طلقة تنوير 27: سورية

الصورة الرمزية لـ ramahu



المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 آب 2016


كلمة العدد: سورية/ علي بابل

قراءة في الجغرافيا السياسية لسورية/ إبراهيم علوش

سورية بين الواقع الجيوسياسي والأيديولوجيا القومية/ بشار شخاترة

ماذا ينقص سورية لتحقيق النصر المبين؟/ المهندس صالح بدروشي

سوراقيا، توأم الواقع والمصير/ معاوية موسى

شخصية العدد: صالح العلي؛ قائد الثورة السورية/ إعداد نسرين الصغير

لماذا لم تُحرَر سورية الجولان؟/ فؤاد بدروشي

مصافحة وفاء لحامي الأمة العربية الجيش العربي السوري/ عبد الناصر بدروشي

الصفحة الثقافية: مشاهد من حياة عبد الرحمن الكواكبي في فيلم سوري/ طالب جميل

فيلم ” معركة الجزائر”: الوجه السينمائي للثورة الجزائرية/ إبراهيم حرشاوي

قصيدة العدد: دمشق مبتدأ الدنيا/ الشاعر يوسف الخطيب




العدد 26-1 آب 2016

لقراءة العدد عن طريق فايل الـ PDF





للمشاركة على الفيسبوك












































































كلمة العدد:

سورية

علي بابل

لطالما كانت سورية الطبيعية محط أنظار الغزاة لموقعها الجغرافي الذي يقع بين قارات العالم القديم؛ آسيا، أوروبا وأفريقيا، هذه الجغرافيا التي امتدت لتشمل الآن الجمهورية العربية السورية، لبنان، شرق الأردن، وفلسطين التاريخية وأجزاء من العراق في الموصل وما يحدّها، وبعض الأراضي في الجزيرة العربية والأراضي التي ضُمّت إلى تركيا خلال فترة الانتداب الفرنسي على سورية وصولاً إلى جبال طوروس. وقد اعتبر الإغريق أنّ سورية هي منطقة الهلال الخصيب وبلاد الرافدين كلها وأجزاء من أرمينيا وصولاً إلى كيليكية في تركيا والتي ضمت مضيق الدردنيل والبسفور حالياً!!!!!

إنّ البعد الحضاري للأرض والإنسان الذي استوطنها أحد أهم السمات التي تميز الأرض وتاريخها، لذلك كانت سورية ولا تزال مغناطيساً لكل الغزاة والمستعمرين، وبعيداً عن ثروات الأرض والمطامع المادية والاقتصاد ككل تبقى سورية في نظر الغرب والغزاة بشكل عام خطراً حضارياً ينافس كل حضارة مقابلة وإن كانت الجغرافيا تبعد بينهما.  إنّ طبيعة الإنسان وفطرته تقوده للبحث عن ذاته الأولى، الإنسانية الأولى، الحضارة المهد، الأم… ببساطة يبحث الإنسان عن التمدن والحضارة.

رغم أنّ التاريخ العربي السوري تحديداً لم يجد فيه الباحثون في شتى المجالات انقطاعاً عن التاريخ البشري المتمدن منذ الألف الثامنة قبل الميلاد سوى عقود قليلة من الزمان لأسباب طبيعية في معظمها وبشرية وافدة أي الغزوات البربرية التي كانت تأتي مما وراء الأناضول وأوروبا الشرقية إلا أن الفترة الممتدة بين القرن السادس عشر والقرن التاسع عشر تعتبر عصور الظلام في سورية في شتى المجالات علمية، أدبية، عمارة، تعليم……الخ. هذه الفترة هي الاحتلال العثماني الذي حوّل المدن التي قبعت تحت سيطرته إلى أضخم مقبرة للإنسان ففي بغداد تم اختطاف الحرفيين والورّاقين ونقلهم إلى المدن التركية “الأستانة”. وفي مصر فرضت الإقطاعات العسكرية كنظام سياسي واجتماعي اقتصادي. البحر الأبيض المتوسط تم إعلانه منطقة عسكرية عثمانية تترية مما أدى إلى تحويل كل المدن الساحلية إلى قرى معزولة لا حياة فيها.

إنّ سيكولوجيا الإنسان عموماً تتأثر بشكل أساسي بالواقع المُعاش، من الشكل السياسي للدولة وبناه الفوقية التي تؤثر في البناء التحتي للدولة مادياً واجتماعياً، أي أن الدول التي ترزح تحت نير الاحتلال بغضّ النظر عن شكله إن كان مباشراً بشكل عسكري أو تبعية اقتصادية وبالتالي سياسية….الخ، فإنّ هذه الدول سيكون إنسانها متخلّفاً، ومع تقدّم الزمن تولد أجيال تحت ظل نفس الأنظمة الرجعية سيصبح هذا الإنسان مع مرور الوقت وزيادة التسلط عبارة عن شيء تُسرق منه إنسانيته، ورغم هذه الحقيقة يبقى الأساس الحضاري للإنسان والأمل في مستقبل أجمل حاضراً في زقاق الأحياء الفقيرة، بين جدران الغرف الصغيرة في مدن سورية القديمة يبقى حاضراً في عقل هذا الإنسان العربي السوري ينتظر من يوقظه من سبات طويل.  ففكرة التقدم لا تزال حية رغم كل هذا التأخر الحضاري أو لنقل التأخير المفتعل، والذي فرض فرضاً علينا من قبل الشعوب الأخرى وقوى الاستعمار عبر عقود طويلة…الرهان يبقى على الإنسان العربي وذاكرته التاريخية الطويلة.

واستناداً إلى الأسس التاريخية الحضارية للجغرافيا العربية السورية التي تجذّرت في إنسان هذه الأرض جيلاً بعد جيل استطاعت سورية الخروج من التخلف الذي فرضه الاحتلال العثماني لمدة أربعمائة عام متواصلة بفضل حركة التحرر القومي التي بدأت بوادرها في نهاية القرن التاسع عشر على يد الطليعة العربية من شباب سورية وباقي الأقطار العربية. ومن أهم هؤلاء الشباب الذين رحلوا جميعاً شهداء على يد الاحتلال العثماني: عبد الرحمن الكواكبي، سيف الدين الخطيب، الأمير عارف بن سعيد الشهابي، رفيق رزق سلوم. وقد استمر النضال السياسي والمقاومة العسكرية للاحتلال العثماني ومن ثم الانتداب الفرنسي الذي تمت مواجهته سياسياً وعسكرياً من خلال رفض تقسيم سورية الذي حاولت سلطات الانتداب فرضه على قيادات الثورة السورية وعلى رأسهم صالح العلي، إضافة إلى النضال الوطني الذي سطّره المناضل فارس خوري ومن حوله من سياسيي مرحلة الاستقلال.  وبالرغم من أن سورية أخذت استقلالها بالقوة، إلا أن الاستعمار القديم ممثلاً بقطبيه الفرنسي والإنجليزي بقي يشغل عملاءه في الساحة السورية من خلال زعزعة الاستقلال السياسي للدولة الحديثة في سورية عبر الانقلابات المتتالية والمتعددة، والتي بدأ عهدها في العام 1949 بعد احتلال فلسطين مباشرة من قبل قائد الجيش السوري آنذاك حسني الزعيم الذي تشير جميع الوثائق إلى تورط الولايات المتحدة الأمريكية في دعمه. ويُقال في أسباب دعم الولايات المتحدة الأمريكية لهذا الانقلاب هو خوفها من سيطرة السوفييت على سورية!!!

إلّا أن انقلاب الزعيم على الرئيس القوتلي لم يدم طويلاً، ورغم ذلك قام الزعيم بإعطاء بعض الشركات الأمريكية امتيازات في سورية منها بناء المطار وسكك الحديد وما إلى ذلك من امتيازات اقتصادية. وفي منتصف صيف نفس العام 1949 قام الجيش بقيادة سامي الحناوي بالانقلاب على الزعيم وسلطته وتسليم السلطة بسرعة إلى حكومة مدنية بقيادة هاشم الأتاسي، والتي استمرت لأقل من عامين، إذ قام أديب الشيشكلي بالانقلاب على هذه الحكومة وبقيت الأمور غير مستقرة لأحد نوعاً ما وصولاً إلى العام 1954 وتحديداً شهر شباط، إذ قامت وحدات من الجيش العربي السوري بالتمرد على حكومة الشيشكلي في حلب ومن ثم انتقلت لباقي المدن السورية لكي تعلن سقوط حكومة الشيشكلي، وتشكيل حكومة جديدة لبسط الطريق أمام انتخابات برلمانية.  في هذه المرحلة نستطيع القول بأن تدوال السلطة بدأ في سورية فقد تشكلت الأحزاب من بعث عربي وحزب شيوعي، وعاد أغلب قيادات الدولة المنفية خارج البلاد وعلى رأسها ميشيل عفلق وشكري القوتلي الذي تم انتخابه فيما بعد.

هذا جزء من التاريخ السياسي الحديث للجمهورية العربية السورية، لا سورية الطبيعية التي عانت من التجزئة والاحتلال، تجزئة جنوبها ممثلاً في فلسطين وشرق الأردن، وغربها ممثلاً بالدولة اللبنانية حديثة العهد وشمالها السليب الذي تم احتلاله في العام 1939 من قبل الأتراك بعد مؤامرة واتفاق مع الفرنسيين في العام 1923 عبر معاهدة لوزان، والتي أفضت إلى إعطاء تركيا أراضٍ ومدنٍ عربية سورية مثل مرسين وطرسوس وقيليقية وأضنة وعنتاب وكلس ومرعش وأورفة وحران ودياربكر وماردين وجزيرة عمر.

هذه التجزئة التي لم تبدأ باتفاقية سايكس وبيكو ولم تنتهِ بما يعرف الآن “بالشرق الأوسط الجديد” فلقد قام المستشرقون الألمان باختلاق ما يسمى نظرية العرق الهندوأوروبي لأسباب استعمارية بحتة تتمثل في إيجاد بديل آخر لخط التجارة الإنجليزي مع الهند ومن أمثلة ذلك كان خطة طريق خط حديد برلين-بغداد.  لذلك فإن التجزئة بحد ذاتها هي الخطر الأساسي الذي يهدد الوطن منذ مئات الأعوام، فقد تجد مئات الأسماء لإنسان هذه المنطقة، وقد تجد عشرات الإمبراطوريات التي مرت على أرض سورية، إلا أنه وبعد مرور آلاف السنيين على هذه الأرض لا تزال الهوية العربية هي الهوية الطاغية هوية عروبية شرقية الهوى. العراق بقي عربياً رغم كل المؤامرات التي حيكت ضده، ورغم اقتطاع الكثير من أراضيه الشرقية، فقد بقي العراق بوابة سورية الطبيعية من جهته الشرقية إن تزعزع أمنه تأثرت دمشق وإن صمد صمدت دمشق في علاقة تفاعلية تاريخية فرضتها الجغرافية قبل السياسية والعروبة التاريخية قبل أن تأتي نظريات التفكيك إلى وطننا الكبير.  فمن سومر وإيبلا كانت أكثر من بداية، فهذه الأرض ببساطة هي أرض الحرف الأول، والثمرة الأولى هي أرض العلم والفلسفة، الأساطير والخرافات، أرض الدين والمنطق، منها انطلقت أولى السفن لتمخر غمام البحار، وفيها دفنت قصص البشرية الأولى.

وها هي الآن سورية تدافع عن وجودها ووجود شعبها ووحدة أراضيه ضد كل رجعيات هذا العالم ضد العثمانيين الجدد، مستندين بإيمانهم القوي بأن أرض الأجداد ستعود أقوى مما كانت عليه بالعزيمة والإرادة ستعود سورية أقوى مما كانت فلا بناء إلا بعد خراب.

 

قراءة في الجغرافيا السياسية لسورية

 

إبراهيم علوش

ربما تكون الدولة العربية السورية بحدودها الحالية التي راحت تتبلور بعيد الحرب العالمية الأولى، منذ  إعلان المملكة العربية السورية في العام 1920 حتى جلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي السورية في العام 1946، هو ما يقفز للأذهان عند استعمال كلمة “سورية”، مع أو من دون لواء الإسكندرون، المحافظة السورية الخامسة التي منحتها فرنسا لتركيا في العام 1939، لكن الواقع هو أن المنطقة الممتدة من جبال طوروس شمالاً، حتى صحراء سيناء جنوباً، ومن البحر الأبيض المتوسط غرباً، حتى بادية الشام شرقاً، تمثل تاريخياً إقليماً جغرافياً واحداً يُعرف باسم “بلاد الشام”، أو “الشام” اختصاراً، أو The Levant بالإنكليزية، كما نستطيع أن نرى من إحدى الخرائط العثمانية من العام 1803 مثلاً، وقد ظلت الحال هكذا، منذ التاريخ القديم حتى القرن العشرين.

إنَّ تشكُل أي أمة من الأمم من عدة أقاليم جغرافية لا يجبُّ وحدتها القومية، حتى لو سادت فيها نزعات انفصالية، وما سبق لا يلغي بتاتاً حقيقة كون بلاد الشام إقليماً عربياً منذ بدء التاريخ، وأن سكّانه الآراميين والكنعانيين، والعموريين من قبلهم، هم عربٌ أقحاح كما سقنا الأدلة على ذلك تحت عنوان “عروبة الآراميين” في العدد الثامن من مجلة “طلقة تنوير”، وأنّ ترابط بلاد الشام مع وادي النيل والعراق والجزيرة العربية هو ترابط عضوي ينبثق من حقيقة الوجود القومي، وأنّ ترابط بلاد الشام مع المغرب العربي تشهد عليه قرطاج، كما تشهد عليه الدولة الأموية في الأندلس.  لكن هذا، على أهميته، ليس موضوعنا هنا، إنما تحديد وحدة التحليل الجغرافي السياسي هنا باعتبارها إقليم بلاد الشام الذي يضم سورية ولبنان والأردن وفلسطين مع المحافظات السورية التي لا تزال تحتلها تركيا، وعلى رأسها الإسكندرون الذي كان في ظلّ الاحتلال التركي سنجقاً تابعاً لولاية حلب، وكانت عاصمته إنطاكيا عاصمة الإمبراطورية السلوقية في القرن الثالث قبل الميلاد.

موضوعنا هو إذن الجغرافيا السياسية لهذا الإقليم المتميز في الوطن العربي المسمّى ببلاد الشام، وقد كانت معضلته منذ بدء تاريخ الدول والحضارات، التي بدأت في بلادنا العربية بطبيعة الحال، ومنذ تأسس مملكة إبلا (قرب إدلب) في الألف الرابع قبل الميلاد، حتى مملكة ماري (قرب دير الزور)، إلى مملكة تدمر (في محافظة حمص)، أن البيئة الشامية المقطّعة بتضاريس مختلفة ومتنوعة، من هضاب وجبال وسهول وبادية، لم تخلق تلقائياً عوامل نشوء دولة مركزية كبرى كتلك التي نشأت في ظل التواصل الجغرافي والسكاني غير المنقطع، الذي يتيح التراكم والتواصل السريع نسبياً، كما على ضفاف الأقاليم التي تخترقها أنهار طويلة مثل وادي النيل أو مثل دجلة والفرات، أو السهول المتصلة لهضبة الأناضول، مما يخلق إمكانية، مع التشديد على تعبير “إمكانية”، نشوء دول مركزية قوية.

إذن إقليم بلاد الشام الذي عرفت فيه البشرية لأول مرة فن الزراعة وتدجين الحيوانات، والمدن، والدول، والحضارة عامةً، كان تاريخياً إقليماً هشاً من الناحية البيئية، وبالتالي من الناحية الجغرافية السياسية، وأصغر حجماً، مقارنةً بالأقاليم المحيطة به.  وكان كالعراق مفتوحاً على شبه الجزيرة العربية عبر البادية الكبيرة، وكانت تلك البادية بوابة التفاعل الواسع على مدى الألفيات مع شبه الجزيرة عبر الهجرات والتجارة والغزوات.  لذلك كان نشوء وبقاء وارتقاء أي مدينة أو دولة شامية صاعدة، التي قامت غالباً على الإمساك بحبال التجارة الإقليمية والدولية، المدن الساحلية الفينيقية وتدمر نموذجاً، يتطلب بالضرورة إتقان فن وعلم إدارة السياسة للحفاظ على الوحدة في الداخل ولاتّقاء الهيمنة الخارجية، فالحاكم السوري احتاج تاريخياً لإتقان السياسة أكثر من أي حاكم آخر، ليدير الدفة بمهارة مع دول أكبر منه، وليمنع الفسيفساء في الداخل من التشرذم والتفكك.

