نقدم أدناه ثلاث مواد عن عروبة مصر: 1- مقالة لإبراهيم المازني من عام 1935 عن القومية العربية، موجهة للمصريين أساساً، 2- مقتطفات قصيرة عن عروبة مصر من كتاب صدر عام 1970 عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر لعلي حسن خربوطلي بعنوان “التاريخ الموحد للأمة العربية”، 3- مادة قيمة وموثقة بعنوان “عروبة مصر القديمة” للدكتور عكاشة الدالي.
عروبة مصر 1:
(تقديم: نشرت المادة أدناه في مجلة “الرسالة” في 26/8/1935، أي قبل حوالي ثلاثة أرباع القرن، أي قبل الناصرية وعبد الناصر. ونعيد نشرها هنا للتأكيد على عراقة الاتجاه القومي العربي في مصر مع التحفظ على تعبير “أمم عربية” الوارد في النص، وهو مصطلح مخترق لا مكان له من الإعراب، تماماً مثل تعبير “شعوب عربية” في نصوص أخرى لكتاب آخرين. فنحن أمة عربية واحدة وبالتالي شعب عربي واحد بالضرورة. لكن هذه الهفوة، أو الخطأ الشائع بالأحرى، لا تقلل من أهمية النص الجميل أدناه، ولا من كاتب النص إبراهيم المازني. والمازني كاتب مصري معروف، وشاعر مجدد، وروائي ومترجم وصحفي كبير.
ويلاحظ من النص أنه استخدم تعبير “أمم عربية”، الذين سجناه عمداً بين مزدوجين، بمعناه الفضفاض في اللغة العربية، أي للإشارة لطائفة من الكائنات يجمعهم قاسم مشترك، دون أن يحمل ذلك بالضرورة، أو يستثنى، المعنى القومي لكلمة أمة، كما في كتاب “كليلة ودمنة” حين يسمى عبدالله بن المقفع كل جنس من أجناس الحيوانات “أمة”، أو كما كان يقول العرب “أمة الروم”، أو كما نقول اليوم في كلامنا اليومي مثلاً: “أمة لا إله إلا الله” عند الحديث عن ذيوع أمر ما بين الناس. ومما يؤكد أن إبراهيم المازني لم يكن يستخدم تعبير “أمم عربية” للزعم أنهم أمم مختلفة، بدلاً من أمة واحدة، قوله واحتجاجه: ” هذا الشرق العظيم الذي تقسمونه اليوم أمماً وشعوباً وتقولون هذا مصري وذاك فلسطيني أو شامي أو حجازي… “. لكن إطلاق تعبير “أمم” على العرب اليوم بات يتخطى هذا الوصف اللغوي الصرف ليحمل شحنة سياسية ناسفة للرابط القومي بين العرب، ولذلك اقتضى التنويه.
النقد الوحيد على المادة القيمة أدناه أنها تتحدث عن الشرق، والدول العربية في الشرق، مهملةً المغرب العربي ودوله، مع أنه يمثل ثقلاً حقيقياً في الأمة العربية، وكذلك لم يتم ذكر السودان، وبالرغم من ذلك، فإن ما قاله إبراهيم المازني عن مصر والحجاز وبلاد الشام والعراق ينطبق بالضرورة على السودان ودول المغرب العربي، ولعله كان يذكر ما ذكره من الدول العربية على سبيل المثال لا الحصر.
النقطة الأخيرة هي أن المازني كان يتعامل مع العروبة والإسلام كمرادفين، وهو ما نعيده للعلاقة العضوية الراسخة بينهما التي لا تحتاج منا إلى تعليق… بغض النظر عن كثرة التفاصيل.
إبراهيم علوش).
القومية العربية (حديث موجه للمصريين)
إبراهيم عبد القادر المازني
كثيراً ما يسألني الشبان الذين لم يشهدوا الثورة المصرية – لأنهم كانوا أطفالاً – : “هل كانت حقيقةً رائعة؟”.
فأقول: لقد بلغت غاية الروعة – في حدودها. ولم يكن في الوسع أن تكون فوق ما كانت؛ ولكنها فشلت – مع الأسف – لأنا أحطنا قوميتنا بمثل سور الصين العظيم”.
ذلك أني أؤمن بما أسميه “القومية العربية” واعتقد أن من خطل السياسة وضلال الرأي أن تنفرد كل واحدة من “الأمم العربية” بسعيها غير عابئة بشقيقاتها، أو ناظرة إليها، ويحنقني ويستفزني أن أرى أحداً ينظر إلى مصر كأنها من أوروبا وليست من الشرق. وعندي أن الجنسية الشرقية هي أساس حياتنا وتاريخنا، وأن هذه النظرة تفسد مزايانا الشرقية – إذا لم تفقدنا إياها – ولا تكسبنا مزية من مزايا الغرب؛ والعلم يُنقل، وقد نقل من الشرق إلى الغرب، ومن اليسير أن ينقل من الغرب إلى الشرق من غير أن يحاول الشرق أن يغير جلده أو يخسر خصائصه.
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
وقد اعترض علي شابٌ ذات مرة، ونحن في حديثٍ كهذا، فقال: “وما الرأي في القومية؟ أليست حقيقة تاريخية تفرق بين هذه الشعوب والأمم التي تريد أن تجمعها وتربطها برباط واحد؟”.
