د. إبراهيم علوش
العرب اليوم، 8/6/2010
رب صورة خيرٌ من ألف كلمة. وفي عالمٍ ترهقه سرعة الإيقاع وتلتهم يومه مشاغل الحياة، تعلو صورة التلفاز على صوت المذياع، كما انطبع الأخير يوماً فوق مانشيت الصحيفة، إلا عند من رحم ربي ممن أدمنوا لذة القراءة…
لكن التلفاز نفسه لم يكد يتربع فضائياً على متن الصحن اللاقط، ليفرض هيمنته في ميدان الإعلام، حتى راحت تقضم أسس عرشه وسائل الإعلام الالكترونية المنبثة بين ثنايا الشبكة العنكبوتية. إذ أن نفس القوة الصماء التي صنعت إعلام اليوم وقلبت عالمه، القوة التي جعلت الخبرَ مادةً ترفيهية برسم الاستهلاك لإنسان مرهق ويشعر بالفراغ في آنٍ معاً، ودمجت وسيلة الإعلام نفسها في جهازٍ منزليٍ عاديٍ يتمم الغسالة والبراد وبقية الأثاث، وحولت المواطن إلى مستهلك يمارس سيادته وحرية اختياره في سوق الإعلام، نقول أن نفس تلك القوة الصماء دفعت بمواقع الإنترنت إلى الأمام، كما تدل بعض الدراسات الإعلامية، على حساب الفضائيات نفسها. فما بالك بمواقع مثل “يوتيوب” تدمج الصورة بإمكانات الإنترنت لتقدم لمستخدمها فيلماً وثائقياً أو إخبارياً قصيراً أو طويلاً “تحت الطلب”، عندما يسمح وقته، وعندما وبمقدار ما يرغب، مقارنة بنشرة أخبار فضائية لا يستطيع التحكم بموعدها ولا بمقدار الوقت الممنوح لكل عنوان فيها؟!
فكثيراً ما يشعر مشاهد الفضائية أنه مضطر لمشاهدة تقارير لا تهمه قبل الوصول إلى ما قد يهمه. وغير قلة الوقت أو هدره، هناك سوء التوقيت، فقد تفوتنا بداية نشرة أو نضطر لتركها قبل انتهائها، بينما نستطيع التحكم نسبياً بتوقيت ومدة ما نشاهده على الإنترنت، والأهم، أننا نستطيع اختيار الموضوع، وليس فقط قناة إيصاله. لذلك قد تجد من يشاهد حلقة “اتجاه معاكس” مثلاً على موقع يوتيوب في موعد يختلف كثيراً أو قليلاً عن موعد بثها، وبلا فواصل إعلانية…
وقد لا يحمل ما سلف جديداً يذكر لمن يستخدم الإنترنت بكثافة للحصول على الأخبار والتحليلات، حتى على حساب الفضائيات، كما يسير الاتجاه العالمي حالياً، لكنه مقدمة ضرورية جداً لمن قد لا يقدر أهمية المعركة الإعلامية الجارية حالياً على موقع يوتيوب حول تأويل مجزرة أسطول الحرية حق قدرها. فثمة صراع يدور اليوم على موقع يوتيوب حول المجزرة التي حدثت على سفينة “مافي مرمرة”، وهل يتحمل مسؤوليتها الصهاينة أم “المتضامنون الدوليون”الساعون لرفع الحصار عن غزة؟
نعم، إن طرح أي تساؤل حول هوية من يتحمل مسؤولية ما جرى على متن أسطول الحرية هو أمر مثيرٌ للاستفزاز في وجه القرصنة الصهيونية العلنية في المياه الدولية. لكن السيطرة على الصورة يعني السيطرة على الرسالة، وهذا هو بالضبط ما يقوم به الصهاينة اليوم على موقع يوتيوب، وبفعالية.
موقع يوتيوب طبعاً هو الموقع الثالث عالمياً، بعد غوغل وفيس بوك، من بين ملايين مواقع الإنترنت… ومنذ اليوم الأول لارتكاب الصهاينة للمجزرة على ظهر سفينة مرمرة بدأ المكتب الإعلامي التابع للبحرية “الإسرائيلية” بتحميل عشرات الأفلام الوثائقية القصيرة والقصيرة جداً، يتراوح طول بعضها ما بين أقل من دقيقة ودقيقة ونصف الدقيقة فقط، على موقع يوتيوب، التي تظهر المتضامنين الدوليين وكأنهم المعتدون على الكوماندوس “الإسرائيلي” وهم يهبطون من مروحياتهم بالحبال على متن السفينة.
