كلمة العدد:
على هامش القضية الفلسطينية
جميل ناجي
لقد فرضت طبيعة المرحلة ميزاناً دقيقاً لاتخاذ الموقف السياسي السليم. ورغم تعاظم النكسات إلا أنّ القضية الفلسطينية شكّلت، فيما يقارب القرن، البوصلة السليمة والمفصل الرئيس لأي توجّه سياسي. وقد شكّل الميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل ضمن هذا السياق، المرجعية المُلزمة، والمسطرة التي يحاكم عليها الانحراف السياسي بكافة أشكاله وتلاوينه. لا شك أنّ هذا الميثاق تمّ التلاعب فيه وفي نصوصه نتيجة الخراب الذي لحق بمنظمة التحرير وبكافة فصائلها، إضافةً إلى سيطرة المال السياسي وعفن الأيديولوجيات التبريرية بشقيْها اليميني واليساري.
لقد اعتبر البعض أنّ النقاط العشر (برنامج التحرير المرحلي، كما أسموه سابقاً) وأوسلو هي عبارة عن حصان طروادة يضعه ياسر عرفات في الداخل الفلسطيني، أو صلح حديبية جديد يضع الثورة أمام فتح القدس. وقد كذبوا، فلقد تحولت السلطة إلى طابور خامس لدى الكيان الصهيوني لتخفيض كلفة الاحتلال في الضفة وغزة، وقد ساعدت على خلق أجواء أكثر استقراراً، دفعت الكيان للذهاب قدماً في عملية الاستيطان وغيرها.
أما المتشدقون باليسار واللينينية، فقد واجهوا العدو (الذراع الإمبريالية الأولى في المنطقة) بقصقصة النصوص من كتب دار التقدم، بجدليتهم المزعومة حول صلح بريست ليتوفسك، وضرورة التقسيم الأفقي الطبقي للمجتمع (الإسرائيلي)، لأن المهاجرين اليهود المساكين هم نتاج المشروع الإمبريالي، المعنى هنا أنه يضع نفسه مدافعاً عن المهاجرين اليهود، وليذهب كل الشهداء واللاجئين الفلسطينيين للجحيم. نضيف أن (عمق النزوع الإنساني) لدى هؤلاء اتجاه معذبي الأرض، جعلهم يحولون البندقية من كتف إلى آخر. السؤال المهم هنا هو كيف تحول هؤلاء “الجدليون” دفعة واحدة لذراع للمشروع الليبرالي وجمعيات التمويل الأجنبي في المنطقة؟ والأهم كيف ساعدت الطبعة الأيديولوجية المشوّهة التي يحملونها على تحقيق ذلك التحول؟ ومن هنا، ومن الصفّ القومي نقول أن الأيديولوجيا الماركسية بكافة تجلياتها، عند لينين وماو وغيرهم، كتجربة تاريخية وتطبيق عملي، لا غنى عنها كدليل عمل في أي محاولة أو تجربة سياسية قادمة، لكنّ المهم أن تتطبّع بإدراك عميق للحاجة القومية، وبنزوعٍ متمحورٍ حول الهوية في التعاطي مع الآخر.
لقد اعتمد اليسار الفلسطيني والعربي عامة، مقولة “أمة في طور التكوين” لدى ستالين، وهذا ما دفعه إلى الارتماء بأحضان القُطرية والدفاع عنها، ولم يكن ولاؤه ينصبّ حتى في حدود المصلحة الوطنية بقدر حجم الإملاء والولاء الأممي للشيوعية السوفيتية، والعامل اليهودي؛ لقد سارعوا لتأييد تقسيم في فلسطين مع إعلان موقف الاتحاد السوفيتي من التقسيم، فغلّبوا الشعار السياسي والمصلحة المؤقتة على الهدف المبدئي وما زالوا، لقد واجهوا الخط الوحدوي والعمل المقاوِم بإعلاء راية حلّ الدولتين والسلم العالمي، وكانوا من أوائل المبادرين بالحلول التسووية… فأي يسارٍ عفنٍ هذا!
ونأتي اليوم للحديث تحديداً عن الحزب الشيوعي (الإسرائيلي) أو الصهيوني بالأحرى، الذي لم يترك جانباً لدعم الصهاينة، وتشويه العقل الفلسطيني في محاباة اليهود، لم يخض في غماره منذ محمود درويش الصغير، سليل ريتا والعمال الاشتراكيين اليهود، الذين حملوا على ظهور بواخر المشروع الصهيوني. ولا ننسى صاحبه عضو الكنيست (الإسرائيلي) توفيق زياد. ماذا قدم هؤلاء للقضية الفلسطينية غير تقريب وجهات النظر، أو رثاء قتلى جنود الجيش (الإسرائيلي) كما فعل سميح القاسم؟!
لقد ميّعوا الوعي بخرافة الفصل بين اليهود والصهيونية، فاليهود هم لبنة المشروع الصهيوني، وفي الحقيقة لا فرق بين نتنياهو والمدني اليهودي الذي ينتخبه. وهذا يجرّنا أساساً إلى أن التعاطي مع الاحتلال أو أي من مفرزاته هو جرم، وخيانة بالدرجة الأولى. ولا يتعدّى هذا الحزب الشيوعي سوى كونه أداة صهيونية، استطاعت احتواء العرب ذوي النزعة الإنسانية، للنضال مع الرفاق الاشتراكين اليهود، في سبيل مطالب إصلاحية في المساواة بين أفراد (المجتمع الواحد)، كبديل للعنف ومناهضة الاحتلال بكافة أشكاله وتلاوينه. وإذا نظرنا إلى تاريخ هذا الحزب، لا نرى إلّا مشروعاً سياسياً يتماشى مع مصلحة الكيان الصهيوني إلى الآن، فهو الراعي الرئيس للمشاركة في انتخابات الكنيست، وأي توّجه سياسي يعطي مشروعية للاحتلال.
