تتناقض أجنداتها كل التناقض مع مصلحة الأمة.  ولا يقاس أي حراك سياسي بحسن نواياه فحسب، وملايين جماهير الشعب لا يمكن أن تكون عميلة للإمبريالية بأي شكل من الأشكال، ومن يرى غير ذلك يتخلى عن أهم احتياطي لأي مشروع تغيير حقيقي، غير أن القوة المنظمة تستطيع عادةً أن تتغلب على الأعداد غير المنظمة أو أن تخترقها وتحتويها، فما بالك وقد راحت الإمبريالية تستند إلى ترسانتها من أسلحة “القوة الناعمة”؟! 

والإمبريالية مصطلح يشيع استخدامه في الأدبيات السياسية، لكنه ليس مجرد رديف لتعبير “الاستعمار” كما توحي بعض الكتابات.  فالاستعمار، بمعنى احتلال أراضي الغير وإخضاع الشعوب ونهب الثروات، أقدم من الإمبريالية بكثير.  أما الإمبريالية فهي أوسع من ذلك، وأحدث منه عهداً، وهي ليست مجرد مشروع تأسيس إمبراطورية عالمية كتلك التي أسسها الرومان مثلاً.   فالإمبريالية منظومة من علاقات الهيمنة الدولية، ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وثقافية، لا مجرد ظاهرة عسكرية.  وقد نشأت الإمبريالية كمنظومة عالمية، وكمنهج ورؤيا لإخضاع كوكب الأرض، من لدن تطور النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية أولاً.  فالإمبريالية ليست مجرد استعمار مباشر، بل أنها قد تترك السيطرة العسكرية المباشرة لوكلاء لها في البلدان المفتوحة ما داموا قادرين على إبقاء تلك البلدان ضمن منظومة الهيمنة الإمبريالية، أي كمصدر للمواد الخام، واليد العاملة الرخيصة، وكأسواق، وكميادين لاستثمارات الشركات الرأسمالية العالمية، والأهم بقاءها سياسياً وعسكرياً كجزء مضمون من الحلف ضد أي دول أو قوى تخرج عن تلك المنظومة الإمبريالية.

وبعدما نشأت الاحتكارات الكبرى والشركات متعدية الحدود في الدول الرأسمالية المتقدمة، وبات الكوكب بأسره ملعبها، وبعدما بات تصدير رأس المال عبر الحدود، وليس تصدير السلع فحسب، ضرورة حيوية لاستمرار وتوسع النظام الرأسمالي العالمي بأسره، بغض النظر عن هوية الدولة التي تقود عجلة ذلك النظام، اتخذ الاستعمار شكلاً إمبريالياً.   فالحروب والعدوان الخارجي يأتيان هنا لإخضاع الدول المستقلة لمنظومة هيمنة عالمية، وليس لاستعمار عسكري مباشر ودائم بالضرورة.  والشركات الأمريكية لم تحصل على العقود الأخيرة للنفط العراقي مثلاً، لكن العراق ككيان تم تحويله إلى أشلاء دولة يصعب عليها أن تتخذ لنفسها طريقاً مستقلاً عن الإمبريالية.

في الحالتين، سواء وقع استعمار مباشر ودائم أم لم يقع، فإن الإمبريالية نفسها في أخر عقدين من القرن العشرين، ولكن بالأخص بعد انهيار دول المنظومة الاشتراكية في بداية التسعينات، تحولت تدريجياً مع تحول النظام الرأسمالي العالمي، من نظام يقوم على رأسماليات مختلفة في الدول القومية المختلفة، إلى رأسمالية واحدة عابرة للحدود همها تفكيك الدول وإضعافها، وإعادة صياغة العالم من جديد، بناء على شروط هيمنتها الجديدة فيما بات يعرف باسم العولمة.  والعولمة طبعاً هي اندماج الاقتصادات الوطنية والمحلية في شبكة عالمية واحدة، تسيرها في النهاية مصلحة الرأسمالية العالمية كطبقة وكنظام.  المهم صار العدو الرئيسي لتلك العولمة هو كل قلعة مستعصية، وكل حركة، وكل حالة سياسية، تحاول أن تخط لنفسها طريقاً مستقلاً وأن تنأى بنفسها عن المنظومة الإمبريالية العالمية.  ولنلاحظ هنا أن حرب الإمبريالية، دوماً تحت يافطة “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان”، هي ضد مفهوم “الاستقلال”، و”السيادة”، وأي مشروع للتطور المستقل، وليس ضد الأديان أو الحركات العمالية في الدول الإمبريالية نفسها، أو ضد أي مشروع إصلاحي محلي، أو ضد أي شيء من هذا القبيل ما دام لا يقف عائقاً في وجه الاندماج “الديموقراطي” في النظام الرأسمالي العالمي.

