د. إبراهيم علوش
تشرين 22/11/2017
لا تعيش الفكرة القومية أفضل حالاتها في وطننا العربي اليوم، وذلك مكمن الضعف الذي لا بد من أن نضع الإصبع عليه. فرخاوة الانتماء القومي والوطني عند بعض شرائح الشعب العربي كان الثغرة التي نفذ عبرها أعداء الأمة لتخريب عدة بلدان عربية ولاستهداف الانتماء القومي لكل الأمة. ومن هذه الحلقة الضعيفة يجب أن نبدأ لكي نسأل الأسئلة الصعبة: كيف وصلنا إلى مثل هذه الحال؟ وكيف نخرج منها؟ وكيف نتصدى بنجاح لمعضلات المرحلة التاريخية الراهنة التي تواجه التيار القومي وأمتنا ككل؟
إن الإجابة على مثل هذه الأسئلة ليست أقل من الأساس البرنامجي للعمل القومي في القرن الواحد والعشرين، وذلك في رأيي المتواضع ما رمت كلمات السيد الرئيس بشار الأسد للفت النظر إليه، أي لفت نظر التيار القومي بمختلف فصائله وشخصياته في سورية والوطن العربي إليه، فكلمة “البعث” لم ترد حتى مرة واحدة في كل الخطاب، مع أنها كانت موجودة بقوة ضمناً، كما عندما تحدث عن الجيش العقائدي والأيديولوجية الوطنية التي يحملها مثلاً، والعبرة أن الكلام لم يكن موجهاً للبعثيين فحسب، بل لكل القوميين العرب، ولكل من يتمتع بانتماءٍ قومي في وطننا الكبير. فقد كان السيد الرئيس يخاطب الأمة فيما كان يحاور القوميين.
لم يكن عادياً على الإطلاق ما طرحه السيد الرئيس الأسد في الملتقى العربي لمواجهة الحلف الأمريكي-الصهيوني-الرجعي ودعم مقاومة الشعب الفلسطيني الذي انعقد في دمشق الأسبوع الفائت، فقد تناول مسائل فكرية واستراتيجية تتصل بالعمل القومي، في لحظة تاريخية صعبة، ليس قفزاً من فوق الشأن السياسي السوري الراهن والمُلِح، إنما تعمقاً وإبحاراً في لججه، فالحدث السوري (والعربي) الراهن يظل في أحد أهم مفاصله انعكاساً لصراع الأمة مع قوى الهيمنة الخارجية وأدواتها في الوطن العربي، فإما أن يتقدم مشروعنا، مشروع الوحدة والتحرر والنهضة ويتراجع أعداء الأمة، وإما أن يتقهقر مشروعنا، ليصبح الانتماء القومي نفسه مستهدفاً ونصبح مهددين بالفناء.
لذلك، فإن مناقشة الأسس الفكرية للبرنامج القومي، مثل وضع إطار سليم للعلاقة بين العروبة والإسلام، ومواجهة هجمة العولمة على الهوية القومية، والنأي بالفكرة القومية عن المفهوم العِرقي، وتكريس المفهوم الحضاري والثقافي للعروبة لاستيعاب “الأقليات” العِرقية في الوطن العربي في إطار المواطنة المتساوية، واعتبار الانتماء القومي أساس أي حديث بناء عن الديموقراطية والمشاركة (لكي لا ينحدر إلى “تعايش أو تطايق مكونات”، أي إلى مشروع تفتيت كامن)، والتمييز ما بين العروبة الرسمية التي تمثلها الأنظمة الرجعية وسياساتها التابعة وما بين العروبة كهوية وانتماء لكيلا نضيّع الثانية بجريرة الأولى (ولكيلا نظن جهلاً أن مواقف “الجامعة العربية” إزاء سورية أو ليبيا أو حزب الله تمثل الأمة العربية)، والتمييز ما بين مواقف وممارسات بعض الفصائل والشخصيات الفلسطينية وما بين فلسطين كقضية عربية، نقول: إن مناقشة مثل تلك القضايا التي يطرق واقعُنا بابَها بكلتا قبضتيه ليس ترفاً فكرياً على الإطلاق في الهزيع الأخير من الحرب على سورية، وفي خضم الحروب المتواصلة التي تتعرض لها بلدانٌ عربية غير سورية، بل يقع في صلب بناء وعي عربي جمعي يحصننا ويقينا من الأزمات استباقياً.