نختم في هذا السياق بما قاله ناجي علوش في كتابه “الماركسية والمسألة اليهودية” قبل ما يقارب الخمسين سنة: “إننا نملك الجرأة أن نصيح بأعلى أصواتنا أننا ضد الاحتلال، وأننا سوف نفعل كل ما بوسعنا لمقاومته وسحقه. ولن نتردد لحظة واحدة في ذلك. وسنفضح المترددين والخائفين والمنحرفين. سنكون من الآن فصاعداً أشدّ وطأة عليهم من ماركس على لاسال، ومن لينين على كاوتسكي والبوند. ونحن عندما نفعل ذلك لا نفعله من أجل مقاومة الشيوعية، بل نفعله من أجل انتصار الثورة، وانتصار الأفكار الثورية الصحيحة، والقيم الثورية الناصعة. هذا هو موقفنا، ولسوف يبقى هكذا، حتى لو تحوّلت (إسرائيل) الصهيونية الرجعية إلى بلد اشتراكي، مع أنّ هذا يبدو غريباً وبعيداً. إنّ موقفنا لن يتغير لأننا لا يجب ألّا نتهاون مع الغزاة، حتى لو لبسوا لبوس الاشتراكية (أو حتى تعمموا). ولا أدري ما هي الاشتراكية التي تسمح للصوص والقتلة والسماسرة والسائرين في ركابهم ببناء دولة على حساب الآخرين. وإذا كنّا مطالَبين بشيء، فإننا مطالَبون بالدفاع عن المشردّين، لا بالدفاع عن الغزاة”.
الموقف الشيوعي من الصهيونية
ناجي علوش
تقديم: يعتبر كتاب “المسيرة إلى فلسطين”، المنشور عن دار الطليعة في بيروت في العام 1964، من الكتب المفقودة للمناضل والمفكر القومي الراحل ناجي علوش، وكان قد وضعه وهو لا يزال في العشرينيات من عمره. وقد وقع بعض الرفاق اللائحييين مؤخراً على نسخة قديمة مصفرة الأوراق من هذا الكتاب الذي لم أكن شخصياً قد رأيته أو قرأته من قبل، والذي سوف يتم تحميله قريباً على موقع ناجي علوش najialloush.org. ويتألف كتاب “المسيرة إلى فلسطين” من ثلاثة أجزاء يضم أولها استعراضاً نقدياً لبعض أبرز الأدبيات السياسية المتعلقة بالقضية الفلسطينية بين عامي 1948-1963، مع تركيزٍ على ما أسماه ناجي علوش كتاب “جيل الهزيمة”، مما يجعل هذا الجزء بالذات مصدراً لا غنى عنه لفهم المناخ السياسي في تلك المرحلة. ويتألف الجزء الثاني من الكتاب من عرضٍ وتقييمٍ لمواقف التيارات السياسية الرئيسية في الحياة العربية آنذاك من القضية الفلسطينية، مثل البعث والناصرية وحركة القوميين العرب والشيوعيين وغيرهم. أما الجزء الثالث فيتضمن مناقشة لبعض القضايا المركزية المطروحة عبر فصول “المسيرة إلى فلسطين” في محاولة لبلورة رؤيا قومية ثورية إزاء القضية الفلسطينية بعد الانفصال (1961) وبروز خطاب التركيز على “الكيانية الفلسطينية المستقلة” حتى بين بعض القوميين. ومن الجزء الثاني من الكتاب أخذنا الفصل المعنون “الموقف الشيوعي من الصهيونية” ونعيد نشره هنا لإلقاء الضوء على تطور الموقف الشيوعي التقليدي من الصهيونية بحسب رؤيا ناجي علوش الشاب العشريني، ويمكن أن نجد صيغة أكثر تبلوراً وتوسعاً في كتاب ناجي علوش “الماركسية والمسألة اليهودية” المتوفر على موقعه… وقد قمت في النص أدناه بتضمين الهوامش في النص، بدلاً من نهاية الصفحات كما جاءت في الكتاب، لعدم تشتيت التركيز في القراءة – إبراهيم علوش.
الموقف الشيوعي من الصهيونية (الصفحات 129-142 من كتاب “المسيرة إلى فلسطين”):
موقف ماركس ولينين:
كتب كارل ماركس سنة 1844، أي قبل صدور البيان الشيوعي بأربع سنوات، دراسة حول المسألة اليهودية (المسألة اليهودية، كارل ماركس، ترجمة محمد عيتاني). ولم تكن الحركة الصهيونية قد بدأت العمل في ذلك الوقت، ولذلك فقد ناقش ماركس اليهودي من حيث هو يهودي وكشف ما تعنيه يهوديته…
يقول ماركس: “يجب ألا نبحث عن سر اليهودي في دينه، بل فلنبحث عن سر الدين في اليهودي الواقعي. ما هو الأساس الدنيوي لليهودية؟ إنه المصلحة العملية والمنفعة الشخصية. إذن فالعهد الحاضر بتحرره من المتاجرة والمال، وبالتالي من اليهودية الواقعية والعملية، إنما يحرر نفسه أيضاً”.