أكثر تلك الأفلام الوثائقية جذباً للمشاهدين مدته دقيقة وثانيتان فقط، وهو صامت تماماً، ويعتمد على الصورة تماماً باستثناء بعض العناوين والدوائر المرسومة فيه، وقد تم تحميله في 31/5/2010، وشوهد حتى تاريخ 6/6/2010 أكثر من مليون وثمان مئة ألف مرة، وقد وضع تحته التعليق التالي بالإنكليزية:
“مكتب البحرية الإسرائيلية – 31/5/2010، التقط هذا الفيديو من قبل قارب بحري لقوات الدفاع الإسرائيلية، وهو يظهر ركاب سفينة مافي مرمرة، إحدى سفن أسطول “غزة الحرة”، وهم يهاجمون جنود قوات الدفاع الإسرائيلية بعنف الذين كانوا يحاولون أن يستقلوا متنها بعدما أرسلوا التماسات متكررة للقارب لكي يغير مساره”.
ويتابع التعليق: “أحاطت أعدادٌ كبيرة من المسافرين بالجنود وضربوهم بالقضبان المعدنية والكراسي، وألقوا بأحد الجنود من على متن السفينة. وقد انتزع بعض المسافرين المسدسات من جنود قوات الدفاع الإسرائيلية وفتحوا النار. كنتيجة للهجمات عليهم، جُرح سبعة من جنود قوات الدفاع، وقُتل تسعةٌ من المسافرين”.
ويختم التعليق: “لقد أصر أسطول “غزة الحرة” علناً على نواياه غير العنفية، بينما جاء هجومه العنيف على جنود قوات الدفاع الإسرائيلية عن سابق إصرار وتصميم بشكل واضح. فقد كانت لديهم سكاكين، وقضبان معدنية، وقنابل حارقة وأدوات أخرى جاهزة للاستخدام”.
وهناك فيلم وثائقي قصير أخر، مدته أقل من دقيقة، كان قد تم تحميله من مكتب البحرية “الإسرائيلي” في 31/5/2010، وشاهده أكثر من 370 ألف شخص حتى يوم 6/6/2010، يظهر “الأسلحة” التي استخدمها مسافرو مرمرة ضد قوات “جيش الدفاع”، مثل سكاكين المطبخ والقضبان المعدنية، تقدمها عدسة الكاميرا دوماً وقربها كوفية فلسطينية!
ونلاحظ هنا أن مكتب البحرية “الإسرائيلي” يدير معركة الفيلم الوثائقي وهو يدرك أن العبرة برسالة قصيرة جداً تؤدي الغرض بأقل ما يمكن من الحشو والإسهاب، وفي بعض الحالات بدون لغة، مما يتيح الوصول للمشاهدين بكل اللغات.
وبشكل عام هناك تناسب عكسي ما بين عدد قراء مادة إعلامية ما وعدد كلماتها، كما يعرف الإعلاميون، مع بقاء العوامل الأخرى ثابتة. وكان بإمكان مكتب البحرية “الإسرائيلي” أن يضع كل الأفلام الوثائقية التي حملها على موقع يوتيوب عن أسطول الحرية في فيلم واحد، “جامع مانع”، كما يميل بعضنا أن يفعل، لكنه فضل أن يحمل عشرات الأفلام القصيرة والقصيرة جداً، التي تخلو من التعليقات الصوتية من المحرر بشكل عام، ليصل لأوسع قاعدة ممكنة، وبطابع يتظاهر بالموضوعية والجدية.
والنتيجة هي الوصول لعشرات ملايين الأشخاص حول العالم بشكل فعال ومؤثر، من شدة بساطته ومباشرته، وهنا يتم استثمار مخزون عميق في الوجدان الغربي يقدم اليهودي كضحية أبدية “للاسامية” أو للمخرقة أو…. للإرهاب الذي يربطونه دوماً بالكوفية البيضاء والسوداء.