أما التحوّل إلى قوة عظمى، إقليمية أو دولية، الخلافة الأموية نموذجاً، فكان لا يتمّ إلا من خلال ميكانيزم تعويضي، يعطشه الواقع الجغرافي-السياسي السوري عطشاً، هو جبروت الأيديولوجيا!  ولا يمكن فهم الأيديولوجياً حقاً، في أي مكان، إلا من خلال توظيفها الجغرافي السياسي كأداة دفاع أو هجوم، كأداة تحصين أو اختراق، كأداة مقاومة أو تمدد، وفي الحالتين، كتجاوب حيوي مع ضرورات الواقع الموضوعية.  فالقانون الأول للجغرافيا السياسية السورية عبر التاريخ هو أن الدولة السورية التي تعجز عن تجاوز حدود إقليمها بمشروع أيديولوجي متماسك يصبح مجرد صعودها استفزازاً ونذير خطرٍ للقوى الدولية أو الإقليمية القريبة أو البعيدة، وتصبح قدرتها في الدفاع عن نفسها مرهونةً بالاندماج مع مراكز إقليمية أخرى في سياق مشروع قومي، كما الوحدة المصرية-السورية (1958-1961) في مواجهة حلف بغداد المدعوم من الإمبريالية.

سورية الطبيعية مصنع الآلهة ومهد التوحيد، صنعت دولة الوحدة العربية أول مرة في ظل الأمويين بالأيديولوجيا الإسلامية التي اتخذت شكلاً قومياً عربياً صارخاً.  وكان الصراع على سورية في العالم القديم مفتاح القوى العظمى للسيطرة على العالم، والصراع على جنوب سورية (فلسطين) مفتاح السيطرة على سورية ومصر وكل الوطن العربي.   وفقط بعد أن خسرنا كعرب معركة الدفاع عن عروبة الإسلام، تحوّلت الأيديولوجيا الدينية إلى أداة شعوبية لإخضاع العرب، وكان الاستعمار التركي لسورية الطبيعية على مدى أربعة قرون، بعد السلاجقة الأتراك والمماليك، هو الأعمق والأطول والأكثر إعاقةً لتطورها التاريخي من بين كل الأقطار العربية التي خضعت للاستعمار التركي، والتي تضرر جميعها من فقدان العرب للسيادة على بلادهم على مدى ألف عام، ولكن إذا كان الاستعمار التركي قد تساهل مضطراً في بعض الأحيان مع نزعة بعض الولاة للاستقلال والانفصال عن الباب العالي في أقاليم أخرى غير سورية، أو حتى في أطراف سورية، مثل عكا وبيروت، فإنه لم يكن يوماً مستعداً للتساهل مع النزعة الاستقلالية لدى ولاة دمشق أو حلب، لأن مثل ذلك كان سيحولهما إلى بؤرة لتوحيد الإقليم الشامي، أو إلى بؤرة جذب على الأقل، ولتحول سورية إلى قطب مركزي إقليمي يضعف منه ويقلل من نفوذه بالتعريف.   ونتيجة مثل هذا الظرف التاريخي بالذات، كدولة مُحتلة من قبل كتلة طورانية كبرى لا تستطيع أن تزيحها لوحدها، تحولت سورية إلى أكبر معمل لإنتاج النزعات الفكرية القومية العربية، وقد فهم المؤسسون الأوائل للحركة القومية العربية في إقليم الشام أن استقلال سورية هو المشروع القومي، ولا يوجد استقلال عن تركيا خارج المشروع القومي العربي، والحقيقة تبقى أنه لا استقلال حقيقي لأي قطر عربي خارج سياق المشروع القومي.

ما ينطبق على الإقليم الشامي بالنسبة لدور الأيديولوجيا في تحقيق وحدته الداخلية ينطبق بالدرجة نفسها على شبه الجزيرة العربية، كون تلك الوحدة لم تنبثق تلقائياً من نشوء دول مركزية كبرى في أحواض الأنهار العظيمة في التاريخ القديم، كما في وادي الرافدين ووادي النيل، أو حتى في الهند والصين.   وفي شبه الجزيرة العربية هنالك نجد واليمامة، والحجاز وتهامة، والبحرين (الممتدة جغرافياً من عُمان حتى البصرة)، وبلاد اليمن.  وإذا وضعنا اليمن جانباً، فإن المناطق الخصبة في شبه الجزيرة لا تمثل إلا جزراً صغيرةً أو كبيرةً نسبياً في محيطٍ من الرمال، وبالتالي فإنّ النزعة القبلية التي تنتجها الصحراء، منذ اشتد التصحّر في الجزيرة العربية في الألف الخامس والسادس قبل الميلاد، واعتمدت الحياة على الرعي والترحال بحثاً عن الماء والمرعى، راحت تفتت التواصل الجغرافي الحضري الذي يخلق أساساً موضوعياً لقيام دولة مركزية، وراحت تعيق قيام تراكم حضاري مستقر تقوم على أكتافه دولة.   في مثل تلك الحالة، فإن الاستقرار والأمن وتأمين خطوط التجارة الإقليمية والدولية صار يتطلب نشوء أيديولوجيا توحيدية لا يعود من الممكن قيام وحدة شبه الجزيرة من دونها، وقد تحقق هذا لأول مرة في ظل الدعوة النبوية الشريفة، التي أسست دولة وحدة شبه جزيرة العرب، أما حين انتقلت الخلافة للشام، فإنها أسست دولة وحدة العرب.

وفي القرن الثامن عشر نشأت الدعوة الوهابية في البداية لتوحيد الجزيرة والتخلص من الاحتلال التركي، لكنها كانت، على عكس الإسلام الأول الذي تميز بالانفتاح والتسامح ورحابة الصدر، مفرطةً في التشدد فحملت في ثناياها لهيب نجد وجفاف الربع الخالي وقحط الصحراء القاحلة، من دون حكمة اليمن أو تواصل الحجاز والأحساء مع البحر أو مع خطوط التجارة الذي يكون أهله دوماً أكثر تجربةً وانفتاحاً، فأصبحت الوهابية زبدة التصحر وقسوة الانعزال واستباحة الإنسان والحضارة، لكنها بالرغم من هذا كله كانت نتاجاً للحاجة الموضوعية لتوحيد شبه الجزيرة، ونتاج عدم قيام اليمن أو الحجاز أو البحرين (التي تضم الأحساء) بمثل هذا الدور التاريخي، والطبيعة لا تقبل الفراغ ولا تنتظر المتأخرين، ولو نهضت بالدعوة الوحدوية مناطق أكثر تحضراً ومدنيةً وخبرة لما جاءت الدعوة الوحدوية في شبه الجزيرة بمثل تلك النكهة الطائفية والدموية والإقصائية والمتشددة بإفراط التي تميزت بها الوهابية.

الوهابية، بالرغم من ذلك، لا تخرج عن قوانين الجغرافيا السياسية، وأحد القوانين الحديدية للجغرافيا السياسية في الوطن العربي هي أن أي دولة مركزية تنشأ في الجزيرة العربية تضع نصب عينيها مهمة تاريخية مباشرة هي السيطرة على العراق وسورية لأنهما منفذها البري على العالم.  وفي بداية القرن التاسع عشر، بعد استكمال تأسيس الدولة الوهابية بالدم والوحشية في شبه جزيرة العرب، قاسى أهل العراق والشام سنوات ملبدة بالدماء مع الغزوات الوهابية بين عامي 1801-1811، شُنت خلالها غزوات وهابية متكررة على القرى والمدن، منها الاستيلاء على كربلاء في العام 1801 حيث ارتكب الوهابيون مجازر جماعية على مدى أيام، وسرقوا كنوز مساجدها، والهجوم على ريف حلب في العام 1803، وعلى البصرة في العام 1804، والهجوم العام بـ45 ألف وهابي على بغداد في العام 1808، وسلسلة الغارات الهمجية في العام نفسه على مدى قوس واسع عبر بلاد الشام بين معان وحلب، والهجوم على سهل حوران في العام 1810، وغيرها كثير مما لا يتسع المجال هنا لتفصيله، لكن ما أشبه الأمس باليوم…

ولأننا لا نزال في حيز الجغرافيا السياسية، لا بد من التنويه أن تتمة القانون المذكور في الفقرة أعلاه، حول حاجة أي دولة مركزية تنشأ في الجزيرة العربية للتمدد لسورية والعراق (ومن ثم لمصر)، هو أن الوزن الأكبر يعوّم الوزن الأصغر، بحسب مقاييس الوزن في كل مرحلة تاريخية، وما إذا كانت بشرية أو عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية، ولكن مدّ هيمنة الدولة المركزية من شبه الجزيرة بصورة وطيدة إلى العراق والشام ومصر سرعان (بمقاييس التاريخ) ما يحوّل مركز الثقل في الدولة الموحدة إلى أحد تلك المراكز الحضرية، السورية أو العراقية أو المصرية، الأكثر تقدماً من الناحية الحضارية من شبه الجزيرة.   ولعلّ معادل ذلك في الأيديولوجيا أن “داعش” في العراق والشام سرعان ما تنفصل عن “القاعدة” المنبثقة وهابياً من شبه الجزيرة العربية، على أساس جغرافي- سياسي بالضرورة، ولا يمكن فهم مثل ذلك “الانشقاق التنظيمي” إلا من خرم إبرة الجغرافيا السياسية، ولا يمكن فهم المزايدة الأيديولوجية في الغلو في الدين على “القاعدة” إلا كتبرير أيديولوجي لنقل المرجعية التنظيمية للوهابية المعاصرة من شبه الجزيرة إلى العراق والشام، ولا يمكن تمرير ذلك أمام عموم الجمهور الوهابي إلا بالمزيد من المغالاة والتشدد والجنون الدموي.  أما مشروع “داعل” (ليبيا)، فمصيره محتوم من المنظور الجغرافي السياسي إلا إذا تمكن من التمدد إلى مركز إقليمي مهم مثل مصر أو الجزائر، ولذلك فإن “داعس” (سيناء) يظل أكثر خطراً على الأمة العربية من المنظور الاستراتيجي ولو أنه أضعف من “داعل”.

المهم، حاول ولاة العراق والشام في العقد الأول من القرن التاسع عشر طبعاً أن يصدّوا الغزوات الوهابية.  وكانوا ينجحون في ذلك أحياناً، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في اقتحام معاقل الوهابية في شبه الجزيرة، لأن طبيعة جغرافيا شبه الجزيرة، خصوصاً نجد المحاطة بالصحارى، لا تسمح بسيطرة عراقية شامية طويلة المدى عليها من دون رضى أهلها.  بالمقابل، لا يملك العراقيون والشاميون، ولا يزال الحديث عن صراع المراكز الإقليمية ضمن الأمة الواحدة، أن لا يلقوا بالاً للتهديد المزمن الذي يمكن أن تشكله عليهم دولة وهابية في شبه الجزيرة، أو للغزوات الآتية من الصحراء لو لم توجد دولة مركزية فيها، خصوصاً مع المساحات الشاسعة للتخوم بين البادية الشامية العراقية وصحراء شبه الجزيرة.  إذن، يتطلب تحقيق الاستقرار والأمن القومي العربي هزيمة الوهابية في شبه الجزيرة نفسها، وتفكيكها، ويتطلب في الآن عينه وجود سلطة دولة مركزية في شبه الجزيرة العربية لا تستطيع بدورها أن تحمي نفسها من القوى الدولية والإقليمية غير العربية، ولو كانت الحبشة قبل الإسلام، إلا في سياق مشروع قومي عربي، أي، باختصار، في إطار دولة عربية مركزية هي وحدها القادرة أن تعبئ القوى لتحقيق الأمن القومي على مساحة 14 مليون كم مربع هي مساحة الوطن العربي، تمتد عبر ثلاث مناطق زمنية، وتتخللها الصحارى الواسعة، وتمتلك أطول شريط ساحلي بالنسبة لمجموع المساحة الإجمالية مقارنةً بأي دولة بالعالم، وتمر عبرها عقد طرق المواصلات البرية والبحرية والجوية العالمية، وتمتلك من الثروات ما يطمع به القريب والبعيد.

في العام 1811 دخلت مصر محمد علي باشا على الخط وشرعت بسحق المشروع الوهابي، فتنفس العراقيون والسوريون الصعداء.  وانتقل الوهابيون إلى حالة انكفاء ودفاع، واستمر الصراع المصري-الوهابي حوالي عشر سنوات حتى استتب الأمر للمصريين في العام 1820، فسيطروا على أغلب شبه الجزيرة العربية ما عدا اليمن، ونذكِّر أننا لا نزال نتحدث عن مراكز قوى مختلفة تتبع لأمة واحدة، وأن مثل تلك الصراعات عرفتها كل الأمم في سعيها لتأسيس دولة مركزية.  المهم أن وصول المصريين للساحل الغربي للخليج العربي، بعد تحرير الأحساء، أثار ذعر بريطانيا والقوى العظمى، فضاعفت من جهودها لتقويض المشروع القومي العربي مرة واحدة وإلى الأبد.

وقد قام الوهابيون بعدة انتفاضات بعد العام 1820، فشل جميعها، ولم يكونوا فيه نداً للمصريين، ولم يتمكنوا من استعادة السلطة والعودة لتهديد غيرهم من أهل الجزيرة العربية نفسها أو الشام والعراق حتى فرض التحالف الدولي العثماني على محمد علي باشا في العام 1840 مغادرة كل الأراضي التي تتواجد فيها قواته خارج وادي النيل، وكان العامود الفقري لهذا التحالف هو بريطانيا التي وضعت نخبتها الحاكمة منذ ذلك الوقت خططاً طويلة المدى لتحطيم المشروع القومي العربي الذي حمله محمد علي باشا وابنه إبراهيم، وكان البند الأول في برنامج بريطانيا هو تأسيس دولة صهيونية في فلسطين، كرد استراتيجي مباشر على مشروع محمد علي القومي، وتضمن ذلك المشروع إعادة الشام وغيرها من الأراضي التي حررها إبراهيم باشا المصري إلى ربقة التياسة العثمانية، وبعد احتلال بريطانيا لمصر في العام 1882 عملت الإدارة البريطانية بشكل حثيث على تعزيز وتنمية كل النزعات التي يمكن أن تصادر قدر مصر الجغرافي السياسي، مثل النزعة الإسلاموية الشرقية والنزعة الفرعونية، كما وثّق ياسين الحافظ في كتاب “المسألة القومية الديموقراطية”.   بالمقابل، لأن الأيديولوجيا توظيف جغرافي سياسي في النهاية، كان من الطبيعي أن يكون خطاب الدولة المصرية في ظل محمد علي باشا خطاباً قومياً عربياً، في الإعلام وفي الثقافة وفي التعليم، وكانت القومية العربية منهاجاً رسمياً فُرض في مئات المدارس التي أسستها الإدارة المصرية في الأراضي العربية التي حررتها، وفي مصر طبعاً.  وقد تمكن البريطانيون عبر سنوات احتلال مصر، في ظل أحفاد محمد علي الذين تحولوا إلى إمعات، من شطب الخطاب القومي العربي من الحوار العام في مصر تقريباً، حتى كسر تلك الحلقة الزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر لأنه اكتشف بالتجربة العملية أن الاستقلال الوطني لا يتحقق من دون مشروع قومي، كما سلف.

