المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 أيلول 2016
– كلمة العدد: التمثيل الواهم/ جميل ناجي
– ديمقراطية الصناديق … وصاية على الشعب، لا ممثل له/ كريمة الروبي
– تزييف الإرادة الشعبية – المجالس النيابية مثالاً/ بشار شخاترة
– هل يدخل الجذريون المجالس النيابية؟ / إبراهيم علوش
– من يأكل مع الشيطان يحتاج إلى معلقة طويلة / صالح البدروشي
– التّمثيل والامتثال/ محمد العملة
– الصفحة الثقافية: التطرف العابر للأديان في الفيلم المصري “بحب السيما”/ طالب جميل
– أسد الصحراء: أيقونة السينما الثورية العربية/ إبراهيم حرشاوي
– قصيدة العدد: من أرض بلقيس/ البردوني
العدد 28- 1 أيلول 2016
لقراءة العدد عن طريق فايل الـ PDF
TT28-6
للمشاركة على الفيسبوك
https://www.facebook.com/Qawmi
كلمة العدد:
التمثيل الواهم
جميل ناجي
لا يمكن بأي شكل من الأشكال اختزال الديموقراطية بصناديق الاقتراع. فالفعل الديمقراطي هو سلسلة من العمليات العميقة التي تهزّ المجتمع في كافة جوانبه، من خلال صيرورة طويلة من العقلنة التي تصيب بُناه الاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية وغيرها. أشرنا سابقاً إلى أنّ العملية الانتخابية في دول لم تحقق اندماجها القومي وتدخل ميدان الحداثة، ليست سوى أداة تفكيك تعيد إنتاج وتفريخ تقسيمات فرعية للمجتمع على أسس طائفية وقبلية وإثنية… إلخ. فهي أداة شرذمة وليست أداة لتداول السلطة على الإطلاق. لقد استطاعت الطغم الحاكمة على مدى عقود أن تسيطر على مفاصل الدولة، مما جعل العملية الانتخابية أقرب إلى كاريكاتور هزلي، يفرز برلمانات صورية هامشية غير فاعلة إطلاقاً، بُنيَت على ممارسة رعوية لحقّ الانتخاب في ظل غياب دولة مواطنة.
وفي عودة إلى المربع الأول فإنّ وجود الدول القُطرية ارتهن بضمان عدم وصول تيارات ذات نزوع ثوري وتحرري إلى مراكز السلطة، وهذا تطلّب تخريب العملية الانتخابية وضرب مراكز الثقل لدى مراكز التيارات الفاعلة (أقصد هنا التيارات التقدمية بكافة أشكالها) سواء من خلال القوانين الانتخابية أو المواجهة المباشرة أو من خلال تفريخ تيارات الإسلام السياسي الموالية (التي غيرت لونها فيما بعد) أو التيارات الليبرالية التابعة والمتغربنة سلفاً.
لا وجود لقوى سياسية حقيقة تستطيع أن تقود المرحلة؛ فنحن إزاء تغييب وتهميش مجتمعي ممنهج على مدى عقود، طغم من الكمبرادور السياسي والاقتصادي التي تسيطر على الدولة، غياب حياة سياسية حقيقية وصناديق اقتراع مسروقة، وإسلام سياسي متناثر هنا وهناك، مؤسسات ومؤسساتية منهارة، وأنظمة تلهث وراء تحقيق مكتسب تمثيلي واهم. فماذا تعني صناديق الاقتراع إذن سوى كاريكاتور هزلي فاقع؟!
هل أشار لينين مثلاً (للمتشدّقين بشخصه) عندما تحدّث عن المشاركة بالدوما، إلى واقع أكثر مأساوية؟! هل كان يأمل أن يحقق له الدوما مجتمعا اشتراكياً؟! أم اعتبر أنّ نضال العامل الصغير في الشارع أهم من المشاركة في البرلمان، وأن الطريق الإصلاحي ليس سوى ملعب تمثيلي واهم للمناورة الدعائية؟! ولنعد مجدداً لتقليب الأوراق، إذا كنا نخوض مواجهة دامية مع قوى تستشرس في فرض مشروع تفكيك يعيدنا إلى ما قبل القرون الوسطى، فهل تصبح الانتخابات هنا ذات شأن أم أن هناك أولويات أخرى؟! هل نستطيع القول مثلاً أن الأولويات هنا تأخذ ميزاناً مختلفاً يتعلق ببناء مجتمع حقيقي يستطيع تمثل العملية الديموقراطية، وهل يصح البناء الديمقراطي بدون تحقيق سيادة قومية أو حتى وطنية في أسوأ الأحوال؟! لا بد إذا من العودة إلى البديهيات، وبوضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار. وهذا تحديد عام لهذه المسألة.
لقد جرّمنا سابقاً دخول العملية الانتخابية في ظل احتلال، وهذا انسحب على سبيل المثال على المشاركين في حكومة بريمر في العراق (كالحزب الإسلامي العراقي (الإخوان) والحزب الشيوعي العراقي). ويمتد هذا طبعاً إلى المشاركة في انتخابات الكنيست الصهيوني. وفي نفس الوقت نعتبر أن السلطة الفلسطينية (وانتخابات السلطة الفلسطينية) ليست سوى امتداد لنفق التسوية، وتشريع هذه السلطة، التي لا تمثل سوى طابور خامس للاحتلال الصهيوني. وهذا موقف عام وتاريخي من كل الحالات المشابهة التي تشرعن الاحتلال وأدوات الاحتلال.
وفي هذا السياق، كيف تفهم العملية الانتخابية على صعيد خاص؟ فعلى سبيل المثال، لقد استطاعت قوى الإسلام السياسي كتيار واسع ومنظّم في مصر أن تسيطر على المشهد السياسي وتخطف الثورة من خلال صناديق الاقتراع، وبهذا شكّلت العملية الانتخابية رافعة لقوى رجعية، كادت أن تذهب بمصر إلى الهاوية لولا سيطرة المجلس العسكري. فهل كان من مصلحة مصر وصول هذه القوى أو غيرها لسدة الحكم؟! نعود إلى الاعتبار السابق الذي ينظر إلى العملية الانتخابية كلعبة تفرض سلفاً مفرزاً مفصلاً على مقاس الطغم المسيطرة كالكمبرادور وغيره المتحالف مع الإمبريالية العالمية. في العراق هناك وضع مختلف بحيث تلعب الديمقراطية الانتخابية دوراً في تعزيز وتفسيخ المجتمع على أساس طائفي، بحيث تزيد من عمق التشرذم والاحتقان في بُنى هذا المجتمع، وهنا تلعب هذه الأداة دوراً رجعياً يحافظ على مفرزات الاحتلال الأمريكي. في سورية هناك انقسام سياسي وصراع سياسي محتدم (يحاول البعض إبرازه كصراع طائفي)، بين المشروع الغربي في سورية وأدواته الرجعية من جهة، وبين القوى المحافظة على وحدة سورية وسيادتها من جهة أخرى، ففي حين تمثل المشاركة السياسية شرعنة للدولة السورية، يصبّ عدم المشاركة في مصلحة الطرف الآخر وفي خدمة المشروع المعادي.
وبالتالي فإن العملية الديمقراطية تحتاج إلى إدراك جماهيري للمصلحة العامة، ففي غياب هذا الإدراك يصبح حيز المناورة للقوى التقدمية هامشياً جداً. كما تسرد بعض المقالات في هذا العدد أمثلة عديدة حول الدور القذر التي تلعبه المخابرات الغربية في فرض قوى سياسية متماشية مع المصالح الغربية وسيطرة شركاتها على دول العالم الثالث، بالإضافة إلى بعض المواقف التاريخية بهذا الخصوص، والتي بُنيت على تحليل جدلي وإدراك عميق لطبيعة المراحل المختلفة من قبل القوى الثورية.
ديمقراطية الصناديق … وصاية على الشعب، لا ممثل له
كريمة الروبي
التمثيل البرلماني هو ديمقراطية على النمط الغربي لتنظيم العلاقة بين الشعب والحاكم، والتي لا تصلح، ليس فقط، لواقع الأمة العربية و”العالم الثالث”، بل وحتى للغرب الذي أسسها ويسعى لتصديرها للعالم “المتخلف”، وهي في الحقيقة ديمقراطية زائفة ترتدي قناع تمثيل الشعب بينما هي حاجز بين الشعب وممارسة حقوقه السياسية لمصلحة فئات بعينها تحتكر السلطة والنفوذ وتعبر عن انحيازاتها وأحلامها لا عن أحلام الشعب الذي تزعم تمثيله، ويمكن تعريف الديمقراطية تعريفاً صادقاً على أنها الانتقال السلمي للسلطة بين النخب.
فقد نشأت الديمقراطية في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر كردة فعل على سيطرة الكنيسة والمَلَكية، فنادى مثقفو الطبقة البرجوازية الرأسمالية بضرورة مواجهة هذه السلطة بشرعية الشعب، ولكنّ المؤرخ البريطاني “ريتشارد جاي” كشف زيف مسعاهم حين أشار إلى أنّ هؤلاء أرادوا حماية ثرواتهم من تسلّط المَلَكية و”طمع” الطبقة الفقيرة، أي إنتاج نوع آخر من التسلط يسعى لالتهام جزء من كعكة السلطة بين طرفين، هما في النهاية ناهبان للطبقات الكادحة والأكثرية الشعبية، ولكنه تسلط ذو شرعية تمنحها الجماهير التي يتمّ استغلالها.
إنّ النخب الغربية تنظر للشعوب نظرة استعلائية، فهي لا تؤمن بقدرة الشعب على حكم نفسه بنفسه، لذا وجبت الوصاية عليه، وفي ذلك يرى الفيلسوف الاسكتلندي “جيمس ميل” أنه يصعب تحميل هذه الطبقة “من الجهَلة، عديمي المسؤولية، والعاجزين عن تطوير أنفسهم فكرياً”، مهمة الحكم المباشر مما سيخلق نوعاً من الفوضى السياسية التي ستعرقل تقدّم المجتمع، ولذلك فإنّ الأفضل يتمثل في أن يختار الشعب من يحكمه، وهذا الرأي مناقِض للديمقراطية التي تفترض حكم الجماهير لنفسها بنفسها لا حكم من ينوب عنهم، وشتّان ما بين الأمرين، فالتمثيل البرلماني لا يعبر عن التركيبة الاجتماعية للجماهير بل يمثل فئة تسعى لتحقيق مصالحها أو مصالح وأفكار الأحزاب التي تنتمي إليها، ويُستدعى الشعب لاختبار واحد من بينهم كل أربع أو خمس سنوات ثم يعود -مضطراً- لسلبيته معزولاً عن المشاركة في تقرير مصيره.
كما أن فكرة الأغلبية البرلمانية لا تعني بالضرورة أنها تمثل الأغلبية الشعبية، بل هي في الحقيقة الأغلبية التي استطاعت الإنفاق ببذخ على الدعاية الانتخابية والتي تمتلك وسائل إعلام وموارد أخرى تخدم مصالحها.
وقد رأينا في آذار/ مارس 2016 مظاهرات النقابات العمالية المناهِضة لقانون العمل الجديد في فرنسا، وكيف تمّ التعامل بقسوة مع المحتجّين وتجاهُل مطالبهم من قبل السلطة وتم إقرار القانون، وكذلك مظاهرات وولستريت في أمريكا عام 2011 ضد الرأسمالية، وكيف تعاملت الشرطة بعنف لفض اعتصامهم بالقوة. فهؤلاء وإن كانوا أقليّة في الشارع، إلا أنهم يمثلون مصالح الأغلبية من الجماهير، ومع ذلك سلبت منهم الديمقراطية هذا الحق ومنحته للنخب غير الممثِلة للشعب تمثيلاً حقيقياً.
ويمكن اختصار الديمقراطية الغربية في مقولة جان جاك روسو: “يظنّ الشعب الإنجليزي نفسه حراً، ولكنه مخطئ في ذلك خطأً فادحاً… إنه حرٌ فقط عند انتخاب أعضاء البرلمان، وبعد ذلك تهيمن عليه العبودية من جديد”.
وكما استطاعت الطبقة البرجوازية الرأسمالية في أوروبا استغلال الديمقراطية لتحقيق مصالحها عن طريق الوصول للسلطة باسم شرعية الشعب، فإنّ أنظمة الحكم في الوطن العربي و”العالم الثالث” قد استغلت ذات الديمقراطية لمزيد من الاستبداد والتسلّط باسم الجماهير، حتى في أزهى عصور الديمقراطية الملكية في مصر، كما يحلو لبعض عبيد الملكية والاحتلال تسميتها – بعد إقرار دستور 1923 الذي نصّ على إقامة حياة نيابية في مصر يشارك فيها الشعب حكم البلاد من خلال مجلس نيابي يختار الشعب أعضاءه، ويقوم الحزب الذي يحظى بأغلبية الأعضاء بتشكيل الحكومة، إذ لم تعطِ تلك الديمقراطية فرصة لفرض الإرادة الشعبية والجماهيرية فقد استطاع حزب الوفد بزعامة سعد زغلول الفوز بالانتخابات وتشكيل الحكومة عام 1924 فكان أول مصري من أصول ريفية يتولى منصب رئيس الوزراء، وسميت وزارته بوزارة الشعب (رغم معارضة قطاع كبير من الحركة الوطنية لهذه المشاركة، واعتراها إضفاء شرعية وتلميع الاحتلال الإنجليزي، وتخلٍّ عن العمل الثوري المقاوم)، ولكنّه قدّم استقالته بعد الصدام مع، والضغوطات المستمرة من، الحكومة البريطانية. كما أن دستور 1923 قد أعطى حق إقامة حياة نيابية إلا أنه أعطى أيضاً الملك الحق في حل البرلمان وإقالة الوزارة، وهو الأمر الذي يؤكد زيْف الديمقراطية عبر صناديق الانتخاب.
هذا النوع من الديمقراطية على المقياس الغربي التي يحاول الغرب تصديرها على أنها النموذج المثالي للحكم، جاءت في الحقيقة تحقيقاً لمصالح نخب وحكومات لا تعبّر عن الشعب ولا تثق في آرائه ولا يمكنها تمثيل مكونات التركيبة الاجتماعية للشعب في تلك البرلمانات، وحتى بعد قيام الهبات الجماهيرية في تونس ثم مصر التي أسقطت شرعية الحاكم لصالح الشعب، فقد جاءت الانتخابات التي أعقبت تلك الهبّات غير معبّرة عن الشعب الذي كانت أولى مطالبه هي تحقيق العدالة الاجتماعية، فالانتخابات تقوم أساساً على فكرة الدعاية الانتخابية وشراء الأصوات، أي أن الفقراء لا يمكن تمثيلهم، والفئات التي تستطيع ممارسة الحياة السياسية هي إما حركات الإسلام السياسي الأكثر تنظيماً والتي تستخدم أسلوباً دعائياً تدغدغ به مشاعر الجماهير، أو رجال الأعمال الذين لديهم القدرة على الإنفاق ببذخ على الدعاية الانتخابية وشراء الأصوات، ولا يجد الشعب من يمثله من الحركات اليسارية والقومية التي تعبر فعلياً عن مصالح وأحلام الجماهير، وبالتالي يجب أن تدّخر تلك القوى جهدها في الدفاع عن الشعب عن طريق الالتحام بالجماهير في الشارع وليس تحت قبة البرلمان.