وقد تأتي النزعة الاستقلالية في قوالب مختلفة، مقصودة أو غير مقصودة، ومن منطلقات عقائدية مختلفة، فقد تتخذ شكلاً إسلامياً في أفغانستان طالبان (التي رفضت أن تمد شركة يونيكول أنبوباً للغاز عبر أراضيها)، أو شكلاً يسارياً في أمريكا اللاتينية مع تشافيز وموراليس وأورتيغا، أو شكلاً قومياً في عراق صدام حسين، أو شكلاً وطنياً استقلالياً مناهضاً للعنصرية البيضاء في زيمبابوي روبرت موغابي، أو شكلاً آسيوياً في كوريا الشمالية، أو شكلاً مقاوماً للترتيبات الإقليمية في غزة حماس أو جنوب لبنان حزب الله، الخ… وليس المهم الشكل هنا، وليس مهماً على الإطلاق كم يتفق المرء أو يختلف مع مجمل رؤى ومواقف وممارسات هذه القوة الاستقلالية أو تلك.  المهم فقط هو كيف يلخص موقف الإمبريالية العالمية من مجموع تلك الحالات الاستقلالية التناقض الرئيسي في عالمنا المعاصر اليوم بين الإمبريالية من جهة والحركات والدول النائية بنفسها عنها من جهة أخرى، وهذا هو التناقض الأساسي الذي يتبع له كل تناقض أخر.

بالمقابل، لا تواجه الإمبريالية مشكلة في أن تقدم نفسها كقوة مدافعة عن الإسلام والمسلمين لتدمير يوغوسلافيا السابقة، وقبل ذلك في خضم الحرب الباردة في أفغانستان وغيرها، ومن ثم أن تعبئ الرأي العام ضد الحركات الإسلامية المناهضة للهيمنة الإمبريالية تحت عنوان “الحرب على الإرهاب”، ولا تواجه الإمبريالية مشكلة بالتعاون مع يسار يركز على القضايا المطلبية والمعيشية والإصلاحية أساساً ويهمش التناقض الرئيسي مع الإمبريالية والصهيونية، فالأساس هنا كان ويبقى مصلحة الإمبريالية الراهنة في الزمان والمكان المحددين.    

أما من جهة الشعوب الساعية للتحرر ولخط طريقها الخاص نحو التنمية والتطور المستقل، فإن العداء للإمبريالية يجب أن يبقى المنطلق الرئيسي لرؤيتها للعالم المعاصر.  ولنلاحظ مثلاً أن مفهوم “الاستقلال” لا يعني بالضرورة أن سلوكيات الحركات والقوى المستقلة ستكون دوماً مبدئية وغير مشوبة بأي خلل بالضرورة، ولا يعني أنها لن تدخل أبداً في أية مساومات انتهازية، أو حتى قذرة، مع الإمبريالية في أي مفصل من المفاصل… بل يعني الاستقلال فقط القدرة والإرادة على انتهاج طريق مخالف للتبعية للإمبريالية عندما ترى ذلك مناسباً.   وبمقدار ما تنتشر هذه القابلية الاستقلالية للخروج على التبعية تضعف المنظومة الإمبريالية، وبمقدار ما تنجح الإمبريالية بشل تلك القدرة وتدميرها، بمقدار ما تقوى المنظومة الإمبريالية.

مثلاً، لا يكفي أن يتخلى عمر البشير عن جنوب السودان ونفطه وموارده، وهو الأمر المدان الذي يبدو أننا نسيناه في خضم الحراك الشعبي العربي، وأن يستعد للتخلي عن دارفور، بل يجب أن يفقد أي حكم في السودان القدرة على قول لا، الآن أو في المستقبل، للانخراط الكامل في المنظومة الإمبريالية.  وما دام يمكن أن يقول هذه “اللا”، فإنه يبقى مستهدفاً بالرغم من كل تنازلاته المدانة دوماً ولكن التي لن تحميه أبداً.  فلو افترضنا أنه استهدف عسكرياً بعدها، أو أن حلف الناتو رتب تمرداً عسكرياً ضده من الداخل، فأن موقعنا الطبيعي في مثل ذلك الصراع لا يمكن أن يكون مع حلف الناتو، بل مع البقية الباقية من القرار السوداني المستقل، خاصة أن البديل سيكون أكثر سوءاً بكثير.