ثمة نوعان من الهروب في واقعنا العربي المعاصر أحدهما هروبٌ إلى الخلف، إلى ماضٍ ذهبي مُتخيل، ينتج التكفير وفقدان الصلة بالواقع في سديم الهلوسة القابلة للتوظيف السياسي، والآخر هروبٌ إلى الأمام، إلى تبخيس الذات القومية والتبرؤ منها باعتبارها “تخلفاً” من أجل الذوبان في التغريب والالتحاق بالغرب. وكلاهما هروبٌ من الواقع، ومن الذات، يمثلان وجهين لعملة واحدة، ويقودان إلى نتيجة واحدة بلونين. وعندما يطالب السيد الرئيس باشتباك فكري مع المدارس المعادية للعروبة، بعمل فكري قومي عربي جاد يرد للفكرة القومية اعتبارها، فإنه لا يطرح فكرة “جميلة” ولا “كمالية”، بل يطرح ضرورة راهنة، تمثل الجانب الفكري من خطة العمل القومي، إذ لا بد من نقدٍ منهجيٍ معمقٍ لتيارين أساسيين يعملان على تقويض الوعي القومي عند العرب في زماننا، أحدهما ذلك التيار المتأسلم الذي يحارب العروبة بالإسلام، والآخر هو التيار الليبرالي الذي يحارب العروبة بالانتماء “الإنساني” (الفردي بالضرورة) المتفلت من أي ارتباط قومي أو حضاري.
للقيام بمثل هذه المهمة، يتوجب على الفكر القومي أن يجدد نفسه وينقدها، وأن يتعلم من أخطائه دوماً، وأن يقرأ الواقع وقوانينه، فالفكر القومي ليس تعبيراً إنشائياً أو عاطفياً عن الشعور القومي، بل أداة اشتباك عقلية مع تحديات الواقع وحجج التيارات المعادية وسردياتها. والقومية العربية ليست عداءً للتراث، بل استمرار إيجابي لأفضل ما فيه. التيارات التكفيرية والمعادية للانتماء القومي مثلاً نقيضها الإسلام العروبي المتنور، وهذا يتطلب فيما يتطلبه إنتاج قراءة عروبية للقرآن الكريم، وللدعوة الإسلامية نفسها، وقراءة نقدية للتراث وللتاريخ العربي بما فيه من صفحات مضيئة ومظلمة، ويتطلب الانخراط في تكريس ترابط العقل والإيمان.
في المقابل، فإن التهديد القادم بعد التهديد التكفيري، الذي حذر منه الرئيس الأسد، وهو التيار الليبرالي المعولم، مما يحتاج إلى نقد منهجي لليبرالية نفسها، للمرجعية الفردية التي تعوم كل المقاييس، لتجلياتها وعواقبها، ولانعكاسها عربياً على صعيد الخطاب الفكري والحياة اليومية، للنزعة الاستهلاكية ولنزعة التذرر الاجتماعي التي تولدها، ونزعة الالتحاق بالغرب، وهو مشروعٌ كبيرٌ يتطلب من المثقفين والمفكرين القوميين أن يرتقوا إلى مستوى التحدي.
المشروع الفكري الآخر الذي لا بد منه هو تأسيس مجموعات عمل لدراسة ظاهرة اختراق الإمبريالية وأدواتها للوعي الجمعي، مما أسهم بإنتاج ما يُسمى بـ”حروب الجيل الرابع” فعلياً، مثلاً، دور وسائل الإعلام الممولة خليجياً في اختطاف الوعي الجمعي العربي وكيفية مواجهتها، ومثلاً، آليات عمل الجماعات التكفيرية على مستوى الشارع والمسجد والجمعيات، ومثلاً، آليات عمل منظمات التمويل الأجنبي في اختراق النشطاء والمثقفين والمجتمعات، ومثلاً، آليات عمل الإمبريالية في اختطاف بعض تكتيكات واستراتيجيات حركات التحرر الوطني والحركات الاشتراكية وتوظيفها في تصعيد ثورات مضادة.