تزييف الإرادة الشعبية – المجالس النيابية مثالاً
بشار شخاترة
الانتخابات البرلمانية وسيلة من وسائل قياس الرأي في العصر الحديث، وفرصة لضخّ دماء جديدة في شرايين السياسة للدول، إضافة إلى أنها الوسيلة المفضّلة في الفكر الرأسمالي الغربي لتجديد شرعية منظومة الحكم وهي لا تقتصر على الموالاة، بل تشمل أيضاً المعارضة والتي هي جزء من المنظومة الحاكمة في هذا المجال. ويضيف الفكر الليبرالي إلى هذا وذاك قيم هامة كالمحاسبة والرقابة على الأداء الحكومي، والأهم من كل ذلك تسوية الصراعات السياسية بصورة سلمية، وفي سبيل هذه الأهداف للعملية الديمقراطية يتوسل الفكر الليبرالي وسائل ومعايير لضبطها مثل حق التصويت العام لكل من له حق في التصويت، وإجراء الانتخابات بشكل دوري ومنتظم، وإتاحة الفرصة للجميع بتشكيل الأحزاب السياسية، إضافة إلى الترشّح للمناصب السياسية والتشريعية، وتوفير الفرصة لحرية الحملات الانتخابية وإدارتها، وتمكين الناخبين من الإدلاء بأصواتهم في جوٍ من الحرية والسرّية، وفرز الأصوات وإعلان النتائج بشفافية، وتمكين الفائزين من مناصبهم السياسية حتى وقت الانتخابات التالية.
هذه المقدمة القصيرة لا بدّ منها لإتاحة الفرصة لنقد فكرة الديمقراطية نقداً بنّاءً من زاوية الانتخابات البرلمانية، وإن كانت الانتخابات جزئية في موضوع الديمقراطية إلا أنها تبقى الجزء الأهم حتى أصبحت، أحياناً كثيرة، إحداهما تعبر عن الأخرى في الكتابات السياسية.
الاستهلال في هذا العنوان الشائك سيبدأ مع النقلة التاريخية لمصطلح الانتخابات والذي غدا فجأة كأنه مفتاح السعادة وكلمة السر التي رافقت انهيار المنظومة الاشتراكية مؤذنةً بانتهاء عهد “الستار الحديدي” ومبشرةً بعالم منفتح وحر، فأصابت العالم حمّى الانتخابات وقادت الولايات المتحدة الراية العالمية في التبشير بالنعيم الموعود، وشهدت فترة التحولات نحو “الديمقراطية” حالةً دمويةً بشعةً في إطار الصراع الإمبريالي – الإمبريالي على النفوذ في العالم، عدا عن أنه لم تكرّس حمى الانتخابات سوى هيمنة القوى المتحالفة مع القطب الأمريكي المتفرّد، ولا يحتاج الأمر للدلالة أكثر من جولة بسيطة في عالم ما بعد الشيوعية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
أرادت الولايات المتحدة ترتيب الأوضاع العالمية على مقاسها مستفيدةً من تفرّدها الكوني بشعوب العالم المتخلف، وفيما يشبه الحالة الديقراطية التي وصل اليها الغرب من خلال سيطرة البرجوازية على مقاليد السياسة وللأبد في عملية متدرّجة استطاعت من خلالها أن ترتّب البيت الغربي في العالم الرأسمالي بشكلٍ مكنها من أن تضمن لنفسها اليد الطولى في السلطة السياسية في تلك البلدان. بل انطلقت تلك البرجوازيات في حثّ الدول التي تأخرت في مضمار “الديمقراطية” بطبعتها البرجوازية الرأسمالية، كألمانيا، للحاق بها، وهذا النمط مارسته بريطانيا تحديداً في ألمانيا، والقياس في الحالة المعاصرة مع الفارق فيما تمارسه الولايات المتحدة من تبينها لحقوق الإنسان ونشر الديمقراطية ووسيلتها المفضلة دائماً الانتخابات، وذلك لإيجاد المداخل إلى دول العالم ولخلق قوى سياسية تابعة لها تحت عنوان ديمقراطي نجح بانتخابات “حرة ونزيهة”، وبهذا تتحقق الغاية التي وردت في مقدمة هذا المقال .
خاضت البرجوازية معارك عنيفة في مواجهة الإقطاع والكنيسة، وفي معركة تصفية تامة استطاعت هذه الطبقة الصاعدة أن تودي بالضربة القاضية بهيمنة الإقطاع والكنيسة مستخدمةً الشعوب الأوروبية في هذا الصراع، وليستقر الأمر بينها وبين بعض الملكيات التي طأطأت رأسها وانحنت للعاصفة، ليعود الصراع من جديد وفيما يشبه لعبة القط والفأر ليستعين بعض الملوك بالشعوب لكبح جماح رأس المال الصاعد إلى واجهة الأحداث.
ففي فرنسا، اخترع فقهاء القانون، “فقهاء البرجوازية”، نظرية سيادة الأمة وضمّنوا أول دستور فرنسي مواداً أتت انقلاباً على فكرة الديمقراطية المباشرة (الشعب هو مصدر السلطة) التي نادى بها فلاسفة الثورة الفرنسية وعلى رأسهم جان جاك روسو، فقد نصّت المادة الثانية منه على “أن الأمة التي تنبع منها كل السلطات لا يمكن أن تمارسها إلا بواسطة مفوضين. إنّ الدستور الفرنسي هو دستور نيابي، ونواب الأمة هم الهيئة التشريعية والملك”. فقد ميز الفقهاء الدستوريون البرجوازيون الأمة بشخصية قانونية مستقلة عن الأفراد الذين تتكون منهم، وأسندوا لها السيادة في حيلة انتزعت فكرة الديمقراطية المباشرة، التي ملأت عقول الناس بأنهم أصحاب السيادة وهم من يباشرها بأنفسهم، إلى شخصية قانونية مستقلة وهي الأمة تحتاج من ينوب عنها في ممارسة السيادة والسلطة عن طريق النواب والملك لتنشأ فكرة التمثيل النيابي. ليس بطولةً ولا غيرةً على الحرية والعدالة حملت البرجوازية مشعل التغيير، وإنما طمَعاً في تحقيق مصالحها التي نالت من نفوذ الملوك والإقطاعيين والكنسية لصالح الشعب من دون أن تسلّم الشعوب أية سلطة، لتنتزعتها باسم الشعب لتكريس هيمنتها التاريخية.
إنّ تطور الديمقراطية من خلال النظام الليبرالي لم يعد أمراً فطرياً، وهو لم يكن كذلك، فقد أصبح لهذا المنهج منظّروه ومفكّروه ومخططوه الذين تأقلموا مع ثورة المذاهب الاجتماعية، فأتقنت هذه المدرسة عملها بأن خلقت معارضتها بنفسها وقدمت تنازلات مهمة لمصلحة الشعوب، لكنها بقيت في رأس السلطة منذ قرنين أو أكثر، فأي تنازل تقدّمه هنا أو هناك تقابله مكاسب أعظم على المدى الأطول، فتحت عناوين التمثيل النيابي والمحاسبة وتجديد الدماء السياسية وتداول السلطة سلمياً بين شرائح الطبقة الحاكمة نفسها، استغلت البرجوازية شعوبها في حروب استعمارية ضد شعوب الأرض الأخرى وضدّ بعضها أيضاً، وبقيت مع ذلك تمسك بالسلطة.
لقد ابتكر دهاة الفكر الليبرالي قيوداً وعوائق جمّة في سبيل الحيلولة دون أن تمارس شعوبهم حقها في اختيار من يحكمها، وحتى مع نظرية سيادة الأمة والتمثيل النيابي لم تسلّم البرجوازية بالأمر بل كانت تشترط قسطاً من التعليم للترشح والانتخاب مثلاً، أو حدّاً معيناً من الملكية أو المال، أو بمقدار ما يدفع الشخص من ضرائب للدولة، وهذه الأمور لم تكن تتوفر في الأغلب الأعم إلا للبرجوازيين، وبالتالي استطاعت هذه الطبقة أن تصنع شروط هيمنتها في البداية إلى أن استتبت لها الأمور، فقدمت تنازلات بعد الضغط الشيوعي تحديداً في مواجهتها.
إذاً ليست المسألة بهذه الصورة الجميلة المتخيلة في أذهان الكثيرين عن الديمقراطية الغربية وتمثيلية الانتخابات والتمثيل النيابي، إنها وسيلة الطبقة البرجوازية لتوجيه العالم لصالحها!
وليس غريباً هذا اللهاث الغربي وإصراره على قيام مجالس تمثيلية في دول العالم الثالث، فإذا كانت شعوبهم قد ابتلعت الطعم وسهّلت سيطرتهم عليها واستخدموها لمصالحهم في حروب ومجازر ونهب لثروات العالم، فليس أفضل من استخدام هذه الوسيلة البرّاقة لفرض هيمنتها على شعوب الأرض. والسؤال هنا كيف يتم هذا؟ وما أثر الانتخابات والتمثيل النيابي في تنفيذ هذا المخطط؟ وهل يبقى مجال لمثقف هنا أو هناك ليطرح فكرة نشوء برجوازية عربية مثلاً لتقوم بالمهمة التي قامت بها البرجوازية الأوروبية؟ وهل الأمة العربية تحتاج لهذه الطبقة لأداء هذا الدور؟ وهل هي أساساً موجودة أو في طور الوجود؟
للجواب على التساؤلات السابقة لا بد من تشخيص سريع لحالة الأمة العربية ليمكن تحديد الموقف من مسألة الديمقراطية عموماً والانتخابات النيابية خصوصاً كون أن هناك فرقاً شاسعاً بينهما في الواقع العربي؛ فمسألة الديمقراطية ربطها المنظرون الاشتراكيون، قبل الماركسية ومعها وبعدها، بالاشتراكية، بعدما اكتشف الشعب بالتجربة أن الديموقراطية الليبرالية تعني حكم أصحاب الثروة، وسار منظّرو الفكر القومي العربي بالاتجاه نفسه طبعاً، فربطوا الديموقراطية بقضية لقمة العيش، وبتحقيق العدالة الاجتماعية، ولذلك يربط المفكرون القوميون الديمقراطيةَ بالاشتراكية، من ناصريين وبعثيين وقوميين يساريين، فالأولى (الديموقراطية) برأي الأستاذ عبدالله الريماوي مثلاً تحقق المساواة بالحرية، والثانية (الاشتراكية) تحقق الكفاية بالعدل، فالديمقراطية تعني منع قهر الإنسان وتحريره من نير القهر.
ويظهر فرقٌ مهمٌ بين الانتخابات والديمقراطية، وهو أن الديمقراطية المنشودة في الواقع العربي غير متحققة الشروط، في حين أن الانتخابات تجري في الوطن العربي من دون مراعاة لمعاييرها القومية، ويضاف أيضاً أنه لتحقيق الديمقراطية لا بد من بناء حالة وحدوية، فإقامة المجتمع الديمقراطي في ظل التجزئة تصبح ضرباً من ضروب تمكين التجزئة بالتجذر في الواقع العربي لتنتقل المسألة إلى ديمقراطية الطوائف أو الأحزاب القطرية أو ديمقراطية فردية لا حالة اجتماعية قومية جامعة، فمجرد قيام التجزئة فإنه يعدّ عدواناً على الإنسان وحريته وحقه في تكوين دولته القومية، والذي تسقط معه مقولة الديمقراطية الفارغة في إطار إقليمي وتسقط معها مظاهرها الأخرى، وعلى رأسها الانتخابات.
وحيث أنه لا وجود أساساً لبرجوازية عربية وإنما كمبرادور متحالف مع السلطات الحاكمة غايته إبقاء وضعه متجذراً مستفيداً من احتكار علاقته بالمراكز الرأسمالية، وبذات الوقت لا مصلحة له في خلق فضاء اقتصادي أوسع من أقطارها التي تحتكر تمثيل الرأسمالية فيها خوفاً من تقاطعها مع ممثلي المركز الرأسمالي في باقي الأقطار، فهذه الحالة لا ترغب ولا تقوى أساساً على إحداث التغيير المطلوب في مجال الديمقراطية.
من حقنا كعرب أن نضع معاييرنا كما تضع الليبرالية معاييرها للانتخابات والديمقراطية، ومن حقّنا أن نضع معياراً للناخب أيضاً ليس من باب تفصيل السلطة السياسية على مقاس محدد اللهم سوى المقاس القومي، وعطفاً على ما سبق من ربط الاشتراكية (لقمة العيش) بصندوق الاقتراع وأن يكون في جو وحدوي، لا بد من قراءة نوعية الناخب العربي، فهذا الإنسان المثقل بالفقر أو بالطائفية والباحث عن بصيص أمل ليخرج من مأساته الفردية لا يمكن أن ينتج إلا حالة تمثيلية فردانية التفكير، استهلاكية التوجّه إنْ لم تكن ليبرالية تابعة بالضرورة للإمبريالية العالمية، وهذا نتاج منطقي بالتحليل العلمي وبالتجربة العملية في أكثر من قطرعربي.
الديمقراطية في الواقع العربي الراهن لا تتجاوز عملية الانتخابات، وهي عملية استوعبت قوى الأمة الكامنة بشكل سلبي ووجهتها نحو تناقضات ثانوية لا بل مزّقت المشهد القطري العربي الممزق أساساً إلى طوائف ومذاهب وقبائل، لتغدو الحالة البرلمانية العربية حالة على هامش الأنظمة السياسية المتكسبّة، وهناك أقطار عربية لا تعرف الصيغة البرلمانية وهذا مدلوله أنّ الحالة السياسية ومستوى الوعي السياسي بالمجمل إذا كانت متراجعة أو أن الواقع الموضوعي في قطر ما يعيش حالة إعالة ورعوية وأبوية من الشيخ الأب فإنه لا يلزم أن تتشكل فيها حالة نيابية أو انتخابات من الأصل، بعض أقطار الخليج العربي مثالاً، ولكن تزايد الوعي يفرض على القوى المهيمنة في تلك الأقطار أن تضع شيئاً ديكورياً لمواجهة هذه الحالة، وهذا ناتج عن نصائح غربية عادة.
