د. إبراهيم علوش
ماذا تعني “الوحدة الوطنية الفلسطينية” بالضبط؟ وكيف تكون مثل تلك الوحدة “وطنية” حقاً قبل أن نتحقق من أن برنامجها وقيادتها وطنيان؟ وكيف يكونان وطنيين إذا انطلقا من أي نقطة غير الحقيقة الجوهرية الأولى في واقعنا العربي الفلسطيني المعاصر، وهي أن فلسطين مُحتلةٌ احتلالاً استيطانياً إحلالياً وأن أي برنامج وقيادة فلسطينيين، بالتالي، يزيغان عن نهج المقاومة والتحرير الكامل لا يمكن وصفهما بالـ”وطنية”؟! “الإنقسام الفلسطيني”، بهذا المقياس، ليس بالضرورة أمراً سلبياً حين يقوم على الفرز الضروري في أي حركة تحرر وطني ما بين خطين: خط التسوية والتصفية من جهة، وخط النضال والقتال من جهةٍ أخرى. أما حين يتعلق الأمر بانقسامٍ ضمن الخط الواحد، فتلك قصة مأساوية بالطبع بالنسبة لذلك المعسكر، فهل انتقلت سلطة أوسلو لمعسكر المقاومة والتحرير يا تُرى، أم انتقلت حماس لمعسكر “الحل المرحلي” للقضية الفلسطينية، حتى نتفجع، في أيٍ من الحالتين، على “الإنقسام”؟!
لا شك في إذن أن الإنقسام القائم على أساس اختلاف البرامج شيء، وذاك القائم على الصراع على السلطة والمواقع ضمن المرجعية البرنامجية نفسها هو شيءٌ آخر، ولو استعرضنا تاريخ حركات التحرر الوطني، من الجزائر إلى فيتنام إلى جنوب لبنان، سنجد أن رحيل المحتل، كما أكد السيد حسن نصرالله في خطابه في ذكرى عاشوراء هذا العام حين دعا اليهود في فلسطين لأن يرحلوا للدول التي اتوا منها، وتفكيك كل المؤسسات التي أقامها، من الجيوش العميلة إلى البُنى السياسية، هو العنوان الطبيعي والتعريف البديهي لتعبير “تحرر وطني”، ولو ذهبنا أبعد من العالم الثالث إلى المقاومة الفرنسية في ظل الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية لما وجدناها تقول للمحتل مثلاً “اعطونا ربع أو خُمس فرنسا وخذوا الباقي هنيئاً مريئاً”، ولما وجدناها تعتبر “الإنقسام” مع حكومة فيشي المتعاونة مع الألمان “مأساة” و”فجيعة” تضعف من قدرة فيشي على إدارة العلاقة مع المُحتل الألماني، وتؤذي صورة الفرنسيين في العالم، إلخ… بل وجدناها تقول فرنسا للفرنسيين، ومن يتعاون مع المُحتل هو متعاون، لا جهة وطنية.
في مواجهة هذا الثابت المبدئي الذي يمثل قاسماً مشتركاً في كل حركات التحرر الوطني الحقيقية، يُصوَر لنا اليوم نموذج “التعايش” في جنوب إفريقيا كنموذج بديل في فلسطين تحت عنوان “الدولة الواحدة”، أو “إسرائيل لكافة مواطنيها”، وهو عنوان أكثر تضليلاً من عنوان “الدولة المستقلة في حدود الـ67″، سبق أن تم تناوله في معالجات أخرى كما سيجد من يبحث على الشبكة العنكبوتية قليلاً، لأنه يجعل من قضية “العنصرية”، لا قضية الاحتلال الإحلالي وشطب عروبة الأرض، محور الصراع، ولأن أهل جنوب إفريقيا لم يكن أكثر من نصفهم من اللآجئين، ولأنه عنوان لم يحقق التحرر في جنوب إفريقيا نفسها، داخلياً أو في علاقتها مع الهيمنة الإمبريالية، ولكن عنوان “الدولة الواحدة” ليس موضوعنا هنا، بل برنامج ما يسمى “الحل المرحلي”.
الداعي لكل هذا الكلام أن حماس راحت ترسل إشارات متكررة حول قبولها بمبدأ “الحل المرحلي”، وببرنامج “الدويلة” في حدود الـ67، قبل أمدٍ طويل من إعلان السيد خالد مشعل قبل حوالي ستة أشهر عن برنامجها السياسي الجديد الذي يتضمن في الفقرة رقم 19 ما يلي: “ترفض حماس أي بديل عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها. وإن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة، ولا تعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، كما لا تعني التنازل عن أي من الحقوق الفلسطينية.”