فقلت له: “إن هذه القوميات العنيفة الضيقة الحدود، حديثة من الوجهة التاريخية، وهي بحدتها الحاضرة، بنت العصر الحديث، أو إذا شئت فقل أنها وليدة الحرب العظمى، وإن كان صحيحاً أنها سبقت الحرب بنصف قرن تقريباً، بل إن فكرة الإمبراطورية البريطانية نفسها ليست إلا بنت القرن العشرين. ولعل أكبر مسؤول عن بث هذه الفكرة هو الشاعر كبلنغ. ما علينا من هذا، ولنرجع إلى حديث الشرق: لقد كانت هناك وحدة وثقافة إسلاميتان دان لهما الشرق، أو ما يعنينا منه، وظلت هذه الوحدة قائمة على الرغم من انحطاط الثقافة، ولم يمنعها أن تظل قائمة أنَّ ثورات نشبت، وحروباً استعرت، فإن هذه أشبه بالفتن الداخلية والحروب الأهلية؛ وقد كان العلماء والأدباء والفقهاء يرحلون من بلدٍ إلى بلد، ولا يحسون أنهم تركوا أوطانهم وتغربوا، ولا يشعرون أنهم اجتازوا حدوداً، وتخطوا تخوماً، تفصل بين أقطار، وتعزل أمة عن أمة. ولا يزال الحال هكذا؛ ولو جبتم هذا الشرق لما شعرتم أنكم في غير مصر – إلا من حيث التقدم المادي – وكانت اللغة العربية هي اللسان الذي لا تحتاجون إلى اتخاذ غيره حيثما تكونون من هذا الشرق العظيم الذي تقسمونه اليوم أمماً وشعوباً وتقولون هذا مصري وذاك فلسطيني أو شامي أو حجازي، وعلى أن القومية هي اللغة لا سواها. ولتكن طبيعة البلاد ما يشاء الله أن تكون، ولتكن الأصول البعيدة المتغلغلة في القدم ما شاءت، فما دام أن أقواماً لهم لغة واحدة فهم شعبٌ واحد. ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر – إلى الآن على الأقل – إلا بالألفاظ. هي وحدها أداة التفكير، فلا سبيل إليه من دونها، ومن المستحيل – الآن – أن نتمثل معنى مجرداً من ألفاظ تعينه. ولكل لغة أساليبها وطرائقها، فأساليب التفكير وطريقة التصور خاضعة للأساليب التي يتألف على مقتضاها الكلام في اللغات المختلفة؛ ومن هنا يتفق ويتشابه أبناء كل لغة، ويختلفون عن أبناء كل لغة أخرى؛ وهذا فرق ما بين الإنكليزي والفرنسي، وما بين الإنكليزي والهندي؛ وهذه في ما أظن، حقيقة علمية، ومتى كان الأمر كذلك فكيف نكون إلا عرباً كالعراقيين، والسوريين، والفلسطينيين، والحجازيين، واليمانيين، مع اختلاف يسير تحدثه طبائع هذه البلاد؟”.
فعاد الشاب يسألني: “وأصلنا المصري؟ وتاريخ الفراعنة ومدنيتهم؟”
فقلت له: “أكرم بهذا الأصل! وإنها لمدنية باهرة تلك التي كانت للفراعنة؛ وإن العالم كله لمدين بأكثر مما يعرف لهذه الحضارة القديمة، ولكنها بادت واندثرت، ولم يبق منها إلا الأثر المدفون في التراب، الذي لا يمكن أن يؤثر في حياتنا الحاضرة إلا من طريق واحدٍ – هو إشعارنا العزة، وحثنا على استحقاق هذا الميراث الجليل، كما يكون الأب كريماً فيخجل الابن أن يكون كزاً لئيماً وأن يفعل ما ينافي كرم آبائه وطيب أرومتهم؛ ولكن المدنية العربية – أو قل الإسلامية إذا شئت – لم تفنَ، ولم تُبد، ولم تندثر، ولم تفقد إلا القوة ومظاهر السلطان، وهذه تُكتسب وتستفاد؛ ولكنها في ما عدا ذلك، بقيت حية، وأبقى ما بقي منها لغتها بكنوزها المختلفة، فهي – أي المدنية العربية – عاملٌ مؤثرٌ بوجوده – لا بذكراه كالعامل الفرعوني. ومن الممكن هدم هذه الحواجز المفتعلة التي يقيمها الغرب ويرفع منها سدوداً بيننا وبين أخواننا”.
