د. إبراهيم علوش
الموقف المبدئي الرافض لدعوات “فدرلة” سورية ودستورها ومحاولة اعتبارها دولة “متعددة القوميات والأعراق”، كـ”بديل” لهويتها العربية التي يُبرزها اسمها المُشرق (الجمهورية العربية السورية)، لم يتم تبنيه عبثاً أو عناداً أو من قبيل التعصب الشوفيني للعروبة، فكل الأمم تعيش فيها أو إلى جانبها أقليات قومية وعرقية، وكثيراً ما تتشكل الأمم من عدة طوائف، لكن ذلك لا يدعو بتاتاً لشطب الهوية القومية للشعب والأرض، إلا حين تكون قصة الأقليات الحقيقية والمخترعة مفتاح تفكيك للأرض والشعب والدولة كما جرى في أكثر من قُطر عربي. وقد تجلى ذلك مثلاً في الدستور العراقي في ظل الاحتلال الذي تبنى فكرة النظام الاتحادي (الفيدرالي) وتبنى فكرة التعددية القومية والعِرقية بديلاً لعروبة العراق وسمح لكل محافظة أو أكثر أن تنتظم في إقليم يتمتع بصلاحيات واسعة، والنتيجة الطبيعية لتلك الصيرورة، بالرغم من “الضوابط الدستورية” التي تؤكد على وحدة العراق وسلامة أراضيه، هي ما نراه اليوم من نزوع لدى القيادات الكردية في شمال العراق للانفصال.
لقد زُرِع تناقضٌ غيرُ قابلٍ للحل في الدستور العراقي، إلا عبر توازنات هشة غير مستقرة، بين تكريس الهويات الفرعية والاعتراف بها كـ”مكونات” للعراق من جهة، وبين صلاحيات الحكومة الاتحادية من جهةٍ أخرى. وعندما يقال اليوم أن الدعوة للاستفتاء على “استقلال إقليم كردستان” يمثل خرقاً لعدة بنود في الدستور العراقي، وتجاوزاً على صلاحيات الحكومة في بغداد، فإن ذلك صحيحٌ طبعاً، ولكنْ الصحيح أيضاً، من الناحية العملية، أن وضع قطار النظام السياسي على سكة “التمثيل الأقلوي”، واعطاء كل محافظة أو أكثر حق تشكيل إقليم خاص بها (لا يمكن إلا أن يأخذ لوناً طائفياً أو عرقياً)، وشطب الهوية العربية للعراق، واعتبار اللغتين العربية والكردية لغتين رسميتين (على قدم المساواة)، وجعل الولاية على النفط والغاز مسؤولية مشتركة للحكومة الاتحادية والأقاليم المنتِجة معاً، سوف يؤدي جميعها بالضرورة إلى تقويض الوحدة الوطنية ووحدة العراق وسلامة أراضيه وإلى انفلات كافة نزعات التشظي والتذرر والتنافر مع المركز.
العبرة أن المشاريع الانفصالية لا تهبط من فراغ، إنما يتم التأسيس لها بشكلٍ حثيث، وهي تبدأ دوماً بنفي عروبة بلادنا، تحت عناوين ما دون أو ما فوق قومية، عِرقية أو إنسانوية مثلاً، كما تبدأ بالدعوة لنزع صلاحيات الحكومة المركزية تحت ستارة “الشفافية” و”حقوق المواطن” و”التشاركية”، سوى أن “الفساد والاستبداد والتهميش” الناشئ عن إضعاف الدولة المركزية وتقليص صلاحياتها، كما أثبتت تجارب السنوات الأخيرة، يتجاوز بأضعاف مضاعفة أي مظالم حقيقية أو مفبركة يفترض أن يزيلها “النظام الفيدرالي” “الأكثر ديموقراطية”، مما يفضي، في ظروف بلادنا بالذات، إلى خلق بيئة حاضنة لتفكيك البلد وتهديد استقراره الداخلي، وهو ما رمى إليه الاحتلال الأمريكي والبريطاني بالضبط عندما شطب الدولة المركزية العراقية وحل الجيش العراقي وكافة مؤسسات الدولة، وعندما أسس مناطق “حظر الطيران” فوق شمال العراق وجنوبه من قبلُ، وهو ما ترمي إليه، في الحقيقة، دعوات “اللامركزية” و”الفيدرالية” وإلى ما هنالك في البلدان العربية، فالفيدرالية في الكيانات الموحَدة أصلاً وصفةٌ للتقسيم، فيما الفيدرالية التي توحِّد الكيانات المنفصلة، كما جرى في سويسرا أو بلجيكا مثلاً، هي وصفة للاتحاد، وما يطرح عندنا هو تفكيك الموحد لا توحيد المفكك، مما يصب موضوعياً في مشروع “الشرق أوسطية” الذي يساوي عملياً تفكيك المنطقة زائداً شطب هويتها الحضارية الجامعة.