ونرى أن الخلل في برنامج حماس لم يبدأ مع هذه الوثيقة، بل سبقه خطاب خالد مشعل في دمشق عام 2009، رداً على خطاب أوباما في جامعة القاهرة، وتوقيع حماس على ما يسمى “وثيقة الأسرى”، أو “وثيقة الوفاق الوطني” عام 2006، ومختلف أنواع الإشارات التي أرسلها الإخوان المسلمون في خضم “الربيع العربي” عندما شعروا أنهم قاب قوسين أو أدنى من استلام السلطة في عدة دول عربية. وقد تمت التهيئة على مدة سنوات للوثيقة الجديدة بكل تلك التصريحات والخطوات، وهي وثيقة تمثل نهج النقاط العشر الذي تبنته فتح عام 1974، الذي يستبدل هدف التحرير بهدف الدويلة، وفي ذلك التدشين الرسمي للانحراف عن هدف التحرير. الرسالة في وثيقة حماس الجديدة تتلخص بالبند الذي يتبنى فكرة “الدولة في حدود الـ67″، “بما لا يتعارض مع التحرير الكامل”. فالإخراج الذي يراعي مختلف أنواع التوازنات ليس أكثر من الغلاف السكري لجرعة الدويلة التي أودت بفتح وبعض فصائل اليسار إلى الهاوية.
فالدويلة مشروع إيجاد موطئ قدم ضمن الترتيبات الأمريكية-الصهيونية للمنطقة، وهي مشروع تسوية وتفاهم مع الصهاينة والأمريكان، فلا يفيد القول بعدها أن أي تسوية تمس حقوق الشعب الفلسطيني لا يمكن قبولها كما تفعل وثيقة حماس الجديدة، لأن تبرير الدويلة الآن بأنها لن تتعارض مع هدف التحرير سوف يتبعه تبرير الخطوات التي توصل إلى الدويلة بما يتعارض مع هدف التحرير، تماماً كما فعلت فصائل منظمة التحرير التي لم تقصرْ بتقديم الشهداء والأسرى والجرحى والمناضلين على مدى عقود تماماً مثل حماس. فلا عصمة لمناضل من الانحراف السياسي عندما يتجاوز الثوابت السياسية، مهما كان تاريخه ناصعاً، ومرجعيتنا في هذا هي الميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل، وثيقة الإجماع الوطني الوحيدة في تاريخ الشعب العربي الفلسطيني المعاصر.
علامَ الخلاف مع فتح إذن إذا لم يكن على رفض التسوية مع العدو الصهيوني وعلى التمسك ببرنامج التحرير الكامل وعروبة كل فلسطين؟! هذا هو السؤال… إذ أن ثمة فرق كبير بين سيطرة حماس على قطاع غزة على أرضية اختلاف برنامجها السياسي عن برنامج السلطة الفلسطينية وأجهزتها وحزبها الرئيسي، فتح، وبين سيطرتها عليه على أرضية تشابه البرنامجين. ففي الحالة الأولى ثمة ما يبرر “الإنقسام”، وثمة ما يدعو كل المتمسكين بالميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل والمبادئ الواردة فيه لتأييد سيطرة حماس على القطاع الذي يصبح عندها أكثر تحرراً مما لو كانت سلطة متعاونة هي التي تسيطر عليه، حتى لو كان محاصراً من البحر والجو والبر، أما في الحالة الثانية، مع تزايد جنوح حماس نحو البرنامج “المرحلي”، وارتباطها في خضم ما يسمى “الربيع العربي” مع المشروع الإخواني-القطري-العثماني في الإقليم، وارتدادها على محور المقاومة الذي احتضنها ورعاها ودفع الثمن الغالي ذوداً عنها، سورية نموذجاً، فإن دواعي تأييد حماس تكون هي التي خسرتها في مقامرة سياسية أخرجتها من المولد بلا حمص في النهاية.
لقد كُتِبَ وقيل الكثير عن المصالحة بين فتح وحماس ورأب الإنقسام منذ أعلنت قيادة حماس عن حل “اللجنة الإدارية” التي كانت قد شكلتها لإدارة قطاع غزة في 18 أيلول الفائت، عن الدواعي التي يمكن أن تكون قد دفعت بحماس للتخلي عن إدارة القطاع، بعد عشر سنوات، ومنها حالة الحصار الشديد التي اشتركت فيها السلطة الفلسطينية مع العدو الصهيوني، وهي حالة عانى منها شعبنا الفلسطيني في غزة أساساً، ومنها انفلاش المشروع الإخواني في الإقليم، وصمود سورية، والإطاحة بحكم الإخوان في مصر، وأخيراً الصراع القطري-السعودي الذي انعكس مباشرة على قدرة قطر على دعم حماس، ورفع الفيتو الأمريكي والغربي عما يسمى “المصالحة الفلسطينية”، وانخراط الروس في ملف المصالحة، وإمساك الدولة المصرية جيداً بملف غزة، والتقارب بين مصر وحماس على قاعدة تعاون الأخيرة ضد الجماعات التكفيرية في سيناء، مع العلم أن اتفاقات المصالحة تم طبخها في القاهرة من قبل عامي 2005 و2011… بالإضافة للتقارب بين حماس والدحلان المدعوم إماراتياً، مما لا بد أن يكون قد أثار حفيظة السلطة الفلسطينية في رام الله التي تعاني أصلاً من عقدة خسران غزة أمام قواعدها وأمام الصهاينة ورعاتها الغربيين.