فلنلاحظ هنا أن وزن الدولة المركزية في مصر هو تاريخياً أكثر من مكافئ للدولة المركزية في شبه الجزيرة العربية، وهو أحد القوانين الحديدية للجغرافيا السياسية في الوطن العربي.   وضمن حساب ميزان القوى بينهما لا بد من أخذ النفط والثروة النفطية المستجدة بعين الاعتبار، وهو ما يعدّل الكفة طبعاً، من دون أن يحسمها بالضرورة لمصلحة السعودية..  فالأخيرة لا تستطيع أن تسيطر على المشهد العربي إلا إذا كانت مصر ضعيفة، وقد بدأت عملية إضعاف مصر سعودياً منذ أيام أنور السادات، خاصةً مشروع وهبنة مصر، الذي تم بالتنسيق بين كمال أدهم رئيس المخابرات السعودية في السبعينيات وأنور السادات، لأن المشروع الوهابي يشكل نقيضاً موضوعياً للمشروع القومي العربي.   مرة أخرى، نرى الأيديولوجيا (الوهابية هذه المرة) في توظيف جغرافي سياسي نعيش اليوم آثاره على نطاق أوسع في خضم “الربيع العربي”.

لنلاحظ هنا الفروق الجوهرية بين المشروع التوحيدي الوهابي والمشروع التوحيدي القومي العربي، فالأول دموي مجرم يهاجم المجتمع ويستبيح الإنسان ويسفك الدماء لأتفه الأسباب ويصادر العقل ويمأسس التخلف، أما مشروع الدولة المركزية القومية العربية فهو مشروع دولة مواطنة، ويقوم على فكرة النهضة العلمية والثقافية والاجتماعية والصناعية، والمقارنة هنا بين محمد بن عبد الوهاب ودولة آل سعود من جهة، وبين محمد علي باشا والدولة المصرية من جهةٍ أخرى.  صحيح أن مشروع تأسيس الدولة المركزية يعتمد وسائل عنفية وقسرية، ولا يقيم نظاماً ديموقراطياً منذ البداية، لكنه من خلال مشروعه النهضوي التحرري الوحدوي يضع الأساس المادي للديموقراطية، لأنه يهمّش الهويات الفرعية، ويؤسس لوعي المواطنة القومية، ويقوم على الصناعة والعلم والعقلانية والمجتمع المدني الذي لن يبرح إلا أن ينتج مشروعاً ديموقراطياً كتحصيل حاصل، وهو ما عالجناه في العدد 17 من مجلة “طلقة تنوير”: مسألة الديموقراطية في المشروع القومي.

سورية بالمقابل لا تستطيع أن تواجه الظل التركي أو المدّ الوهابي إلا من خلال التشبيك جيداً مع العراق ومع مصر، ولهذا فإن لها مصلحة مباشرة بوجود حكم صديق في القطرين.  وهو ما لا ينفي حقيقة المنافسة العراقية-السورية في وعاء الهلال الخصيب منذ الآشوريين والآراميين.  لكن اجتياح العراق كان دوماً يعرض سورية للخطر، التتر والمغول نموذجاً، كذلك، إذا انهارت الدولة المركزية في سورية، أو في جزء منها، فإن أمن مصر والعراق يتعرض للخطر مباشرة، الحثيون نموذجاً، وغزوات الفرنجة في القرون الوسطى، وانسياح داعش من شرق سورية إلى غرب العراق مؤخراً.  من هنا فإن تكسير الدولة المركزية في سورية، وتفكيك الشام، هو تاريخياً مشروع كل قوة إقليمية أو دولية طامحة للسيطرة على المنطقة.   فسورية هي بؤرة الإقليم الجغرافية السياسية.

يتخذ مشروع تفكيك الشام أشكالاً مختلفة طبعاً، وقد كان لفرنسا قصب السبق في هذا السياق، عندما حاولت أن تؤسس خلال انتدابها على سورية ولبنان عدة دول على أسس مذهبية ومناطقية.  لكن الاستعمار الفرنسي كان يضغط باتجاه فصل لبنان عن سورية، بعد توسعة حدوده، خلال القرن التاسع عشر، كما أنها لعبت بالمسألة الطائفية في لبنان في صراعها مع بريطانيا للسيطرة على المنطقة، فكانت الحروب الطائفية الدرزية-المارونية بعد إخراج إبراهيم باشا من الشام، أداة صراع بريطانية-فرنسية، ووسيلة تغلغل بذريعة “حماية الأقليات”.  وفي العام 1860 تم إشعال فتيل مجازر ضد المسيحيين في دمشق ومناطق أخرى، فتذرعت بها فرنسا لإرسال جيش إلى سورية ولبنان بقي فيها عدة أشهر، وكان سيبقى لمدةٍ أطول لولا التهديدات البريطانية.  فاللعب بالمسألة الطائفية، قديماً وحديثاً، هو وجه آخر من وجوه توظيف الأيديولوجيا (الطائفية) في الجغرافيا السياسية، ومواجهتها لا يكون إلا بضدّها: خطاب المواطنة القومية.

صراع النفوذ الفرنسي-البريطاني لعب بدوره دوراً رئيسياً في فصل الأردن وفلسطين عن الدولة السورية، باعتبار سورية ولبنان والمغرب العربي منطقة نفوذ فرنسية، وفلسطين والأردن والعراق وشبه الجزيرة واليمن ومصر والسودان منطقة نفوذ بريطانية.  لكن أياً من الأقطار العربية لم يتعرض للتفكيك مثل بلاد الشام، وكان ذلك ضرورياً لاقتطاع فلسطين ومنحها للمستعمرين اليهود في سياق تحقيق استراتيجية بالمرستون بفصل مصر عن بلاد الشام بحاجز جغرافي سياسي غريب ثقافياً عن نسيج المنطقة، ومرة أخرى، نجد التوظيف الجغرافي السياسي للأيديولوجيا على شكل خطاب صهيوني.

القانون الجغرافي السياسي الذي يفرض نفسه تلقائياً هنا هو أن أي دولة صغيرة لا تستطيع أن تؤكد وجودها و”استقلالها” في مواجهة المركز الإقليمي إلا بالتعاون مع قوة دولية أو مركز إقليمي آخر..  وهذا ينطبق بالضرورة على الأجزاء المقتطعة من سورية بالطبع… ولكننا دخلنا اليوم في مرحلة تفكيك أوسع وأعمق، كجزء من تثبيت المشروع الصهيوني في المنطقة، وإذا كان والي عكا سليمان باشا بعد وفاة أحمد باشا الجزار في العام 1804 قد حكم جنوب سورية 15 عاماً، فإن الكيان الصهيوني سوف يحكم كل المنطقة إذا تمكن من تفكيكها إلى شذرات.  ولا سبيل لدرء مثل هذه المشاريع على المدى البعيد إلا بتفكيك الكيان الصهيوني نفسه، أي بالمشروع القومي، أما المقاومة، فحالة دفاعية لا بأس بها ما دمنا لا نمتلك مشروعاً هجومياً.

الجغرافيا السياسية تعلّمنا أن إضعاف سلطة أي دولة على أرضها وشعبها يزيد من فرصة التدخلات الخارجية فيها، فإذ بها تتحول إلى ملعب للصراعات الإقليمية والدولية، ولهذا نجد اليوم على أرض سورية صراعاً روسياً-أمريكياً، وصراعاً سعودياً-إيرانياً، وصراعاً ثقافياً حضرياً-وهابياً، ولكن الصراع الأهم على أرض سورية اليوم، أيضاً بأدوات غير مباشرة، هو صراع الدولة السورية وحلفائها مع المشروع الصهيوني في الإقليم، مشروع التفكيك وضرب المقاومة وتمرير التسوية والتطبيع.  والعبرة أن كل ما يعزز من قوة الدولة السورية ومنعتها يعصم الإقليم برمته، ويعجل بإنهاء الأزمة السورية، وكل ما يضعف الدولة السورية يهدد الأمن القومي العربي، لا سورية ووحدتها وسيادتها فحسب.

سورية بين الواقع الجيوسياسي والأيديولوجيا القومية

بشار شخاترة

يسترعي الانتباه التركيز العالي للأيديولوجيا القومية العربية في سورية الكبرى بشكل عام، والتي تضم أقطار الجمهورية العربية السورية الحالية ولبنان والأردن وفلسطين، والتركيز الشديد في الجمهورية العربية السورية بشكل خاص.  في دراسة هذه الظاهرة اللافتة، يكتشف الدارس أنه عاجز عن الفهم إلّا بالرجوع إلى دراسة التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع وعلم المناخ وليس أخيراً علم الجغرافيا السياسية، فسورية بحد ذاتها ليست حالة كونية فريدة على مستوى العالم من حيث فهم واقعها وتذليل أي عقبة أمام من يحكمها للحفاظ عليها أو للانطلاق خارجها ففي هذا تتقاطع مع أمم الدنيا وبلدانها، لكنها تتفرد بعبقرية خاصة كونها منطلقاً لحالتين متناقضتين؛ الأولى تشكل فيها قاعدة انطلاق قومي عربي (حالة نهوض)، والثانية تشكل قاعدة لتفكيك الأمة العربية ومدخلاً لا بديل عنه للسيطرة على الأمة العربية (حالة انحطاط).

تشكّل سورية وحدة جيوسياسية ضمن أقاليم الوطن العربي مع الجزيرة العربية والعراق (الرافدين) ووادي النيل والمغرب العربي، في هذا التكوين القومي الذي تفرضه الجغرافيا السياسية لا بد من التنويه إلى أنه ليس عامل تفكيك تعدد هذه الأقاليم وتنوعها وامتدادها  الجغرافي، إنما عامل إثراء ضمن السقف القومي، والجغرافيا السياسية تشير إلى تميز واضح لكل وحدة من هذه الوحدات المذكورة وأثرها وتأثيرها في الواقع العربي، وليس تعصّباً القول أن بلاد الشام أو سورية الطبيعية تتفرد بميزة إضافية من شأن السيطرة عليها التنبؤ بشكل الواقع العربي وتوجهات الأمة العربية بشكل عام.

تميّزت سورية قياساً إلى البلاد النهرية كالعراق ومصر بقلّة الموارد المائية، أو بالأحرى بحالة التذبذب في هذا المجال وخصوصاً الأجزاء الجنوبية منها؛ فلسطين والأردن، ففي حين اشتركت بلاد ما بين النهرين بهذه الميزة، تذبذب الفيضان، وكذلك وادي النيل لكن ذلك فرض نمطاً من الإدارة لتلافي تلك الظواهر ببناء الآبار والسدود والتعامل مع المنتجات الزراعية والحيوانية بشكل يؤمن لسنوات الجفاف أو الشتاء معاً، وأدّت وفرة الحاصلات الزراعية إلى خلق واقع تجاري في بلاد ما بين النهرين مع محيطها شمالاً ومع الجنوب الجزيرة العربية ووصولاً إلى تجارة التوابل مع الهند، لتتشكل الأهمية الاستراتيجية الأولى في العالم القديم لهذه المنطقة بكونها عقدة مواصلات وسيطرة على خطوط التجارة القديمة.  في هذا الجو تولّدت أول امبراطورية في التاريخ في الألف الثالث قبل الميلاد بقيادة سرجون الأكادي الذي بسط نفوذه على شمال سورية والخليج العربي وسيطر على طرق التجارة القديمة بحيث أصبحت هذه الامبراطورية الوسيط التجاري الدولي الأول، ولتحتل سورية أهميتها في الخارطة الدولية، وهذا يفسّر جانباً من حال عدم الاستقرار فيها نظراً لتصارع القوى القائمة في تلك العصور عليها رغبة في الاستفادة من الأرباح العالية التي تحققها التجارة.

وفي حين حافظت مصر على طابع أكثر استقراراً من الناحية السياسية والاقتصادية نظراً لبعدها عن تجارة القوافل وسيطرة الفراعنة على التجارة قياساً على نشوء طبقة التجار في بلاد ما بين النهرين، وهو ما أفضى إلى نشوء سلطة مركزية في مصر، لذلك انطبعت الشخصية المصرية بطابع أكثر هدوءاً ومزاجاً سياسياً ترك أثره في استقرار الأحوال السياسية فيها مقابل حالة عدم الاستقرار والصراع المستمر على بلاد الشام.

وبعد تفكك الإمبراطورية الأكادية البابلية، دخلت قوى أخرى على خط الصراع في المنطقة بحيث بدأت تتصارع الممالك، وشكّلت سورية ميدان الصراع لتوسّطها بين الامبراطوريات الصاعدة والمتصارعة؛ الحثيون في الأناضول، والحوريون شمالاً، والمصريون جنوباً، لتولد لاحقاً الامبراطورية الفارسية التي اعتمدت بداية على طرق التجارة البرية مستفيدة من تدجين الجمل للتطلّع لمد نفوذها غرباً وجنوباً وصولاً إلى مصر وأواسط آسيا شرقاً عبوراً إلى البر الأوروبي غرباً، لتبرز أهمية الموقع السوري جيوسياسياً من جديد، بحيث أصبحت هدفاً لكل طامح بالتوسع لا بد له من السيطرة على سورية، ولتظهر أهميتها أيضاً كمدخل للسيطرة على مصر عبر سيناء والتي لا يمكن تأمين خطوط أية امبراطورية تريد السيطرة على مصر من دون سيطرتها على سورية.

ويلفت الانتباه أن الامبراطورية الفارسية لم تتمكن من بسط نفوذها إلا بالركون للإرث الأشوري والبابلي والمصري، إضافة إلى اعتمادها اللغة السريانية لغةً رسمية كونها سيطرت على أقاليم واسعة، لتصبح السريانية لغة العالم القديم.  وغير خافٍ أن الاشوريين والبابليين هم عربٌ أقحاح، والسريانية جذر من جذور العربية أو العربية الشمالية ومرادفها العربية الجنوبية في الجزيرة العربية.

في هذا الجو المتأزم استطاعت سورية أن تستفيد من جملة عوامل الجغرافيا القاسية قياساً على السهول والأنهار لمحيطها في مصر والعراق بأنْ تطوّر الأبجدية وأن تخلق بيئة سياسية قادرة على التكيّف مع سطوة الجوار، وليس اعتماد السريانية كلغة للعالم القديم إلا بعض تجليات هذه العبقرية والتي ستضحّي فيما بعد عبقرية الأيدولوجيا التي تفتقت عنها قريحة الفكر السوري وهو الفكر القومي العربي، لتعيد قراءة المشهد الكوني في سياقه القومي العربي انطلاقاً من وطأة الجغرافيا السياسية وبنفس الوقت، الميزات التي تقدمها هذه الجغرافيا.

وغير بعيدٍ لا بل في لبّ هذه المعادلة كانت تأثيرات الجنوب العربي القادم من الجزيرة على شكل هجرات متتالية، كانت بمثابة الخزان البشري الذي تولّى عبر التاريخ ضخّ دماء جديدة في النسيج العربي في الشمال وليخفف من وطأة التمدد الغريب القادم من خلف حدود العروبة من الشمال والشرق، وهذا من أسرار حفاظ هذه البلاد على عروبتها، ويصحّ القول أنه إذا كانت اليمن أصل العرب فإن سورية أصل العروبة.

وبرغم تطور الملاحة واكتشاف طرق بحرية جديدة وتحول طرق التجارة التقليدية، لم يزِدْ سورية الموقع الجيو-سياسي إلّا أهمية، وقناة السويس ضاعفت من هذه الأهمية نظراً لنقطة الضعف المصرية الكامنة في خاصرتها، الرخوة من المشرق عبر سيناء.