السلطة الفلسطينية مثلاً جهة تابعة للإمبريالية والصهيونية، وكذلك الكثير من الأنظمة العربية التي تسحق حراكاً شعبياً في البحرين، بغض النظر عن أي ملاحظات عن التدخل الإيراني، لتناصر التدخل الإمبريالي العسكري المباشر في ليبيا.  فمن البديهي في مثل تلك الحالة أن تكون معارضة تلك الأنظمة امتداداً طبيعياً لمناهضة الإمبريالية، ومن البديهي أن يكون موقفنا مختلفاً بحدة في حالة معارضة موالاة أمريكا عنه في حالة معارضة معارضي أمريكا، وإلا تاهت البوصلة، ولا تناقض منهجي على الإطلاق هنا إذا انطلقنا من أولوية التناقض مع الإمبريالية والصهيونية.   ولذلك قل ما شئت عن النظام في سوريا مثلاً، فإن حقيقة كونه قادراً ومستعداً على قول “لا” للإمبريالية في لبنان وفلسطين وغيرهما، وفي إبقاء سوريا في منأى نسبي عن المنظومة الإمبريالية بالمعنى المذكور أعلاه، يتطلب بالضرورة أن تثبِت معارضتُه، حتى قبل أن تلجأ للسلاح، أنها أكثر مناهضة للإمبريالية والصهيونية منه قبل أن تستحق أي دعم من الشعب العربي، فما بالك إذا كان بعض تلك المعارضة يرتبط بخيوطٍ شبه مرئية بقوى وجهات لبنانية وخليجية وغيرها لا جدال حول تبعيتها للإمبريالية؟!

ولا معنى لتغيير أو “ثورة” تقود للمزيد من التبعية للإمبريالية أو لحلف الناتو…

والغريب أن اللجوء للسلاح لم يتم إلا في حالة الدول العربية ذات النزعة المستقلة، مع أن قتل المتظاهرين بالمئات بدأ على يد مبارك وبن علي، ولم يؤدي ذلك للجوء للسلاح!  ولا يعني ذلك أبداً أن الدول العربية ذات النزعة المستقلة لا يحق للمواطن فيها أن يطالب بحقوقه أو حتى أن يعارض، أو أن يناهض الفساد والاستبداد، ما دام ذلك لا يرتبط بأجندة خارجية أو مشروع تفكيك، ولكن عندما تحظى أي حركة أو شخصية معارضة في دول ذات نزعة مستقلة بالدعم الإمبريالي المكشوف، فإن ذلك يفترض أن يدفعنا لطرح الكثير من التساؤلات، خاصة عندما يقترن بالدعم الإمبريالي العسكري المباشر، المترافق مع حملة في وسائل الإعلام الإمبريالية والتابعة ل”تغيير النظام”.

أخيراً، وفي سياق الحديث عن النزعة الاستقلالية، نشر موقع كاونتربنش اليساري الأمريكي مقالة مترجمة عن اللوموند ديبلوماتيك الفرنسية في 8/4/2011 بعنوان “لماذا قررت الشركات النفطية بأن القذافي عليه أن يغادر؟” قالت فيها أن القذافي، الذي انتقدته أيضاً على أشياء أخرى، سعى لإبقاء القطاع النفطي الليبي مستقلاً بإدخال عشرات الشركات النفطية الغربية للتنقيب عن النفط وللاستثمار في تطويره، بدلاً من السماح لشركات قليلة محددة أن تحتكر وأن تنال حصة الأسد، كما في حالة شركة أرامكو في السعودية مثلاً، كما أنه فرض شروطاً قاسية على تلك الشركات، ومنها دفع 133 مليون دولار عند توقيع العقد، وحداً أدنى هو 300 مليون دولار للإنفاق على التنقيب، ومن ثم يمكن أن تحتفظ الشركة بحوالي عشرة بالمئة فقط من النفط الذي تستخرجه، يمكن أن ترتفع إلى أكثر من ذلك، وصولاً لأربعين بالمئة في بعض الحالات الخاصة، والباقي للدولة.  وفي ظل هيمنة شركة النفط الوطنية الليبية على المخزون، فإن تلك الشركات لن تستغني عن النفط الليبي مع القذافي أو بدونه… ونضيف بأن ذلك يمثل فعلياً قيوداً على حراك الشركات متعدية الحدود لا تقبل بها، فقط على سبيل المثال لا الحصر… مع أن القضية قضية تبعية لمنظومة، لا قضية نفط فحسب.  فما هي الشروط التي سيفرضها متمردو حلف الناتو على تلك الشركات يا ترى، أو التي اتفقت معهم عليها، أو ربما التي ستطالب تلك الشركات القذافي بها في أي صفقة لوقف العدوان على ليبيا المجزأة؟!!!!!!

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..