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
وكثيرٌ ممن أحدثهم هذا الحديث يقتنعون، ولكنهم يرون أنفسهم شباناً، ويستهولون أن يوكل إلى أسنانهم الغضة توثيق ما أوهنه تفريط الشيوخ أو ضيق إدراكهم، ولكني أنا أؤمن بقدرة الشباب على المعجزات، لأن خياله أنشط، وجرأته أعظم وعزيمته جديدة لم تنل منها الخطوب والخيبات، وآماله فسيحة. وإذا كان الشاب لا يقدم، فمن ذا عساه يفعل؟
ولو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهماً لا سند له من حقائق الحياة والتاريخ، لوجب أن نخلقها خلقاً، فما للأمم الصغيرة أمل في حياةٍ مأمونة، وما خير مليون من الناس، مثلاً؟ ماذا يسعهم في دنيا تموج دولها بالخلق، وكيف يدخل في طوقهم أن يحموا حقيقتهم ويذودوا عن حوضهم؟ إن أية دولة تتاح لها الفرصة تستطيع أن تثب عليهم وتأكلهم أكلاً بلحمهم وعظمهم. ولكن مليون فلسطين، إذا أضيف إليهم مليونا الشام وملايين مصر والعراق مثلاً يصبحون شيئاً له بأسٌ يُتقى. وهذه البلدان ما انفكت زراعية على الأكثر، وجل اعتمادها على حاصلات الأرض، والصناعة فيها ساذجة محدودة، وضيقة النطاق، والزراعة لا تغني الأمم كما تغنيها الصناعة، والمال عصب الحياة وسر القوة، وأخلق بهذه الأقطار العربية أن تظل صناعاتها ضئيلة ما بقيت هي مقسمة موزعة، لأنه لا يوافق الدول الغربية التي لها فيها سلطان أو نفوذ أن تدع صناعاتها تنشط وتنهض، ولا سبيل إلى نشاطها إلا إذا فتحت أسواق مصر، لجاراتها الشرقية، وأسواق الجارات لمصر، ومعقول أن تشتري منا دول أوروبا حاصلاتنا الزراعية أو ما يزيد على حاجتنا منها، ولكن صناعتنا لا يعقل أن تجد لها أسواقاً في أوروبا، فما بها حاجة إلى ما نصنع بالغاً ما بلغ التجويد فيه، وإنما يتسع الميدان لصناعتنا إذا وجدت سبيلها إلى الشرق، ومثل هذا يقال عن البلدان العربية الشرقية.
قد يقال: ولكن هذا ليس إلا حلماً، فنقول نعم إنه الآن حلم، لا أكثر، ولعله لا يتراءى إلا لآحاد يعدون على الأصابع في كل بلد، وعسى أن تكون العقبات المعترضة والصعاب القائمة قد صرفت كثيرين عنه بعد أن دار زمناً في نفوسهم، ولكنه على كونه حلماً، ليس أعز ولا أبعد منالاً مما تحلم به أمم أخرى في هذا العصر؛ وبالأمم حاجة إلى الأحلام، وإلى الإلحاح على نفسها بها حتى تخلد إليها وتتعلق بها ولا تعود ترى للحياة قيمة أو معنى إذا لم تسع إلى تحقيقها، وإلا فإلى أية غاية تسعى؟ وماذا تطلب من الدنيا؟ وماذا عسى أن يكون مرامها في الحياة إذا لم تحلم بأمل؟ أيكون كل ما تبغي أن تأكل هنيئاً، وتشرب مريئاً، وتنام ملء جفونها؟ وهيهات أن يتيسر لها ذلك إن هي قصرت وكفّت عن الأحلام والتأمل وما يغريان به من السعي، وغيرنا يحلم بنا إذا كنا نحن لا نحلم بشيء، وحقيق بنا إذا سلمنا إلى حين أن نعود فريسة لأمة من الأمم الطامعة الحالمة.
والأحلام ضرورة من ضرورات الحياة، للأفراد والجماعات، وبغيرها يمتنع السعي وتنقطع الحوافز، وتركد الدنيا ويأسن العيش، ومن لا حلم له، لا أمل له، ولا مستقبل، فلماذا يعيش إذن؟
عروبة مصر 2:
(من كتاب د. علي الخربوطلي، “التاريخ الموحد للأمة العربية”، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970، وهو كتاب تثقيف قومي من الحقبة الناصرية، ص 21-22):
“ولكن بلاد الهلال الخصيب كانت قد اصطبغت قبيل العهد المسيحي بالصبغة السامية، جنسياً ولغوياً وحضارياً، فما كان أثر الفرس والإغريق والرومان ليمتد خارج المدن الكبيرة بعيداً، وهذا بفضل الموجات السامية العربية”.
“وأول هذه الموجات السامية اندفعت نحو مصر سنة 3500 ق. م. حيث الخصب والماء، وسكنت الجماعة السامية الحديثة مع السكان المصريين القدماء، ومن هذا التزاوج خرج الشعب المصري المعروف في التاريخ”.
(ص 66، عن الفتح العربي الإسلامي لاحقاً): “وفي مصر، ابتع الفاتحون العرب سياسة التسامح واللين حتى يحببوا سكان مصر في الحكم العربي الإسلامي، وأشاد المستشرق “كايتاني” بتسامح المسلمين فقال عن موقف المسيحيين من الفتح العربي: “قبل السكان في الشام ومصر عن ارتياح واضح تغيير الحكومة، وذلك بمجرد أن علموا أن العرب المسلمين سيحترمون حقوقهم الشخصية، وسيتركون لهم الحرية العامة في إقامة شعائرهم الدينية”.