فماركس لم يدرس اليهودية على أنها قومية أو دين، بل على أنها ظاهرة اجتماعية هي المجتمع البرجوازي. ولذلك اعتبر “أن قومية اليهودي الوهمية هي قومية التاجر، قومية رجل المال” (ص 2)، كما اعتبر أن “التحرر الاجتماعي لليهودي إنما هو تحرير المجتمع من اليهودية” (ص 46).
وهكذا كانت مسألة اليهود هي مسألة أوروبا كلها، وليست مشكلة خاصة بجماعة بشرية، وعندما تتحرر أوروبا من المتاجرة وعبادة المال يتحرر اليهود من دينهم… من المتاجرة والمال… “إله إسرائيل المطماع”.
وأصبحت الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر دعوة سياسية، واجتمع المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897 في بال. وقُرر في هذا المؤتمر أن تكون فلسطين دولة يهودية. وفي تلك السنة بالذات تكوّن الاتحاد العام للعمال اليهود في ليتوانيا وبولونيا وروسيا (البوند)، وانضم في السنة التالية إلى حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي. وكان البوند يطالب لليهود بالمساواة المدنية. وفي المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي سنة 1903 طالب البوند بالاعتراف به ممثلاً وحيداً للعمال اليهود، وببناء الحزب الاشتراكي الديموقراطي على أسس فيدرالية قومية. ولما رُفض طلب البوند انسحب من حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي، ولكنه عاد إليه عام 1906 بعد انعقاد مؤتمره الرابع، غير أن البوند كان دائماً أقرب للمناشفة حتى أنه حارب سنة 1917 مع أعداء الثورة إلا أنه انقسم على نفسه فيما بعد، فاختار بعض أعضائه طريق الخيانة، واختار آخرون الانضمام إلى الحزب الشيوعي الروسي سنة 1921. وكان من بين هؤلاء “أناس ذوو وجهين توخوا من دخولهم التخريب من الداخل” (في القضية القومية، لينين، هامش صفحة 22، دار ابن الوليد سنة 1958).
ولقد حكم لينين على الحركة الصهيونية منذ سنة 1903 بأنها “في جوهرها خاطئة ورجعية بصورة مطلقة، وأن فكرة القومية اليهودية ذات صفة رجعية ضارة لا بالنسبة لمعتنقيها فحسب، بل وكذلك بالنسبة للذين يحاولون خلق انسجام بينها وبين الافكار الاشتراكية” (الشيوعية المحلية ومعركة العرب القومية، الطبعة الثالثة، الحكم دروزة).
وقاد لينين حملة عنيفة ضد البوند وحزب العمال الاشتراكي اليهودي، الذي تأسس سنة 1906، وكان يطالب بالاستقلال القومي لليهود، ويضم كتاب “في القضية القومية” للينين هذه الحملة بين دفتيه. لقد أنكر لينين على اليهود دعوتهم القومية، لا لأنه يحارب اليهود، فلينين صاحب نظرية معروفة، في مسألة حق تقرير المصير… وانفصال الشعوب الملحَقة. ولكنه في الوقت ذاته كان يشجع تمازج الأمم الذي لا يُفرض بالعنف (في القضية القومية، ص 48)، وهو يرى في عملية التمازج هذه أو التمثل “تقدماً تاريخياً كبيراً وتحطيماً للنمطية القومية” (في القضية القومية، ص 36)، ذلك “أن البروليتاريا لا تستطيع أن تدعم أي تقديس قومي، بل هي، على النقيض، تعمل كل ما من شأنه أن يزيل الحواجز القومية، ويجعل الاتصال بين القوميات دائماً أوثق وأشد ويؤدي إلى اتحاد الأمم. والعمل بعكس ذلك معناه الوقوف إلى جانب التفاهة القومية الرجعية” (في القضية القومية، ص 48-49).
ويبدو أن لينين الذي طرح حل قضية الأمم قاطبةً كان لا يملك حلاً لقضية الشعب اليهودي “فمحاربة الصهيونية ومحاربة البوند” لم تأتِ بحلٍ ثالث… فإذا كانت الصهيونية حركة رجعية، وإذا كان البوند يقود إلى “التعصب القومي” والوقوف إلى جانب التفاهة القومية الرجعية، فـ”ما العمل”؟
لم يجب لينين على هذا السؤال. وعندما بُحثت قضية الصهيونية في “الكومنتيرن” سنة 1920، اتخذ قرار بشجب الحركة الصهيونية، يستند إلى مبررين:
الأول: “أن الصهيونية حركة رجعية يقف وراءها كبار الرأسماليين”.
الثاني: “أن اليهود ليسوا أمة لذلك فمن غير العلمي أن ينشأ لهم وطنٌ قومي” (الشيوعية المحلية ومعركة العرب القومية – الحكم دروزة – الطبعة الثالثة، صفحة 271).
وكانت الثورة الشيوعية في هذه الأثناء تحاول حل مشكلة القوميات المضطهَدَة التي كانت رازحة تحت النير الروسي، بحسب مبادئ لينين. ولم تبخل الثورة على اليهود فقدمت لهم منطقة “بيروبيجان” السوفياتية المعتدلة المناخ، وعلى الرغم من أن بعض الرأسماليين في الولايات المتحدة أيّدوا هذا الحل إلا أنه فشل إزاء معارضة الحركة الصهيونية التي كانت ترفض أي حل غير الاستيلاء على فلسطين (The Political World of American Zionism, Samuel Halperin, Wayne State University Press, 1961).