ضمن هذا السياق تصبح الدعوة لاستفتاء على “انفصال” شمال العراق تتمةً لفدرلة العراق وغزوه، ولانفصال جنوب السودان ولـ”أقلمة” ليبيا و”فدرلة” اليمن إلخ…، ولسعي الدول الغربية والمؤسسات الدولية لفرض “اللامركزية الإدارية” ولربط منحنا “شهادة حسن سلوك ديموقراطية” بقوننة الهويات والحقوق “الأقلوية” ودسترتها على طريق تمييع الهوية الوطنية الجامعة التي تكمن العروبة الحضارية (أي غير العِرقية) في جوهرها دوماً كما أشار السيد الرئيس بشار الأسد.
إن تناول فكرة الاستفتاء الكردي من خارج هذا السياق يبقينا دوماً في حالة تقهقر استراتيجي تحت سقف “قوانين اللعبة” التي تحاول الإمبريالية والصهيونية أن تفرضها علينا، لأن فكرة انفصال شمال العراق ليست “شطحة” من خارج سياق برنامج “تغيير الأنظمة” و”الشرق الأوسط الجديد” و”الثورات الملونة” حتى لو حاولت الدول الغربية أن تظهر اليوم كأنها تعارض ذلك الاستفتاء، فقد سبق أن أسست البيئة الحاضنة لنشوء “داعش” من قبل، إن لم نقل أنشأته مباشرةً، ثم ارتدّت عليه مرة عندما اقترب من شمال العراق، وأخيراً من خلال تحالفات معينة بديلة لـ”داعش” في شمال سورية يتمثل جوهر برنامجها السياسي بالترويج لفكرة “المجالس المحلية” (اللامركزية الإدارية) في نظام سياسي قائم على “التعددية القومية” مما يعني فعلياً محاولة “شطب” عروبة سورية ودولتها المركزية، تماماً كما تعني فكرة الدولة “ثنائية القومية” في فلسطين المحتلة شطباً لعروبة فلسطين، وهو ما حاولنا التحذير منه مراراً في طروحات إدوار سعيد وعزمي بشارة منذ التسعينيات، وقصة “شطب” العروبة مترابطة في كل الأقطار العربية، بالتعريف. فإذا تم تقزيم المشكلة لتصبح قصة “مناطق متنازع عليها” في محافظات كركوك ونينوى وديالى، أو لتحويل حملة التمدد شمال سورية وشرقها، تحت مظلة أمريكية، وبذريعة “داعش”، إلى “مناطق متنازع عليها” أيضاً، فإن ذلك لن يختلف عن الإقرار بالاحتلال الصهيوني عام 1948 للتفاوض على الاحتلال الصهيوني عام 1967، لتبقى الصهيونية وتتمدد، حسياً أو سياسياً، داخل فلسطين وخارجها.