3 – عُروبة مصر القديمة
د . عكاشة الدالي
أولاً : أن العرب لم يكونوا أغراباً عن مصر فلهم حضوراً موثقاً فيها يرجع الى فترة تكوين الحضارة المصرية نفسها، وقد عُثر على رسوم صخرية في طرق الأودية التي تربط بين ساحل البحر الأحمر وبين النيل تصور مراكب وهجرات عبرت البحر من شبه الجزيرة العربية فيما قبل التاريخ، كما عُثر أيضاً على رسومٍ صخرية تمثل الفيلة في الصحراء المصرية وعُثر على نسخ منها في شبه الجزيرة العربية . وقد عُثر في المواقع المصرية التي تعود الى الألف الخامس قبل الميلاد على قطع من (الاوبسديان) مستوردة من جنوب الجزيرة العربية، وكذلك قطع من الاسفلت المستورد من البحر الميت . كما تشير الوثائق المصرية منذ عهد الأسرة الثانية عشرة على الأقل الى العرب بنفس الاسم، وعُثر في الدلتا على بقايا مقاصير لعبادة الآلهة العربية مثل اللات، وعُثر في ميت رهيبة ( ممفيس ) على تابوت عليه كتابة بالخط المسند وهو خطٌ يمني قديم يخص تاجراً يمنياً اسمه ” زيد الله ” استقر في المنطقة وعمل في معبدها خلال الحكم البلطمي في مصر، وفي أواخر هذا العصر استعانت الملكة كيلوبترا السابعة والتي كانت تجيد العربية ( وهي كيلوبترا المشهورة ) بفرقة من العرب لاستعادة عرشها أثناء النزاع الأسري على عرش مصر، أي أن العرب كان لهم وجود دائم في مصر منذ بداية تاريخها، وكذلك أهل مصر كان لهم وجود دائم في بلاد العرب، فحين هرب “سنوهي” من مصر أوائل الأسرة الثانية عشرة لقي من أهل الشام من تعرّف عليه وتحدث معه بلغة أهل مصر، كما عُثر على وثائق من جنوب الجزيرة العربية تحمل أسماء زوجاتٍ مصرياتٍ تزوجن تزوجن من أهل اليمن وصارت لهن وطنا . ومن الطريف أن زوجة الملك النوبي “بعنخي” من الأسرة الخامسة والعشرين كانت تدعى ” خنساء ” وهناك عدد كبير من الأسماء المصرية القديمة العربية أيضاً نجدها في قاموس العالم الالماني “رانكه” عن أسماء الأعلام المصرية القديمة ومنها : كريم، عبدو، رجب، برعي، يحنس، بنا، يكن، يونس، عطية، سمير، سوسن، عابر … الخ، إضافة إلى أسماء أخرى من وثائق الدولة الحديثة مثل ” خالد “، وبالمقابل حمل العرب أسماء يعتبرها البعض مصرية خالصة مثل ذلك الأمير اليمني الذي يدعى ” أحمس ” والذي جاء ذكره في تاريخ الأصمعي، أما عن وجود العقائد والأرباب المصرية في بلاد العرب مثل بس و أيزيس وأوزوريس وحورس ونوت وآمون وغيرهم فحدث ولا حرج، ولدينا مسلة من تيماء كرست لكاهن مصري، وكذلك مدن مصرية على الشاطئ الشرقي للبحر الاحمر .
وربما كانت أوضح الدلائل على اختلاط العرب والمصريين هي الواقعة التي أشار اليها المؤرخ الواقدي ( توفي 919 م ) في كتابه ” فتوح البهنسا الغراء ” أثناء فتح المسلمين للبهنسا التي تقع في محافظة المنيا على بحر يوسف ( 190 كم جنوب القاهرة ) حيث ذكر أن عدداً كبيراً من المحاربين الى جانب الروم كانوا عرباً من قبائل لخم وجذام، والتي يبدو أن عدداً من بطونها قد استقرت في مصر منذ زمن بعيد، وأشار الواقدي أيضا الى أنه عقب احدى المعارك اختلط قتلى المسلمين بقتلى الأعداء وبات من الصعوبة تمييز هؤلاء من أولئك دون الكشف على علامة الصليب المرسومة على أيدي الجانب الآخر، وان دل هذا على شئ فانما يدل على وحدة الأصل الجنسي للمقاتلين على الجانيبين باستثناء الروم .
ومن المهم أيضاً ان نذكر هنا أن العرب ينسبون الى اسماعيل ابن هاجر المصرية، حتى أن المصادر القديمة والحديثة كثيراً ماتشير الى العرب باسم ” أبناء هاجر ” أو ” الهاجريون “, ولعل هذا ضمن اشياء أخرى منها ماعناه النبي محمد عليه الصلاة والسلام حين أوصى المسلمين بأهل مصر خيراً حين يدخلونها فان لهم بهم صلة رحمٍ وقربى، كما كان هو نفسة متزوجا من مارية القبطية التي أنجبت له ولده الوحيد ابراهيم .
واحدى المشاكل التي تواجهنا هي الفكرة الشائعة بأن العرب الذين يشار اليهم في المصادر المصرية هم مجرد بدو رُحل لم يعرفوا المدنية، وهي الفكرة التي أشاعها عمداً بعض المستشرقين وتبعهم مع الأسف بعض المثقفين المصريين وغيرهم على سبيل ابراز عراقة تمدين المصريين مقابل بداوة العرب، والواقع يشهد بقيام مممالك عربية لها أيضا حضارات عريقة ازدهرت جنوب الجزيرة العربية كسبأ ومعين وحمير وغيرها، أما في شمال الجزيرة العربية فظهرت ممالك عربية في سوريا والأردن، وبعضها حُكمت أحيانا بواسطة ملكات مثل زبيبة وبلقيس وغيرهن .