وبالعودة إلى الهوية العربية والأيديولوجيا العربية، الشق الثاني من موضوع هذا المقال فإن سورية استطاعت ولأول مرة أن تتجاوز وضعها وأنْ تصوغ نظرية عربية عندما احتوت الإسلام بقيادة الأمويين ولم تكن لتغب عن عمر بن الخطاب الخلفية التجارية لتعيين معاوية بن أبي سفيان والياً للشام، فبعبقرية لافتة أدرك الوالي الجديد القادم من مكة – مدينة التجارة والوسيط العربي بين الشام واليمن وابن أكبر تجارها وزعيمها أبي سفيان – أدرك معاوية عبقرية الشام في الأيديولوجيا العربية واجتبى العرب مستفيداً من ترابط الشام والعراق انطلاقاً إلى مصر ليستكمل مشروع التوحيد باتجاه المغرب العربي، ولتتوسع الدولة العربية (الإسلامية) شرقاً في عهد بني أمية، فقد وفّرت سيطرة الأمويين على سورية مركز انطلاق لهم وعمقاً بكل الاتجاهات، وضموا إليها مفهوماً عربياً قومياً في الحكم بحيث قُيّض لأول مرة في التاريخ قيام امبراطوريةٍ سيطرت على العالم القديم وعلى امتداد ثلاث قارات؛ آسيا وأفريقيا وأوروبا، وليمتد زخمها بهذه الوتيرة قرناً من الزمان مهد لانطلاقةٍ أخرى عربية بتلاوين غير عربية ضمن ثناياه وهي الدولة العباسية. وليس ادعاءً القول أن تراجع الثقل العربي والطابع العربي للدولة العباسية عما كان في الدولة الأموية يظهر أثره الحاسم بانتقال مركز الدولة إلى العراق من دون التقليل من الدور القومي للعراق إلّا أنّ التركيز العربي للأيديولوجيا في ذلك الزمن كانت تقوده الشام باستمرار، ويرتبط هذا الموقع الجيو-سياسي لسورية الذي يعطيها بعداً أكبر ودوراً أهم عبر تأثير الأيديولوجيا، في حين أن العوامل الجيوسياسية في العراق كانت أقوى بحيث أنّ عواملها الذاتية وسهولة أراضيها مع وفرة المياه كانت تعطيها استقلالاً أكبر مما يقلل من أي دور أكبر للأيديولوجيا في توجهاتها السياسية، بل يصحّ القول أنه بانتقال المركز من الشام إلى العراق تم تمهيد الطريق للتفكك اللاحق الذي أصاب الدولة.

إنّ البعد العالمي للإسلام لم يكن قادراً أن يحمل هذه الصفة لو تقوقع في الجزيرة العربية، ولا نبالغ إذا قلنا أن تمدد الإسلام إلى سورية هو الذي فتح له باب العالمية وأعطاه بعداً إنسانياً، فعقبة سورية كانت دائماً هي الحائل أمام أية قوة تريد التوسع والانتشار، ونزيد فوق هذا أنّ الإسلام عندما انطلق نحو الشام والعراق لم يكن فاتحاً أو محتلاً، بل على العكس جاء محرِراً ومنسجماً مع الهجرات العربية التاريخية من الجنوب إلى الشمال، ولأول مرة تدخل العروبة منذ الفينيقيين وتتحول الأمة العربية في عهد معاوية إلى أمة بحرية بالمفهوم العسكري متجاوزة الحالة الفينيقية  فأصبح المتوسط بحيرة عربية خالصة.

لقد استفادت سورية من الأيديولوجيا ومن الموقع بحسب الواقع الراهن وتبعاً لتقلّبات القوى المهيمنة، وبهذا حافظت على امتيازها واحتفظت للأمة العربية بسرّها الذي تسترجعه في حال تهيأت الظروف العربية، فيما حافظت على سياقها العربي تحت الاحتلال العثماني قروناً طويلة إلى أن أصبح الواقع العثماني يبهت في دعايته التي تستخدم الإسلام للسيطرة على الولايات التي تحكمها.

وفي مستهل القرن العشرين تقاسمت القوى الاستعمارية سورية للحيلولة دون قيام دولة عربية فيها تنطلق باتجاه الوحدة الشاملة، فقد أدرك الأوروبيون الدرس جيداً بضرورة الحيلولة دون قيام قوة مركزية في الشام فعمدوا لتقسيمها في اتفاق سايكس – بيكو الشهير ووعد بلفور، مما أعاق مساعي الأمة العربية في إعادة وحدتها، ومستفيدين من درس محمد علي باشا عندما انطلق إبراهيم باشا موحداً الشام مع مصر ومسيطراً على الجزيرة العربية، فكان الدرس: أنه لمحاصرة المشروع القومي، يجب أن تبتعد مصر عن سورية وإذا بقيت مصر موحدة فإنها ستراوح مكانها من دون الشام، وهذه دروسٌ استخلصها نابليون في حملته على المشرق، ومن قبله الحملات الصليبية.

فقامت في بلاد الشام التاريخية أربع دول هي سورية والأردن وفلسطين ولبنان، ولم ينجح المخطط الفرنسي بإقامة دويلات في حلب والساحل السوري إضافة إلى دولة للدروز، لتؤكد الأيدولوجيا ذاتها في مواجهة التفكيك، فهي من حافظت على نواة الشام الحقيقية التي زاوجت بين الموقع الجيوسياسي والأيديولوجيا، لكن مع ذلك ومع حفاظ الشام على هذا الجوهر إلا أنه لا شك في أنه فتّ في عضدها وقلل الفاعلية التاريخية للشام من حيث الدور والموقع عندما اقتطعت فلسطين منها لليهود وأقيم كيانان جديدان في الأردن ولبنان.

وليس من الفراغ تنشأ الحرب العدوانية على سورية منذ أكثر من خمس سنوات، فعندما تصبح سورية عنصراً محدداً في وجه إعادة رسم خرائط العالم الذي تسعى له الولايات المتحدة، وله أثر حاسم في سياسة تطويق روسيا والحد من الطموحات الصينية، وفي سبيل الحيلولة دون انطلاقة مشروع قومي مستفيداً من حالة التدهور العربي الرسمي التابع للمراكز الاستعمارية العالمية، عندما أدركت تلك القوى أن أدواتها لم تعد قادرة على القيام بدورها، فكان لا بد من تأطير أي حركة شعبية عربية تحت السقف الإمبريالي، موظفةً قوى الإسلام السياسي في ذلك.

بقيَ القول بمناسبة القوى الإسلاموية أنه عبر التاريخ العربي الإسلامي لم تستطع أية قوى إسلاموية أن تخترق عروبة سورية والقانون الأموي في الشام الذي وضع الإسلام في سياقه القومي، وهذا جزء من عبقرية الجغرافيا السياسية، لأنه بنزع الغطاء العربي القومي عن الإسلام ستضيع المعادلة الشامية وتفقد عنصراً مهماً من قوتها وهو قوة الأيديولوجيا.

المراجع:

  • صراع الممالك في التاريخ السوري القديم – عبدالله الحلو.
  • صراع القوى الكبرى على سوريا – د. جمال واكيم.
  • أسس العروبة القديمة – د إبراهيم علوش.

 

 

 

ماذا ينقص سورية لتحقيق النصر المبين؟

المهندس صالح بدروشي

إنّ مساحة الحرية التي تمتلكها الدولة السورية في اختيار التكتيكات الرابحة في معارك الحرب الكونية المفروضة عليها بفعل العدوان الإمبريالي، هي مساحة مرتبطة بمقتضيات حلفاء سورية … ودعم الحلفاء مهما كبر حجمه، وهو كبير في حالة سورية، يبقى دائماً محدوداً ومقيّداً باعتبارات حلفائنا التي تختلف عن اعتباراتنا، الشيء الذي يدفعنا أحياناً لاتخاذ قرارات لا نرغب بها أو تأجيل أخرى مراعاة لرغبات حلفائنا بعيداً عن منطق التفريط بالسيادة الوطنية.  فعلى الرغم من أنّ حلفاء سورية أدركوا أنّهم مستهدفون مباشرة من الحرب على سورية، وأنه لا مناص لهم من التحالف مع سورية، إلّا أنهم يملكون مساحة أكبر للمناورة، حيث أنهم لا يتحمّلون التبعات السلبية للمناورة بما أنّ المعارك تدور بالأساس على أرض سورية التي تتحمّل العبء الأكبر من خسائر المعركة المشتركة من دمار للبنى الفوقية والتحتية، والأهم الدماء والخراب الذي لحق بالنسيج الاجتماعي (عندما تكون النيران في أوكرانيا والقرم، تفرض التكتيكات خيارات مختلفة طبعاً) .. وحين نقول هذا فإننا لا نرمي البتّة إلى التقليل من دور حلفائنا أو الطعن فيهم، ولا نقصد البتّة أي عتاب للحلفاء الذين وفّروا نصيباً لا بأس به قوة الردع ومن سلاح استراتيجي ودعم مالي واقتصادي، ولكن ما تملكه سورية ولم يتوفّر لها، أو هي لم تهتدِ لتوفيره كرصيد استراتيجي وازن وذي أولويّة وضروري في معركتها التي هي معركة الأمة العربية، هو الطاقات الشبابية العربية التي تعدّ بالملايين على امتداد مساحة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج .. إن مثل هذا الرصيد الاستراتيجي يستطيع أن يضاهي ما يقدّمه الحلفاء أو يفوقه بكثير.. وهو ينطلق من ضرورة اعتبار المعركة التي تدور في الساحات العربية -واحدة- كما هي بالفعل من جانب الإمبريالية والصهيونية- وأن نحارب أعداءنا كافة كما يحاربوننا كافة، ففي الوقت الذي يتعامل عدونا معنا ويحاربنا كوحدة واحدة لا يستقيم أن ننظر إلى أنفسنا كوحدات منفصلة.. فالطرف المعادي لنا موحّد، من يحارب في سورية هو نفسه الذي يحارب في ليبيا وفي العراق وفي اليمن وفي مصر وفي لبنان، ويناوش من حين لآخر الجزائر، والفاعل هنا هو حلف واحد بتنسيق كامل (حلف الناتو-المال الخليجي-الكيان الصهيوني- النظام التركي والإخوان وداعش موحّدة من المحيط إلى الخليج)، بينما الشّق الوطني يواجه الحرب كلّ في مساحة دولته من دون أي تنسيق استراتيجي هام يذكر..

لأجل ذلك نرى أنّ توفير الرصيد الذي تفتقده سورية لتحسين شروط التوازن في تحالفاتها، يستوجب العمل بأولوية قصوى على توحيد الطاقات النضالية العربية وحشد تيّار قومي عربي مقاوم موحّد في كل الساحات العربية يتكفّل بتجنيد الشارع العربي ضدّ كل مخرجات مؤامرة “الربيع العربي” ودفع مصر باتّجاه العلاقة الكاملة مع سورية، ويعمل على دفع الجزائر ومصر وسورية لمساعدة أحرار ليبيا على إزالة كلّ إفرازات الناتو.

إنّ عملية خلق تيار قومي عربي مقاوم هي مسؤولية مشتركة بين الدولة السورية وكل التنظيمات الوطنية المعادية للإمبريالية والصهيونية في الوطن العربي .. ولا يقولنّ لنا أحد أن انشغال سورية بحربها وبالمعارك الكبيرة يعيقها عن مثل هذا الدور، فهذه المهمّة هي من أولويات الحرب، وهي ضرورة استراتيجية وليست من الكماليات، كما أن الدواعش ومشتقاتهم يستفيدون من مخزوننا القومي ويقومون بحشد الطاقات الشبابية العربية من المحيط إلى الخليج في ظل غياب أي دور حي لأي قوة عربية تقدمية تعمل على استثمار هذا المخزون الاستراتيجي.

سورية لن تستطيع أن تنتصر من دون الارتكاز على عمقها العربي وهم يحاربونها لأنها تؤمن به وقادرة عليه.. عشرات الآلاف من الشباب العربي مستعدّون للقتال إلى جانب سورية، ناهيك عن استعدادهم للانخراط فوراً في معركة تحرير فلسطين .. بل أصبحوا مستعدّين لمحاربة “الربيع العربي” بعدما اكتووا بنيرانه ورأوا مخلّفاته لمّا غرقوا في البطالة وزيادة مستويات الفقر وشلالات الدماء المراقة والإرهاب.

وعندما تنجح سورية في تجنيد عمقها العربي، يمكن الحديث عن التحكّم في مسارات الحرب.. سورية تُحارب بسبب عدم تنازلها عن فلسطين وبسبب تمسّكها بالعروبة، ولأنها حاملة راية القومية العربية، ولأنها تعتبر حاضنة ممكنة لأي مشروع وحدوي في هذا القرن.. فلا خلاص لها ولا للعروبة إلّا بالغوص عمليّاً في عمقها العربي.

ومن منطلق وحدويّ أو حتى الجغرافيا السياسية والمصلحة الضيّقة نقول إن من لا يعتبر أن المعركة في سورية اليوم هي المعركة الرئيسية للأمة العربية فإمّا أنه ليس بقومي ولا بوحدوي، أو أنه يحمل العنوان القومي ولا يفقه ولا يعي شيئاً عمّا يدور حوله، أي مصاب بالعمى السياسي ويفكّر خارج حدود المنطق والتاريخ.. فالمعركة في سورية في هذه اللحظة التاريخية تتطلّب من كل مناضل وطني أن يهبّ بكلّ طاقاته للدفاع عن سورية باعتبارها آخر قلاع العروبة والمقاومة في الوطن العربي.

كما أنّ ما تجدر ملاحظته في خضمّ زلزال “الربيع العربي” الدموي المدمّر، هو أن أكثر الأقطار تشبّثاً بالمشروع القومي العربي وبنهج السلاح والمقاومة كأداة للتحرير، وأشدّهم تمسّكاً بالبوصلة الفلسطينية ورفض التطبيع، وأحرصهم على التحالفات التي تخدم مصلحة الأمّة العربية وتناهض الإمبريالية والصهيونية كان هو القطر الذي استطاع أن يقف بوجه أكبر عدوان دولي يشنّ على الأمّة العربية وهو سورية بقيادتها الفريدة وجيشها وشعبها الواعي .. وهذا ليس كلام إطراء إنشائي، ولكنه واقع يعيشه اليوم كلّ مواطن عربي حرّ.. كما لا ننسى أن سورية كانت أحد جناحي دولة الوحدة النواة الجمهورية العربية المتّحدة المغدورة.

غير أنه بعد مرور أكثر من خمس سنوات من المقاومة والصمود ومقارعة العدوان وتطوّر التحالفات، وأمام تكالب وتعنّت ومناورات وخداع وغطرسة الحلف الصّهيو- أمريكي، يعبّر الكثيرون عن شكوك وتخوّفات من صمود وثبات الموقف الرّوسي الداعم لسورية، ولنا كعرب عموماً.  ومع أن الروس لم يقصروا معنا فإن ذلك لا يجب أن يقودنا إلى طلب المزيد من الروس الذين يقدّمون الكثير، ولكن للروس حساباتهم في النهاية قد لا تتطابق دوماً مع حساباتنا، فما يمكن أن يبدّد هذا الخوف ويعطينا ضمانات أكبر هو تجذّر موقفنا نحن، أي سورية وكلّ أحرار العرب ..

على سورية أن تلقي في سلّة المهملات أي اعتبار للقوانين والمواثيق الدولية ولا تعوّل عليها ولا تلتزم بها .. وإذا كان الأعداء يخترقون المواثيق الدولية التي هي أصلاً في غير مصلحتنا فسورية المظلومة والمعتدى عليها هي أولى باختراق وعدم احترام هذه المواثيق بل والقيام بذلك استباقيّاً .. وعليها أن تسعى لجرّ الصين ومجموعة “البريكس” للسير في هذا النهج كما فعلت روسيا في أوكرانيا وكما تفعل كوريا .. وعلينا جميعاً أن نعي وندرك أنّ الحلف الصهيو أمريكي-الغربي لم يكتفِ بصياغة قوانين ومواثيق دولية ظالمة بل يقوم باحتكار خرقها وعدم الالتزام بها من جانب واحد، وكأنّها جُعِلَتْ لتكبّل أيّ ردّة فعل دفاعية مشروعة للمظلومين .. فلتذهب مواثيقهم وليذهب مجتمعهم الدّولي إلى الجحيم !! ولكن لكي تتمكّن سورية من اتخاذ هكذا موقف من دون أن تكون عبئاً على حلفائها الذين لهم حساباتهم الخاصة والمشروعة، لا بدّ لها من استخدام ذراعها القوية ألا وهي التيار القومي العربي بكل إمكانياته وامتداداته من المحيط إلى الخليج.