وقد ظلّ موقف الاتحاد السوفياتي استمراراً لقرار الكومنتيرن السابق الذكر حتى 29/11/1947 حين أيّد قرار التقسيم.
موقف الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية:
لا بد قبل مناقشة موقف الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية من قضية فلسطين أن نبدي ثلاث ملاحظات:
الأولى: أن اليهود، لا سيما المهاجرين منهم، هم الذين أنشأوا الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية.
الثانية: أن الحزب الشيوعي في فلسطين كان عربياً يهودياً مختلطاً حتى سنة 1943، حيث تم الانفصال وأنشأ الشيوعيون العرب “عصبة التحرر الوطني”. وبعد قيام “إسرائيل” نشأ الحزب الشيوعي “الإسرائيلي” مكوناً من الشيوعيين اليهود، وبقايا “عصبة التحرر الوطني” في أرض فلسطين المحتلة. كما نشأ الحزب الشيوعي الأردني في بقايا الضفة الغربية والضفة الشرقية.
الثالثة: أن موقف الشيوعيين العرب كان رجراجاً متقلباً، ومستوحى من سياسة الاتحاد السوفياتي الخارجية، ونستطيع أن نقسمه إلى ثلاثة أدوار رئيسية:
- الدور الأول: ويبدأ من تكوين الأحزاب الشيوعية حوالي 1925 في سورية ولبنان ومصر وفلسطين، وينتهي بتأييد الشيوعيين العرب لقرار التقسيم سنة 1947،
- الدور الثاني: ويبدأ من سنة 1947 وينتهي سنة 1955،
- الدور الثالث: ويبدأ سنة 1955.
ونستطيع أن نحدد في الدور الأول خمس مراحل:
أ – من نشوء الأحزاب الشيوعية حتى سنة 1936،
ب – من سنة 1936 إلى سنة 1939،
ج – من سنة 1939 إلى سنة 1941،
د – من سنة 1941 إلى سنة 1945،
ه – من سنة 1945 إلى سنة 1947.
- المرحلة الأولى من الدور الأول:
ويتلخص موقف الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية من قضية فلسطين بما يلي:
أولاً: شجب الحركة الصهيونية ومقاومة فكرة الوطن القومي اليهودي للأسباب التي قررها الكومينتيرن.
ثانياً: مقاومة الاستعمار والدعوة لقيام حكم وطني ديموقراطي في فلسطين.
ثالثاً: الدعوة لتآخي العرب واليهود.
- المرحلة الثانية من الدور الأول:
كانت ألمانيا في أول هذه المرحلة قد دخلت ميدان السياسة العالمية والتنافس على الأسواق… وكان النظام الهتلري النازي هو الخطر المحدق بالنسبة للشيوعية. وبدأت سياسة الاتحاد السوفياتي تتجه نحو الغرب لمواجهة النازية. واتجهت الأحزاب الشيوعية الاتجاه ذاته فركّزت الهجوم على الصهيونية متجاهلةً دور الاستعمار العالمي. وتمثل المذكرة التي قدمتها اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري اللبناني في الثامن من أيلول سنة 1937 هذا الاتجاه. وتلّخص تلك المذكرة مطالب العرب بما يلي:
1 – رفض تقسيم فلسطين رفضاً باتاً،
2 – وقف الهجرة اليهودية (إلى فلسطين)،
3 – منع بيع الأراضي (لليهود في فلسطين)،
4 – إقامة نظام دستوري يضمن انتشار السلام والهدوء في فلسطين.
وصاحب هذا الاتجاه موقفٌ سلبيٌ من الحركة الوطنية، بحجة أن الحزب الشيوعي كان يخشى تسرب الفاشية إليها. ولذلك لم يشترك الشيوعيون العرب خلال هذه الفترة في ثورتي سنة 36 و37.
- المرحلة الثالثة من الدور الأول:
وتبدأ بالحلف الذي عقده الاتحاد السوفياتي مع ألمانيا وتنتهي بإعلان ألمانيا الحرب على الاتحاد السوفياتي. وقد عادت الأحزاب الشيوعية خلال تلك المدة إلى مهاجمة الاستعمار والصهيونية، واضطرت إلى ممارسة العمل السري كما حدث للحزب الشيوعي في سورية ولبنان (في ظل حكومة فيشي الفرنسية المتعاونة مع النازيين). وكان تبرير الشيوعيين يقوم على أساس أن الخطر النازي موجود ولكن محاربة جنود الاحتلال هي الواجب الأول. وقد كتبت جريدة الحزب الشيوعي الفلسطيني “كول هاعام” في آذار سنة 1941: “إن العمال يأتون ليسألونا ما العمل؟ إنهم يطلبون نصيحة مخلصة، ونحن نقول لهم، حسناً، صحيح أن الجيوش الألمانية والإيطالية على الأبواب، ولكنه صحيحٌ أيضاً أن جيوش تشرتشل هي في هذه البلاد، وواجبنا الأول هو محاربة العدو في الداخل” (الشيوعية المحلية ومعركة العرب القومية، ص 280).