إذاً هل نشارك أم نقاطع تلك التمثيليات الانتخابية؟ وهل تُترك الساحة خالية من كل مخلص لأمته؟
الجواب إن العملية الانتخابية العربية عموماً مفصّلة على مقاس الأنظمة فابتداءً بقانون الانتخاب الذي يفصل بحدود لا تسمح بوصول أية قوى معارضة حقيقية، وإن وصلت تكون محدودة لا تشكّل أية أغلبية أو فاعلية، لا بل أحياناً يصبح مطلوباً ولوجها البرلمانات لغايات إعطاء مصداقية للعملية الانتخابية وللبرلمان، ناهيك عن أنّ الناخب العربي محاصر بالجهل أحياناً وبالتخلف أحياناً أو بوباء الاستهلاك أحياناً أخرى وبالخوف دائماً من أجهزة الدولة، فإذا كانت الانتخابات تقوم أساساً على التمثيل والاقتراع فإن التمثيل مبتور ومفصل على مقاس السلطة الحاكمة والاقتراع، تترتب شروطه وإجراءاته بشكل تبقى عين السلطة عليها تتدخل حين تشاء، فماذا يبقى من العملية برمتها؟!
حقيقة لا تبقى إلا الخديعة المسماة انتخابات، وإنه ليس تركاً لواجب أو نكوصاً على عقبين نعتزل الانتخابات في ربوع وطننا العربي، ولكن كفراً بواقع لا قومي يترسّخ بتلك الانتخابات أو ما ينشأ عنها من برلمانات، فالأولوية للنضال القومي الذي ينشد حرية الإنسان العربي وتحقيق المساواة له ورفع الظلم والقهر عنه، بمعنى إعادة توجيه الطاقة القومية باتجاه مختلف عما تريده الأنظمة المتسلطة على الواقع العربي.
مراجع المقال :
- البيان القومي الثوري – القضية العربية المعاصرة – الأستاذ عبدالله الريماوي.
- الاشتراكية – الديمقراطية العربية – الأستاذ عبدالله الريماوي ,
- النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية – الدكتور عصمت سيف الدولة .
- الاستبداد الديمقراطي – الدكتور عصمت سيف الدولة .
- أهمية الانتخابات في النظام النيابي – مقال – حسن الشامي .
- مفهوم الانتخابات الديمقراطية – مشروع دراسات الديمقراطية في الوطن العربي –اللقاء السنوي السابع عشر.
هل يدخل الجذريون المجالس النيابية؟
إبراهيم علوش
مرجعية النقاش حول البرلمان نظرياً
المجلس النيابي، أو البرلمان، كأحد معالم الدولة الحديثة، ليس مؤشراً بالضرورة على وجود ديموقراطية في البلاد، إذ أنه نادراً ما يكون المكان الذي تؤخذ فيه القرارات الحقيقية المتعلقة بإدارة الدول، حتى الأكثر تقدماً منها. وكما قالها لينين في الفصل الثالث من كتابه “الدولة والثورة”: “خذوا أي بلد برلماني، من أمريكا إلى سويسرا، ومن فرنسا إلى بريطانيا، النرويج وإلى ما هنالك – في تلك البلدان تُقرر الشؤون الحقيقية لـ”الدولة” من خلف الكواليس وتشرف عليها الأقسام، والولاة والموظفون العموميون. فالبرلمان مهمته الثرثرة من أجل غرض خاص هو مخادعة “عامة الشعب”… ولنلاحظ أن الحديث هنا يتناول أكثر الرأسماليات الغربية تبلوراً من الناحية السياسية، لا دول الحكم المطلق أو دول العالم الثالث أو حتى الدول الخاضعة لاحتلال! وفي الفصل الخامس من “الدولة والثورة” يكتب لينين: “الحرية في المجتمع الرأسمالي تظل دائماً تقريباً كما كانت في الجمهوريات الإغريقية القديمة: حرية مالكي العبيد”، ليتابع في فقرة لاحقة: “الديموقراطية لأقلية صغيرة، لكبار الأغنياء، تلك هي ديموقراطية المجتمع الرأسمالي”.
أما انتهاج “الطريق البرلماني” لتغيير النظام أو إصلاحه من الداخل فقد كان دوماً موضع نقد مرير من لينين والبلاشفة عامة إزاء المناشفة والاشتراكيين الثوريين الذين كانوا يراهنون على إمكانية تغيير النظام الرأسمالي من داخل مؤسساته، كما جاء أيضاً في الفصل الأول من كتاب “الدولة والثورة”: “إن مناشفتنا واشتراكيينا الثوريين أنفسهم يتقاسمون، ويغرسون في أذهان الناس، الفكرة الخاطئة بأن الاقتراع العام “في الدولة الحالية” يمكن أن يكون قادراً على إظهار إرادة أغلبية الشعب العامل وتأمين تحقيقها”. وكان موقف لينين من “الطريق البرلماني” بنفس ضراوة موقفه من النضال الاقتصادوي، النقابي الصرف، إذا أصبح بديلاً عن العمل لاستلام السلطة وتغيير طبيعة الدولة الرأسمالية، وكان إصرار لينين والبلاشفة دوماً، وماركس وإنجلز من قبلهم، على أن استلام السلطة لا يتم عن طريق البرلمان، بل من خارجه، عن طريق الحراك الجماهيري بأشكاله المختلفة وصولاً للانتفاضة المسلحة، والأهم، أن استلام السلطة لا يعني السيطرة على جهاز الدولة الحالي، بأفرعه التنفيذية وغيرها، وإبقاءه كما هو، بل يعني تفكيكه وإقامة جهاز بديل بمواصفات مختلفة تماماً.
مرجعية الديموقراطية المباشرة: كومونة باريس
لكن ما سبق لا يعني على الإطلاق إلغاء المؤسسات التمثيلية أو حق الاقتراع، كما جاء في الفصل الثالث من كتاب “الدولة والثورة”: “إنّ المخرج من “الطريق البرلماني” ليس بالطبع إلغاء المؤسسات التمثيلية والمبدأ الانتخابي، بل تحويل المؤسسات التمثيلية من دكاكين كلام إلى مجموعات عمل”، والمرجعية هنا هي نموذج كومونة باريس في ربيع العام 1871، وهو النموذج الذي شكّل إبداعاً شعبياً جاء تتويجاً للثورات الشعبية الأوروبية في أواسط القرن التاسع عشر، والذي تبنّاه ماركس وإنجلز، وتبلور فيما بعد في روسيا القيصرية بصيغة المجالس أو السوفيتات، بمبادرة شعبية أيضاً، بشكل جنيني في العام 1905، ثم على نطاق أوسع بكثير في العام 1917، وهذه الصيغة القائمة على اعتبار البرلمان والمؤسسات التمثيلية المنبثقة عن الدولة الرأسمالية الحديثة مجرد تمثيلية، بالمناسبة، هي نفسها التي حاول العقيد معمر القذافي تعريبها تحت عنوان الجماهيريات والمؤتمرات الشعبية (لا ديموقراطية من دون مؤتمرات شعبية).
فكرة الكومونة إذن كانت تأسيس “هيئة عاملة، غير برلمانية، تشريعية وتنفيذية في آنٍ معاً” (كما سيأتي). هذا الإبداع الشعبي، بمعنى أنه جاء بمبادرة شعبية، وليس نتيجة قرار أو إملاء من فوق، في باريس في ربيع العام 1871، هو الذي أسهب كارل ماركس في وصفه في كتابه “الحرب الأهلية في فرنسا”، وكما جاء في خطابه المعنون “كومونة باريس” المنشور في ذلك الكتاب: “تشكّلت الكومونة من مندوبين محليين تمّ اختيارهم بالاقتراع العام في الأحياء المختلفة للبلدة، وكانوا مسؤولين وقابلين للعزل في مدد قصيرة. كان أغلبية أعضائها عمالاً أو ممثلين معترف بهم للطبقة العاملة. لقد كانت الكومونة هيئة عاملة، غير برلمانية، تشريعية وتنفيذية في آنٍ معاً”.
يتابع ماركس: “تم نزع السمات السياسية عن جهاز الشرطة، بدلاً من أن يستمر بكونه أداةً لدى الحكومة المركزية، وتم تحويله إلى أداة بيد الكومونة، قابل للعزل في أي وقت. وكذلك كان كل المسؤولين من الفروع الأخرى لإدارة الكومونة قابلين للعزل، من قيادات الكومونة نزولاً. الخدمة العامة كان يجب أن تؤدى مقابل الأجور التي يتقاضاها العامل العادي. أما المصالح الراسخة ومخصصات التمثيل النيابي لأصحاب المقامات الرفيعة في الدولة فقد اختفت مع أصحاب تلك المقامات أنفسهم. الوظائف العامة كفّت عن أن تكون ملكية خاصة لأدوات الحكومة المركزية. وقد انتقلت كامل الصلاحيات التي تمارسها الدولة، لا الإدارة المحلية فحسب، إلى أيدي الكومونة”.
الفكرة إذن هي الطريق اللابرلماني للديموقراطية، من خلال التمثيل المباشر. ويعلق ماركس هنا في موضع آخر من كتاب “الحرب الأهلية في فرنسا”: “كانت المهمة هي بتر أجهزة الاضطهاد البحتة التابعة للسلطة الحكومية القديمة، وانتزاع الوظائف المشروعة من سلطة تطمع أن تكون فوق المجتمع وتسليمها إلى خدام المجتمع المسؤولين. وبدلاً من البت مرة كل ثلاث سنوات أو ست في مسألة أي عضو من الطبقة الحاكمة يجب أن يمثل و يقمع الشعب في البرلمان، صار على حق الانتخاب العام، بدلاً من ذلك، أن يخدم الشعب، المنظم في الكومونات، قصد البحث لمؤسسته عن عمال ومراقبين ومحاسبين، كما يخدم حق الانتخاب الفردي لهذا الغرض أياً كان من أرباب العمال…”.
لكن الكومونة سُحقت بقوة السلاح، وكذلك سُحقت سوفيتات العام 1905 في روسيا على يد القيصر، أما سوفيتات 1917 فاستلمت السلطة في روسيا القيصرية لتحول البلاد إلى “الاتحاد السوفياتي”، أي اتحاد المجالس حرفياً، لكن السلطة الوليدة واجهت حرباً أهلية ضارية، وتدخلاً عسكرياً من أربع عشرة دولة أجنبية، مما اقتضى بالضرورة تأسيس أجهزة دولة مركزية ذات أفرع أمنية وعسكرية وإدارية واسعة الصلاحيات والسطوة، فصارت هي الاتحاد السوفياتي بدلاً من المجالس الشعبية! وقبل الحرب الأهلية كانت السوفيتات ساحة صراع حزبي بين البلاشفة والمناشفة والاشتراكيين الثوريين وغيرهم، كما كانت السوفيتات في حالة صراع مع البرلمان الأكثر ديموقراطيةً المنتخب مباشرة في العام 1917، وكانت الثورة البلشفية، بأحد وجوهها، صراعاً سياسياً ما بين البرلمان والسوفيتات، انتقلت فيه السلطة إلى يد السوفيتات.
المهم هنا هو النموذج السياسي البديل للديموقراطية البرلمانية، وهو ديموقراطية الكومونة أو السوفيتات أو المجالس الشعبية، وهو نقيض عقائدي للفكرة البرلمانية، لا شك أن ثمة حاجة ماسة لدراسة الشروط التاريخية والسياسية لنجاحه وفشله. نذكر مجدداً أن فكرة الديموقراطية المباشرة غير التمثيلية جاءت بمبادرة شعبية رداً على الديموقراطية البرلمانية البرجوازية المزيفة، فهي بالتأكيد لا تفرض من فوق، وقبل نشوء الظروف التاريخية التي أنتجت الديموقراطية البرلمانية نفسها، لكنها نفسها الديموقراطية الشعبية التي صارت تزايد عليها الدول الرأسمالية الغربية بالديموقراطية الليبرالية بعد أن تقلص العنصر المجالسي فيها، الذي كان ثورةً على الديموقراطية الليبرالية أصلاً، وهو عنصر لمّا تتح له الظروف بعد أن ينضج ويستقر كنموذج تاريخي، من دون أن يقلل ذلك من أهميته كبديل ديموقراطي أكثر تمثيلاً ابتدعته تجربة الشعوب الحية قد يرتبط بالنزعة الاشتراكية، وتبناه ماركس ولينين بقوة، لكن يمكن نقاشه بمعزل عن أي ملاحظات أخرى، إيجابية أو سلبية، في فكر ماركس ولينين أو تجربة الحركة الشيوعية العالمية.
بجميع الأحوال يلخص لينين الفكرة بشكل جلي كما يلي: “تُحِل الكومونة محل البرلمانية المتعفنة والفاسدة للمجتمع البرجوازي مؤسسات لا تنحط فيها حرية التعبير والنقاش إلى خداع، لأن البرلمانيين أنفسهم (في الكومونة) عليهم أن يعملوا، وأن يطبقوا القوانين التي يشرعونها، وعليهم أن يختبروا بأنفسهم النتائج التي يتم تحقيقها في الواقع، وأن يحاسَبوا عليها مباشرةً من ناخبيهم. فالمؤسسات التمثيلية تبقى، لكن لا توجد برلمانية هنا كنظام خاص لتقسيم العمل بين ما هو تشريعي وما هو تنفيذي، كموقع ذي امتياز للمندوبين. إننا لا نستطيع تخيل الديموقراطية، حتى الديموقراطية البروليتارية، من دون مؤسسات تمثيلية، ولكننا نستطيع ويجب أن نتخيل الديموقراطية من دون برلمانية…” (الدولة والثورة، الفصل الثالث). إذن لا فصل في الديموقراطية المباشرة بين التشريعي والتنفيذي، وكل مندوب فيها قابل للعزل، وتمارس عليه أو عليها رقابة شعبية مباشرة، وهو يتقاضى مقابل عمله ما يتقاضاه مواطن عادي، وهذه الفكرة ليست من إبداع المفكرين الشيوعيين، بل هم الذين تبنوها، وكانوا من أول وأهم من نظّر لها.