لا شك في أن حماس ارتضت ما يجري مكرهة، ولا شك في أن ثمة عوامل إقليمية ودولية فرضت أو سهّلت وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، وقد كُتِبَ وقيل الكثير أيضاً في العقبات التي تواجه المصالحة بين فتح وحماس في غزة: عشرات آلاف الموظفين الذين سبق أن عينتهم حماس، السيطرة على الأجهزة الأمنية، سلاح المقاومة، قرار الحرب والسلم، والكثير من القضايا الأخرى، ويبدو أن الأمور جنحت باتجاه تبني موظفي حماس، توظيفاً أو تقاعداً، باستثناء الذين استثنتهم “اللجنة الرباعية”، على ما رشح في وسائل الإعلام، وأن ثمة مشروع تدريجي لنقل السيطرة عليها للسلطة الفلسطينية، وقد رشح أن قرار السلم والحرب مع العدو الصهيوني سوف لن تنفرد حماس باتخاذه، حتى لو تم اغتيال أحد قياداتها، أما سلاح المقاومة فلن يمس.
سلاح المقاومة يبقى العقدة الأكبر عند الصهاينة والغرب بالمناسبة، وهو لا يقتصر على سلاح كتائب عز الدين القسام وتشكيلاتها، بل يضم سلاح المقاومين وتشكيلاتهم من كل الفصائل الأخرى ومنها شرفاء فتح، فهو يشكل وزناً واحتياطياً استراتيجياً في غزة يقض مضاجع الكيان الصهيوني وحلفائه، وقد سبق أن اثبت نفسه في حروب ضارية مع الكيان في الأعوام 2008/2009، و2012، و2014. ولا يمكن لأي عربي شريف ومناهض حقيقي للصهيونية في العالم إلا أن يتمسك بسلاح المقاومة ويدافع عنه، وإلا أن يعتبر رفع الحصار عن شعبنا وأهلنا في قطاع غزة حقاً ومطلباً وضرورة لا نقاش فيها، وتلك مسألة مبدئية ننطلق فيها من الالتزام بنهج المقاومة نفسه، ومن ضرورة دعم كل ما يضعف الكيان الصهيوني، فما هي أفضل الشروط للحفاظ على سلاح المقاومة في غزة في ظل الظروف المريعة المحيطة بالقضية الفلسطينية اليوم؟
الحقيقة أن معادلة الشعب والجيش والمقاومة المفروضة في لبنان يصعب تطبيقها في غزة أساساً لأن الدولة والجيش اللبنانيين غير السلطة الفلسطينية المرتبطة مع العدو الصهيوني باتفاقات طويلة عريضة ليست أوسلو إلا واحدة منها، فيما العقيدة العسكرية للجيش اللبناني تقوم على العداء للكيان الصهيوني. بالرغم من ذلك، يمكن أن يفرض المقاومون في غزة حرفياً “توازن رعب” مع السلطة الفلسطينية، كما فرضوه مع الكيان الصهيوني، كما إن تخلي حماس عن إدارة القطاع، في ظل انحدارها تدريجياً نحو البرنامج “المرحلي”، مما راح يمحو أي فروق سياسية بينها وبين السلطة، سوف يحرك ميزان القوى داخل حماس نفسها لمصلحة الجناح العسكري، ولسوف ينزع من دعاة الحل “المرحلي” داخل حماس من ذريعة “ضرورة التنازل لحل مشاكل قطاع غزة المعيشية”. والأمل أن تتمكن الأجنحة العسكرية للفصائل كافة من خلق هامش يسمح لها بممارسة العمل المقاوِم ضد العدو الصهيوني من خلف واجهة السلطة الفلسطينية، سواء رغبت الأخيرة بذلك أم لم ترغب. الحلقة المفقودة هنا، بكل صراحة، هي غياب قيادة سياسية مثل قيادة حزب الله، ولكن الشعب العربي الفلسطيني ليس عاقراً، وقد انجب أجيالاً من القيادات المقاتلة، ومن المؤكد أنه لن يعجز عن إنجاب المزيد منها إذا لم تتمكن القيادات الحالية من الصعود إلى مستوى المرحلة.
للمشاركة على فيسبوك:
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=1936799733003919&set=a.306925965991312.96654.100000217333066&type=3&theater
اترك تعليقاً