- المرحلة الرابعة من الدور الأول:
وتبدأ بإعلان ألمانيا الحرب على الاتحاد السوفياتي وتنتهي بانتهاء الحرب.
كان همّ الأحزاب الشيوعية خلال هذه الفترة أن تدعم الحلفاء في حربهم مع النازية والفاشية… وإذا كان الشعار في المرحلة السابقة هو تآخي العرب واليهود في النضال المشترك ضد الاستعمار والصهيونية، فقد أصبح شعار هذه المرحلة تآخي العرب واليهود في النضال ضد النازية المجرمة.
- المرحلة الخامسة من الدور الأول:
عندما راحت النازية تلفظ النفس الأخير، بدأ الصراع بين الاتحاد السوفياتي والمعسكر الغربي لأسباب عقائدية ومصلحية. وعاد الشيوعيون العرب يرفعون شعار مقاومة الاستعمار والصهيونية والإخاء العربي اليهودي. وفي 13-14 آب سنة 1943 علّق رئيس الحزب الشيوعي اللبناني على موقف الحزبين الأمريكيين الجمهوري والديموقراطي بقوله: “اجتاحت لبنان والبلاد العربية كلها موجة من الاستياء والقلق على أثر التصريحات التي صدرت عن زعماء الحزبين الأميركيين الجمهوري والديموقراطي بعزمهما على جعل فلسطين وطناً قومياً للصهيونيين”. وأصدر الحزب الشيوعي العراقي في تشرين الأول سنة 1945 بياناً جاء فيه: “لقد أعلنّا في مناسبات عديدة عداءنا للحركة الصهيونية ولفكرة إنشاء الوطن القومي الصهيوني في فلسطين العربية. وأعلنّا تضامننا مع الشعب العربي في فلسطين وتأييدنا التام لمطاليبه بمنح الشعب الفلسطيني حق تأليف حكومة وطنية ديموقراطية مستقلة”.
وظلت الصحف الشيوعية في الاتحاد السوفياتي وفي الوطن العربي تشجب التقسيم وإنشاء الوطن القومي اليهودي حتى أيّد الاتحاد السوفياتي التقسيم في الأمم المتحدة بتاريخ التاسع والعشرين من تشرين الثاني سنة 1947، وكان من رأي فشنسكي رئيس وفد الاتحاد السوفياتي في الأمم المتحدة أن يقبل العرب بالتقسيم لئلا تفوتهم الفرصة فيندموا.
مبررات الموقف السوفياتي:
ما الذي دعا الاتحاد السوفياتي لاتخاذ مثل هذا الموقف؟
لقد حاول بعضهم أن يردّ ذلك إلى خطأ السياسة العربية، التي كانت عازفة عن التفاهم مع الاتحاد السوفياتي حول قضية فلسطين.. وردّها آخرون إلى اعتقاد الاتحاد السوفياتي بأن “إسرائيل” سوف تكون واحة الديموقراطية (أو الاشتراكية؟) في “الشرق الأوسط”!!! ولكن الإجابة على هذا السؤال ظلّت تقديرية وموضع تكهّن وزاد الأمر غموضاً أن الاتحاد السوفياتي لم يعلن عن أية تفاصيل خاصة بموقفه من قضية فلسطين. أما ملابسات الموقف السوفياتي فإني أعتقد أنها تنجلي إذا أدركنا الحقائق التالية:
- أولاً: كانت الحرب الباردة قد بلغت مستوى من الحدة يخشى معه قيام حرب ثالثة، ولم يكن الاتحاد السوفياتي مهيئاً لذلك، في وقتٍ كانت فيه الولايات المتحدة متفوقة في ميدان الذرة. ويبدو أن ستالين السياسي المحنك أراد أن يكسب عطف الصهيونية العالمية ذات السيطرة على الرأسمال العالمي وبالتالي على الحكومات الرأسمالية، فأيد قيام “إسرائيل”.
- ثانياً: كانت المنطقة العربية منطقة نفوذ استعماري، ولمّا كان الاتحاد السوفياتي يدرك تبنّي الدول الغربية لـ”إسرائيل”، فقد رأى – على ما يبدو – في قيام “إسرائيل” بارقة أمل في انتفاض المنطقة على الاستعمار، والبحث عن أصدقاء جدد، بعد أن خاب أملها بالأصدقاء القدامى.
- كانت المنطقة العربية زراعية متخلّفة، وكانت “إسرائيل” في حالة قيامها تبشر بنهضة صناعية كبيرة، والشيوعية حسب المنطق الماركسي اللينيني تنمو في المجتمعات الصناعية، ولذلك فسيساعد قيام دولة “إسرائيل” على انتشار الشيوعية، وسيكون من عوامل تحرر المنطقة من الاستعمار!
- رابعاً: كان أكثر قادة الشيوعيين في أوروبا الشرقية من اليهود، وكان ستالين يعتمد على هؤلاء في تنفيذ سياساته، ويبدو إن هؤلاء أثروا كثيراً في موقف الاتحاد السوفياتي من قضية فلسطين.
- خامساً: كان ستالين عقائدياً صارماً، وسياسياً قاسياً، تعوّد أن يطوّع الظروف والشعوب لمقتضيات سياسته… وليس غريباً أن يوافق على تقسيم فلسطين، وهو الذي – كما بين خروشوف في المؤتمر العشرين – سلخ شعوباً في الاتحاد السوفياتي عن أراضيها.