إن ضراوة وعمق الحرب الكونية على الأمة العربية من خلال سورية جعلتنا نكتشف أهمية أن يتواصل القوميون العرب أكثر، لعلنا نستطيع أن نقدّم ما يفيد أمّتنا العربية ونكفّر عن سهونا السابق عمّا جرى للعراق وتونس ومصر وليبيا واليمن، وعندما ندعو القوميين فإنما نقصد الصادقين الذين يحملون الحلم العربي، ونستثني سماسرة السياسة وهم كثر ويدّعون مناصرة سورية أحياناً ولكنهم للأسف يخدمون مشاريعهم الضيقة أو مصلحة أجندات أخرى أو حتى يعادون سورية مقابل مصالح شخصية ويكونون حجّة عليها بحملهم العنوان القومي.. وسورية بحاجة إلى أن يلتفّ من حولها كلّ أبناء التيار القومي العربي الصادقين في كل قطر عربي، ولقد خلصنا إلى أن معيار الصدق في النضالية هو البوصلة العربية السورية .. ومن ليس مع سورية قيادةً وجيشاً وشعباً لا يمكن أن يكون مع مصلحة الأمة العربية وإنما يصبّ في خانة الأعداء كما يفعل الإخونج بكل مِلَلِهم.

لقد تاه القوميون الناصريون والبعثيون واليساريون الذين ابتلعوا طُعم “الحرية” وتاهت عنهم الحقيقة التي أدركها حتى المواطن البسيط.. لقد اعتقدوا كما قيل لهم أن العراق سيكون أفضل من دون صدام حسين وبعد سقوط العراق اعتقلوا صدام وشنقوه، وبعدها لم ينعم العراق بالحرية الموعودة بل شرعوا في تفكيكه وتدميره وتقطيع أوصاله .. ولما قالوا لهم أنهم يريدون رأس القذافي “الدكتاتور” صدّقهم هؤلاء وعلى رأسهم بعض أعضاء المؤتمر القومي العربي والمؤتمر الناصري العام الذين أسماهم المناضل والكاتب القومي محمد يوسف “قوميين بمقاسات الناتو” عندما هلّلوا لقصف وغزو ليبيا.. وبعد أن اعتقلوا معمر القذافي وذبحوه، لم تنعم ليبيا بالحرية الموعودة بل غرقت في الظلام والرماد والنسيان الإعلامي وأصبح الهدف الجديد هو الخلاص من “الدكتاتور” بشار الأسد لا غير! وبعده ستنعم سورية بالحرية والأمان والرفاه كما هي العراق وليبيا واليمن اليوم، فهي فعلاً “حرية أمريكية بنكهة إخوانية صهيونية” أي منتج مُسَرْطن مائة بالمائة.

متى يمكن لسورية أن تقول: ليذهب القانون الدولي .. والمجتمع الدولي ومواثيقه.. والأمم المتحدة إلى الجحيم..؟

فكما ينتاب الكثيرين منّا التحسّر والألم من الأموال والثروات الخيالية المهدورة من آل سعود وأمراء الخليج والموظّفة لمصلحة أعداء الأمة العربية، فإن نفس الشعور بالحسرة والألم والمرارة يعتريني كلما فكرت بالطاقات النضالية القومية المهدورة من أفراد وأحزاب وجمعيات ومنظمات مشتّتة وعالقة في حبائل وشباك حقوق الإنسان والديمقراطية الغربية.. فبفعل هذه الشباك وهذا التشتّت تحوّلت تلك الطاقات من تيار قومي جارف إلى مجموعة بِركٍ راكدة يرعاها البعوض الإخواني (حيث نرى مثلاً رئيس حركة النهضة الاخوانية التونسية يفتتح ملتقيات المؤتمر القومي العربي وهو عضو معتبر فيه !!  ).. ولأجل ذلك نقول أنه لا بدّ من استخراج هذا المخزون القومي وتثمينه وتوظيفه في معركة سورية التي هي معركة الأمة العربية كما هي معركة مصر وليبيا واليمن لكي نشهد من جديد إشراقة المغرب العربي ووادي النيل والشام والعراق والحجاز بيمنه السعيد.

وبناء عليه، فإنّ التجربة التي يمرّ بها وطننا العربي اليوم تدعو كل مناضل عربي حرّ أن يجعل من نفسه عمقاً وامتداداً قوميّاً لسورية كما تجعلنا نرجّح سورية بأن تكون نواة انطلاقة المشروع القومي العربي،  فالجيش العربي السوري بخبرته القتالية والسياسية والعقائدية أصبح مؤهّلاً لأن يكون رأس حربة أو نواة جيش التحرير العربي، والقيادة السورية، بما أظهرته من وطنية وصدق وجذرية وثبات على المبادئ وكفاءة عالية، فإنا نراها جديرة بأن تصبح قيادة قومية عربية لا سورية فحسب، يلتفّ من حولها كلّ التيار القومي التقدّمي .. فسورية التي صمدت هي أمل الجماهير العربية المقهورة وهي التي يجب أن تعدّل البوصلة العربية وتقود مشروع النهوض القومي العربي بما دفعته من ضريبة الدم نيابة عن الجميع ولا خلاص لنا جميعاً إلّا بنهضة عربية شاملة.  فهل يستفيق القوميون لضرورة اقتناص فرصة انتصار سورية للالتحام بها والانطلاق معها نحو المستقبل العربي المنشود وطن محرّر وواحد موحّد ونهوض وازدهار..

ولأجل ذلك نعود ونؤكّد أنه يفترض بكل قومي عربي اليوم أن يدرك أنّ سورية بحاجة إلى كسر الحصار الدبلوماسي العربي المضروب عليها، فمن المهمّ جدّاً مثلاً إقامة حراك قوي ومتواصل في الشارع المصري خاصة من أجل دفع مصر للمبادرة لفكّ هذه العزلة العربية على سورية .. وإن تنظيم مثل هذا الحراك في الشارع المصري له أهمّية قصوى ويجب أن يكون من أقوى الحراكات في الوطن العربي.. لأنه إذا سقطت سورية لا قدّر الله لن تفيدنا النشاطات الهامشية واللقاءات الخطابية المناسباتية أو التقاط بعض الصور في رواق سفارات سورية المعطّلة، وسيتمّ الانقضاض مباشرة على كلّ من مصر والجزائر.. فدعم سورية اليوم يستوجب نشاطاً متواصلاً في شكل اعتصامات لا تتوقّف إلّا بعودة العلاقات كاملة بين مصر وسورية وتبادل السفراء والزيارات الوزارية الرسمية بين جناحي الأمة العربية، والتواصل العلني مع القيادة والمؤسسات العربية السورية.. وليس في الخفاء في حين تقع زيارة وزارة خارجية العدو الصهيوني في وضح النهار وعلى غير استحياء..  ولا نرى حالياً مهمّة للقوميين في مصر أَوْكَد من هذه المهمّة ومعها المطالبة بطرد السفير الصهيوني من القاهرة.. على القوميين في كل مكان أن يرفعوا أصواتهم عالياً وباستمرار بأنّ من يريد حقّاً محاربة الإرهاب عليه بأمرين هامين ضروريين                       :

1- القطع مع الكيان الصهيوني وغلق سفاراته بؤرة دعم الإرهاب، على غرار ما يطالب به قوميو الأردن في اعتصام “جك” البطولي.

2- إعادة العلاقات مع سورية والتنسيق مع الجيش العربي السوري المقاوم الجذري للإرهاب، على غرار ما يطالب به قوميون من تونس في اعتصام النخوة العربية.

سوراقيا، توأم الواقع والمصير

معاوية موسى

سورية والعراق، وحدة الجغرافيا والتاريخ، الجاران الكبيران، جرح المشرق النازف، وحضارة هذا الشرق الناهض دائماً من تحت الرماد، أرض الفرات، انسيابية الأرض بما حملت من البشر، حيث تبدو الحدود أشبه بمزحة ثقيلة يزدريها أبناء العائلة الواحدة، ففي تلك الأرض لا أحد في إمكانه أن يحدد جنسية مضيفيه، هل هم سوريون أم عراقيون.

إن الوحدة بين سورية والعراق تبدو أكثر إلحاحاً اليوم بسبب الإرهاب الذي تمارسه داعش ضد الشعب هناك، فسوراقيا حاجة ماسة تاريخياً وموضوعياً لإرساء كتلة ثابتة وقوية على نحو كاف لكي تواجه العدو التكفيري أو أي عدو آخر، فلا تعود أرضاً مستباحة من جراء تقسيمها واحتلالها.

من سايكس بيكو إلى داعش، ومن علي ومعاوية إلى صدام حسين وحافظ الأسد، صراع المراكز الكبرى، وقسوة قوانين الجيبولتيكس والجغرافيا السياسية تحول دون تحقيق تلك الوحدة الضرورة، الوحدة التي لا بد أن تتحقق، بل الوحدة القابلة للتحقق حتى ترسو المعادلة الموازية لمعادلة التحالف الصهيو– تكفيري، المعادلة التي تؤسس لدحر الإرهاب وقيام محور الفرات الجديد، الذي من الممكن أن يؤسس لحالة وحدوية يمكن البناء عليها وتعميمها، ونموذجاً عربياً لمكافحة التكفير، يكون عمادها ورأس حربتها الجيش العربي السوري والجيش العراقي.

يجب أن نشير هنا إلى أن سوراقيا ليست بديلاً عن وحدة المشرق العربي، ولا وحدة العرب، بل هي خطوة أولى نحو الهدف الأكبر، والأهم، وهي عملياً رغم ما يبدو ظاهرياً من تعقيد، الأقرب والأسهل، والأكثر نضجاً وراهنية، فالآن تلوح فرصة جديدة، تبدأ فكرة ويجب أن تنتهي واقعاً، من المستحيل القفز عنها هذه المرّة، ولا حتى مجرد التفكير بتأجيلها، إذ يجب أن تُطرح بكل عنف وإصرار على بساط البحث، والآن، فسوراقيا ليست خيار الحالمين، وإنما هي خيار العمليين، الواقعيين، الذين يستلهمون الواقع ويعبرون عنه، يقع عاتقها ومهمة إنجازها على كل القوى الحية في الوطن العربي، لا سيما في العراق وسورية على وجه الخصوص.

إن الأنظار باتت تتجه الآن “بعد إنجاز مشروع تحرير الأراضي من داعش والمجموعات المسلحة” إلى إعادة بناء ما خرّبته الحرب في سورية والعراق (سوراقيا الجديدة) التي تختزن في أراضيها وشواطئها “نهرالفرات” وثروات نفطية وغازية هائلة تشكل رصيداً قوياً لإعادة الإعمار، “وثروة يسيل لها لعاب الشركات العالمية المتنافسة لنيل حصة بمرحلة إعادة الإعمار”، يساهم في ذلك المشروع السوريون والعراقيون على حد سواء، ومما يساعد على إرساء قواعد مشروع الوحدة هذا، إن سوراقيا تحتوي على كل المكونات الاجتماعية من دينية ومذهبية وعرقية، على نحو متكافئ، بحيث لا يشعر أي مكوّن بالغبن أو التهميش، فهذه الوحدة، وحدة سورية والعراق، سينتج عنها مجتمع متجانس طائفياً، يعني الأغلبية “الشيعية” في العراق، والأغلبية “السنية” في سورية، مضروبين في خلاط (الخلاط القومي الكبير) مما ينتج مجتمعاً متجانساً، يساعد في ذلك طبيعة التداخل الحضاري والاجتماعي لأهل الفرات كما سبق ذكره.

ومما لا شك فيه أن سوراقيا سوف تساهم بشكل كبير وفاعل في ملء الفراغ الذي تركته مصر في إدارة الصراع العربي – الصهيوني، وفي الوقاية من فتنة مذهبية حقيقية، هذا على الصعيد السياسي، أما على الصعيد الاقتصادي فستسعى إلى امتلاك منظومة نفطية مهولة، وبناء مشاريع ضخمة على الفرات لا سيما في مجال الزراعة وتوليد الكهرباء، وستكون النتيجة عملية تنمية شاملة لإقليم يعجّ بالطاقات والثروات.

مشروع سوراقيا ومستقبلها هو تحدٍ كبير وصراع ممتد، من الماضي مروراً بالحاضر وصولاً إلى المستقبل، مشروع إن لم يرَ النور، سنبقى خارج الجغرافيا العربية تماماً، السوريون والعراقيون خصوصاً والعرب عموماً هم الخاسرون فيه على طول الخط، مشروع سوراقيا هو الرد العملي على الصهيونية والوهابية التكفيرية في المنطقة، سورية والعراق، توأم الواقع والمصير، وحدة القتال ضد الإرهاب، يجب أن تتحول إلى مشروع سياسي توحيدي، فمشاكل القطرين واحدة، الارهاب، القوى الانفصالية والنعرات الطائفية، كما أن مقومات التكامل والوحدة مطلقة، وفي اتحاد القوى الوطنية في القطرين الشقيقين هزيمة للإرهاب والنعرات الطائفية ودستور بريمر الطائفي التقسيمي، نعم يحق لسورية أن تتيه دلالاً إذ ما احتضنت العراق، ويحق للعراق أن يتيه اختيالاً وزهواً إذا احتضن سورية، وحدة سوراقيا اللبنة الأولى في خلاص المشرق من كابوس “الربيع العربي” المسموم.

المصادر:

 مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي، من إصدارات لائحة القومي العربي وتأليف د. إبراهيم ناجي علوش.

 سوراقيا، مشروع إعلان وحدة بين العراق وسورية، يونس أحمد الناصر.

 سوراقيا مشروع وحدوي توحيدي، باسل ديوب.

شخصية العدد:

صالح العلي؛ قائد الثورة السورية

 

إعداد نسرين الصغير

ولد الشيخ صالح العلي سلمان في العام 1883م في قرية المريقب في جبال الساحل السوري، وغادر هذه الحياة في 13 نيسان 1950م في مدينة طرطوس السورية، وكان من أوائل الرافضين للمشروع الطائفي، فقد عرض عليه الفرنسيون كشيخ علوي إقامة دولة علوية فرفض عرضهم وفضّل أن يبقى في الإقامة الجبرية على أن ينول الاحتلال الفرنسي مناه في تقسيم الوطن وقضى بقية حياته يساعد الفقراء ويحنّ على الأيتام والمحتاجين ولا يقصده أحد بحاجة إلا ويقضيها له، وكانت هذه في بداية مسيرته التي اختارها أن تكون مكللة في الكفاح المسلح.  وكانت أول رصاصة في وجه المحتل الفرنسي في العام 1918م عندما حطّ الفرنسيون رحالهم على شاطئ طرطوس، وقد قتل يومها عددٌ كبيرٌ من الفرنسيين، ولولا نيران البوارج الراسية في البحر قبالة الشاطئ السوري لما خرج أي فرنسي حياً من تلك المعركة، ما اضطر الشيخ صالح للانسحاب تحت وابل القذائف المدفعية إلى مقر الثورة في قرية رسته قضاء الشيخ بدر.

كيف بدأت الثورة؟

في 15 كانون الأول من العام 1918م وجه الشيخ صالح العلي دعوة إلى زعماء ووجهاء القبائل في الساحل السوري للاجتماع في منطقة الشيخ بدر في قرية الرستة، وقد لبّى دعوته عدد كبير من أصحاب الوجاهة والنفوذ، وقد تحدث إليهم حديثاً طويلاً ومفصّلاً عن الأخطار المُحيقة ببلادهم جراء الاحتلال الفرنسي للساحل السوري وعن خيانة الحلفاء ونكثهم للعهود، وبعد حديث طويل توجه إليهم بالسؤال عما إذا كانوا يتضامنون معه لإشعال نار الثورة؟  وقد لقي هذا الأمر قبولاً من جميع المشاركين في الاجتماع، وتم الاتفاق على التجهيز لذلك، وبعد الاجتماع سُرّبت معلومات عن الاجتماع للفرنسيين مما أثار غضبهم، فوجّهوا حملتهم الأولى من القدموس للشيخ بدر وقد تصدّى لهم الشيخ صالح وأربعة من المجاهدين الأشداء في الغابة القريبة من قرية النيحا، وتمكنوا من ردّ تلك الهجمة وقتل أكثر من 35 فرنسياً وقام المجاهدون بالحصول على العتاد والأسلحة.