العمل البرلماني سياسياً
الحقيقة أن تحديد الموقف من العمل البرلماني كان لا بد له أن يبدأ مما وضعه ماركس وانجلز ولينين وأدبيات الشيوعيين الأوائل حتى لو افترضنا أن المرء ينطلق من مرجعيات غير شيوعية، لأن ما هو بين أيدينا هنا هو إرث سياسي إنساني لحركة شديدة الثورية آنذاك، كانت تنطلق من رفض النظام السياسي السائد مبدئياً، وتدعو للإطاحة به، لكنها وضعت في الآن عينه مسائل العمل السياسي اليومي والاستراتيجي على بساط البحث. فما هو بين أيدينا هنا إذن هو درس في الاستراتيجية السياسية للثوريين في التعامل مع البرلمانات والعمل البرلماني، أي أنه درس للجذريين عامةً الذين يواجهون ظروفاً مماثلة في عملهم السياسي في أماكن وأزمنة أخرى. ولذلك تجدر الملاحظة، مقابل كل ما جاء أعلاه من رفض مبدئي للفكرة البرلمانية، كمبدأ وكطريق للاشتراكية، أننا نجد منذ ماركس وأنجلز موقفاً يدعو حيث أمكن للمشاركة في البرلمانات البرجوازية، نكرر، للمشاركة، ولكن ضمن شروط صارمة، هي الضمانة لعدم انزلاق الثوريين نحو البرلمانية أو امتصاصهم من خلالها، ومثل تلك الشروط الصارمة هي التي يتجاهلها بعض الثوريين الذين ينزلقون باتجاه البرلمانية، حتى عندما يكون الانخراط فيها صحيحٌ سياسياً أحياناً في بعض ظروف الزمان والمكان.
على سبيل المثال، دعا البلاشفة لمقاطعة الدوما (البرلمان الروسي) في العام 1905، الذي حاول القيصر إقامته لامتصاص الحركة الثورية المتصاعدة، واعتبروا ذلك فيما بعد موقفاً صائباً، وقد نجحت حملة المقاطعة تلك وتم إجهاض المشروع القيصري. ودعوا لمقاطعة الدوما مرة ثانية في العام 1906، وفشلت حملة المقاطعة تلك، أي لم يتجاوب الجمهور معها، واعتبروها فيما بعد حملة مقاطعة خاطئة ضمن ذلك الظرف السياسي، أي أنهم انتقدوا أنفسهم ذاتياً على مقاطعتها.
وفي العام 1907 حلّ القيصر برلمان العام 1906 ليخرِج برلماناً أكثر مطواعية ودعا لانتخابات أخرى في العام 1907 رغب بلاشفة كثيرون بمقاطعتها، لكن سادت وجهة نظر تيار لينين أخيراً بالمشاركة فيها، بالرغم من قوانينها الانتخابية المجحفة، وكذلك شارك البلاشفة في برلمان 1912، ومن ثم في برلمان 1917 الذي انتخب بعد الإطاحة بالقيصر والذي حصل فيه البلاشفة على أكثر من عشرة ملايين صوت، ليشكلوا فيه الكتلة الانتخابية الثانية بعد الاشتراكيين الثوريين الذين حصلوا على أكثر من 17 مليون صوت، أساساً من الريف، ورغم ذلك انقلبوا عليه، وهو درس مهم بحد ذاته حول طريقة التعامل مع البرلمانية، ولكن فقط بعد أن حصل البلاشفة على ثلاثة أرباع مقاعد السوفيتات في بطرسبرغ وموسكو وغيرها.
وقد وضع أنجلز في مقدمته لكتاب ماركس “الحروب الطبقية في فرنسا” في العام 1895 عدة فقرات تؤكد على أهمية المشاركة الحزبية المنظمة في الانتخابات البرلمانية بغرض: 1) قياس القوة العددية للحزب مقابل خصومه وأعدائه، وأن هذا المقياس مهم لكي لا يقدم الحزب على خطوة هجومية رعناء وقواعده أصغر مما يجب، أو خطوة جبانة خرقاء وقواعده أكبر مما يعرف، 2) إتاحة الفرصة للحزب لكي يصل بدعايته إلى قواعد جماهيرية كانت تبعد عنه في السابق، وأن يتحدى أمامها برامج ومواقف الأحزاب الأخرى علناً، 3) استخدام المنبر البرلماني من قبل نواب الحزب لطرح برامجه ومواقفه. ولكن الحافز الرئيسي للمشاركة البرلمانية هنا كان قانون حظر الاشتراكية في ألمانيا، مما يتيح للحزب المحظور ممارسة النشاط المشروع، عن طريق الحملات الانتخابية، للتواصل مع الجماهير وتحريضها على أساس برنامج الحزب، ومنها مناهضة البرلمانية نفسها.
وفي كتاب لينين “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية” ثمة قسم يحمل عنوان: هل يجب أن نشارك في البرلمانات البرجوازية؟ ليجيب، رداً على من يدعون لمقاطعتها بالمطلق دوماً، أنه بمقدار ما توجد قطاعات مخدوعة بـ”الطريق البرلماني” في صفوف الشعب، بمقدار ما يجب أن تزداد المشاركة في البرلمان لكشفه وإقناع الجماهير بعقمه وعدم جدواه، بخاصةً في ظروف العمل السري حين لا يكون التواصل العلني للحزب مع الجماهير أمراً سهلاً، ويصبح من الضروري إيجاد منافذ مشروعة للعمل السياسي. يقول لينين في هذا السياق: “لقد تم الإثبات أن المشاركة في البرلمان الديموقراطي البرجوازي، بعيداً عن التسبب بالضرر للبروليتاريا الثورية، إلى ما قبل أسابيع من انتصار الجمهورية السوفياتية، وحتى بعد ذلك النصر، يساعد البروليتاريا في الواقع في أن تثبت للأقسام الأكثر تخلفاً من الجماهير لماذا تستحق مثل تلك البرلمانات أن تتم الإطاحة بها”.
نستنتج إذن أن مشاركة الثوريين في البرلمانات، والحديث لا يزال عن الدول الرأسمالية المتقدمة، أو الدول التي تمر بمرحلة تحول ديموقراطي حقيقي، كروسيا القيصرية في أول عقدين من القرن العشرين، محكومة بحساب سياسي أولاً، وبحساب حزبي ثانياً. أما الحساب السياسي فهو إذا ما كانت تلك المشاركة عاملاً مساعداً أم معيقاً للحراك الثوري خارج البرلمان، فالعامل الرئيسي هنا هو الحركة الشعبية والحراك، والعامل الثانوي المساعد هو تواجد الجذريين في البرلمان من عدمه.
أما الحساب الحزبي لدخول البرلمان فهو مدى قدرة الحزب على طرح برنامجه ومواقفه المبدئية في الحملات الانتخابية أو في البرلمان نفسه، وليس مدى قدرة الحزب على الحصول على مكاسب ومواقع ومخصصات من البرلمان مقابل الدخول في مهادنات لا مبدئية مع الطبقة الحاكمة أو تطويع خطابه لينال حظوتها.
مثلاً، كان برنامج البلاشفة في انتخابات الدوما في العام 1912 يتلخص بثلاثة شعارات: 1) أن تصبح روسيا جمهورية (بدلاً من أن تكون قيصرية)، 2) مصادرة أراضي الإقطاعيين، 3) يوم عمل من ثماني ساعات… بالمقابل، كان برنامج المناشفة هو: 1) سيادة البرلمان على نفسه (إزاء السلطة التنفيذية)، 2) مراجعة المسألة الزراعية… والفرق بالسقف والرسالة واضح تماماً. ولننتبه أن نواب الدوما البلاشفة الستة في برلمان 1912 استخدموا الحصانة النيابية لزيارة المصانع والتواصل مع العمال، ولتأسيس جريدة برافدا اليومية من أربع صفحات فقط، ولتنظيم الإضرابات وصناديق دعم المضربين، وتأمين أغطية قانونية للعمل السري منها الجوازات المزيفة وغيرها، إلخ… أي للعمل خارج البرلمان. وكانت لديهم تعليمات من الحزب ألّا يتعاطوا بتاتاً بالتشريعات وإقرارها إلا إذا كانت تؤثر على العمال. والأهم أن الكتلة الحزبية في الدوما كانت تخضع لانضباط شديد، وكانت خاضعة رسمياً للجنة المركزية للحزب، ولا تجتهد في مواقفها من عندها، وكان لينين بنفسه يكتب بعض الخطابات التي يلقيها مندوبو الحزب في الدوما، التي كان يريدها أن تصل إلى تلافيف السلطة أو الأحزاب الأخرى. وفي العام 1914 عندما بدأت الحرب العالمية الأولى تمّ توجيه الأوامر لمندوبي الحزب بمعارضتها علناً بالدوما، فتمّ اعتقالهم والحكم عليهم بالأشغال الشاقة في سيبيريا، فانطلقت التظاهرات للمطالبة بإطلاق سراحهم، فاستغلها البلاشفة لشرح موقفهم من الحرب للجماهير، وردّ النظام بحملة شرسة ضد البلاشفة أدّت إلى تراجع عملهم العلني حتى العام 1917.
هنا يبرز فرقٌ جوهريٌ بين مندوبي البلاشفة في الدوما ومندوبي غيرهم من الأحزاب الاشتراكية في البرلمانات الأوروبية. فقد كان مندوبو البلاشفة ملك الحزب ملكاً حصرياً كامل الصلاحية، وكان المندوبون الآخرون يجتهدون على هواهم فتمّ إفساد واستقطاب الكثير منهم، وانتهوا للتصويت مع الحرب، أو لتبرير سياسات النظام، أو لتبني “الطريق البرلماني” في التغيير. والعقدة المركزية هنا وجود حزب منظم متماسك جذري من عدم وجوده. ولنلاحظ أن قرارات المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية الثالثة في العام 1920 على صعيد العمل البرلماني أكدت على تبعية الكتلة البرلمانية بالكامل للحزب، وحقه باختيار مرشحيها، وتعيين رئيسها، وإقرار طريقة تصويتها وخطاباتها بشكل مسبق، وأن يتم توقيع إقرار خطي من قبل كل من مرشحي الحزب بالاستعداد للاستقالة من البرلمان إذا طلب منه الحزب ذلك، تحسباً للحالة التي يقرر فيها الحزب الانسحاب من البرلمان ككتلة. كذلك تم التركيز على أهمية عدم اختيار المرشحين من بين الشخصيات البارزة التي تكون عادة ذات أجندات خاصة وانتهازية، وأن تكون الأولوية لمدى التزام المرشح بالخط الحزبي، ومدى قدرته على ممارسة العمل الجماهيري… فالمندبون بتصرف الحزب ومشروعه السياسي، وليس الحزب وقواعده مطية لبعض الانتهازيين للوصول لمواقع وامتيازات.
العمل البرلماني في العالم الثالث والوطن العربي
الحقيقة أن وجود خط ثوري وضوابط مبدئية وكتلة متماسكة، وآليات محاسبة حقيقية، والإجهاز على الأجندات الشخصية والانتهازية، يجعل من أعضاء الحركة الثورية جنوداً لا ضير من، لا بل من المحبذ، أن يتسللوا إلى أعتى قلاع العدو، وليس فقط للبرلمانات الرجعية أو النقابات الصفراء التي أقر لينين العمل فيها أيضاً. لكن ما لا شك فيه هو أن جواب لينين سيتغير بالضرورة في غياب مثل ذلك الخط الثوري والضوابط المبدئية والكتلة المتماسكة وآليات المحاسبة، إذا فقد الحزب روحه الكفاحية، أو انحرف خطه السياسي، أو تماسكه التنظيمي، أو كل ما سبق، وهو ما ينساه كثيرون ممن يستخدمون انتقائياً الجزء الذي يخدم انتهازيتهم فحسب من نظرية الانخراط في الأطر الصفراء.
النقطة الأخرى أن لينين، وماركس وأنجلز من قبله، تناولوا مسألة العمل البرلماني في دول قائمة تاريخياً مرت، أو في طور المرور، بالتصنيع والثورة الديموقراطية البرجوازية، جاءت فيها الإنجازات الديموقراطية نتيجة عوامل موضوعية من جهة ونضالات جماهيرية ونخبوية من جهة أخرى. بالتالي فإن البرلمانات في مثل تلك الحالات، على كل ما فيها من علل وما عليها من مآخذ، كانت ذات جانب تقدمي، كما جاء في مقدمة قرار المؤتمر الثاني للأممية الثالثة في العام 1920 حول المسألة البرلمانية. أما الحالات التي تتحول فيها البرلمانات إلى حصنٍ رجعيٍ تماماً، فإن قرار الدخول للبرلمانات يصبح بحاجة لتدقيق أكبر، من دون أن يمنع ذلك بروز بعض الحالات التي تمثل استثناءً لا قاعدة، جورج غالاوي في بريطانيا نموذجاً.
لكن ماذا عن الدول الواقعة تحت الاحتلال؟؟ وماذا عن دول العالم الثالث التي تحكمها أنظمة كمبروادورية هي في الوقت نفسه أنظمة قمعية مستبدة؟؟ وماذا عن الدول الكمبرادورية التي تترك حيزاً من حرية التهليس؟؟ وماذا عن المشاركة في البرلمانات في الدول ذات مشاريع التنمية المستقلة، أو المناهضة للإمبريالية، التي يكون فيها البرلمان مجرد ديكور أيضاً؟؟
الحقيقة أن البرلمان، بالتعريف وكما جاء في المقدمة، هو بالأعم الأغلب مجرد ديكور، سوى أنه يصبح في الدول المتقدمة سوقاً تتفاوض فيها الشرائح المختلفة من الطبقة الحاكمة على الصفقات السياسية، ولذلك فإنه يصبح هناك ديكوراً أكثر إقناعاً وأكثر انسجاماً مع المشهد السياسي العام، ولا شك أن بعضاً من مصداقيته كديكور تتطلب إفساح حيز صغير جداً لبعض الأصوات المناهضة للمؤسسة، لو لم توجد، لاخترعتها المؤسسة اختراعاً.
لكن خطر الديكور يصبح مميتاً حين يكون قناعاً لاحتلال، أو لسلطة محلية تابعة لاحتلال. فثمة فرق ما بين دولٍ قائمة لأمم تاريخية، قد نرغب بتغيير نظامها السياسي، ولكننا لا ننكر حقها كدولة بالوجود، وما بين دول تمثل احتلالاً. ومن هنا تبنت لائحة القومي العربي تاريخياً مبدأ “لا مشروعية لانتخابات أو لعملية سياسية في ظل احتلال” لأن مثل تلك الانتخابات تصبح ديكوراً لاحتلال، أي أنها تهدف لإضفاء المشروعية على النظام السياسي (كالعادة) الذي يمثل احتلالاً (وهو أمر غير عادي). ولذلك فإن موقفنا من انتخابات الكنيست الصهيوني مثلاً هو المقاطعة، فالمشاركة في الكنيست جريمة سياسية، وتمثل تخلياً عن عروبة الأرض مقابل هدف سخيف هو الحصول على مكاسب هامشية أو حقوق “أقلية قومية” للعرب على أرضهم المحتلة. وهذا هو معنى السعي “لإزالة العنصرية من داخل مؤسسات الاحتلال”: تنفيس النضال الشعبي وتشتيته من خلال توجيهه عبر مسارب آمنة للاحتلال نفسه، فـ”النضال البرلماني” هنا، تحت أية ذريعة، عبارة عن جريمة وطنية وقومية، لا مجرد اجتهاد يحتمل الخطأ ويحتمل الصواب.