موقف الاتحاد السوفياتي بعد سنة 1947:
نستطيع أن نقسم هذه الفترة إلى مرحلتين:
الأولى: تبدأ سنة 1947 وتنتهي بعقد صفقة الأسلحة التشيكية سنة 1955.
الثانية: تبدأ سنة 1955.
- المرحلة الأولى:
أيّد الاتحاد السوفياتي في بدء هذه المرحلة مشروع التقسيم واستنكر الحرب العربية اليهودية على أنها حرب أثارها الاستعمار. إلا أنّ تشيكوسلوفاكيا أمدّت “إسرائيل” بالسلاح خلال هذه الحرب، وكان التبرير العقائدي لتأييد التقسيم وجود أمّتين لهما جذورٌ تاريخية، وإنه إذا لم يكن ممكناً أن يعيشا معاً، وفي دولة واحدة، قامت دولتان “إحداهما عربية والأخرى يهودية”. وظلّ موقف الاتحاد السوفياتي على حاله حتى سنة 1954، حيث بدت بوادر تغير في السياسة السوفياتية. ففي سنة 1954 استعمل الاتحاد السوفياتي حقه في النقض أكثر من مرة في مجلس الأمن لمصلحة العرب.
وكان من أهم بوادر التغير في السياسة السوفياتية حديث خروشيف عن اليهود الذي جاء فيه “أن اليهود يفضلون دائماً الحرف اليدوية، فإذا بحثت عنهم في التعمير أو التعدين، وهي مهنٌ جماعية، فلن تجد يهودياً واحداً. إنهم لا يحبون العمل الجماعي ولا الخضوع للنظام، وهم يفضلون دائماً أن يكونوا انفصاليين فرديين” (نقلاً عن الفيغارو الفرنسية). واكتملت ملامح تغير السياسة السوفياتية بزيارة شبلوف – رئيس تحرير البرافدا آنذاك – للقاهرة في عيد الثورة الثالث، ثم الإعلان عن صفقة الأسلحة التشيكية بتاريخ 27/9/1955.
- المرحلة الثانية:
عقد مؤتمر جنيف بعد الإعلان عن صفقة الأسلحة التشيكية بشهرٍ واحد. وكان من المواضيع التي طلب وزراء خارجية الدول الغربية مناقشتها في المؤتمر موضوع تسليح العرب. ورفض الاتحاد السوفياتي مناقشة الموضوع إلا إذا وافق مندوبو الدول الغربية على مناقشة موضوع الأحلاف في المنطقة، ولما لم يوافقوا فشلت الخطة الصهيونية في منع العرب من الحصول على السلاح اللازم لهم للدفاع عن أنفسهم. وأثار الحصول على السلاح مخاوف الصهيونية والاستعمار. فالصهيونية بدأت تشعر – ولأول مرة – أن العرب يستعدون لمعركة حاسمة، ويملكون فيها من السلاح ما يجعلهم أقوياء، قادرين على الانتصار، أما الاستعمار فقد شعر بأن السلاح الذي حصل عليه العرب من الاتحاد السوفياتي لن يستعمل ضد “إسرائيل” فقط، بل سيستعمل في القضاء على عملاء الاستعمار وقواعده في البلاد العربية. ولذلك اتحدّت الصهيونية مع الاستعمار في محاولة للقضاء على نواة الجيش العربي في مصر، فكانت معركة السويس. وفي معركة السويس وقف الاتحاد السوفياتي بجانب العرب ضد العدوان الصهيوني الاستعماري. وقد أخذ موقف الاتحاد السوفياتي بعد معركة السويس يزداد وضوحاً وقوة.
ففي ربيع سنة 1957 صرح بولغانين بأن وجود “إسرائيل” يجب أن يُعاد فيه النظر بعد اشتراكها في العدوان الثلاثي. كما صرّح خروشيف في الوقت ذاته بأن اليهود غير مؤهلين لتكوين مجتمع ثابت. وفي أيلول من السنة ذاتها كتبت البرافدا مقالاً جاء فيه: “إن سياسة الأوساط الحاكمة في إسرائيل منذ إنشائها يسيّرها رجال دولة رجعيون ذوو اتجاهات متطرفة في التعصب القومي، ولرجال الدولة هؤلاء اتصالات قديمة العهد بأكبر الاحتكارات الاستعمارية في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا”.
وظل الاتحاد السوفياتي متبعاً لهذا النهج، وإن كان العلاقات العربية-السوفياتية قد مرّت بظروف حرجة بعد الصراع الذي بدأ في أواخر سنة 1958 بين الحركة القومية العربية والأحزاب الشيوعية في البلاد العربية حول وحدة العراق والجمهورية العربية المتحدة، وفي هذه الفترة بالذات سُمِح لليهود بالهجرة من رومانيا إلى “إسرائيل”، وخفّت حملة الشيوعية الدولية على الصهيونية. إلا أن موقف الاتحاد السوفياتي من تسليح العرب ظلّ ثابتاً.