والأهم أن بعض هذه الممالك كمملكة الأنباط شهدت في القرن الأول الميلادي حكومةً ملكيةً ديمقراطيةً بالمعنى الحقيقي للكلمة طبقاً لما رواه الجغرافي ” سترابو ” .
ثانياً : قصة عمرو بن العاص نفسه معروفة كتاجر تردد الى مصر، واطلع على مكانتها وغناها قبل أن يأتيها فاتحاً. إن عدد جنود حملة عمرو على مصر كان نحو أربعة آلاف، وحتى إذا وضعنا في الاعتبار هجرة عدة آلاف أخرى من القبائل العربية وخاصة من اليمن لظل كل هؤلاء العرب كمجموعة اثنية مميزة قطرة في محيط المصريين من حيث العدد، ألا أنهم سرعان ما اختلطوا بالمصريين حتى ذابوا فيها كسابقيهم ولاحقيهم، وهذه الهجرات تحدث من قبل الاسلام وتستمر بعده مثل الغزوة الهلالية في القرن العاشر الميلادي أثناء العهد الفاطمي الى شمال افريقيا .
ثالثاً : تحول أغلب نصارى مصر بالتدرج الى الاسلام لأسباب عديدة، وان بقيت أغلبية أهل البلاد في مصر مقارنة بأهل فارس مثلاً الذين لم يتخلوا أبداً عن لغتهم بالرغم من احتضانهم للإسلام، ألا أن السِر يكمن ببساطة في أن اللغة العربية واللغة المصرية القديمة والتي تمثل القبطية آخر أطوارها ترجعان الى أصل لغوي مشترك مما سهل التحول الى العربية .
والواقع أنه لم ترد في أذهان نصارى مصر على الاطلاق فكرة نقاء دم عنصر معين من أهل مصر كممثل للدم المصري القديم، بل أن هذه الفكرة من بنات العقلية التبشيرية في أواخر القرن التاسع عشر، فحين فشل المبشرون في تحقيق نجاحٍ ملموس بين أوساط المسلمين اتجهوا بتبشيرهم نحو النصارى من أهل البلاد في مصر والشام، ألا أن الفشل كان من نصيبهم أيضاً، فبدأوا في لبنان على وجه الخصوص كما تذكر ” هيلين صادر ” نقلاً عن ” أسامة مقدسي ” في مقالة حديثة لها بأن المستشرق الفرنسي ” رينان ” كان من دعاة فكرة أن المارونيين هم أحفاد حضارة الفنيقيين العظماء، وأن العرب والمسلمين مجرد غزاة دخلاء، ولا شك أن الأمر نفسه تكرر في مصر مع أقباطها، ألا أن قبط مصر كانوا أكثر وعياً من جيرانهم فلم يبلعوا الطعم / السُم مدركين أن كل أهل مصر هم من سلالة واحدة حتى أن واحداً من أكثر الحاقدين على الشعب المصري وهو ” اللورد كرومر” المندوب السامي البريطاني الذي عبّر عن حزنه لتمسك مسلمي مصر باسلامهم واحتضان نصارى مصر للثقافة الاسلامية مع تمسكهم أيضاً بالكنيسة القبطية، وهو ما أصابه بخيبة أمل، يقول في كتابه “مصر الحديثة ” : ان الفارق الوحيد بين االقبطي والمسلم أن الأول مصري يتعبد في كنيسة مسيحية بينما الآخر يتعبد في مسجد مُحمدي ( يقصد اسلامي ) ” .
يتضح من كل ماسبق أن أغلب أهل مصر الآن هم نفس التركيبة السكانية منذ أقدم العصور، دون النظر الى كونهم مسلمين أو نصارى، وهذه إحدى محاسن وقيم الشعب المصري الذي بلغ من كرمه على مر العصور لجوء المضطهدين اليه من كل جنسٍ وملة بما فيهم اليهود أنفسهم، كما تشهد المعابد اليهودية الكثيرة المكتشفة في مصر من القرن الخامس قبل الميلاد في جزيرة الفنتين وطموه وغيرها، كما وفرت مصر البيئة الملائمة للعالم اليهودي الجليل موسى ابن ميمون الذي لجأ الى مصر على عهد صلاح الدين الأيوبي هرباً من الاضطهاد، فلقي بمصر حفاوة، ورُقي بها أعلى المناصب كطبيب لصلاح الدين مما مكنه من انجاز بعض أهم النصوص الدينية عند اليهود على مر عصورهم مثل ” دلايل الحائرين ” .
وأخيرا يجب التنبه لحقيقة واضحة وهي أن الشعب المصري منذ القدم أعتبر المصري هو من شرب من نيل مصر، وسكن أرضها، وتحدث بلسان أهلها، وهذا المفهوم الانساني النبيل للجنسية هو أرقى ما وصل اليه شعب من الشعوب، لذا نجد في ألقاب المؤلفين العرب في العصور الوسطى فلاناً من العراق على سبيل المثال فاذا استقر بمصر أضيف الى لقبه المصري، مثل الكيميائي الشهير من القرن الثالث عشر الميلادي ” أبو القاسم العراقي المصري ” .