كذلك كان موقفنا في لائحة القومي العربي ولا يزال أن الانتخابات التي أجراها الاحتلال الأمريكي في العراق، أو الانتخابات الرئاسية والنيابية للسلطة الفلسطينية القائمة على أرضية أوسلو، هي انتخابات غير مشروعة جملةً وتفصيلاً. ومن البديهي أن هذا الموقف لا ينسحب على الانتخابات البلدية والمحلية التي يجب أن تُقاس بحساب سياسي راهن وما إذا كان من الأفضل مقاطعتها أو المشاركة فيها.
الديكور البرلماني لأنظمة كمبرادورية قمعية لا تترك أي حيز للمخالفة لا جدوى من المشاركة فيه، لأن شرط المشاركة فيه هو التحول إلى ختم أخرس بيد الحاكم بأمره تماماً. فلا بد من توفر حيز ما، للتأثير بأي شكل حقيقي، مهما كان صغيراً. أما إذا كان الغرض هو دعم نظام وطني أو قومي يتعرض لأزمة أو هجمة من الخارج، فلا ضير من المشاركة البرلمانية، حتى لو لم يتوفر مثل ذلك الحيز، مع أهمية طرح مطالب إصلاحية في مثل تلك الحالة، لأن البرنامج يصبح إصلاح النظام لا تغييره، ما دمنا في حالة تقاطع مبدئية معه، وهو برأينا ما ينطبق على الدولة السورية في هذه المرحلة التاريخية مثلاً.
لكن لنأخذ حالات يترك فيها النظام الكمبرادوري غير الديموقراطي أساساً حيزاً ما، كما في المملكة المغربية، أو مثل الأردن، فإن المشاركة البرلمانية هنا تصبح ذات طابع انتهازي تماماً إذا لم تكن مشروطة بالقيود البلشفية المذكورة أعلاه، ويكون مآلها تقديم قناع ديموقراطي لنظام رجعي تابع وسلطوي. لكن حتى هذه يفترض أن تخضع للحسبة السياسية، فالمشاركة في انتخابات عامة 1956 في الأردن، على خلفية حراك قومي يساري ووطني متصاعد فرض نفسه، يختلف تماماً عن المشاركة في برلمانات الصوت الواحد الهادفة لإنتاج نواب خدمات تابعين للسلطة المركزية بكل ما للكلمة من معنى. وكذلك تختلف المشاركة في انتخابات 1989 على خلفية انتفاضة نيسان، التي فرضت تطوراً ديموقراطياً، ولو بشكل محدود، عن الانتخابات التي تلتها، التي صبّت في جيب النظام تماماً. أما بعد تغيير القانون الانتخابي في الأردن مؤخراً، بالاستعاضة عن قانون الصوت الواحد بقانون الدوائر والقوائم المشتركة على مستوى المحافظة، فإنّ السياق السياسي يصبح أكثر خطورةً، لأنه يمثل عملية انتقال من إنتاج نواب خدمات إلى تحقيق مشروع اللامركزية في الأردن، والتهيئة للكونفدرالية بين المملكة والسلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني (وشرق سورية وغرب العراق إذا نجح المشروع الصهيوني)، بحسب ضالعين في الشأن الأردني، من دون أن يكون للمجلس النيابي صلاحيات تذكر، ومن دون أن يكون هناك مرشحون للمعارضة صاعدون على كتف موجة شعبية صاعدة يعبرون عنها، ولذلك فالأولى في الأردن اليوم هو مقاطعة الانتخابات النيابية ترشحاً وتصويتاً.
العبرة تبقى دوماً بالسياق السياسي، وهل تخدم المشاركة بالانتخابات الحراك الشعبي أم لا… وهل الذي يدخلها محكوم بأجندة حزبية منضبطة، أم محكوم بسياق انتهازي تافه. وحيث تتوفر فرصة التأثير، كما في تونس بعد الإطاحة ببن علي، أو في اليمن قبل العدوان السعودي، أو في لبنان، فإن المشاركة المنضبطة بضوابط حزبية صارمة تصبح ضرورة سياسية، لكن حساب المشاركة من عدمه يستند بالمحصلة للموقف المبدئي والتشخيص السياسي لمصلحة الأمة في أي لحظة من اللحظات.
- ملاحظة: كل الترجمات من مقتطفات أنجلز ولينين أعلاه، باستثناء فقرة واحدة، قام بها الكاتب، اعتماداً على النصوص الأصلية بالإنكليزية من موقع marxists.org وغيره.
من يأكل مع الشيطان يحتاج إلى ملعقة طويلة
صالح بدروشي
يعلّمنا تاريخ التجارب المعاصرة للشعوب في كامل أنحاء المعمورة دروساً مهمة ومتواترة تتعلق بمحاولات بناء المجتمعات على أسس الحرية والعدالة بين البشر جميعاً وعلى أساس حبّ الخير للجميع… وأهمّ هذه الدروس هو ما يحمله عنوان هذه المقالة، حيث برهن النظام الإمبريالي العالمي، الأمريكي والأوروبي والصهيوني، أنه يبني مجتمعاته على أساس احتلال الشعوب وانتقاص حريّاتها ونهب ثرواتها والعمل على إجهاض كل محاولات الشعوب للتحرر وذلك بالتعاون مع وكلاء رجعيين محليين، فجشع القوى الإمبريالية يجعلها تعتمد مبدأ: سعادتنا تكمن في شقاء الآخرين.
في هذه المقالة نودّ تسليط الضوء على مسألة جدوى المشاركة في العمليات السياسية القائمة في ظلّ هيمنة الأنظمة الليبرالية. والعملية السياسية، أو كما يحلو لأصحابها تسميتها بـ”اللعبة السياسية”، خاصة تلك التي انبعثت كأحد أهمّ مخرجات “الربيع العربي” وكل الثورات الملوّنة، هي لعبة تمّ وضع أسسها وقواعدها ونسج خيوطها من طرف القوى الإمبريالية خاصة وأنه لأوّل مرّة في التاريخ يحدث أن تكون الدول الإمبريالية الداعم الأساسي للثورات! واخترنا أن نسمي العملية السياسية في هذه الظروف بـ”العملية السياسية المختلطة”، والاختلاط هنا هو عدم التجانس أو مزج المتناقضات بشكل غير متكافئ على غرار سياسة البنك الدولي الليبرالية، كما يصفها أحد المفكرين بـ”نظرية الثعلب الحر في بيت الدجاج الحر”، فبالإضافة إلى أن مقوّمات النجاح في هذه اللعبة السياسية، وهي امتلاك المال والإعلام، تحتكرها القوى المرتبطة بالإمبريالية العالمية، يُضاف إلى ذلك شراء الذمم البشرية ومسك خيوط الأدوات الإدارية واللوجستية للدّول العميقة، حيث أن البلدان التي زعموا أن ثورةً قامت فيها لا تحمل من الثورة سوى الاسم وبعض مظاهر العنف والفوضى ولا تمتلك تنظيماً ولا قيادةً ولا برامج تمكنّها من أن تمسك بمقاليد الأمور وتكون قادرة على اجتثاث الفساد القديم وبناء المجتمع الجديد السليم، وهذا طبعاً ينطبق على دول مثل مصر وتونس، أمّا في العراق وليبيا وغيرها من دول أوروبا الشرقية، فقد قامت القوى الإمبريالية باعتماد منهج التغيير/ التدمير الجذري لتحقيق مآربها حيث قامت باجتثاث جذور المؤسسات الوطنية التقدمية لزرع بذور الفساد والفوضى في المجتمع الجديد. ونشهد مثلاً في تونس اليوم العجب العجاب، حيث يخرج علينا كلّ الديناصورات الذين من المفترض أن ما سمّي ثورة قامت ضدّهم، ونجدهم جميعاً على رأس القوائم الانتخابية الرئاسية والبرلمانية، بل وتمكّنوا من الحصول على الأغلبية في الانتخابات الأخيرة وشكّلوا مع الإخوان المسلمين (حركة النهضة) الأغلبية الساحقة واليوم يأتون برجل نظام بن علي (السرّي) لدى الكيان الصهيوني ويقومون بتعيينه علناً على رأس وزارة سيادية وهي وزارة الخارجية!
المثير للسخرية أيضاً أن المشاورات الأخيرة لإعادة تشكيل الحكومة بدأت تسفر عن صعود أكثر الوجوه القديمة غرابةً، فما يسمى بـ”الـثورة التونسية” هي ببساطة عملية لتدوير الفساد ورسكلته (إعادة تدويره) وإعادة إنتاجه في حلّة ديمقراطية، قمة السخرية والضحك على الذقون أنّ عمليةَ سياسية بعد “ثورة” تجعل أكثر الأطراف تناقضاً مع نظام بورقيبة وبن علي هم الأقلية والشرذمة وتصنّفهم بجماعة “الصفر فاصلة…” كما يصفهم من خاضوا الانتخابات بالأموال القطرية والخليجية والأوروبية، علماً أن الإخوان لم يكونوا متناقضين مع نظام بن علي ولكنهم اختلفوا وتخاصموا معه بشراسة على تقاسم السلطة ولا ننسى تصريح زعيمهم الغنوشي عندما قال في تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 : “ثقتنا في الله أوّلاً وفي بن علي ثانياً” الذي انقلب عليهم فيما بعد وأرادوا اليوم تجيير تلك الخصومة على أنها نضال من أجل تونس !! ..
أحد الأسلحة الجديدة التي يشهرها وكلاء الإمبريالية في العمليات السياسية هو “التوافق” و”الوحدة الوطنية” إذ بدون هذا المبرّر لا توجد أيّ شرعية شكلية لهؤلاء ناهيك عن الشرعية الفعلية، فهم يستخدمون مفهوماً مغلوطاً للتوافق لإجهاض الديمقراطية. كما لا يخفى السعي الحثيث للقوى الإمبريالية لصياغة العمليات السياسية على مقاساتهم وفق مصالحهم وضدّ مصالح شعوب الدول المعنية، فكان التدخّل لوضع دساتير تحقّق لهم تلك الأهداف وتساعد على استدامة تفكيك تلك الدول، فكانت دساتير تكرّس الطائفية والعرقية والإثنية وتضعف السيادة الوطنية. فعلى سبيل المثال نجد أنّ أحد الأشخاص الذين كانوا وراء صياغة دستور العراق الطائفي لم يغادر قاعة البرلمان التونسي طيلة فترة كتابة الدستور التونسي الجديد وكان، من المقاعد الخلفية المخصصة للضيوف والإعلاميين، يعطي توجيهاته لوكلائه ويلتقي معهم في الكواليس والاستراحات وهو المدعو “نوح فيلتمان” الأمريكي.
بالإضافة إلى تلك المعيقات وفي الوقت الذي تحتاج فيه الدول المتأزّمة إلى نظام رئاسي قوي مثلاً، يمكّن من سرعة اتّخاذ القرار وقوة التنفيذ، وقع إغراق هذه الدول في أنظمة تنقسم فيها السلطة التي هي ضعيفة أصلاً إلى أجزاء موزّعة بين برلمان ورئاسة حكومة ورئاسة جمهورية تتولّاها أطراف متصارعة باستمرار، ولا تسمح بالاستقرار الضروري لبناء الأساسات.
ويمكننا إضافة نتيجة سلبية ليست بالهيّنة لمشاركة رموز مثقفة ووطنية في العمليات السياسية المشبوهة ألا وهي إضعاف القدرة على تحشيد الشارع العربي وعموم المواطنين ضدّ المشاريع الخيانية والعميلة للإمبريالية عندما يضفون شرعية على العملية السياسية، خاصة عندما يتسابق الانتهازيون منهم للتّطبيل لمشاريع العمل السلمي ودعاوى التغيير من الداخل التي تسعى إلى إلغاء النهج الثوري الجذري والمقاوم الذي يعتبره الإمبرياليون إرهاباً ويسعون إلى جرّنا للدخول في لعبة يمتلكون هم وحدهم كلّ مفاتيحها، وللتدليل على ما تقدّم لا يسعنا إلّا أن نذكّر بدور مخابرات الدول الإمبريالية وسعيها الحثيث لمحاربة الشعوب وإجهاض عمليات التحرّر والديمقراطية وإسقاط الحكومات الوطنية التقدّمية، وتاريخنا المعاصر والحاضر مليء بالأمثلة.. فلا بدّ في هذا المضمار من ذكر اعترافات أحد عناصر المخابرات الأمريكية وهو العميل “جون بيركينز” والذي لخّصها في كتاب بعنوان “الاغتيال الاقتصادي للأمم” وأوردتها قناة روسيا اليوم في شهادات مسجّلة بالفيديو بعنوان “القاتل الاقتصادي”.
تبين تلك الشهادة ما يعانيه عدد كبير من شعوب العالم النامي بتعرض أنظمته الاقتصادية للنهب والتدمير بالتآمر المستمرّ، والكاتب هو أحد أولئك المحترفين الذين يتنقّلون عبر العالم في رحلات فاخرة وبأجور خيالية من أجل ابتزاز ونهب عديد الدول التي تسعى لضمان مستقبل ومصلحة شعوبها. وهذه الأنشطة القذرة ترتكز على استعمال أموال البنك الدولي، وهيئة المعونة الأمريكية وغيرها من مؤسسات «المساعدة» الأجنبية، التي تقوم بتوريط بعض الشخصيات المحلية القريبة من عائلات من هم في السلطة وتقديم دعم مالي لشركات وعملاء يقومون بمهام تلفيق التقارير المالية وتزوير الانتخابات والرشوة والابتـزاز والجنس والقتل، وافتعال الأزمات انطلاقاً من مظلوميات حقيقية أو حتى بسيطة جدّاً يقع تضخيمها إعلاميّاً.
لقد ذكر الكاتب أمثلة عن الدول التي شارك بنفسه في الجرائم التي تعرّضت لها في كل من أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا ودول شبه الجزيرة العربية، وإيران وعراق صدام حسين إلخ… ويذكر الكاتب أنه عندما كانت تفشل محاولات الرشوة والفساد والإغراق بالقروض الخانقة ينتقل المخطّط إلى عمليات القتل والاغتيال للتخلّص من الزعماء والقادة الوطنيين المعارضين لتلك المنظومة من الشركات العملاقة والبنوك المجرمة. وعندما يتعذّر الاغتيال الفردي يقع التخطيط لشنّ الحروب والغزو العسكري. وكانت سياسة هذا اللوبي العالمي تدفع بالدول المستهدَفة نحو الإفلاس وزيادة الفقر وتفاقم البطالة وغلاء المعيشة وإرباك القدرة على سداد الديون الخارجية.