موقف الشيوعية المحلية منذ قرار التقسيم
الدور الثاني 1947-1955
كان تأييد الاتحاد السوفياتي للتقسيم مفاجئاً للشيوعية المحلية، ذلك أن الشيوعيين الذين كانوا يرفضون التقسيم حتى إعلان تأييد الاتحاد السوفياتي له في مجلس الأمن، غيروا موقفهم حالاً. ويستطيع متتبع الوقائع في هذه المرحلة أن يلمس الحقائق التالية:
- إن الشيوعية المحلية ناضلت في سبيل تحقيق التقسيم. وقد أصدرت الأحزاب الشيوعية في مصر ولبنان وسورية والعراق وفلسطين منشورات تدعم فيه وجهة النظر هذه (الشيوعية المحلية ومعركة العرب القومية، الحكم دروزة، ص 310-316)،
- لم يتورع الحزب الشيوعي العراقي عن تنظيم مظاهرات تؤيد التقسيم وتشجب الحرب العربية-اليهودية،
- اتخذت الأحزاب الشيوعية مواقف صارمة من الشيوعيين الذين قاوموا التقسيم وشجبوا موقف الأحزاب الشيوعية من قضية فلسطين، وقد اتُهِموا بالخيانة والانتهازية (انتفاضة الشعب العراقي لسنة 1948 وأثرها في تطور القضية العربية، خالد بكداش، ص 17-18).
وقد برر الشيوعيون موقفهم بما يلي:
أولاً: أن الحرب مؤامرة دبرها الاستعمار والإقطاع والبرجوازية العربية لمنع قيام دولة عربية مستقلة في فلسطين وضمّ الجزء المتبقي منها لشرق الأردن، وللحيلولة دون توسع نشاط البروليتاريا العربية-اليهودية التي يهدد كفاحها المشترك مصالح الاستعمار والإقطاع والبرجوازية.
ثانياً: أن الحرب عدوان على الأمة اليهودية ذات الحق في الاستقلال وحق تقرير المصير.
ثالثاً: أن الحرب بين العرب واليهود دينية عنصرية، وأنها تنمّي روح الفاشية في صفوف الجماهير العربية.
رابعاً: تهدف الحرب لإلهاء الجماهير عن “مشاكلها” ولبعثرة قواها، في الوقت الذي تركز فيه الحكومات الرجعية سيطرتها، وتزيد من ارتباطها مع الاستعمار.
وكان أخطر ما في الأمر أن الأحزاب الشيوعية حاولت أن تثبت أن اليهود أمة، وأن هذه الأمة ذات حق في إنشاء وطن قومي في فلسطين. ولذلك كانت ترى أن النضال في سبيل إقرار “صلح ديموقراطي” مع “إسرائيل”، وتحرير بقايا فلسطين من “الاحتلال العربي” وقيام دولة فلسطينية صديقة للشعب اليهودي ومتحدة مع “إسرائيل” اقتصادياً هو الحل الموضوعي السليم (“بيان عصبة التحرر الوطني في فلسطين في منطقة الاحتلال المصري”، في كتاب الشيوعية المحلية ومعركة العرب القومية، ص 349).
ولم يركّز الشيوعيون في هذه المرحلة على إثارة القضايا الوطنية التي كانت الحرب الفلسطينية تهدف إلى طمسها – وهذا ما أثاروه أكثر من مرة – بل شغَلوا أنفسهم وحاولوا أن يشغلوا الرأي العام العربي بقضايا خارجية مثل القضية الكورية، ومقاومة الأحلاف والتسلح الذري. إن مقاومة التدخل الاستعماري في كوريا ومحاربة الأحلاف والتسلح الذري لا تتناقض مع أهداف شعبنا، ولكنها يجب ألاّ توضع في الطرف المقابل لها، وألاّ تثار من دونها. وهذا ما فعله الشيوعيون.
الدور الثالث 1955-1963
بدأ سنة 1954 الانعطاف التاريخي في موقف الاتحاد السوفياتي من قضية فلسطين – كما بينّا – إلاّ أن موقف الشيوعية المحلية ظلّ على حاله حتى سنة 1955 عندما هاجم خالد بكداش فجأة في المجلس النيابي السوري الدعوة الصهيونية، وادعاءها بأن اليهود أمة. ومنذ هذا التاريخ أخذت الشيوعية المحلية ترفع شعار مقاومة الصهيونية إلى جانب شعار مقاومة الاستعمار. وقد استنكرت مقررات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان بتاريخ 7/5/1956 فكرة الوطن القومي اليهودي واعتبرتها مؤامرة استعمارية، ولكن الشيوعيين لم ينتقدوا موقفهم السابق من قضية فلسطين، ولم يتقدموا ببرنامج عملي لتحريرها. وظلت مقاومتهم للصهيونية شعاراً. وعندما دبّ الخلاف بين الحركة القومية والشيوعيين بعد ثورة الرابع عشر من تموز في العراق اختفى الشعار من الصحف والنشرات الشيوعية وكأنما لم يُرفع من قبل.
إن موقف الشيوعية المحلية يكشف هزالاً فاضحاً في “وعيها العقائدي”. فهي من الناحية العقائدية حكمت بأن اليهود في فلسطين يشكلون أمة، بينما هم لم يكونوا كذلك، وفي الوقت الذي اعترفت فيه لليهود، وهم القلة الغازية، بحق تقرير المصير، لم تطالب لعرب فلسطين، وهم الأكثرية، بمثل هذا الحق. ثم عادت فاستنكرت أن يكون اليهود أمة دون أن تطرح الشعار المترتب على هذا الاستنكار وهو القضاء على دولة “إسرائيل”. أما من الناحية السياسية، فقد ارتكبت الشيوعية المحلية عدداً من الأخطاء، أولها أنها لم تدرك منذ البدء أن قيام “إسرائيل” كان مؤامرة استعمارية… وثانيها أن الشيوعية أخذ تثبت أن اليهود أمة وأن لهم حق تقرير المصير دون أن تناقش ظروف تجمّعهم في فلسطين… وثالثها أنها كانت مترددة في مواقفها ترفض التقسيم تارة وتقبله طوراً، وتحارب الدعوة الصهيونية حيناً، وتؤيد قيام “إسرائيل” في أحيان أخرى. وكان هذا مرتبطاً بهزال الوعي العقائدي من جهة، وبالتبعية الفكرية والسياسية من جهةٍ أخرى.