انتهى
محاولات العلماء العرب
في العصور الوسطى اكتشاف مغاليق الكتابات المصرية القديمة
د . عكاشة الدالي
مقدمـــــــــة :
تعرض هذه الورقة لاهتمام العلماء العرب / المسلمين في العصور الوسطى بالكتابات المصرية القديمة، وتلقي الضوء على محاولاتهم لكشف أسرارها . وتعتمد هذه الدراسة أساسا على المصادر العربية المخطوطة للبحث أيضا عن أسباب الاهتمام العربي بالخط الهيروغليفي تحديدا وتقصي مدى هذا الاهتمام.
ومن المؤسف أنه لا توجد حتى الآن دراسات منشورة في حقل الآثار المصرية تشير من قريب أو بعيد إلى إسهامات العلماء العرب في مجال الكشف عن أسرار الخطوط المصرية القديمة، بالرغم من أن هذه الإسهامات العربية معروفة بالفعل للعديد من العلماء الأوروبيين في حقل الدراسات الاستشراقية . فعلى سبيل المثال نشر المستشرق النمساوي جوزيف همرفون برجسترال في عام 1806 بمدينة لندن النص العربي مع ترجمة انجليزية لكتاب ابن وحشية “شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام” والذي يعود إلى آخر القرن التاسع الميلادي . كما نشر بلوشيه عام 1909 وما بعدها سلسة مقالات حول الغنوصية الإسلامية ( مذهب العارفين بالله ) والتي بين فيها نجاح بعض العلماء العرب في التوصل لمعرفة بعض الحروف الهيروغليفية .
استمرار الاهتمام بالخطوط المصرية القديمة :
هنالك دراسات مستفيضة تبين اهتمام الكتاب اليونان والرومان بخطوط مصر القديمة، تدل في مجملها على اعتقاد هؤلاء الكتاب بأن العلامات الهيروغليفية كانت رموزا يمثل كل منها مفهوما محددا، وقد ساد هذا الاعتقاد حتى بدايات المحاولات الأوروبية الحديثة لحل أسرار العلامات الهيروغليفية .
ومن المهم إدراك خطأ المقولة الشائعة بموت الاهتمام بتاريخ مصر القديمة مع دخول المسيحية والإسلام إلى مصر، وهي المقولة التي اكتسبت صفة المسلمات نتيجة كثرة ترديدها عند جل العلماء في الغرب والشرق على السواء .
وليس أدل على ولع أهل مصر بدراسة الهيروغليفية حتى بعد ثبات أركان المسيحية في مصر من تلك الإشارة التي وردت في نصوص نجع حمادي القبطية الغنوصية حيث ينصح هرمس تلميذه بأن يكتب ما يتعلمه من الحكمة على ” لوح من الفيروز بالحروف الهيروغليفية ” . ويبدو أن هذا الاهتمام أصبح مدعاة للقلق لدى آباء الكنيسة، إذ نجد الراهب القبطي المشهور شنودة يصدر تحذيرا شديد اللهجة ضد دراسة الكتابة الهيروغليفية ( منتصف القرن الخامس الميلادي ) وهذا الاهتمام بين عامة الأقباط بكتابات جدودهم يأتي بالرغم من موقف الكنيسة المصرية آنذاك الذي كان ينظر بعين الريبة إلى حضارة مصر القديمة باعتبارها حضارة وثنية .
وعلى أية حال أدى اهتمام القبط بحفظ بعض ما بقي من تراث أجدادهم سواء في أصوله المصرية أو مترجما إلى القبطية أو اليونانية إلى شيوع فكرة أن الرهبان الأقباط هم أمناء على حكمة ومعرفة الكهنة الأقدمين . بل ويذكر ابن الدواداري في القرن الرابع عشر أن من بين المصادر المتداولة عن مصر القديمة أحد الكتب القبطية يسميه ” الكتاب القبطي ” أشار إلى استخدام الرحالة المسعودي له في القرن العاشر الميلادي .
وليس هناك أكثر دلالة على احتفاظ مصر القبطية بتراثها المصري الأقدم من انتشار العناصر الفرعونية في التعاويذ السحرية القبطية بل ووجود أسماء الآلهة المصرية القديمة بها جنبا إلى جنب مع أسماء المسيح والقديسين المسيحيين. والواقع أن اغلب هذه الكتابات السحرية قد وجدت طريقها أيضا إلى المصادر العربية حيث انتشرت برموزها المصرية القديمة في السحر العربي.
فإذا عدنا إلى آباء الكنيسة نجد أن قلقهم من تدهور رعيتهم للكتابة القبطية منذ القرن الحادي عشر قد أدى إلى ظهور كتب تعرف بالسلم هي عبارة عن شرح لقواعد اللغة القبطية باستخدام اللغة العربية، فتركوا لنا تراثا ثريا من الدراسات القبطية باللغة العربية أصبحت هي المصدر الرئيس فيما بعد للدراسات الأوروبية فنرى كرخر (Kircher) في منتصف القرن السابع عشر الميلادي يستخدم مجموعة من المخطوطات العربية كان قد أتى بها إلى أوروبا الرحالة الايطالي ديلا فيل، وتمكن كرخر عن طريقها من كتابة أول كتاب في أوروبا عن قواعد اللغة القبطية بادئا بهذا العمل الخطوات التي كللت بنجاح شمبوليون في الوصول إلى سر الكتابة المصرية .