لا بد من التذكير هنا أن مناطق شمال العراق المسماة اليوم “كردستان العراق” بقيت آشورية وكلدانية وسريانية (أي عربية قديمة)، وعربية إسلامية، على مدى آلاف السنين قبل أن يبدأ الزحف الكردي إليها من جبال زاغروس والشريط التركي-الإيراني-العراقي في القرون المتأخرة ومنتصف القرن التاسع عشر، فأربيل ودهوك كانتا آشوريتين، وكركوك كانت سريانية، وقد بقيت كلها كذلك في ظل الفتح العربي الإسلامي، وقد تعرضت فيما بعد لحملات غزو واحتلال استيطاني إحلالي لا تختلف كثيراً عما فعله الصهاينة في فلسطين أو المستعمرون البيض في القارة الأمريكية، ومنها الصفحات المسكوت عنها فيما تعرض له السريان في ظلال المذابح ضد الأرمن في الحرب العالمية الأولى، برعاية الاحتلال التركي طبعاً، فتلك كانت الممهدات الحقيقية للمطالبة بـ”حق انفصال شمال العراق”! ولا يوجد أي أثر كردي تاريخي قديم في كل المنطقة المسماة “كردستان العراق” اليوم، إنما آثار عربية قديمة آشورية وكلدانية وسريانية تنتمي كلها لآرومة واحدة حضارياً.
وصولاً للقرن العشرين، سيجد من يبحث على الشبكة العنكبوتية قليلاً أن الكتاب الإحصائي للعراق لعام 1957، في صفحته رقم 243، سيُظهر أن مدينة كركوك حتى ذلك العام كان ثلثها من الأكراد فحسب، أما لواء كركوك الذي كان يضم وقتها قرىً كردية إلى الشمال (ليست جزءاً من محافظة كركوك اليوم) فكان أقل من نصفه من الأكراد، رغم كل ما سبق من زحف وتمدد. فما لدينا هنا هو قصة احتلال استيطاني إحلالي تشبه “المناطق المتنازع عليها” فيها قصة المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية لنهر الأردن. لذلك فإن تماهي الكيان الصهيوني مع هذه الحالة هو تماهٍ ثقافي، يتجاوز المصلحة الاستراتيجية الراهنة بتفكيك البلدان العربية، كما أن تماهيه مع الولايات المتحدة هو تماهٍ ثقافي، كما ذكرت وزير الخارجية الأمريكية الأسبق مادلين أولبريت حين مرة في التسعينيات.
القيادات الكردية في شمال العراق تقود الأخوة الأكراد إلى حصار وحروب ومجازر، في ظل رفض كل دول المنطقة لانفصال شمال العراق، وشعور الغرب أن تسويق المشروع الذي أسس له سابق لآوانه اليوم، والمستفيد الوحيد هو الكيان الصهيوني الذي يدعم الفكرة بحماسة بالغة، وهي ليست المرة الأولى التي يتم فيها توظيف هذه المسألة من قبل الغرب والصهيونية ليترك الأخوة الأكراد يدفعون الثمن وحدهم بعدها. نقف مع الأخوّة العربية-الكردية بالمناسبة، ومع حق الأخوَة الأكراد بحقوق مواطنة متساوية، حيثما وجدوا، وكما استقبلت أمتنا اليهود من قبل، كأفراد، حينما كانت أوروبا تضطهدهم، فقد استقبلنا غيرهم، ليصبحوا قادة ورؤساء وعلماء مقدرين عندنا، والأمثلة كثيرة، وقرار منح الجنسية السورية لمئات آلاف الأخوة الأكراد وعائلاتهم الذين لجأوا حديثاً إلى سورية خلال العقود الماضية من تركيا يمثل أكبر أنموذج على سعة الصدر والاستعداد لمد بساط المواطنة لكل من يستعد للعيش كمواطن، أما مشاريع الغزو والاحتلال، فتلك قصةٌ أخرى، لها حديثٌ آخر.
تشرين 20/9/2017
http://tishreen.news.sy/?p=111807
للمشاركة على فيسبوك:
https://www.facebook.com/Qawmi
اترك تعليقاً