لقد تمّ مثلاً دفع دولة الإكوادور مضطرةً لبيع غاباتها في حوض نهر الأمازون إلى شركات البترول الأمريكية (مخزون غابات الأمازون من النفط يحتوي على احتياطي ينافس نظيره في الشرق العربي). بنفس الأسلوب تمّت السيطرة من قبل الشركات الكبرى العالمية على مزارع كبرى في كلّ من كولومبيا ونيكارغوا وكوستاريكا وجامايكا وسانت دومينجو وغواتيمالا وبنما وغيرها. والزعماء الذين حاولوا مواجهة الاحتكار الزراعي لهذه الشركة تكفّلت الـمخابرات الأمريكية بتدبير عمليات انقلاب ضدهم لتنصيب رؤساء موالين حافظوا على مصالح تلك الشركات.
وفيما يلي نذكر بعض الأمثلة الحيّة والدامغة عن التدخّل السافر للقوى الإمبريالية المتمثلة في التحالف الصهيو-أمريكي الأوروبي والذي ينفيه كلّ مثقّف أجوف بدعوى “نظرية المؤامرة”، وكأن المؤامرة غير موجودة وليست حقيقية:
في سنة 1973 تمّ انتخاب المناضل التشيلي الدكتور سلفادور ألليندي رئيساً لجمهورية الشيلي بأغلبية ساحقة وبشكل ديمقراطي (كما يهوى الغرب الإمبريالي على حدّ زعمه)، فجنّ جنون الإدارة الأمريكية التي اضطرّت إلى تفعيل الخطّة2 بعدما فشلت الخطّة 1 في منع وصول ألليندي إلى الرئاسة (الخطتان من صنع مستشار الأمن القومي الأمريكي هنري كيسنجر تحت اسم TrackIوTrackII). على إثر انتخابه سعى ألليندي منذ تنصيبه إلى تحقيق العدالة الاجتماعية عبر القيام بإصلاحات للتحوّل من النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي، حيث كانت أغلبية الشعب تحصل على النزر القليل من الدخل القومي، بينما يحصل %5 من الشعب على معظم إجمالي الدخل، كما قام أليندي بتأميم معظم الصناعات كالتنقيب عن النحاس وإعادة توزيع الأراضي وقام بإنشاء برنامج توزيع الحليب بشكل مجاني على نصف مليون من الأطفال الفقراء. وبسرعة فائقة عيل صبر الإدارة الأمريكية ودبّرت المخابرات المركزية الأمريكية عملية انقلاب دموي اغتالت خلالها الرئيس سلفادور ألليندي المنتخب ديمقراطياً كما راح ضحية هذا العمل الشنيع (3000) ثلاثة آلاف مواطن وتعرّض للتعذيب والاختفاء أكثر من (000 30) ثلاثين ألف مواطن.. ولقد تأكّد من خلال الوثائق المفرَج عنها أن المخابرات الأمريكية قامت بتمويل الإضرابات لخلق حالة من الفوضى تساعد على التدخّل العسكري مباشرة قبل القيام بالانقلاب. وتمّ الاعتراف لاحقاً بمكافأة من ساهموا في عمليات القتل بأموال ضخمة. استشهد ألليندي برصاص الغدر في باحة القصر الرئاسي وهو يرتدي الوشاح الرّئاسي الرسمي.
في سنة 1951 انتخب البرلمان الإيراني محمد مصدق رئيساً للوزراء بأغلبية 79 صوتا مقابل 12 فقط، وفور استلامه المنصب أدخل مصدق إصلاحات اجتماعية لفائدة العمال والفقراء والعاطلين عن العمل، وكان أول قرار لرئيس الوزراء المنتخب ديمقراطياً هو تأميم شركة النفط البريطانية-الإيرانية (AIOC) بتأييد من البرلمان الإيراني. وألغيت كلّ امتيازات شركات النفط البريطانية وكان مصدّق يؤكّد على حقيقة أنّ عائدات إيران النفطية تمكنها من تحقيق كامل الميزانية، ومن مكافحة الفقر والمرض والتخلف، ناهيك عن القضاء على الفساد والرشاوى المتأتية من معاملات الشركات البريطانية. أثار هذا القرار الوطني غضب بريطانيا وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية فعملتا على إسقاط الحكومة المنتخبة باستخدام عملاء إيرانيين وشاه إيران، وتصاعدت حدة المواجهة بين إيران وبريطانيا التي أعلنت حصاراً دولياً ضد إيران وسحبت خبراءها، كما قامت وكالة الاستخبارات الأمريكية بتمويل إعلاميين فاسدين لتشويه صورة محمد مصدق أمام الرأي العام الإيراني والدولي وقاموا بتمويل وجلب “البلطجية” إلى العاصمة طهران بواسطة حافلات وشاحنات لاحتلال شوارع المدينة لغرض بثّ الذعر والرعب في نفوس المواطنين وقدّموا رشاوى لضبّاط في الشرطة والجيش الإيراني لإسقاط مصدق وحكومته.. وفي سنة 1953 هرب الشاه إلى خارج البلاد بعد أن أصدر قرار إقالة مصدق من منصبه، فخرجت الجماهير إلى الشوارع مدافعة عن مصدّق بقوة. ثم خرجت تظاهرات معادية تم تنظيمها وتغطيتها إعلامياً بتمويلات من المخابرات الأمريكية، وتمّ اغتيال القيادات التاريخية للجبهة الوطنية في وضح النهار، وتم قصف منزل محمد مصدق الذي اعتقل عام 1953 وحـُكِم عليه بالسجن وتوفي قيد الإقامة الجبرية عام 1967، وعادت إيران إلى نظام الحكم “الشاهنشاهي” من جديد بمُساندة أمريكية – بريطانية حتى اندلعت “الثورة الخمينية” عام 1979.
وفي عـام 2006 تمّ انتخاب اليسـاري مانويل زيلايا رئيساً لجمهورية هنـدوراس عن طريق صناديق الاقتراع بغالبـية 52 ٪من الأصوات.. وفـي عام 2009 تم اقتياد الرئيس المنتخَب ذات صباح من بيته إلـى قاعدة عسـكرية بواسطة ثلّة من العسكريين وضعتـه في طائرة وأرسـلته إلى سـان خوزيه بكوسـتاريكا.
سُئل الرئيس الأسبق لجمهورية بنما عمر تريخوس: هل من بلد في العالَم محصَّن ضد الانقلابات العسكرية، فقال: الولايات المتحدة، وأضاف: لأنه ليس فيها سفارة لأمريكا!! علماً وأنه تمّ لاحقاً تفجير الطائرة التي كان يستقلها، عن طريق عملاء المخابرات الأمريكية. كما قامت الاستخبارات الإمبريالية بإسقاط طائرة الزعيم الإفريقي رئيس الموزمبيق الأسبق سامورا ماشيل، المناضل المدافع الشرس عن تحرير أفريقيا من الاحتلال والعنصرية والتخلّف، وكما قال رئيس الموزمبيق في تأبينه: “إن مقتل سامورا ماشيل عزّز التصميم على النضال ضد أعداء السلام والتقدم والذين يعملون ضد خير البشرية بأسرها”
كيف قتلت القوات الأمريكية مئتي ألف مواطن من أجل تعزيز الديمقراطية في غواتيمالا ؟!
كان حاكم غواتيمالا الطاغية الجنرال خورخي كاستانيدا صديقاً وأداةً طيّعة في يد الولايات المتحدة الأمريكية فسلّمها مقدرات البلاد وثرواتها، وجلب إلى شعبه الفقر والجوع والجهل. وكانت شركة الفاكهة المتحدة “يونايتد فروتس” تدير سياسات البلاد وتتحكّم في حوالي 50% من أراضي البلاد بعد أن طردت الفلاحين الصغار وتحوّلت إلى إمبراطورية اقتصادية تصدّر الفاكهة (خصوصاً الموز) إلى أنحاء الكرة الأرضية!
واشترت هذه الشركة السكك الحديدية، ثم شركة الكهرباء والهاتف والتلغراف. وتحكّمت في الموانىء الرئيسية للبلاد. واحتكرت بذلك غواتيمالا كلّها، وارتهن الشعب بأكمله لها بعدما أصبح يشتغل عندها. وعندما نجحت التحركات الشعبية في تغيير الأوضاع وجيء برئيس منتخب بأغلبية شعبية، تحرّكت أجهزة الإدارة الأمريكية لإسقاط الحكومة الوطنية بخاصة، وعندما تم إعلان الإصلاح الزراعي جنّدت المخابرات الأمريكية كل عملائها وأسالت الدماء بغزارة من أجل إعادة الأمور إلى نصابها لصالحها، وهكذا تمّ قتل 000 200 من المواطنين الأبرياء.
ولمّا قرّرت مصر استرجاع سيادتها على شركة قناة السويس التي كانت تمتلكها السلطات البريطانية المحتلّة، قامت كلّ من فرنسا وبريطانيا والكيان الصهيوني بعدوان ثلاثي عسكري على مصر ذهب ضحيته الآلاف من الأبرياء وكان ذلك إثر رفض الولايات المتحدة تمويل مشروع السدّ العالي، وحجب قروض البنك الدولي عندما ربطته بتوقيع إتفاق سلام مع الكيان الصهيوني.
وثمة مثال فاضح أخير حول تعامل الإدارة الأمريكية مع السلطة الفلسطينية على الرغم من الخضوع التام لهذه السلطة لكل الشروط الصهيونية: كانت الإدارة الأمريكية تدعم النظام الرئاسي في السلطة الفلسطينية بقيادة عرفات الذي فرّط في ثوابت الكفاح الفلسطيني التي استشهد في سبيلها مئات الآلاف من الفلسطينيين والعرب، وعندما انتهوا من ابتزاز ياسر عرفات الذي فرّط في الكثير ولم يجنِ أي شيء مما طلبه مقابل تنازلاته، تحوّلوا إلى دعم النظام البرلماني بقيادة رجلهم البديل محمود عبّاس كرئيس وزراء، وكان أكثر سخاءً من عرفات تجاه الصهاينة ولم يطالب بأي شيء تقريباً، وعندما قتلوا عرفات، حيث لم يعد صالحاً لشيء لهم، عادوا إلى دعم النظام الرئاسي بقيادة محمود عبّاس كرئيس لما يسمّى “السّلطة الفلسطينية”.. والقصّة مع حركة حماس وأكذوبة الانتخابات البرلمانية الديمقراطية والانقلاب عليها بدعم أمريكي معروفة للجميع.
وكما يقول أحد الكتاب فإن الخوض في تفاصيل السجل الأمريكي السيء في مجال الجرائم ضدّ الشعوب يتطلب مجلدات بحالها، والتاريخ المعاصر مليء بالقصص المرعبة للإرهاب الأمريكي خصوصاً والإمبريالي عموماً ضدّ الدول والشعوب وذلك بما تمّ كشفه من خلال عديد المذكرات والملفات التي رُفعت عنها صفة السرية حول عمليات التدخل الأمريكي المباشر وغير المباشر في العالم. ولمن يريد معلومات مفصّلة عليه بالبحث وسيجد من دون كثير عناء في تاريخ غزو القوات الأمريكية للبلدان التي أرادت التحرّر، أو التي توجد موارد، أو توجد فيها أنظمة تخدم مصلحة شعوبها ولا تسمح بهيمنة الشركات الإمبريالية العالمية ولا تقبل بشروط البنك الدولي التي تكرّس التخلّف والفقر المستدام والمديونية القاتلة. وللاطلاع على السجلّ الأسود لتاريخ الطغيان الإمبريالي ندعو القارئ للبحث بكلّ يسر في تاريخ كل من نيكاراغوا – البيرو – بنما – المكسيك – الأورغواي – الأرجنتين – كوبا – بوليفيا – الهندوراس – كولومبيا – كوريا – كمبوديا – فيتنام – أندونيسيا – فينزويلا – تشيلي – يوغوسلافيا – الجزائر – مصر – إيران – جنوب إفريقيا – لبنان – الصومال – السودان – ليبيا – العراق – فلسطين وسورية، إذ يصل عدد القتلى في العدوان على هذه الشعوب إلى مئات الآلاف من الشهداء الأبرياء، بل الملايين في بعض الدول مثل أندونيسيا والجزائر وفيتنام والعراق وفلسطين (ولم نذكر هنا هيروشيما وناغازاكي)..
كذلك ندعو القارئ للاطلاع على سجلّ المخابرات الأمريكية مع الاغتيالات السياسية ومنها اغتيال كل من سلفادور ألليندي، وباتريس لومومبا أول رئيس وزراء في دولة الكونغو المستقلة (1961)، وتشي غيفارا وما حصل مع المناضل “كوامي نكروما” أول رئيس لغانا المستقلّة وكان من دعاة الوحدة الإفريقية، والانقلاب العسكري ضدّه في 1966، وما حصل مع مصدّق في إيران كما ذكرنا أعلاه. ومن يريد التّمسك بتلابيب المواثيق والمنظمات الدولية والاحتكام إلى قوانينها للدّفاع عن مشروعه السياسي في إطار العمليات السياسية “المختلطة” عليه الاطلاع أوّلاً على القواعد والقوانين التي تسيّر هذه المنظمات، ثم على تاريخ استخدام الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لحقّ النقض “الفيتو” في محاربة الشعوب الحرّة.
هكذا قامت الولايات المتحدة الأمريكية بقتل الملايين من البشر من أجل حقن “الديمقراطية” في أجساد أوطانهم، وكلّ الشعوب التي تعرّضت للحقن الديمقراطي الإمبريالي تنعم اليوم في بحبوحة الحرية والأمن والخيرات وآخر الأمثلة ليبيا والعراق!!
فهل بعد هذا لا يزال بعض الوطنيين يعتقدون أنهم يستطيعون بمشاركتهم في العمليات السياسية “المختلطة” في ظل الهيمنة الرجعية الإمبريالية أن يحصلوا على جزء من السلطة يمكّنهم من إحداث التغيير المطلوب في مشاريعهم التقدّمية؟ وعلى افتراض أنهم وصلوا، بعد عمرٍ طويل، إلى انتزاع مناصب ومواقع في مجالس النواب بعددٍ كافٍ، فهل يعتقدون أنهم بشكل سلمي سوف يدَعونهم كقوميين تقدّميين للتّفضّل بتقديم مرشّحهم وتشكيل الحكومة واستلام الرئاسة وإعلان ما يريدون من قرارات السيادة الوطنية والسيطرة الشعبية على خيرات البلاد ودعم فلسطين وإعلان الوحدة العربية مع من يريدون وأنهم سيصفّقون لهم مع رفع القبّعة قائلين لهم: لقد فزتم، فتفضّلوا لاستلام السلطة؟؟!!! (كما فعلوا لمّا نجح سلفادور ألليندي في تشيلي!!)