والواقع أن كرخر في كل ما كتبه عن اللغة المصرية مثل كتابه الشهير ( Oedipus Agyptiacus) كان دائم الإشارة ليس إلى مصادره العربية فحسب بل كان يضع نصوصه العربية كاملة مع ترجمتها اللاتينية . وفي هذا الكتاب استخدم أكثر من أربعين مصدرا عربيا مثل ابن وحشية وابن الرجال وأبو البركات و جلال الدين السيوطي .
أما في العصر الإسلامي فقد انتشر الاهتمام بالكتابة الهيروغليفية بين العديد ممن العلماء وخاصة علماء الكيمياء وبين المتصوفة لأسباب تتعلق بشيوع الاعتقاد بأن الكتابات المصرية القديمة تحمل أسرار علوم الكيمياء وتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، هذا من ناحية علماء الكيمياء أما المتصوفة فقد وجدوا في هذه الأشكال الهيروغليفية ما يثير نهمهم إلى استجلاء غوامضها، ولجابر بن حيان وابن عربي رسائل بالغة الأهمية تدور حول المعاني المرتبطة بأشكال الحروف وليس أكثر إثارة للاهتمام في هذا الخصوص من الإشكال الهيروغليفية الزاهرة. يضاف إلى ما سبق الاهتمام الطبيعي عند العلماء العرب بالكتابات القديمة منذ القرن الأول الهجري.
والواقع أن العلماء العرب كانوا على دراية بالكتابات المختلفة للغة المصرية القديمة فها هو ابن فاتك ( القرن العاشر/ الحادي عشر الميلادي ) يشير إلى معرفة فيثاغورس العميقة باللغة المصرية القديمة بخط العامة ( الديموطيقي ) وخط الخاصة وخط الكهنة ( الهيراطيقي ) ثم خط الملوك ( الهيروغليفي). وربما يكون المصدر الذي استقى منه ابن فاتك مثل هذه المعلومة هو كليمنت الاسكندري المتوفي في سنة 220 ميلادية.
ومن المصادر الأخرى التي كانت ربما عونا للعلماء العرب الآثار التي يوجد عليها نص بأكثر من لغة كتابة واحدة مثل حجر رشيد، ولاشك أنه كان بوسع العديدين من العلماء العرب قراءة القبطية واليونانية. ونظرا لعدم حماسة المصريين تحت الحكم اليوناني / الروماني لتعلم اليونانية اللغة الرسمية للدولة فقد انتشرت عادة إخراج النصوص المصرية الهيروغليفية بكتابة أصواتها بالحروف اليونانية. وهناك العديد من الآثار المصرية ثلاثية اللغة والكتابة والتي تشمل الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية . بالإضافة إلى إمكانية اعتماد العلماء العرب على معرفة بعض أهل مصر من القبط باليونانية والقبطية وربما اللاتينية أيضاً، مثل ديوسكورس من أواخر القرن السادس الميلادي الذي ترك لنا قوائم كلمات باليونانية والقبطية وهو ما يسر دون شك دراسة النصوص متعددة اللغات وهناك تمثال للملك الفارسي دارا الأول عثر عليه في سوسة بإيران على قاعدة مصرية الطراز وعليه كتابات باللغات الأكدية والعيلامية والفارسية القديمة والمصرية الهيروغليفية.
وليس أدل على شدة ولع العلماء العرب بالكتابات المصرية القديمة من تعدد أسماء الخطوط المصرية لديهم مثل: القلم البرباوي، قلم الطير، القلم الكاهني، القلم المسند، القلم الحميري، القلم القبطي، القلم المصري، قلم هرمس، قلم السيمياء، قلم النيرنجات، قلم الطلمسات، قلم القلفطريات، القلم اللقمي.
وأدرك العرب الصلة بين المصرية القديمة والقبطية فسموا الأولى “القبطية الاولى” كما أدركوا أن القبطية هي خليط من المصرية واليونانية.
الكُتّاب العرب الذين ساهموا في حل رموز الخطوط المصرية القديمة :
أول عالم عربي قيل انه كتب في هذا الموضوع هو العالم الكيميائي الشهير جابر بن حيان الذي عاش في النصف الأخير من القرن السابع الميلادي والنصف الأول من القرن الذي يليه. ويبدو أن كتابة “حل الرموز ومفاتيح الكنوز” الذي لم أتمكن من العثور عليه كان دراسة مفصلة لعدد من اللغات القديمة حسبما يتبين من إشارات من جاؤوا بعده من العلماء إلى أهميته ( على سبيل المثال ابن وحشية ) ومعروف عن جابر ولعه باللغات قديمها وحديثها بل استخدامه للكثير من الكلمات في لغاتها الأصلية كما نرى في كتابه المعنون “الحاصل”.
