د. إبراهيم علوش
تركيا الأردوغانية ما برحت تدفع أثمان سياساتها الحمقاء التي زعزعت استقرار المنطقة وهددت أمنها القومي في الصميم. فبعد أن أفلتت حبل حدودها مع سورية والعراق على الغارب لتدفق الدعم لـ”داعش” وأخواته على مدى سنوات، بدأت حمم الإرهاب التكفيري الذي رعته ودعمته ترتد إلى نحرها، فجاء إحساسها متأخراً بحمى النار التي لعبت فيها، وتالياً كان إغلاق الحدود التركية أمام “داعش” المقدمة الطبيعية للإجهاز عليه من الموصل للرقة.
كذلك بنت أنقرة أفضل العلاقات مع “البرزاني” في شمال العراق، وهي سياسة تركية ثابتة منذ التسعينيات، واظب حزب “العدالة والتنمية” الإخواني على رفعها إلى مستويات أعلى غير مسبوقة، لتتحول تركيا عبر مرفأ جيحان إلى منصة تصدير لما يقارب 550 ألف برميل من النفط العراقي المسروق يومياً من كركوك وغيرها إلى الكيان الصهيوني وغيره، ناهيك عن أكثر من 500 شاحنة تصدّر النفط لتركيا يومياً مقابل المشتقات النفطية منها. وقد وصلت الصادرات التركية إلى الإقليم منذ عام 2013 لأكثر من 8 مليار دولار سنوياً، فيما تمر بضعة مليارات أخرى من الصادرات التركية إلى العراق عبر شماله المُسيطر عليه كردياً، كما بلغت الاستثمارات التركية في الإقليم أكثر من 40 مليار دولار، وانخرطت أكثر من 1300 شركة تركية في قطاع الطاقة والإنشاءات والمستشفيات والمصارف وبناء المصانع وغيرها في شمال العراق مما حوَل تركيا إلى أكبر مستثمر في اقتصاده، وهنالك من يقدر الاستثمارات التركية في شمال العراق بأكثر من خمسين مليار دولار، ناهيك عن اتفاقيات التنقيب عن النفط والغاز التي يبقى جانبٌ كبيرٌ منها سرياً، واتفاق مد أنبوب غاز إلى شرناق الكردية جنوب شرق تركيا.
ما سبق يدلل على أن تركيا لديها الكثير لتخسره من محاصرة شمال العراق المُسيطر عليه كردياً، فكأنها تعاقب نفسها لو حاصرته، ولعل ذلك أحد أهم العوامل التي تدفع البرزاني وجماعته للمخاطرة بإثارة الغضب التركي من جراء إصراره على إجراء الاستفتاء على “انفصال الإقليم” في موعده بالنظر لارتباط مصالح كبرى في تركيا بالاستثمار والتجارة مع شمال العراق، وبالنظر لارتباط أمن الطاقة التركي بالواردات النفطية من شمال العراق (وكذلك المنهوبة من الأراضي السورية)، وهو ما يكتسب أهمية أكبر في ضوء فشل مشروع تفكيك سورية ومد أنبوب الغاز القَطَري عبرها، وتحول واردات الطاقة العراقية إلى شبكة أمان جزئية تخفف من وطأة الحاجة للاعتماد الكامل على روسيا.
ثمة مدرستان في العلاقات الدولية، إحداهما تركز على أولوية الأمن القومي والجغرافيا السياسية على المصالح الاقتصادية، وهي المدرسة المسماة “الواقعية”، وربيبتها المدرسة “الواقعية الجديدة” التي تدعو للتدخل الخارجي وممارسة استراتيجية أمن قومي عدوانية، ولو لم يكن ذلك دوماً عبر التدخل العسكري المباشر، وهنالك بالمقابل مدرسة نقيضة في العلاقات الدولية تركز على أولوية التجارة الحرة والاستثمار والانفتاح والتبادل الثقافي بين الدول كأداة فعّالة في تذويب عقد العلاقات الدولية وتناقضاتها، وهي المدرسة المسماة “الليبرالية”، وربيبتها المدرسة “الليبرالية الجديدة” في العلاقات الدولية، وهي تختلف عن المدرسة “الليبرالية الجديدة” الداعية لوقف تدخل الدولة في الاقتصاد وتحرير السوق من برامج الدعم وتحديد الأسعار والضوابط على عمل القطاع الخاص داخلياً. فتجاوز المصالح الاقتصادية لاعتبارات الأمن القومي يتجلى مثلاً في “الاتحاد الأوروبي” بعد قرون من الصراعات الدموية، وفي الشركات متعدية الحدود، بحسب “الليبراليين الجدد” في العلاقات الدولية، فيما خصخصة القطاع العام وإلغاء الدعم الحكومي للسلع والخدمات الضرورية للمواطن الذي تحاول أن تفرضه المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي هو مثال على “الليبرالية الجديدة” في مجال السياسة الاقتصادية، و”الليبراليتان” كثيراً ما تتقاطعان، لكنهما ليستا شيئاً واحداً من الناحية الأكاديمية، إذ أن الأولى مدرسة تؤسس علم السياسة الدولية على أساس اقتصادي، فيما تحوِّل الليبراليةُ الثانيةُ علمَ الاقتصادِ (النيوكلاسيكي) إلى أداة قهرية لممارسة السياسة الدولية والسياسة الاقتصادية الداخلية.