من أشهر المعارك التي شنها الشيخ صالح والمجاهدين ضد الفرنسيين:

  • معركة وادي ورور: في 15 حزيران 1919م وكانت حصيلتها أكثر من ثمانمئة جندي فرنسي بين قتيلٍ وجريح، وأسر ستة عشر غير الغنائم التي حصل عليها المجاهدون بعد المعركة، واستشهد في هذه المعركة المجاهد مصطفى خير بك.
  • الهجوم على الفرنسيين: في أواسط تموز 1919م زحفت قوة فرنسية كبيرة من طرطوس واستقرت في قرية عقر زيتي وفي القرى القريبة منها فقام المجاهدون بالهجوم عليهم واستمرت المعركة أياماً طويلة وانتهت بانسحاب الفرنسيين إلى طرطوس بعد تكبيدهم خسائر فادحة في الأموال والأرواح.
  • الهجوم على طرطوس: في 20 شباط 1920 وكان هذا الهجوم مخططاً له، فقام المجاهدون بالهجوم على طرطوس من ثلاث جهات: شمال، شرق وجنوب، فأفاق الفرنسيون على هذه المفاجأة الحاسمة ودارت معارك عنيفة بالسلاح الأبيض واشتد الحصار عليهم في ثكناتهم فقامت البوارج الفرنسية بتصويب نيرانها باتجاه الشيخ صالح ورفاقه، مما اضطرهم للانسحاب إلى جبل القريبة.
  • احتلال القدموس: في 3 آذار 1920 وجاءت هذه العملية كمفاجأة بعد عملية طرطوس وكان الفرنسيون قد حولوا القدموس إلى قلعة حصينة وكانت مسلحة تسليحاً قوياً فحاصرها الشيخ عدة أيام مما دعا الحامية للاستسلام، وسيطر المجاهدون على القدموس وموقعها وكانت هذه الخطوة مهمة في خدمة الثورة.
  • معركة السودا الكبرى في أواخر آذار 1920.
  • الهجوم على بانياس في 1 تموز 1920.
  • وغيرها كثير من المعارك، منها: معركة وادي الفتوح، معركة وادي جهنم، معركة الدويلة، معركة رأس ماسم، معارك البودي ومعركة قرفيص).

كان الهجوم النهائي في 15 حزيران 1921م حينما هجم جيش الاحتلال الفرنسي بقيادة الجنرال نيجر بجيوشه الجرارة الهائلة وقاموا بقذف معظم أنحاء الجبل وجعلها جميعها أهدافاً لمرماهم، وبدأت الجيوش بالتدفق من قريفص إلى الدراب وبشراغي إلى بسمالخ وعقبة الزرزار ووادي جهنم وجبل النبي صالح، وكان طول الجبهة عشرات الكيلومترات، وهنا بدأت مرحلة تفتت المجاهدين فانقطع الاتصال فيما بينهم وكلٌ يقاتل بشكل مستقل عن الآخر من دون قيادة ومرجعية بسبب تفتيت المقاتلين وتمزيق جبهاتهم، فهنا استطاع الاحتلال الفرنسي تحقيق هدفه وتمزيق الثوار.

من إنجازات الشيخ صالح أنه قام بتشكيل محكمة ثورة وكانت محكمة عرفية عسكرية كانت تُعاقب كل من يتهم في الخيانة أو التآمر على سلامة الثورة، و تقوم بتحقيقات دقيقة وواسعة في كل من له بالكيد أو التجسس على الثورة، وقد اختار لرئاسة هذه المحكمة السيد علي زاهر وعضوية كل من محمود علي اسماعيل ومحمود ضوا، وقد أعدمهم الفرنسيون في قرية القميصة ونكّلوا بكتّابهم ومساعديهم.

استمرت ثورة صالح العلي ضد المحتل الفرنسي ثلاثة أعوام ونيّف فكانت أطول الثورات السورية وأشرسها، وأذاقت هذه الثورة المحتل الفرنسي الويلات و كبّدته خسائر كبيرة بالأرواح والعتاد، ولم يكن الشيخ صالح مطلوباً لجيش الاحتلال الفرنسي فحسب، بل كان يطالب به الشارع الفرنسي بأكمله.  وفعلاً، وبعد اعتقاله من قبل الاحتلال بعد صراع دام ثلاث سنوات ونيّف، قام الاحتلال بقيادته حافياً مكبلاً بالأغلال في شوارع العاصمة الفرنسية باريس وذلك لكثرة ما قتل من جنود فرنسيين.

كان الشيخ صالح يتّصف بأجمل وأسمى الصفات ومنها، إيمانه، شجاعته، هيبته وأنه الشيخ القائد، فعُرف بين الناس على أنه الشيخ الرزين، كبير القلب والعقل، ولسانه دائماً ينطق بالحق والصدق، وكان نموذجاً للأخلاق الفضيلة للصديق والعدو، وكانت معاملته لا تقتصر على أبناء وطنه، بل كان الشيخ خلوقاً بتعامله حتى مع الأسرى من الأعداء وكثيراً منهم كانوا ينضمون لصفوف المجاهدين والمقاتلين.  كان إيمانه بالله تعالى كبيراً جداً وكان في المعارك يؤدي صلاته وهذا ما جعل إيمانه بالنصر على الأعداء أكبر، أما شجاعته فكان دائماً في طليعة الثائرين والمجاهدين فهو لا يكتفي بالتخطيط بل كان رأس حربة في التنفيذ أيضاً، وكان مثالاً وقدوةً للمجاهدين في التضحية، وكان ذا هيبة بين الرجال فكان طويل القامة وحديثه جريء وصريح بين الرجال ودائماً كان متواضعاً لرفاقه ذا عز وكبرياء على الأعداء، كان في نهاية كل معركة يجمع الضباط ورؤساء الفرق ثم يمرون على ساحة المعركة متفقّدين، يستفيدون من أخطائهم وأخطاء غيرهم للمرات القادمة، فلم تكن تنتهي المعركة عند الشيخ صالح مع نهاية إطلاق النار بل كان يعتبرها تجربة للتعلم للمعارك القادمة حتى لا يقع المجاهدون في نفس الخطأ أكثر من مرة.  لم يكن عالماً أو دارساً للعلوم العسكرية لكنه كان قائداً ميدانياً بكل ما تحمله الكلمة من معاني، وكان شجاعاً وأكسبته التجربة خبرة عسكرية تفوق خبرة من يواجهه من الأعداء، وكان له الفضل لثبات الثورة كل ذلك الأمد الطويل.

كان تمويل الثورة من العوامل التي ساعدتها على أن تكون أطول ثورة، فكان الشيخ صالح يتابع الأمور المالية، فلا توجد ثورة من غير المال الذي سيجلب السلاح ليساعد لمجاهدين على الصمود أطول وقت ممكن، فمن أهم موارد تمويل ثورته:

  • معونة إبراهيم هنانو.
  • تبرعات الوطنيين من كافة أرجاء سورية وخارجها.
  • ثروة الشيخ صالح العلي التي وضعت جميعها تحت تصرف الثورة.
  • الغنائم التي كان المجاهدون يغتنمونها في المعارك.

من أشعاره:

بني الغرب لا أبغي من الحرب ثروة   ***   ولا أترجى نيل جاه ومنصب

كفاكم خداعاً وافتراء وخسة   ***  وكيداً وعدواناً لأبناء يعرب

تودون باسم الدين تفريق أمة  ***  تسامى بنوها فوق لون ومذهب

ولكنني أسعى لعزة موطنٍ  ***   أبيٍ ، إلـى كـل الـنـفوس محبب

وما شرع عيسى غير شرع محمد *** وما الوطن الغالي سوى الأم والأب

من أهم أقواله في خطبته بعد إعلان الجلاء الفرنسي من سورية عام 1946م:

 

إن ضجة هذا العيد السعيد وروعة هذا الاحتفال  المهيب، وعظمة هذا النصر المبين، لتغرقني في ضجيج من الذكريات، أتمثل فيها سنيني الثلاث والنصف في النضال الدائم ومعاركها المستمرة، وهي معارك لم يتعرّف نظر ثائرٍ على أشد منها فتكاً ولا أروع هولاً ولا أطول مدة ولا أكبر ضحايا، فالحمدلله الذي أحياني حتى رأيت نتائج جهاد الأمة، وحتى رأيت الشعب يقتطف ثمرات جهاده الطويل.

وإني أتمثل الآن إخواني الأبطال الذين سقطوا صرعى في ميادين الشرف والجهاد، أولئك البواسل الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فما تراخت لهم عزيمة وما فترت لهم همة، وما ضعفت في نفوسهم حدّة القتال، ولا خمدت فيها جذوة النضال ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)) فأما الذين قضوا في سبيل الله والوطن، وأما الذين ينتظرون فهم يعتقدون أن إنكار الذات والبعد عن التبجح والنفرة عن المظاهر إن هي نوعٌ من الجهاد، بل وأقدس واجبات الجهاد والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

 

لماذا لم تُحرَر سورية الجولان؟

فؤاد بدروشي

لطالما سمعنا مقولة رددها أعداء سورية في كل مجالسهم ومنابرهم جزافاً وكذباً وتضليلاً، وهي “لماذا لم تحرر سورية الجولان؟”… “لماذا لم يطلق الجيش السوري طلقة واحدة لتحرير الجولان؟”… المتلقي البسيط وغير المسيّس أو غير المثقف يأخذ الفكرة كمُسلّمة يبني عليها موقفه، فقائلها سوري “معارض” أو سياسي محنّك في تصوره، والواقع الآني يؤكد ذلك، ولا يكلّف نفسه طرح السؤال البسيط: هل ذهب الجولان بطلقة واحدة حتى يُسترَدّ بطلقة؟

لذلك التمسنا ضرورة ماسّة اليوم للرد على هذه الافتراءات الواهية.

الجولان أو الهضبة السورية هي هضبة تقع في بلاد الشام بين نهر اليرموك من الجنوب وجبل الشيخ من الشمال، تابعة إدارياً لمحافظة القنيطرة. عقب العدوان على مصر في 1967 وقعت الهضبة تحت الاحتلال الصهيوني، حيث سيطر الكيان على ثلثي مساحتها.  فمنذ الاحتلال كانت هناك محطات متتالية ومتواصلة في مقاومة الاحتلال من حرب العمليات الفدائيّة إلى حرب تشرين مروراً بنقل الصراع إلى الجبهة اللبنانيّة فالفلسطينيّة، وفي كل هذه المراحل كانت سورية حاضرة بكل ثقلها عسكرياً واستخبارياً ولوجيستياً.

بدأت المرحلة الأولى في العام 1967 بحرب العمليات الفدائيّة، وفي هذه المرحلة نشطت العمليات الفدائيّة السوريّة والفلسطينية التي كانت بدعم السلطة السوريّة ومصر جمال عبد الناصر.

في ذلك العام، وعقب الاحتلال وجّهت شعبة فلسطين لحزب البعث تعميماً يدعو لالتحاق البعثيين الفلسطينيين بدورة تدريبية لتشكيل منظمة فدائية بدءاً من صباح 1/5/1967 تسمى منظمة الطلائع وشعارها «الجمجمة» وتتخذ قيادتها العسكرية من بساتين كفرسوسة، التي تقع إلى الجنوب من دمشق، مقرّاً لها.  تأسست منظمة الطلائع أثناء حرب حزيران 1967 كفصيل فدائي مسلح تابع للتنظيم الفلسطيني لحزب البعث العربي الاشتراكي في سورية تجسيداً للاستراتيجية التي أقرّها المؤتمر القومي التاسع للحزب، المنعقد في سبتمبر 1966، ودعوته لتبنّي حرب التحرير الشعبية في الصراع مع العدو الصهيوني، والتي تنهج طريق حرب الشعب.

في 1/5/1967 بدأت الدورة العسكرية الفدائية الأولى في معسكر للقوات الخاصة السورية ـ الوحدات الخاصة في منطقة حرستا – القابون الواقعة إلى الشرق من دمشق بإشراف اللواء محمد إبراهيم العلي والرائد رئيف علواني، وتمّ تدريب العناصر كتدريب المغاوير والمظليين، وبعد ذلك تمّ افتتاح معسكر معضميّة الشام قرب مطار المزّة العسكري كمدرسة عسكرية لمنظمة الصاعقة بقيادة الملازم أول أحمد العلي.  وتمّ تعيين قيادة عسكرية وسياسية للمنظمة تحت إشراف رئيس مكتب الحرس القومي في قيادة حزب البعث وعضو القيادة القطرية حديثة مراد. بعدها بدأت الصاعقة بافتتاح الدورات العسكرية الخاصة بها في جنوب لبنان وجرش وغور الأردن.  وبتاريخ 1/6/1967 تعرّضت الدورات الفدائية ومعسكر القابون لغارات جوية للطيران “الإسرائيلي”.

بتاريخ 8/6/1967 صدر البلاغ العسكري الأول بعد العملية الفدائية الأولى التي نفّذتها المنظمة ضد مواقع عسكرية “إسرائيلية” في القطاع الأوسط من جبهة هضبة الجولان، التي تبِعتها في نفس اليوم عملية ثانية انطلاقاً من جنوب لبنان. وتوالت العمليات مع حرب الاستنزاف، وكانت على جميع الجبهات ابتداءً من جبهة الجولان وجبهة جنوب لبنان وحتى العمق الفلسطيني المحتل.

خلال حرب تشرين 1973 ألقت سورية بكامل ثقلها في الحرب، وفي التاسع من تشرين الأول من ذلك العام شاركت كتيبة خالد بن الوليد من منظمة الصاعقة مع القوات الخاصة السورية بتنفيذ مهمة صعبة وجريئة تمت في أسوأ الظروف من خلال عملية الإنزال لمقاتلي كتيبة خالد بن الوليد بثماني حوّامات فوق مواقع القيادة العملياتية الصهيونيّة في وسط هضبة الجولان في بلدة كفر نفاخ في القطاع الأوسط من الجبهة وبحماية تشكيل قتالي من الطائرات المقاتلة السورية، وتمكنت أربع من الحوّامات من الهبوط، حيث خاض مقاتلوها قتالاً شرساً فاستشهد 38 فدائياً من الصاعقة على رأسهم قائد عملية الإنزال.

كانت الصحف العربيّة والسوريّة تعجّ بصور جثث طياري الفانتوم متفحمة وهم مقيدون  بالسلاسل إلى مقاعدهم لكيلا يفروا من الطائرة مجرد دخولها أجواء سورية، وصور انهيار الخطوط الأمامية ودفاعات الأعداء، وصور الأسرى وهم مصفدون.

وكل أبناء ذلك الجيل يتذكرون صوت راديو الجمهوريّة العربيّة السوريّة “هنا دمشق”، عندما أعلن الناطق العسكري، بعد مقطع من أغنية فيروز “خبطة قدمكم عالأرض هدارة”، عن انتكاسات العدو.

خلال الأيام الأولى حققت سورية انتصارات عُظمى لكن سرعان ما تقهقرت القوات العسكريّة السورية والفصائل المحسوبة على سورية بسبب خيانة السادات وانتهت بذلك حرب 73 مما أجبر سورية على التراجع في هضبة الجولان، ولكن تمكنت سورية من استرداد القنيطرة.

وبعد انتكاسة 1973 ركّزت سورية على دعم المقاومة العربيّة في فلسطين ولبنان بالسلاح والتكتيك والغطاء السياسي من دون أن تدخل في صراع مباشر مع العدو الصهيوني باستثناء القتال المباشر ما بين الجيش الصهيوني والجيش العربي السوري في لبنان، براً وجواً، في العام 1982.