واهمون من تخلّوا عن البديل الثوري ووضعوا كلّ أوراقهم في سلّة العمليات السياسية التي أفرزتها “الثورات” المدعومة من الإمبريالية. ولمن يقول كيف إذاً؟ نقول تعالوا نتّفق أوّلاً على أن هذا الطريق مسدود، ثمّ معاً نجيب.
التّمثيل والامتثال
محمد العملة
تنطلق في العشرين من شهر أيلول الحالي الانتخابات النيابية في الأردن، ومنذ بضعة أسابيع بدأت الحملات الانتخابية بالظهور في الشوارع وعلى الأرصفة وفي مواقع الاتصال الاجتماعي، بعضها تلمس فيه طابع الكوميديا وإن لم يكن صاحبها يقصد ذلك!
توصف الانتخابات النيابية بأنها ديمقراطية، لكن بمقاييس من؟
المرور على جواب السؤال يتطلب فهماً لمسألتين أساسيتين هما: مفهوم الطائفة ومفهوم الهويّة.
في ظل السمت العام القائم تصبح الانتخابات محكومة بالسلوك الطائفي، وأنا أفرق هنا بين “السلوك الطائفي” وبين “الطائفيّة”. الطائفيّة لغوياً مشتقة من “الطائفة”، وفي أكثر من مصدر يمكن إجمال معنى الطائفة بأنها الجزء من الشيء أو القطعة منه، أو هي الواحد فما فوقه، وقيل: هي الجماعة من واحد إلى ألف، ويرادفها في المعنى العصبة والشرذمة والحزب والجماعة والزّمرة.
اصطلاحاً، يحمل مصداق الطائفة مدلولاً دائماً ما يستخدم لوصف جماعة مذهبيّة، وليس ذلك بالضرورة صحيحاً؛ فقد تكون الطائفة جماعة سياسية كالحزب، أو جماعة عشائرية كالقبيلة، كما أنه من الممكن اعتبارها جماعة تجمعها فكرة ما أو أرضية ما، وقد تكون جزءاً من طائفة أخرى.
الفكرة أن المعنى المشتق من الطائفة، وأعني هنا “الطائفية”، ليس بالضرورة أن يكون ذا مدلولٍ سلبيٍ أو مدلولٍ على انحياز مذهبي فقط. يعرّف مهدي عامل الطائفة بقوله: ” ليست كياناً جوهرياً أو وحدة اجتماعية قائمة بذاتها، ليست الطائفة شيئاً. إنها علاقة سياسية قائمة بين فئات من الطبقة الكادحة وفئة من البرجوازية”.
الطائفية إذن علاقة بين جماعة أو “طائفة” تحمل فكرة أيديولوجية تمارسها عمليّاً ضمن “سلوك طائفي” يمثّلها.
المشكلة إذن ليست في السلوك الطائفي نفسه بل في الفكرة الأيديولوجية المراد تطبيقها والمحمولة عليه، فهناك أفكار ذات طابع وحدوي يصبح السلوك الطائفي خلالها إيجابياً، وعلى النقيض هناك أفكار تعزز الانقسام وتفتت المجتمع كالسلوك الطائفي العشائري، أو السلوك الطائفي المذهبي، وبشكل عام السلوك الطائفي المتماشي مع مصلحة العدو مثلاً، والقانون الانتخابي الأردني يعزز من سلوك الطائفة السلبي.
في سياق تاريخي يشير مفهوم الطائفية إلى مدلول يمثل شكلاً من أشكال البنى الاجتماعية للأمم بوصفه مكوناً من الصعب إن لم يكن من المستحيل إلغاؤه.
لنتحدث عن السلوك الطائفي السلبي كما يحدده كاظم شبيب في كتابه “تعدد الهويات في الدولة الواحدة” وسأصفه -بتصرّف-: “النظرة الجامدة للحياة والتي من خلالها يحصل التشدد والانغلاق العقدي الذي يقود بالتالي إلى انغلاق على الذات، فيصبح مهرب الفرد أو الجماعة إطلاقُ الأحكام السلبية بشكل سريع. لذلك ليس من الغريب أن يحمل هذا السلوك في طيّاته إقصاء الآخر و”الأنا” المتضخمة وغياب الرؤية السياسية نتيجة الاعتماد على فهم مغلوط للدين وسيسيولوجيا العلاقات الاجتماعية، وعدم الرغبة في المحافظة على مفهوم الهوية الجامعة”.
تمثيل السلوك الطائفي في “الطائفية السلبية” يجعل من كل طائفة كياناً قائماً بذاته يتناحر مع بقية الطوائف مفرزاً بذلك علاقات اجتماعية مشوهة لا تعود معها الطوائف -المذاهب أو الجماعات أو الأحزاب- الأخرى مشتركة في هوية جامعة واحدة، بل تعزز هويّات فرعيّة مناطقية ومذهبية وعشائرية، وفي أحسن الأحوال يتم الخروج من عصبية الطائفة إلى عصبية الدولة، وهذه الثانية لا تقل خطورة عن الأولى؛ إذ أنها توجّه ممارسة السلوك الطائفي السلبي نحو دول الجوار التي بدورها تعاني من نفس المشكلة أو أنها قد تلجأ لردود أفعال تزيد الطين بلة.
يتم تكريس عصبية الدولة التي لا تعدو في جوهرها إلا ترسيخاً للسلوك الطائفي بأدوات أخرى كديمقراطية الصناديق “الليبرالية”، وبمفاهيم الاقتصاد الحر في مجتمع استهلاكي تصبح وسيلة لتدمير المجتمع وترسيخ نمط الهيمنة، مما يؤدي إلى توسيع الفارق الطبقي -والذي يعدُّ طائفة أيضاً – ومعه أيضا تُعَزَّز الهويات الفرعية والانقسامات.
ديمقراطية الصناديق “المفرغة من المشاركة السياسية الحقيقية” وسيلة للإحصاء فقط. فكل ابن طائفة يصوت لابن طائفته “حسب المذهب أو العشيرة” مختزلاً ممارسته السياسية في ورقة داخل صندوق!
النموذج الثاني لهذه الديمقراطية الشّكلية هو المحاصصة الطائفية، قد يتم النظر لهذا النموذج من “ديمقراطيات الهيمنة” على أنه وسيلة لتجنب الحروب الأهلية – كلبنان-، أو إرضاء العشائر الأكثر حظوة -كالأردن-، أو قد يتضمن فصلاً للطوائف ضمن إطار مشروع تفتيتي يتم التحايل به على الأمة بواسطة مفاهيم حق تقرير المصير وما شابهها -كمسألة الأكراد-، لكن هذا النموذج يدحض نفسه بنفسه ذلك أنه لا يستند إلى مشروع وحدوي ويحمل بين ثناياه عصبيتي الدولة والطائفة.
توجّهُ الفئات المحكومة “الطائفة المحكومة”، بسبب الطائفية المحلية أو السلوك الطائفي المستورد، قواها لتصب في تبعية من في الداخل والخارج تحت نطاق “الحرية وقضايا الحرية”، والتي تعني هنا “الحرية الفردية بمفهومها الليبرالي”.
يقوم هذا النموذج بمسخ المجتمع عبر تسويق الفكر الطائفي “السلبي”، إذ غالباً ما يستمع الناس للطرف الأكثر تطرفاً. المعضلة تكمن في تحول الممارسة الطائفية إلى عنف طائفي، يؤدي بذلك لانقياد الطوائف الأخرى نحو رد الفعل العنيف نفسه، وعند غياب العقلاء، يصبح للإعلام اليد الطّولى في توجيه الجماهير المشحونة.
في خضم هذا الواقع يأتي دور تسويق الحل الانتهازي الجاهز! ديمقراطية السوق أو ديمقراطية الطائفيين، حيث يتم الاستفادة من السلوك الطائفي إلى حدوده القصوى فيتحوّل الأمر إلى علاقة تبعية لدولة الشركات المرتبطة بصندوق النقد الدولي، ولنتذكّر أن اتفاقية وادي عربة حُمِلت على البرلمان “الإخواني” لتمريرها بعد اعتماد إصلاحات “السوق الحر” أوائل التسعينيات، ومن بعده توالت المجالس التي وافقت على صفقة الغاز ومشاريع التطبيع وإقرار قروض دولية جديدة.. إلخ
لم أتحدث عن العلل في قانون الانتخاب ولا كفاءة المرشحين، لكن كل هذه المهزلة تذكرني بحكاية قديمة تقول: أن الأسد قرر ذات يوم طرد ثلاثة ثيران – أسود وأحمر وأبيض- من غابته، لكنه فشل في مهاجمتها مجتمعة ولم يقوَ عليها، فعمد إلى حيلة أقنع بها الثوريْن الأحمر والأسود، وكانت أنه تظاهر بصحبتهما وعداوة الثور الأبيض، فأدخل في نفسهما الطمأنينة والراحة بإبعادهما عن قتاله.
لاحقاً نجح الأسد في افتراس الثور الأبيض والتهامه! لكنه بعد فترة من الزمان جاع وطمِع في افتراس أحد الثورين المتبقيين، ومرة أخرى لم يقو على مهاجمتهما، فلجأ لحيلته القديمة مرة أخرى موهماً الثور الأسود أنه يريد افتراس الثور الأحمر فقط. وافق الثور الأسود هذه المرة خوفاً على نفسه، وبالفعل لم يقم بالدفاع عن صاحبه ورأى الأسد يلتهمه مالئاً معدته بلحمه.
في المرة الثالثة كان الأمر سهلاً على الأسد، فهجم على الثور الأسود الوحيد لقتله، وقبل أن يفترسه صاح الثور: “أُكِلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض”! فسأله الأسد متعجباً: ولماذا الأبيض وليس الأحمر؟ فأجابه الثور: لأننا افترقنا عن مبدأ كَفِلَ حمايتنا مجتمعين منذ سماحنا لك بافتراس الثور الأبيض، فذهبت هذه القصّة مَثَلاً.
عودة للسؤال الذي بدأت فيه مقالتي، وإجابة عليه أقول:
إن السلوك الطائفي الذي يحكم المجتمع يؤدي دوره في تعزيز الهويات الفرعية -حمراء وسوداء وبيضاء- داخلياً وفي بناء مفهوم قُطرِي للهوية خارجياً، وكلا الأمرين يتناقضان مع المصلحة القومية التي تمثل المبدأ أو المفهوم الحقيقي للهوية الجامعة، ولأجل كل ذلك تصبح الانتخابات تمثيلاً “ديمقراطياً” لهذا السلوك الطائفي وامتثالاً لنموذج الهيمنة أو “ديمقراطية السوق الحر” وبمقاييسه!
الصفحة الثقافية:
التطرف العابر للأديان في الفيلم المصري “بحب السيما”
طالب جميل
لا تزال موجات العنف التي تحدث نتيجة للتطرف الديني والتعصب الطائفي تحصد الكثير من الضحايا في مختلف أرجاء العالم وخصوصاً في الوطن العربي، خاصة بعد امتداد فيروس التكفير بشكل غير مسبوق واجتياحه لعقول فئات كبيرة من الناس مما أدى إلى زيادة منسوب الكراهية، فأصبحت ثقافة رفض الآخر وتكفيره هي السائدة بحيث أصبح القتل وقطع الرؤوس أمراً في غاية السهولة.
والتطرف الديني ليس مرهوناً بدين معين أو بعقيدة أو مقتصراً على طائفة بحد ذاتها، فهو مبني بالدرجة الأولى على التعصب والانغلاق الفكري ورفض تقبل الآخر على اعتبار أن الآخر يحمل معتقدات خاطئة، وبالنتيجة فهو يعبر عن عقلية جامدة ومتحجرة هاجسها رفض الآخر والخوف منه.
ضمن هذا الإطار تناول الفيلم السينمائي المصري (بحب السيما) موضوع التطرف الديني لكن هذه المرة عند المسيحيين من خلال تناوله لقصة عائلة مسيحية مصرية مكونة من أب أرثوذكسي متشدد جداً، وأم إنجيلية متفتحة بعض الشيء وتعمل مديرة مدرسة، وطفلين صغيرين.
الفيلم يروي قصة هذه الأسرة المصرية التي تعيش في شبرا عام 1966، وتستغرق أحداث الفيلم عاماً كاملاً أي حتى حرب حزيران عام 1967، حيث نجد الأب عدلي (محمود حميدة) المتزمّت دينياً والذي يرى أن السينما وكافة أشكال الفنون حرام، في حين أن ابنه الطفل نعيم (يوسف عثمان) يعشق السينما ويحبها، وفي نفس الوقت نجد أن الأم والزوجة نعمات (ليلى علوي) التي تعمل مديرة مدرسة والتي استعادت لاحقاً موهبتها في رسم اللوحات التشكيلية تحاول الهرب من قيود زوجها، وكذلك الحال بالنسبة للطفلة الأخرى.
يمثّل رب الأسرة صورة المتدين المتطرف الذي يقيس كل شيء وفق مبدأ الحلال والحرام بطريقة غير واقعية تجعل أفراد الأسرة ينفرون من نصائحه وتوجيهاته، فهو يحرّم كافة أشكال الفنون الإبداعية من السينما إلى الفن التشكيلي، وهو رجل يصوم (200) يوم في السنة ولذلك يتعامل مع فكرة الجنس في الحياة الزوجية على أنها فكرة بذيئة وأنها وجدت لغايات الإنجاب والتكاثر فقط. فالأب مذعور من فكرة النار حيث يقول: “أخاف ارتكب الخطيئة قبل ما أموت وأخسر كل شيء..أخسر الجنة”، وهو يحسد الناس الذين يرتكبون الخطايا والآثام ثم يتوبون قبل أن يموتوا بلحظات.
أما الأم فهي امرأة جميلة وأكثر تفتحاً من زوجها المتعصب، وتمارس الرسم حيث انتقلت من رسم الأجساد الأنثوية العارية إلى رسم الطبيعة إضافة إلى مزاولتها لمهنة التعليم، وتعود لممارسة الرسم بشغف بعد تعرفها على رسام يحرّضها للعودة إلى الرسم من جديد، وأما الطفل فيهرب من هذه التعليمات المشددة إلى بيت جدته ليستمتع بمشاهدة الأفلام.
مثل هذه الأجواء المفعمة بالقسوة داخل بيت الأسرة، ومثل هذا التشدد يدفع الأم إلى أن تثور على تعليمات زوجها وتعاليمه، ويدفع الابنة إلى التمرد على سلطة الأب فترتدي الملابس الضيقة وتتطلع إلى مفاتنها في المرآة وتتطور العلاقة مع حبيبها، أما الطفل فيهرب مع خاله إلى السينما لمشاهدة الأفلام.
تتطور الأحداث في الفيلم فيتهور الأب ويضرب مديره في العمل، ويقوم الأمن باستدعائه واتهامه بالشيوعية ويسجن ويعذب، أما الطفل فيمرض وتتفاقم عليه قائمة الممنوعات والمحرمات.