فهل توجد أفلام وثائقية مضادة تكشف الحقيقة حول القرصنة الصهيونية على سفينة مرمرة، وتقدم وجهة نظرنا نحن فيها؟ بالطبع، وبكل تأكيد، لكنها أفلامٌ لا تجتذب أكثر من بضع آلاف من المشاهدين عامةً. أما الند الحقيقي لمكتب البحرية “الإسرائيلية” على هذا الصعيد فهو قناة الجزيرة إنكليزي، حيث تم تحميل مقاطع من تغطيتها لمجزرة سفينة مرمرة على موقع يوتيوب، أهمها فيلم وثائقي قصير مدته حوالي دقيقة ونصف الدقيقة تعلن فيه المذيعة عن خبر اقتحام سفينة مرمرة وقتل بعض ركابها، وقد تم تحميل ذلك الفيلم في 31/5/2010، وقد شوهد حتى يوم 6/6/2010 أكثر من 750 ألف مرة، وهذا أقل من نصف من شاهدوا أقوى فيلم وثائقي صهيوني حول الموضوع، لا بل أنه أقل عدداً من مشاهدي ثاني أقوى فيلم وثائقي صهيوني حول الموضوع، وهو أكثر من مليون وربع المليون مشاهد، وأقل من عدد مشاهدي ثالث أقوى فيلم وثائقي صهيوني حول الموضوع، وهو أكثر من مليون مشاهد…
بالرغم من ذلك، من الواضح أن قناة الجزيرة بالإنكليزية تقدم “كليبات” وثائقية قصيرة تنافس الدعاية الصهيونية جدياً على المشاهد الأجنبي، وهو ليس مشاهداً غربياً فقط بالمناسبة، بل مجرد شخص يفهم الإنكليزية وليست العربية لغته الأم. وإدراك هذه النقطة مهم لمن قد يقول أن الصهاينة احتكروا الصورة الإخبارية عن مجزرة سفينة مرمرة، وأن هذا وحده قد يفسر سبب الإقبال على الأفلام الوثائقية لمكتب البحرية “الإسرائيلية”. فالمشاهد العربي المعني بالحدث أكثر من غيره يذهب للجزيرة بالعربية، أما أفلام البحرية “الإسرائيلية” فليست بالعربية، أما المشاهد غير العربي، خاصة الغربي، فأقل ميلاً للجزيرة بالإنكليزية.
وقد تم تعطيل خاصية إضافة التعليقات على أفلام مكتب البحرية “الإسرائيلية”، وأفلام الجزيرة إنكليزي، المحملة على موقع اليوتيوب، ولذلك لا نستطيع أن نحكم على ردود فعل المشاهدين على كلا النوعين، وعلينا بالتالي أن نعتمد على عدد المشاهدين لنحكم على مقدار تقبل الرسالة، ويمكن القول أن الإقبال على الجزيرة مثلاً أكثر من العربية مؤشر على أن المشاهد العربي يتقبل رسالتها الإعلامية أكثر مما يتقبل رسالة العربية.
لكن كان يوجد حليف غير متوقع في هذه المعركة الإعلامية على اليوتيوب، هو التلفزيون الروسي بالإنكليزية، الذي قدم تغطية لا بأس بها لمجزرة أسطول الحرية، مع بعض التحفظات، “بس يخلف عليه”، حيث تم تحميل أجزاء من تغطيته للمجزرة، أقواها تقرير أخباري مدته أقل من دقيقتين بقليل، تمت مشاهدته أكثر من مئتي ألف مرة، بالإضافة إلى عدد من التقارير الأخرى التي شوهدت ما بين مئة ومئتي ألف مرة. ويتميز التلفزيون الروسي أنه لم يعطل خاصية التعليقات على أفلامه التي يتم تحميلها على اليوتيوب، ولذلك تجد تحت أقوى أفلامه حول الحدث حوالي 7500 تعليق ما بين مؤيد ومدين للكيان الصهيوني، من بينها تعليقات كثيرة من روس وغربيين مناهضين للصهيونية.
بجميع الأحوال، يحرص الصهاينة أن لا يفقدوا صفة المظلومية التي كرسوها عن أنفسهم في الغرب، والتي يعتمدون أساساً على المخرقة في تثبيتها، خاصة من خلال أفلام هوليود. ومن هنا فإنهم، بعد ارتكابهم لمجزرة بشعة ضد لمتضامنين مدنيين، وبعد ممارستهم لقرصنة مكشوفة في المياه الدولية، ينطلقون لتصوير أنفسهم كضحايا أزليين، وبكفاءة هوليودية، وحتى قواتهم الخاصة المدججة بالسلاح تقدم كضحية لمسافرين يدافعون عن أنفسهم بقضبان معدنية!!!
اترك تعليقاً