لكن عدة أسئلة نطرحها اليوم: هل بمقدور سورية مجابهة الكيان الصهيوني في حرب نظامية عسكرياً، وحيدةً من دون مصر، ومن دون العمق الاستراتيجي: العراق؟

هل بمقدور سورية مجابهة الكيان الصهيوني في ظل وضع عربي جلّ الحكام العرب فيه مطبعون، وحتى لو كانت هنالك حرب لن يلتفتوا لمدّ يد العون لسورية؟  وهذا ما أثبتته الوقائع في الترحيب الفاتر بتحرير الجنوب اللبناني في العام 2000، وبتواطؤ حكام الخليج ومصر في حرب 2006، ثم بمتابعة عدوان غزة 2009 وحصار غزة من دون ردود أفعال.

هل بمقدور سورية مجابهة الغرب و”الرأي العام العالمي” من دون دعم وغطاء عربي ودعم قوى عالميّة على غرار الاتحاد السوفياتي المنحلّ؟

واليوم لما أصبح لسورية قوة قادرة على خوض الحرب تم استنزافها بهذه الحرب الكونيّة المنظمة والممنهجة لتدميرها عسكرياً وتدمير بنيتها التحتيّة.

سورية منذ 1920 لم تتخلَ عن مقاومة العدو الصهيوني مروراً بـ1948 و1956 و1967 و1973 و1982 إلى حدّ اللحظة وهي تدافع عن الوجود العربي.

وللمزيد حول هذا الموضوع الرجاء الذهاب لمقالة “عندما يلعب تلامذة هنري برنار ليفي بورقة الجولان…”، للدكتور إبراهيم علوش:

http://freearabvoice.org/?p=1919

مصافحة وفاء لحامي الأمة العربية الجيش العربي السوري

عبد الناصر بدروشي

 

هذه المقالة عن الجيش العربي السوري لا تدّعي أنها ستفيه حقّه في الاعتراف له بما أنجزه ولكنها تهدف فقط إلى تقديم مصافحة له ولفت انتباه الأقلام الحرّة لتحاول القيام بهذا الواجب.

عبر العصور وعلى امتداد رقعة وطننا العربي الكبير لم تشهد أمتنا العربية انقساماً وتشرذماً أكثر من اليوم، ولم يصل الانحطاط والتخلف بشعبنا العربي مستوى أحط من هذا المستوى، كما أننا لم نقتتل يوماً ولم نرق محيطات من دمائنا كما نفعل اليوم، ولم تفعل الطائفية والمناطقية فعلها فينا كما تفعله اليوم ولم يسبق أن فقدت نخبنا صوابها كمن يتخبطه الشيطان من المس وارتضت أن توظف علمها ومهاراتها في خدمة الشيطان كاليوم..

المشهد مؤلم ودموي، ودخان حريق المعارك عم أرجاء هذا الوطن الكبير بتاريخه والمثخن بجراحه.

ترجع خطوتين الى الوراء فترى المشهد كاملاً بوضوح يتجاوز القُطرية العفنة التي سادت لعقود، الوضع كارثي ومرير:

يمن الحكمة والسعادة الذي حولته مملكة آل سعود إلى يمن الخراب والحزن…

  • تونس الخضراء اصفرّت خجلاً من الدنس الذي أصابها بعد أن باتت مرتعاً للموساد والصهاينة ومأوى للمطبعين…

ليبيا باتت مزرعة لتربية الدواعش وتدريب الإرهابيين، منها تنطلق جحافل الظلاميين لتخريب الوطن العربي…

العراق ممزق وغارق في دوامة الطائفية وأصبح التفجير والتفخيخ الخبز اليومي للعراقيين…

مصر بعظمة تاريخها العربي الضارب في القدم ارتضت لنفسها أن تلعب دور كومبارس في مسرح لعبة الأمم متجاهلةً حجمها وجغرافيتها…

خليجنا العربي مغتصب من قبل حفنة خنازير قذرة تستخدم ثرواته الهائلة لإشغال أمتنا وإبقائها خارج ركب الحضارة والتاريخ…

الصومال منسي وكذلك جزر القمر وغيرها من الأقطار العربية التي لا يعرف الجيل الجديد من شباب أمتنا أنها عربية أصلاً…

فمن وسط هذا الكم الكبير من السواد الباعث على الإحباط، وبعد مرور أكثر من خمس سنوات من الحرب الكونية على سورية بأشكال متعدّدة، وبنسق تصاعدي، وبعد أن بدأ منشار الأعداء بتقطيع أوصال الوطن العربي في كلّ من العراق وتونس وليبيا ومصر واليمن والسودان وتداعت علينا الأمم المسعورة كما تتداعى الأكلة إلى القصعة، ظهرت بوادر انكسار المشروع الصهيو أمريكي وأدواته تحت نعال بواسل الجيش العربي السوري وقيادته الحكيمة، حيث كانت سورية هي العقدة التي توقّف عندها المنشار الاستعماري.

وكانت بذلك تدفع ضريبة الدمّ نيابة عن كلّ أحرار العالم وليس عن الأمّة العربية فحسب، ولولا صمود سورية في وجه الهجمة الجهنمية على قوى الخير في العالم كانت ستحلّ كارثةٌ بالعالم أجمع، حيث ستتمكّن قوى الشّر من السيطرة الكاملة على هذا الكوكب.

على مدى أكثر من سبعة عقود أثبت الجيش العربي السوري التزامه المطلق بقضايا الأمة العربية وإصراره على الدفاع عن كرامتها وأثبت تصديه للمؤامرات الاستعمارية التي استهدفت وجود هذه الأمّة.  آمن الجيش العربي السوري بالقومية العربية نهجاً وشارك في جميع المعارك التي خاضتها الأمة العربية وقدمت رجالاته التضحيات الجسام وسطر ملاحم بطوليّة ابتداءً بحرب فلسطين عام 1948 مروراً بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وحرب الاستنزاف بعد عدوان 1967 التي استمرت نحو ست سنوات وصولاً إلى حرب تشرين التحريرية عام 1973 والدفاع عن لبنان ووحدته ما بين 1976 و1982.  إن المعركة التي يخوضها الجيش العربي السوري اليوم ضد الإرهاب المدعوم صهيوأمريكياً ومن الرجعيات العربيّة وإن اختلفت الأشكال وتعددت الأساليب فهي لا تختلف في جوهرها ومضمونها عن معاركه السابقة ضد قوى الاستعمار كافة. كما أثبت الجيش العربي السوري صلابته وصلابة عقيدته تماسكه ووحدته في وجه حملات التحريض والتضليل التي استهدفته منذ بدء الأزمة واستطاع سريعاً التكيّف مع ظروف المعركة الحالية.

ويفوت الكثيرين أحياناً استحضار أنه لا توجد طلقة واحدة للمقاومة العربية ليس فيها أثر للجيش العربي السوري سواء أكان ذلك بالتدريب أم بالمال أم بالاحتضان أم بتوفير كل مستلزمات العيش والقتال والتنقل والذخيرة والمعلومات…

كلّ هذا بالإضافة إلى وعي شعب سورية وحكمة قيادتها بما أنجزته من استقلالية واكتفاء ذاتي منحها مخزوناً اقتصادياً مكّنها من الصمود وإفشال حرب الحصار المضروب عليها، فقد كانت سورية عصية على الأعداء بنوعية جيشها الذي يحمل عقيدة قومية عربية الذي أفشل محاولة القوى الاستعمارية تركيع سورية ونجح في كسر منظومة الهيمنة الأحادية الأمريكية على العالم.

إن الحرب الضروس التي يخوضها الجيش العربي السوري ضد العدوان الصهيو-أمريكي بتواطئ إخواني رجعي غير تقليدية وتنوّعت واختلفت فيها الوسائل والجبهات والتكتيكات والأسلحة وتجمّعت فيها كل أساليب المكر والغدر الخبيثة واللاأخلاقية، ومع ضراوة المعارك كانت الحرب متواصلة في الزمن بلا انقطاع وتتراوح بين حروب المدن والمناطق والأحياء الآهلة بالسكان والأماكن المعقدة ديمغرافياً وحروب المرتفعات والجبال وحروب الصحارى والسهول وحروب المناطق والأماكن التي تحوي منشآت حساسة ومواقع هامة واستراتيجية كمحطات توليد الكهرباء وحقول النفط والسدود وحروب الأنفاق والحدود ومن قيظ الصيف إلى ثلوج الشتاء ليلاً نهاراً صباحاً مساء وفي رمضان والأعياد.

لقد نجحت القيادة العسكرية في خلق تلاحم الشعب مع جيشه واستطاعت بفضل حسن الأداء أن تحظى بثقة حلفاء أقوياء من القوى الإقليمية والعالمية وتتعامل معهم بندّية فائقة عن طريق تشبيك المصالح وشكّل ذلك كسراً للقطبية الأحادية التي سادت العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعانت أمم الأرض من مرارة سطوتها… بل استطاعت روسيا بفضل ذلك أن تكون أحياناً اللاعب السياسي رقم واحد عالمياً وليس الثاني كما كانت دائماً في السابق.

على الصعيد العربي فإن أخشى ما يخشاه العدو هو نجاح الجيش العربي السوري وانتصار سورية الذي سينبثق منه ميلاد قيادة قومية قادرة على استنهاض همّة الشعب العربي وإعادة إطلاق المشروع القومي العربي الذي جنّد الاستعمار حركات الإسلام السياسي لمقاومته والإجهاز عليه عن طريق محاولة إسقاط سورية بعد أن تمّ إخراج مصر والعراق من دائرة الصراع العربي-الصهيوني وتدمير ليبيا وتقسيم السودان ونشر الفوضى في كلّ مكان، لأن انتصار سورية سيؤهّلها لان تكون قاطرة الربيع العربي الحقيقي الذي نريد.

وبما أن الهدف الأخير في مؤامرة “الربيع العربي” هو محاولة هدم آخر القلاع العربية حاضنة المقاومة والصامدة في وجه غطرسة الغرب ليتمّ بعدها تفكيك الجزائر ومصر بكلّ سهولة، فإن ما تمّ إنجازه من صمود بفضل الجيش العربي السوري يعدّ عملية إنقاذ لكل الأمّة العربية من انهيار كارثي وإنّنا كعرب نسجّل بكلّ فخر واعتزاز ما قامت به سورية من انجاز بطولي في مقارعة قوى الاستعمار والصهيونية، وهو انجاز يثلج صدورنا ويعوّض عنّا سنوات الذلّ والانكسار والتمسّح على أعتاب الغرب البائس.

فالجيش العربي السوري حامي الديار هو بحقّ فارس أحلام أمتنا المكلومة ومنقذها… ولما يفه أحدٌ حقّه حتى الآن وهو الذي تمكّن من كسر أعتى هجمة إمبريالية واجهتها أمتنا على مر تاريخها والذي أعادت بندقيته رسم خارطة العالم من جديد، وبعد ما يزيد عن خمس سنوات لا يزال في الميدان يدافع عن كرامة العرب وكل أحرار العالم ويستعيد للعروبة بريقها وأَلَقها..

لإنقاذه للشّرف والوجود العربي، نكاد نجزم أن ما قدّمه الجيش العربي السوري للأمّة العربية لا مثيل له في تاريخ الجيوش العربية وهو أعظم ممّا قدّمه أيّ منهم على امتداد التاريخ العربي، فصموده شكل صمام أمان أمتنا وحال دون اندثار هويتنا القومية…

وبالنسبة لحماية البشرية من شرور الإرهاب التكفيري، فإن ما قدّمه الجيش العربي السوري شبيه بما قدّمه العالم باستور للبشرية في مكافحة داء الكلب.

وفي الختام لا يفوتنا التذكير بأن وصف الزعيم جمال عبد الناصر لسورية بأنها قلب العروبة النابض لم يكن جزافاً وأنه منذ الوحدة بين مصر وسورية أطلق على الجيش العربي السوري مسمى الجيش الأول، فاستحق أن يكون الأول بكل المقاييس… ويكفيه شرفاً أن الأعداء قبل الأصدقاء يعترفون بأن ما قدّمه الجيش العربي السوري (على المستوى العسكري) هو إبداع أذهل العالم بكلّ المقاييس.

صدق الأثر المروي عن الرسول العربي الكريم صلى الله عليه وسلّم بأنّ خير أجناد الأرض هم جند الشام، فتحية إلى حماة الديار العربية…

تحية إلى رجال تسطر سواعدهم وعزائمهم مصير العالم… تحية للذين أسسوا مدرسة للشرف يعلِّمون فيها كل العالم كيف تكون البطولة وكيف يكون الإباء…

تحية إلى الجندي العربي السوري وعلى رأسه الرئيس القومي العربي والقائد المقاوم بشار الأسد.

الصفحة الثقافية:

مشاهد من حياة عبد الرحمن الكواكبي في فيلم سوري

طالب جميل

لا شك أن محاولة تقديم أي عمل فني يتناول السير الذاتية لأحد الأعلام والمشاهير ينتابه كثير من المخاطر والمحاذير، وقلما تجد عملاً درامياً أو سينمائياً تمّ تقديمه بهذا الخصوص لم يتعرض للنقد وترك كثيراً من التحفظات لدى الجمهور والنقاد حول طريقة تقديم العمل سواء من حيث الشكل أو المضمون؛ لأن تقديم السيرة الذاتية لأي شخصية في عمل سينمائي يتطلب جهداً مضاعفاً من صانعي العمل خصوصاَ إذا كانت تلك الشخصية متعلقة بمفكر نهضوي كبير وعالم ورجل تنويري.

لكن يبدو أن صانعي الفيلم السوري الذي يحمل عنوان (تراب الغرباء – مشاهد من حياة الشيخ عبد الرحمن الكواكبي وموته) لم يوفّقوا إلى حد كبير في إخراج الفيلم بالصورة التي ينتظرها المشاهِد أو التي تعكس مكانة وأهمية هذه الشخصية المؤثرة فكرياً وثقافياً في وجدان كل مثقف وكل من يؤمن بالعلم كطريق لتحقيق النهضة والحرية والعدل.

الفيلم مأخوذ عن رواية للكاتب السوري (فيصل خرتش) تحمل نفس عنوان الفيلم وقام بإخراجه المخرج السوري (سمير ذكرى) وتولت إنتاجه المؤسسة العامة للسينما في سورية، أما دور عبد الرحمن الكواكبي فأدّاه الممثل القدير (بسام كوسا) وشاركه البطولة (نجوى قندقجي)، (أسامة عاشور)، (فايز أبو دان)، (أحمد مكاراتي) وغيرهم من الممثلين السوريين.

تدور أحداث الفيلم في حلب في نهاية القرن التاسع عشر، وتتناول سيرة الكواكبي بصورة جزئية.  ورغم طول مدة الفيلم (150 دقيقة) إلا أن إيقاعه كان بطيئاً ولم يقدّم سوى مرحلة بسيطة من حياته مما أدى إلى تسليط الضوء على المرحلة أكثر من الشخصية ومحاولة استعادة الزمان والمكان اللذين عاش فيهما الكواكبي خصوصاً ما يتعلق بصدامه المستمر مع والي حلب وحكم الإعدام الذي صدر بحقه وقراره الرحيل إلى مصر.

يتعرض الفيلم لشخصية الكواكبي ويركز على بعض أفكاره ومواقفه من الدولة العثمانية، ويظهر رفضه لسياسة القهر والتجويع والتجهيل التي انتهجتها الدولة العثمانية، وكفاحه ضد الإرث الفكري الثقيل الذي تراكم عبر عدة قرون نتيجة الاحتلال العثماني لسورية ونضاله من أجل إنقاذ مجتمعه وانتشاله من التخلف والأفكار الظلامية، كما حاول إظهار الجانب الإرشادي والتوعوي في شخصيته من خلال مساعدته لأهالي بلده وحل مشاكلهم نظراً لعمله في مجال المحاماة، واعتقاله عدة مرات من قبل السلطات العثمانية.