ثم يأتي بعد ذلك العالم المصري أيوب بن مسلمة الذي صحب الخليفة العباسي المأمون خلال زيارته لمصر سنة 831 م وقيل انه قرأ له النقوش المصرية القديمة على جدران الآثار بما له من معرفة حل أشكال حروف ” الأقلام البرباوية ” وقد لاحظ الإدريسي انه لو كانت تلك النقوش باليونانية أو بالسريانية لما حرص المأمون على صحبة أيوب بن مسلمة لكثرة من يعرفون تلك اللغات بين مرافقيه. وهناك مخطوط ينسب إلى أيوب بن مسلمة بعنوان ” أقلام المتقدمين ” عبارة عن دراسة لعدد من الخطوط القديمة منها المصرية ألا إن حالة المخطوط السيئة جعلت الإفادة منه محدودة كما انه توجد لدي دواعي للشك في نسبته أصلاً.
ثم نأتي إلى معاصره الأشهر ذي النون المصري ( توفي منتصف القرن التاسع ) وهو صوفي ولد بأخميم وقيل انه ترعرع في معبدها وكان ضليعا في العلوم القديمة، كما كان يجيد النصوص التي ازدانت بها جدران المعابد، وكان بعض معاصريه قد كادوا له عند الخليفة العباسي في بغداد واتهموه بأنه “احدث في الإسلام ما ليس فيه” بإدخاله “علم الأحوال والمقامات” إلى الفكر الصوفي، وقد ترك لنا ذو النون عددا من الرسائل في أبواب شتى، منها الكيمياء والشعر والتصوف، وكتابه المعنون “حل الرموز وبرء الأرقام في كشف أصول اللغات والأقلام” يعرف من نسخة فريدة تشمل دراسة لأكثر من ثلاثمائة كتابة قديمة، ومنها بطبيعة الحال الهيروغليفية والديموطيقية والقبطية، وقد لاحظت انه يمكن للمشتغلين بحل الخطوط القديمة التي لا تزال غير معروفة مثل لاينير بـ ( ( Linear B محاولة الإفادة من هذا الكتاب وهو ما آمل أن يتم في المستقبل القريب، وتتميز دراسته بان الصفحة بها القيمة الصوتية للحروف يتبعها رسم أشكالها إلا أن نهاية المخطوط مفقودة .
أما العمل الأهم في مجال حل رموز الكتابة الهيروغليفية فهو الكتاب القيم لابن وحشية النبطي من أهل العراق من أوائل القرن العاشر وهو أصلا من المشتغلين بالكيمياء، وله دراسة مطولة في الفلاحة بعنوان ” الفلاحة النبطية ” ذكر فيها انه ترجمها عن لغة أسلافه الأقدمين .
وهناك نسختان من كتابه ” شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام ” إحداهما فقدت الآن وهي التي درسها ونشر نصها العربي مع ترجمة انجليزية المستشرق النمساوي جوزيف همرو هي المشار إليها سابقا وذلك في لندن سنة 1806 أي قبل أن ينشر شمبوليون رسالته الشهيرة سنة 1822 التي بين فيها نجاحه في حل رموز الهيروغليفية .
وقد حصلت على النسخة الأخرى للمخطوط ويتضح من دراستها إن عدد الخطوط القديمة التي وردت فيه أكثر من تلك الموجودة في النسخة التي ترجمها همر، ويتمثل الانجاز الرئيسي لابن وحشية في مجالين: أولا : تعرفه على عدد كبير من حروف الكتابة المصرية مع توصله إلى القيمة الصوتية الصحيحة لبعضها . ثانيا : وهو الأهم توصله إلى أن بعض الأشكال الهيروغليفية هي مخصصات تستخدم لتحديد المعاني وقد أورد الكثير منها مع معانيها التي ثبت صحة معظمها حين مقارنتها بقائمة جاردنر.
ثم نأتي أخيراً إلى عالم عراقي الأصل أيضا وهو مثل سابقيه من المشتغلين بالكيمياء من القرن 13/14 م هو أبو القاسم العراقي المصري في كتابه “ الأقاليم السبعة ” نجد لوحات لنقوش ورسوم مصرية قديمة وأيقونات قبطية يتضح منها بذله المجهود في نسخها، وتوج أبو القاسم عمله برسم جدول للحروف البرباوية أي الهيروغليفية يمكن التعرف فيه على عدد من الحروف التي توصل إلى قراءتها الصحيحة والاهم هو حفظه لنا لوحة للملك امنمحات الثاني من الأسرة الثانية عشرة لكل من له معرفة باللغة المصرية القديمة قراءتها بيسر .
وقد أدى هذا النشاط العلمي الكثيف عند العلماء العرب إلى حرص مؤرخ كبير كالمقريزي على إيراد ترجمة لبعض نقوش لوحات مصرية، إذ يذكر المقريزي بشيء من التفصيل قصة هدم باب البحر احد أبواب القصر الفاطمي الذي بناه الحاكم بآمر الله أواخر القرن العاشر وجرى هدمه سنة 1273 م على عهد الظاهر ركن الدين بيبرس، ويتبع المقريزي في إيراده ترجمة نص اللوحة نفس القواعد العلمية المتعارف عليها الآن في نشر مثل هذه النصوص مثل وصف اللوحة وذكر ظروف العثور عليها وموضع الكشف والسياق ثم ترقيم السطور وملاحظة بداية ونهاية كل سطر والإشارة إلى الفجوات Lacunae الموجود في النص إما بسبب تهشم موضعها أو محو الكتابة فيه وأخيرا محاولة تفسير النص ونقده .
اترك تعليقاً