القصد من استدعاء مثل هذه المقارنة النظرية بين المدرستين الواقعية والليبرالية، التي يمكن أن تساعد كثيراً في فهم سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، من كلينتون الأقرب للمدرسة الليبرالية الجديدة، إلى بوش الابن الأقرب للمدرسة الواقعية الجديدة، هو إبراز التناقض الذي سينشأ هنا، لا محالة، بين حسابات الأمن القومي التركي، التي سترى في جنوح شمال العراق نحو الانفصال علناً، تهديداً وجودياً للدولة التركية بالضرورة، وبين حسابات المصالح الاقتصادية التركية التي سترى بدورها تهديداً وجودياً في أي محاولة لمحاصرة شمال العراق اقتصادياً من الجهة التركية. ذلكم هو التناقض الذي حشرت فيه السياسة التركية نفسها، والذي لعب من دون شك دوراً رئيسياً في تشجيع البرزاني على المضي قدماً في استفتائه على الانفصال.
على صعيد الأمن القومي، قدم البرزاني تعاوناً أمنياً مع تركيا وقد اشرفت أنقرة بالمقابل على تدريب قوات “البشمركة” وقامت بتثبيت عددٍ من النقاط للجيش والاستخبارات التركية في أربيل ودهوك والسليمانية وصلاح الدين في شمال العراق، في ظل تنسيق أمني قامت “البشمركة” بموجبه بمحاربة “حزب العمال الكردستاني” وتسليم الكثير من عناصره للنظام التركي منذ التسعينيات. وتمثل هذه الخلفية أساساً للصراع بين “البشمركة” من جهة، و”حزب العمال” وجناحه السوري من جهة أخرى، الذي أعلن رفضه، عبر أحد قيادييه، للاستفتاء في شمال العراق ضمن صراع نفوذ على الحيز الكردي وخلاف على طريقة الإخراج، بعد تمدده في الشمال العراقي على حساب “البشمركة” وسعي البرزاني لتصدير خطاب “استقلالي كردي” يبدو أنه بدأ ينفذ إلى قواعد “العمال” في شمال سورية بحسب بعض التقارير الإعلامية.
بجميع الأحوال تخاطر أنقرة بخسارة تواجدها العسكري والأمني، وبفقدان ورقة التعاون ضد “حزب العمال الكردستاني”، إذا حاصرت شمال العراق من دون أن تُتبع ذلك بتدخل عسكري مباشر ومطول مع أو من دون التعاون مع الدول الأخرى في الإقليم، وهو ما يبقى احتمالاً مفتوحاً إذا تغلبت اعتبارات الأمن القومي التركي طويلة المدى على المصالح الاقتصادية الراسخة، ولكن في ظل إضعاف أردوغان للمؤسسة العسكرية والأمنية التركية، لاسيما بعد صيف عام 2015، فإن بعض المحللين وكتاب الأعمدة يشعرون أن الكثير مما تصرح به تركيا ومسؤولوها هذه الأيام حول الاستفتاء في شمال العراق مصممٌ لامتصاص غضب القوميين الأتراك ليس إلا، وأن أي عملية عسكرية في هذا السياق لا تتم بالتنسيق جدياً مع بغداد وطهران ودمشق سوف تكون ذات طبيعة استعراضية غير جادة لتحسين شروط العلاقة مع “إقليم كردستان العراق”.
الاختراق الصهيوني في شمال العراق، لا الدعم العلني فحسب، لعب دوراً رئيسياً بكل تأكيد في إشعار دعاة الانفصال بالطمأنينة والثقة الكافيتين للمضي قدماً في مشروعهم. ويلعب الصهاينة دوراً بارزاً في تدريب وتسليح “البشمركة” على مدى عقود، كما هو معروف، ولكن دورهم في السنوات الأخيرة تركز على التدريب والتعاون الاستخباري والشركات الأمنية، كما أن هنالك عشرات الشركات “الإسرائيلية” التي تعمل في شمال العراق، وذكر تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية في 23 آب 2015 أن 77% من مستوردات الكيان الصهيوني من النفط قبلها بأشهر جاءت من شمال العراق، وقد ذكرت صحيفة “معاريف” في 19 تشرين الثاني 2014 أن الشركات “الإسرائيلية” استثمرت بكثافة في شمال العراق في قطاعات متنوعة مثل الطاقة والإنشاءات والاتصالات والخدمات الأمنية. وقد تغلغلت جمعية “إسرإيد” الخيرية في شمال العراق بقوة بعد صعود “داعش” بذريعة مساعدة اللاجئين. ويذكر طبعاً أن “البشمركة” كانوا قد أخلوا الطريق أمام “داعش” في نينوى وقطاعات أخرى وسهلوا وصول الدعم اللوجستي للتنظيم الإرهابي التكفيري في عدة أماكن كان محاصراً فيها حتى ارتدت “داعش” عليهم.
أخيراً، جاء صعود القوى الانفصالية في شمال العراق وسورية بدعم أمريكي مباشر وغامر لا يزال مستمراً حتى هذه اللحظة، ومن الصعب التصديق أن الولايات المتحدة تعارض الاستفتاء في شمال العراق، أو “انتخابات الإدارة المحلية” في شمال سورية، وهي تقدم غطاءً جوياً، وسياسياً، للقوى الساعية نحو الانفصال. فليسحبوا الغطائين حتى نبدأ بتصديق ما يقوله الساسة الأمريكان…
تشرين 27/9/2017
http://tishreen.news.sy
للمشاركة على فيسبوك:
https://www.facebook.com/Qawmi
اترك تعليقاً