يُحسَب للفيلم أنه قدم صورة بصرية جميلة عن مدينة حلب في تلك الفترة ورسم البيئة الحلبية بشكل جميل من حيث الشكل والديكورات لإظهار حلب بشكل مقنع، واستطاع المخرج حشد حضور جيد للكومبارس في كثير من المشاهد التي تتطلب ذلك، عدا عن الإضاءة التي كانت على مستوى مميز في معظم المشاهد، إضافة إلى تقديم عدة مشاهد أبرزت الجانب العروبي في شخصية الكواكبي وإظهاره أنه أكثر من مفكر إسلامي وعقلانية أطروحاته خصوصاً مطالبته بفصل ما هو ديني عن ما هو دنيوي أي فصل الدين عن الدولة.

كما أبرز الفيلم حالة الغليان التي كان يعاني منها أهالي حلب ضد قمع السلطة العثمانية، واستعرض فكرة الاستبداد في أكثر من مشهد وتحديداً عبر تلك المشاهد التي تظهر تجاوزات الوالي وتعسف السلطة العثمانية وعنصريتها ضد العرب وسلب جنود السلطة لممتلكات الأهالي بحجة إرسالها (للجهادية) في مشهد ممتلىء  بالسخرية، كما تمّ التعريج على حكم الإعدام الذي صدر بحق الكواكبي في حلب بتهمة العمالة للأجنبي ومطالبته بإعادة محاكمته في بيروت والاستجابة للطلب وتبرئته من دون إظهار وقائع وتفاصيل المحاكمة سواء في حلب أو في بيروت، عدا عن أنه سلط الضوء على محاولات الكواكبي تخليص المجتمع من الخرافات ومحاربته للمشعوذين ممن يدعون أنهم رجال دين، ودعوات مشايخ حلب لوحدة العرب والاتحاد في وجه الظلم العثماني والثورة عليهم بمساندة الكواكبي من خلال توزيع المنشورات والترويج لهذه الفكرة بقصيدة لإبراهيم اليازجي تلقى على لسان أحد مشايخ حلب والتي مطلعها:

تنبّهوا واستفيقوا أيها العرب              فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب

ولأن الفيلم تناول فترة محددة من حياة الكواكبي فقد أثر ذلك على نوعية الأحداث التي تعرّض لها على حساب أحداث أخرى في الفيلم، مما أدى إلى تهميش مواقف وأحداث أخرى مثيرة حفلت بها حياة الرجل وتكفي لصناعة أفلام حول هذه الشخصية، كما ظهرت في الفيلم بعض المبالغات في إظهار الجانب الإنساني في شخصيته على حساب الجانب الفكري والتنويري؛ كظهوره في مشهد حضور قداس في إحدى الكنائس وزياراته لأصدقائه المسيحيين لتهنئتهم بعيد الميلاد المجيد.

لقد أثّرت سطحية النص على المستوى العام للفيلم الذي لم يكن عملاً يليق بمكانة الشخصية، حيث تم إظهار الجانب الديني والتعليمي في شخصية الكواكبي مما أدى إلى ضعف في الجانب الدرامي للفيلم الذي ظهر كعدة مشاهد لا تحمل عنصر التشويق ليخرج الفيلم بشكل وثائقي وبطابع تعليمي.

عموماً ورغم أن الفيلم لم يرقَ لمستوى وقيمة وأهمية شخصية الكواكبي، ولم ينصف إنجازاته الفكرية والتنويرية ووعيه القومي، إلا أنه كان محاولة جيدة لعرض تلك الفترة التي عاشها الكواكبي وبعض الأحداث التي عاصرها، وساهم أداء الفنان (بسام كوسا) لشخصية الكواكبي في الرفع من سوية الفيلم وإنقاذ الفيلم وذلك من خلال حضوره المتميز والملفت للنظر، وذلك لم يمنع الفيلم من الحصول على بعض الجوائز مثل جائزة أفضل فيلم عربي من مهرجان القاهرة السينمائي في العام 1999، وجائزة أفضل دور رجالي للممثل (بسام كوسا)، وجائزة أحسن تصوير في مهرجان السينما العربية في البحرين عام 2000.

 

فيلم ” معركة الجزائر”: الوجه السينمائي للثورة الجزائرية

إبراهيم حرشاوي

يُعتبر فيلم “معركة الجزائر” تحفةً في تاريخ السينما العالمية ولا يزال يثير إعجاباً لدى عاشقي الأفلام الثورية بالرغم من مرور نصف قرن على تاريخ إصداره من قبل المُخرج الإيطالي “جيلو بونتيكرفو” المعروف بتوجهه اليساري. نالَ هذا الفيلم، الذي بلغت تكاليفه 800000 ألف دولار (وهو مبلغ ضخم وفقاً لمعايير الإنتاج السينمائي بالستينيات)، جوائز عديدة من بينها جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية عام 1966 وترشح لثلاث جوائز أوسكار كأحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن سيناريو. كما احتلّ الفيلم بمجلة “سايت أند ساوند” التي تصدر عن المعهد البريطاني للفيلم المرتبة 48 في قائمة أحسن 50 فيلم  في التاريخ. أما مجلة “إمباير” التابعة للشركة الإعلامية العملاقة  “مجموعة باور للميديا” فمنحته بسنة 2010 المركز السادس في قائمة تضم أحسن 100 فيلم في السينما العالمية، مما يؤكد الوزن الثقيل لهذا الفيلم في عالم الأفلام والسينما.  من ناحية الأرباح، لا توجد معطيات دقيقة عن أرباحه بعد عرضه الأول، لكن حسب إحصائيات قدمها موقع “بوكس أوفيس مويو” حصد الفيلم 822941 دولاراً بعد إعادة عرضه في القاعات السينمائية الأمريكية بسنة 2004.

قد يكون مفيداً قراءة حبكة الفيلم في خطوطها العريضة على خلفية الفلسفة التحررية للمفكرالمارتينيكي فرانز فانون الذي التحق بالثورة الجزائرية سنة 1955 وأصبح أحد أبرز كوادرها الفكرية والسياسية.  بلور فانون فكرة العنف الثوري في مواجهة المستعمِر في كتابه الشهير “معذبو الأرض” وأعطاه دلالة تفوق مفهوم العنف المضاد، أي أنه اعتبر العنف الثوري آلة تحررية ذات أبعاد اجتماعية ونفسية تُمَكِن المستعمَر أن يتحرر من عقدة النقص التي يستدخلها أثناء خضوعه للاستعمار.  فعنف المستعمِر الهائج يمثل جوهر العلاقة  بين الطرفين، الأمر الذي يرمزه الفيلم في مشهد يُساق فيه سجين جزائري إلى المقصلة.  ولهذا لا يمكن – بحسب فكرة فانون- اجتثاث الاستعمار إلا من خلال عنف أقوى يمارسه المستعمَر عبر فرض معادلة “الحقيبة أو التابوت” والتمسك بها حتى يزول الكيان الاستعماري ويغادر آخر مستوطن أرض الوطن.  كذلك ينبغي التوقف عند قراءة فانون لتطور دور المرأة الجزائرية اجتماعياً وسياسياً أثناء حرب التحرير، حيث كتب عن هذا الموضوع بشكل مفصل في كتابه “خمس سنوات على الثورة الجزائرية”.  لقد رأى المستعمِر في المرأة الجزائرية حليفاً له في عملية فرنسة الجزائر ولهذا، كما يقول فانون، كانت فرنسا مصرّة على نزع حجاب المرأة بالقوة لإخضاع الثقافة الجزائرية وتفكيكها نهائياً.  وقد تتضح هذه السياسة الاستعمارية في بعض المشاهد التي تكشف عن الكيفية المزدوجة بخصوص معاملة الاستعمار للمرأة الجزائرية.  ففي الحواجز الأمنية يتفاعل الجندي الفرنسي بلطف ورشاقة مع الجزائريات غير المتحجبات بينما تكون الخشونة هي لغة التواصل مع المرأة المتحجبة.  فاندلاع الثورة الجزائرية بسنة 1954 والانخراط التدريجي للمرأة فيها غيّر المعادلة بينها وبين مخطط المستعمر رأساً على عقب، كما ساعد نشاطها الوطني في تحسين موقعها داخل مجتمعها الذكوري.  يمكننا في هذا المضمارالإشارة إلى ما قاله الشاعر صالح باوية عن الفدائيات في هذه المرحلة المفصلية في تاريخ الجزائر:

“حطمي الأغلال وامضي للسلاح

حطميها..واهتفي ملء الأثير

يا طغاة اشهدوا اليوم الأخير

حطميها لم تعودي قطعة من أدواتي أو رؤى حلم ثقيل

حطميها لم تعودي عبد خلخال وسوط ودموع وعويل”.

أما على مستوى الجودة الفنية، فقد تمكّن المُخرج من رفع قيمتها عبر إشراكه شخصية شاركت بالفعل في معركة الجزائر كالقيادي السابق في المقاومة الجزائرية ياسف سعدي.   وقد كان لهذا الأخير دورٌ بارزٌ في إعداد الفيلم كممثل وكاتب ومنتج.  فمشاركته أعطت للفيلم مصداقية تاريخية عالية كونه من القلائل الذين ظلّوا على قيد الحياة بعد معركة الجزائر.  كما عززت أيضاً واقعية الفيلم المعلومات التي أُقحمت مثل تواريخ الأحداث وبيانات جبهة التحرير بصوت راوٍ.   أضف إلى ذلك أن أداء الممثل الجزائري المرحوم إبراهيم الحجاج كان أسطورياً في تجسيد دور بطل معركة الجزائر الشهيد علي عمّار الملقب بـ”علي لابوانت”، حيث وصل تألقه إلى درجة أن الكثير من المشاهدين لا يميزون بين الممثل إبراهيم الحجاج والشخصية التاريخية علي عمّار “لابوانت”.

فيما يخص نقائص الفيلم يجب التنويه إلى عدم ضبط ظاهرة الإرهاب ودلالاتها كصورة وكمفهوم من طرف معدّي الفيلم.  يتضح هذا الأمر جلياً في المشهد الذي دار فيه حوارٌ بين الشهيدين العربي بن مهيدي وعلي عمّار حول موضوع الإضراب العام الذي قررت قيادة جبهة التحرير الوطني أن تنظمه لتحريك الملف الجزائري دولياً.  ولما حاول بن مهدي أن يقنع عمّار بضرورة إنجاح الإضراب قال له: ” اسمع يا علي، ليس الإرهاب هو ما يربحنا وإلا لا فائدة من الثورة. الإرهاب ضروري في البداية ولكن  بعد ذلك، لا بد من أن يتحرك الشعب بأكمله”.   الإشكالية هنا تتعلق طبعاً باستخدام مصطلح الإرهاب بدلاً من مصطلح المقاومة، فالإرهاب يتّسم في كل تعريفاته وتجلياته اللغوية بمعنى إجرامي محض.  هذا الأمر يوحي بلا شك بأنّ ما تقوم به المقاومة هو عمل إجرامي مما يعطي بشكل غير مباشر”شرعية أخلاقية” للاحتلال فيقمع الثورة تحت يافطة محاربة الإرهاب.  وفي سياق متصل تمّ عرض مشهد لعملية إرهابية قام بها الأمن الفرنسي ضد المدنيين العرب كحادثة معزولة، حيث لم يتم ربطها في أحد المشاهد مع مفهوم الإرهاب، برغم أنّ تاريخ الثورة الجزائرية شهد حضور جماعة إرهابية منبثقة من الجيش الفرنسي معروفة باسم “منظمة الجيش السري”.   لقد  قامت تلك المنظمة، بحسب الإحصائيات المتوفرة، بما يزيد عن 2000 عملية إرهابية خلال المرحلة الأخيرة للثورة.  إنّ الوقوف عند خلل اصطلاحي مشبوه مثل هذا يصبح أمراً ضرورياً في فيلم في حجم معركة الجزائر، لما يمثله في الوعي الجماعي الجزائري خصوصاً والعربي عموماً.

على كل حال، كان ولا يزال فيلم  معركة الجزائر، الذي منعت فرنسا عرضه لمدة 40 سنة، مصدر إلهام لكثير من الثوريين في كل أنحاء العالم وقد تمّ توظيفه في تأطير المناضلين في منظمات مثل الجيش الجمهوري الإيرلندي والفهود السود.  بالمقابل يلفت الهاجس الأمريكي إزاء هذا الفيلم النظر، فلقد عرضت وزارة الدفاع الأمريكية الفيلم في البنتاغون في فترة احتلال العراق بغرض محاولة فهم أبعاد وإنجازات المقاومة العراقية في المدن.  كما تقمص رجلان، في نفس الفترة، من الاستخبارات الأمريكية، دوراً صحفياً في مقابلة مزيفة أجريت مع ياسف سعدي في الجزائر بغية معرفة تفاصيل حساسة حول المقاومة الجزائرية.  ويجدر الذكر بأن الجندي الفرنسي–الأمريكي المتقاعد -تيد مورغان– أثار مؤخرا جدلاً كبيراً في الجزائر  بمذكراته “معركتي في الجزائر” التي اتهم فيها ياسف سعدي بكشف مخبأ علي عمّار “لابوانت”، الأمر الذي وضع سردية أحداث “معركة الجزائر” على المحك.  وقد ردت عائلة السعدي على هذه الإتهامات برفع دعوى قضائية ضد تيد مورغان، معلنةً أن ما ورد في مذكراته “محض أباطيل وتزييف للتاريخ”.  المهم، يبقى هذا فيلم، برغم نقائصه، معاصراً وتثقيفياً للأجيال المتعاقبة من الجزائريين والعرب، خصوصاً في زمن أصبحت فيه معركة الذاكرة الوطنية في الأقطار العربية مسألة حياة أو موت.

قصيدة العدد:

 

دمشق مبتدأ الدنيا/ الشاعر يوسف الخطيب*

 

ليأتيَنَّ غدٌ وسعَ الخيال، له                 على الدياجير أعراسٌ وأنوارُ

تسقيه جلقُ ثدياً وهي ظامئةٌ               ورمزُ جلقَ أنَّ الحبَّ إيثارُ

تباركت ألقاً وضحاء جبهتها              يزينها الغار أم يزهو بها الغار؟

دمشق مبتدأ الدنيا وإن خبرٌ               فمن أمية ملء الكون أخبارُ

ما نزر قطر بسقياها لذي عطش         إذا زهت بحقول الزفت آبارُ

وما تنوب إلى حربٍ دراهمها            عنها، ويقتبل الهيجاءَ دينارُ

بل أعطياتُ دمٍ تسقى معتقةً              تستافها أمةٌ ظمأى وتشتارُ

وصاعقات خطىً إيقاعها قدرٌ             وجحفلٌ،إن تداعى القوم، جرارُ

قد خطَّ فاتحة التاريخ من دمه             وبعد، من دمه تزدان أسفارُ

فردٌ، مثنىً على اليرموك مطلعه          والقادسية عقباه، وذي قارُ

غوثاً أيا شامُ من إلاكِ تندبه              مدى المحيطين أنجادٌ وأغوارُ؟

عهدتُ أنك أنت القومُ ما اجتزأت         حمى العروبة أشلاءٌ وأقطارُ

يا حبذا علمٌ عن ألف خافقةٍ                ودار عزٍ ولا بالذلِّ أديارُ

 

  • يوسف الخطيب شاعر قومي عروبي من الخليل في فلسطين العربية المحتلة. ولد في العام 1931، وتوفي في العام 2011، وقضى معظم حياته في الشام حيث توفي ودفن.  له عدة دواوين منها:
  • العيون الظماء للنور – طباعة مجموعة من طلاب الجامعة السورية عام 1955.
  • عائدون – عن دار الآداب اللبنانية 1959.
  • واحة الجحيم – عن دار الطليعة اللبنانية عام 1964.
  • مجنون فلسطين: ديوان سمعي – عن دار فلسطين 1983.
  • رأيت الله في غزة _ عن دار فلسطين بدمشق عام 1988.
  • بالشام أهلي و الهوى بغداد _ عن دار فلسطين بدمشق عام 1988.

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..