يموت الأب بشكل مفاجىء وهو يستمع خطاب التنحّي لعبد الناصر بعد أن سادت أجواء التمرّد داخل محيط العائلة حيث أصبحت الحياة وفق تعاليم الأب ذات الطابع الديني لا تطاق، لذلك تدخل العائلة بعد ذلك في مرحلة جديدة من التحرر.
يركز الفيلم على ثنائية الحرام والحلال ومبدأ الثواب والعقاب الذي طرحه الأب عدلي بطريقة مخيفة تبث الهلع في نفوس أفراد العائلة جميعاً، كما طرح مفهوم الجنة والنار من وجهة نظره الدينية المتشددة، حيث مثّل الأب حالة انفصال عن الواقع ونموذج للتدين السلبي الذي لا يرى الأشياء إلا من منظوره الخاص.
الفكرة التي تناولها الفيلم أهّلته لأن يكون من الأفلام النوعية نظراً لحساسية القضية التي طرحها، خاصة وأن تناول أي موضوع ديني أو نقد سلوكيات رجال الدين يعتبر من التابوهات التي يحرم تداولها أو تناولها في عمل فني خصوصاً أن الفيلم يتناول موضوع التطرف لدى المتدين المسيحي بعكس الصورة النمطية الشائعة بأن التطرف موجود فقط لدى المتدينين المسلمين.
وهنا لا بد من الإشادة بأبطال الفيلم خصوصاً الطفل الذي عكس بشكل قريب جداً من الواقع صورة الطفل العفوي الذي يرفض أن يخضع لتعاليم والده التي تخالف رغباته ويتساءل تساؤلات بريئة تدفعه في كثير من الأحيان لمحاورة ربه لإقناعه بغض النظر عن (تجاوزاته).
تعرض الفيلم لهجوم شديد من قبل الأوساط الدينية في مصر خصوصاً القبطية قبل وبعد عرضه بتهمة التطاول على قدسية الكنيسة والمسّ بالذات الإلهية، وقد سمحت الرقابة المصرية بعرضه بعد أكثر من ثلاث سنوات على تصويره.
شارك الفيلم في المهرجان القومي الحادي عشر للسينما المصرية عام 2005 وحصد (8) جوائز كأحسن عمل، وأحسن سيناريو، وللإخراج (المخرج أسامه فوزي)، وللتمثيل رجال (محمود حميده)، والتمثيل نساء (ليلى علوي)، جائزة تقدير للطفل (يوسف عثمان)، جائزة الدور الثاني (عايدة عبد العزيز)، والمونتاج.
أسد الصحراء: أيقونة السينما الثورية العربية
إبراهيم حرشاوي
قليلة هي الأفلام المماثلة لفيلم أسد الصحراء التي نجحت في تناول حقبة من حقبات الاستعمار الغربي في الوطن العربي بشكل ينصف المقاومة العسكرية تاريخياً ويوصل رسالتها النبيلة إلى شريحة عريضة من الجمهور العربي والعالمي. إنه لمن الأفلام النادرة التي ساهمت في ترسيخ المكاسب الوطنية وروح المقاومة لدى المواطن العربي، بحيث أن شهرة المقاوم عمر المختار تميزت عبر الفيلم أكثر من أي شخصية مقاوِمة من ذلك الجيل. تمّ تمويل مشروع الفيلم من قبل الدولة الليبية في نهاية السبعينيات خلال عهد الزعيم الليبي معمر القذافي بمبلغ 35 مليون دولار، بناءً على سياسة ثقافية معادية للاستعمار اعتمدتها ليبيا منذ الفاتح من سبتمبر سنة 1969 بغرض إعادة الاعتبار لرموز المقاومة والذاكرة الوطنية التي كانت مطموسة في العهد الملكي نتيجة للنفوذ الاستعماري السياسي والاقتصادي والثقافي .
يستحضر الفيلم الفترة المحتدمة في تاريخ المقاومة الليبية في أواخر العشرينيات من القرن الماضى حيث يسلط الأضواء على دور عمر المختار ومجاهديه في مواجهة الاستعمار الإيطالي الذي اعتبر الساحل الليبي الشاطئ الرابع لروما. كانت إيطاليا وقتها تسعى لاسترجاع أمجاد الإمبراطورية الرومانية بعدما تمكنت من الاستيلاء على حصّتها من الكعكة الافريقية التي تقاسمتها القوى العظمى الأوروبية. يبدأ الفيلم بمشهد يعين فيه إمبراطور إيطاليا الفاشي بينتو موسوليني الجنرال رودولفو غرزياني كقائد أعلى للقوات الإيطالية في إقليم برقة في شرق ليبيا بغية انتهاج سياسة الأرض المحروقة ضد المقاومة في الجبل الأخضر وتطويق قواعدها الخلفية في عمق البلاد. طبّق غرزياني الخطة التي كلّفه بها موسوليني عبر حرق التموين ونقل القبائل المؤيدة للمقاومة إلى مجموعة من معسكرات الاعتقال التي تواجدت بين سلامة قرب بنغازي وصحراء سرت. وتذكر كتب التاريخ بأن عدد الأهالي في هذه المعتقلات بلغ حوالي 100.000 نسمة. وقد خرج منها 35000 معتقلاً حياً فقط بسبب التصفيات الجسدية وانتشار الأوبئة والمجاعة. يُضاف إلى ذلك قيام جيش الاحتلال الإيطالي ببناء شريط شائك مكهرب كحاجز على حدود إقليم برقة مع مصر طوله 300 كيلومتر لقطع خطوط الإمداد الآتية من مصر، حيث كانت المقاومة الليبية تتغذى سياسياً وعسكرياً من دعم تتلقاه من عناصر سنوسية التجأت إلى مصر، بالإضافة إلى قبائل بدوية متواجدة قرب الحدود الليبية. ولا ننسى طبعاً دور النخبة الوطنية المصرية في دعم عمر المختار وعلى رأسهم عبد الرحمن عزام الذي أصبح فيما بعد أول أمين عام لجامعة الدول العربية. وينبغي هنا الوقوف ولو قليلاً عند صدى المقاومة الليبية في الوطن العربي كون السيناريو لم يفتح الستار على هذا الجانب الذي يمثل التفاعل القومي مع المقاومة الليبية. فعلى سبيل المثال شهد العراق حراكا تضامنياً واسعاً مع عمر المختار الذي أعرب شعراؤه من الجنوب عن سخطهم بقصائد تكشف عن التضامن العربي المتجاوز للطائفية والقطرية. يقول المحسن الكاظمي:
أين السلام الذي شادوا جوانبه***زعماً خلوباً شادوا ولا زعموا
إن عاهدوا نكثوا أو أقسموا حنثوا*** أو عاملوا عبثوا بالحق واهتضموا
أما عبد المطلب الحلي فيقول:
أجهلتم بأننا منذ خلقنا***عربٌ ينزل الضيم فينا
قل لعمانويل لا صلح حتى***ترجعوا عن بلادنا خاسئينا.
يسلّط المؤرخ محمد هليل الجابري الأضواء على هذا التضامن السياسي ويصفه بما يلي: “جرت تظاهرات في الكاظمية حيث احتشد الأهالي عند الضريح وتكلّم خطباؤهم فهاجموا إيطاليا ودعوا السنة والشيعة إلى توحيد صفوفهم وقبر الخلافات الطائفية، وابتهلوا أن ينصر الله العرب الطرابلسيين في محنتهم. وقد شهدت مدينتا النجف وسامراء مظاهرات مماثلة وأصدر علماء كربلاء والنجف فتوى الجهاد ضد الإيطاليين كان من بين الموقعين عليها السيدان محمد سعيد الحبوبي ومحمد علي الشيخ صاحب الجواهر.”
عودة إلى مشاهد الفيلم، سنجد أن الأداء التقني والفني كان على نحو ما تقتضيه معايير الأفلام التاريخية العالمية. فالمخرج، المرحوم مصطفى العقاد، كان حريصاً على موافقة الحبكة مع الحقائق التاريخية كما وصفتها الدراسات الأكاديمية والوثائق الرسمية والروايات الشعبية. في هذا الصدد، تمّ الاعتماد على المواقع الجغرافية التي شهدت مقاومة عمر المختار لتصوير مشاهد الفيلم، كما تمّ استقدام المعدات العسكرية التي استخدمتها إيطاليا أبان فترة الاحتلال. زيادة على ذلك، ساعد دمج مقاطع فيديو حقيقية لمعاناة الشعب الليبي في معسكرات الاعتقال الآنفة الذكر على إضفاء واقعية قوية على مشاهد الفيلم. فيما يخص الممثلين، كان اختيار انطوني كوين للعب دور عمر المختار اختياراً صائباً لأن أداءه المتميز جعل وجهه يتبادر إلى الذهن لدى الجمهور العربي كلما ذكر اسم عمر المختار، الأمر الذي حصل كذلك في تجسيده شخصية “حمزة” في فيلم “الرسالة”.
يبقى أسد الصحراء، برغم عائداته الضعيفة (1،5مليون دولار) وقدمه (إنتاج سنة 1981) من أحسن ما أنتجته السينما العربية من أفلام ثورية حتى الآن. يكفي لهذا الفيلم أنه أزعج إيطاليا التي منعته بسبب فضحه جرائم الجيش أبان مرحلة الاستعمار. فالمناسبة الوحيدة التي عُرض فيها على الشاشات الإيطالية كانت أثناء الزيارة التاريخية التي قام بها القذافي لروما لطيّ صفحة الاستعمار بسنة 2009.
الفيلم يمثل نموذجاً لسياسة سينمائية بديلة نفتقدها حالياً بوطننا العربي مع غياب توجه وطني حقيقي يسد هذه الحاجة. فالاختراق الذي يتعرض له جمهورنا هوليوودياً وبترو-دولارياً يقتضي امناً اعلامياً متكاملاً يشمل إنتاجاً سينمائياً ملتزماً ذا جاذبية تنافس الأفلام الغربية فنياً وقيمياً على حدٍ سواء.
وهذا الأمر فهمه مصطفى العقاد جيداً كونه استثمر تأطيره السينمائي في الولايات المتحدة الأمريكية لخدمة رؤية سينمائية عربية قادرة على مواكبة العصر. وتجب الإشارة هنا إلى إخراجه فيلم “الرسالة” سنة 1976 الذي موّلته ليبيا أيضاً. وقد أصبح هذا الفيلم للكثير من العرب والمسلمين والأجانب مصدراً أساسياً للتعرف على السيرة النبوية. بالإضافة إلى هذين الفيلمين العربين أنتج وأخرج العقاد ثمانية أجزاء من سلسلة أفلام “هالوين”(Halloween ، كما أنجز “موعد مع الخوف (Appointment with fear) سنة 1985 و”جولة حرة” (Free ride) سنة 1986.
قصيدة العدد: من أرض بلقيس/ البردوني
مـن أرضِ بلقيسَ هذا اللحنُ والوترُ مـن صدرِها هذه الآهاتُ، من فمِها مـن «السعيدة» هذي الأغنياتُ ومن أطـيافُها حول مسرى خاطري زمرٌ من خاطرِ «اليمن» الخضرا ومهجتها هــذا الـقصيدُ أغـانيها ودمـعتها يـكادُ مـن طـولُ ما غنَّى خمائلَها يـكادُ مـن كـثرِ ما ضمته أغصنُها كـأنه مـن تـشكي جـرحها مـقلُ يـا أمـي الـيمن الخضرا وفاتنتي هـا أنـت في كل ذراتي وملء دمي وأنـت فـي حضنِ هذا الشعرِ فاتنةٌ وحسب شاعرها منها – إذا احتجبت وأنـهـا فـي مـآقي شـعره حـلمٌ فـلا تـلم كـبرياها فـهي غـانيةٌ من هذه الأرض هذي الأغنياتُ، ومن من هذه الأرض حيث الضوءُ يلثمها مـا ذلـك الـشدو؟ من شاديه؟ إنهما |
مـن جـوِّها هـذه الأنسامُ والسحرُ هـذي الـلحونُ. ومن تاريخِها الذكرُ ظـلالِها هـذه الأطـيافُ والـصورُ مـن الـترانيمِ تـشدو حـولَها زمرُ هـذي الأغاريدُ والأصداءُ والفكرُ وسـحرُها وصـباها الأغيدُ النضرُ يـفوحُ مـن كلِّ حرفٍ جوُها العطرُ يـرفُّ مـن وجنتيها الوردُ والزهرُ يـلحُّ مـنها الـبكا الـدامي وينحدرُ مـنك الـفتون ومني العشق والسهرُ شـعرٌ «تـعنقده» الذكرى وتعتصرُ تـطلُّ مـنه، وحـيناً فـيه تـستترُ عـن الـلقا – أنـه يـهوى ويدكرُ وأنـها فـي دجـاه اللهو والـسمرُ حـسنا، وطبع الحسان الكبر والخفرُ ريـاضـها هــذه الأنـغامُ تـنتثرُ وحـيثُ تـعتنقُ الأنـسامُ والـشجرُ مـن أرضِ بلقيسَ هذا اللحنُ والوترُ |
عبد الله البردوني شاعر عربي من اليمن، ولد علم 1929 في قرية (البردون)، أصيب بالعمى في السادسة من عمره بسبب الجدري، درس في مدارس ذمار لمدة عشر سنوات ثم انتقل إلى صنعاء حيث أكمل دراسته في دار العلوم وتخرج فيها عام 1953، ثم عُين أستاذاً للآداب العربية في المدرسة ذاتها. وعمل مسؤولاً عن البرامج في الإذاعة اليمنية.
عاش حياته مناضلاً ضد الرجعية والدكتاتورية وكافة أشكال القهر ببصيرة الثوري الذي يريد وطنه والعالم كما ينبغي أن يكون، وبدأب المثقف الجذري الذي ربط مصيره الشخصي بمستقبل الوطن، فأحب وطنه بطريقته الخاصة، رافضاً أن يعلمه أحد كيف يحب، لذلك يتميز شعره بنزعة ثورية وتوق للحرية والنهضة، وقد سجن بسبب شعره الذي عبر فيه عن آرائه السياسية، وتوفي عام 1999.
قصيدة (من أرض بلقيس) من أوائل القصائد التي كتبها ونشرت في ديوان عام 1961، وقد ترنم فيها بحب وطنه، وصدح من خلاله مفتخراً بأرض اليمن السعيد، الأرض التي غصت فيها الحضارات ومر منها التاريخ، دون أن ينسى أن يعبر فيها عن حزنه من خلال استعراض هموم هذا الوطن وآلامه، ولعل مناسبة القصيدة تحاكي ما يحدث اليوم في اليمن من حرب إجرامية يشنها النظام السعودي على هذا القطر العربي.
اترك تعليقاً