كل ما سبق ضروري لكي نفهم لماذا اختُطف منا الشارع، من دون أن يعني ذلك أننا، كقوميين، لم نرتكب أخطاء فاقمت من حدة المشكلة، وهو ما يتطلب نقداً ذاتياً للتجربة القومية نفسها، ولكن لا يجوز أن ننسى بتاتاً أننا في ساحة معركة، وأن العدو يستفيد من اخطائنا بالضرورة، ولكن بعض نجاحات العدو جاءت ببساطة بسبب الاختلال في ميزان القوى لا لأننا نفعل كل شيء خطأً، ولذلك فإن نقل الحوار من إطار النخب إلى الشارع والأطر الاجتماعية الأوسع، كما طالب الرئيس الأسد، يتطلب أن ندرك أننا نواجه حلفاً أمبريالياً صهيونياً رجعياً عربياً لديه برامج عمل تراكمية في الشارع وفي الأطر الأوسع منذ عقود، وأن تطوير العمل السياسي والإعلام القوميين يتطلب دراسة أدوات العدو واستراتيجياته بشكلٍ منهجيٍ لكي نتعرف على نقاط قوتها وضعفها ونضع خططاً مقابلة لها، فالمسألة ليست مسالة تمنيات ورغبات طيبة فحسب أو مسألة تكثيف جهود بالآليات السابقة.
لا نملك إذاً رفاهية السير بعفوية بطاقة النوايا القومية الحسنة، وعندما يتساءل السيد الرئيس: أين الجوانب غير السياسية أو غير الحزبية في عملنا القومي؟ فإنني اعتقد أنه يسأل فعلياً: كيف نحوّل التيار القومي إلى تيار شعبي جارف من جديد؟ ومن الواضح أن ذلك هو ضمانة الوحدة الوطنية فوق الولاءات الفرعية الطائفية والعِرقية والجهوية والعشائرية إلخ… فهي ضرورة راهنة. لكنه سؤالٌ تتطلب الإجابة عليه عملاً جماعياً منظماً في عصر الشبكة العنكبوتية والفضاءات المفتوحة. فالسؤال العملي يصبح إذاً: كيف نطور أساليب عملنا السياسي لإطلاق المبادرات مع الحفاظ على وحدة الخط والرؤيا؟ كيف نطور إعلامنا ليخاطب الناس لا ليخطب فيهم؟ كيف ننخرط في الشأن اليومي من دون أن نضيّع الصورة الكبيرة في التفاصيل الصغيرة؟ وهي كلها مسائل تحتاج لنقاشات وورشات عمل وقدرٍ كبيرٍ من المرونة في الممارسة مع المحافظة على الثبات على المبدأ.
لكن ما لا شك فيه هو أن القوميين لم يقودوا الأمة يوماً إلا لأنهم أثبتوا للناس أنهم الأقدر على التعبير عن مصلحة الأمة، في مواجهة الاستعمار وقوى الهيمنة الخارجية، وفي مواجهة التجزئة والتخلف والرجعية والاستغلال، ولذلك فإن استعادة الشارع يتطلب من القوميين في النهاية أن يثبتوا أنفسهم في الميدان كما فعل الجيش العربي السوري والقيادة السورية في مواجهة حربٍ عالميةٍ بدا للحظة أن من المستحيل التغلب عليها، فما كان منهما إلا أن جعلا المستحيل ممكناً، وهو ببساطة المطلوب من القوميين العرب اليوم.
http://tishreen.news.sy/?p=122882
للمشاركة على فيسبوك:
https://www.facebook.com/Qawmi
اترك تعليقاً