إنّ ما فعلته الشيوعية المحلية كان مجرد محاولة لتبرير قيام “إسرائيل”، ثم كان محاولة للدفاع عن وجودها. وقد تمثل ذلك باستنكار الحرب والدعوة للصلح، ومحاولة إثبات وجود مقومات “إسرائيل” القومية. وما زال الشيوعيون أفراداً يصرون على أن التقسيم هو الحل السليم.
ويرتبط موقف الشيوعية المحلية من قضية فلسطين بموقفها من القضية القومية، وستظل عاجزة عن وعي القضية القومية، وسوف تكون الشيوعية المحلية مخربة ومضللة ما دامت تجهل العلاقة بين الاستعمار وقيام الدولة اليهودية ووجودها في هذه المنطقة من الوطن العربي. وأخيراً، نؤكد أن هدف هذا البحث ليس استعمال قضية فلسطين في محاربة الشيوعية، بل إيضاح الموقف الشيوعي المحلي من قضية فلسطين، وشتان ما بين الأمرين.
تطبيع المثقفين العرب
معاوية موسى
الدور الذي يلعبه المثقف ويمليه على الجمهور في أي أمة من الأمم، هو دور طليعي ومؤثر، ويترك بصمة في حياة تلك الأمم وشعوبها إلى الحد الذي يصبح فيه جزءاً من ذاكرة ووعي الناس في حياتهم وبعد مماتهم، وبالتالي فإن للمثقف دوراً إما أن يُسجَل له أو أن يُحسَب عليه، فهو ليس كائناً مثالياً أو فرداً يسبح في فراغ، وعندما كان كذلك، فهو منوط بالشعب والأمة وقضاياها، وطبقاً لهذا وجبت محاسبته اعتماداً على ما قدمه وسوف يقدمه، فمسطرة القياس والمعيار الوحيد الذي يتمّ الحكم من خلاله على الآخر هو الإجابة على السؤال التالي، كم قدّم لأمته؟، وهذا ينسحب بالضرورة على الأفراد والجماعات، فما بالكم بالمثقف؟
في الحالة العربية عموماً، والفلسطينية على وجه الخصوص، لا بد من القول أنه لا قيمة لإبداع مبدع عربي أو فلسطيني إن لم يكن إبداعه ملامساً لهموم الشعب ومتصادماً مع الاحتلال، فكل أديب وفنان ومثقف يصبح سياسياً مناضلاً حتى وإن لم يشأ ذلك، إلا من أبى ذلك فعلاً، وأراد لنفسه أن يقع في فخ الحالة الذاتوية في قضية أهم ما تتطلبه اليوم تجاوز الذات، وفي براثن وشرك أنسنة العدو والحداثة الشعرية التي تتطلب تجاوز الهوية ونكرانها، وهذا ما حدث مثلاً مع الشاعر محمود درويش، الذي يدعو إلى الاندماج الثقافي في المجتمع”الإسرائيلي”، وإلى حوار الآخر، أي “العدو”، والذي تُعتبر التوراة أحد أهم مراجعه الشعرية، لا سيّما أنه عشق ريتا الفتاة “الإسرائيلية”، وعبّر عنها في عدد لا بأس به من قصائده، بالإضافة لانتمائه إلى ما يسمى “الحزب الشيوعي الإسرائيلي/ راكاح”، وعلاقته المتينة بـ”اليسار الإسرائيلي” ومثقفيه، في الوقت الذي لا تنطبق فيه قوانين الصراع الطبقي على مجتمع إحلالي استيطاني كالكيان الصهيوني، فما بالكم بالنضال من داخل أطر تلك الأحزاب والتجمعات؟! وكل هذا قبل أن يصبح درويش أوسلوياً، وقبل أن يعتبر مدشّن عهد التسوية في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني، ياسر عرفات، رمزاً غير عادي قدم كل حياته للقضية، ولم يعش لنفسه أبداً.
لقد كتب درويش معظم خطابات عرفات في الماضي، من بينها ما يعرف خطاب “الدولة” وخطاب “غصن الزيتون”، والذي دعا في عدة حوارات له الكتاب الفلسطينيين إلى حوار الكتاب “الإسرائيليين المعتدلين” من أجل الاعتراف بما يسمى “الدولة الفلسطينية”، درويش الذي حاور مثقفي “اليسار الإسرائيلي” في أوروبا الشرقية في نهاية الثمانينيات، درويش الذي بقي يتمنى أن يطلق عليه تسمية شاعر الحب بدلاً من شاعر المقاومة، التي تخلى عنها واعترف رسمياً أنه سئم من القصائد الراسخة في ذاكرة الجمهور مثل”سجل أنا عربي” و “جواز سفر”، على الرغم من أنها ساهمت في انتشاره شعرياً، إلا أن القصيدة السياسية بالنسبة له لا تعني أكثر من مجرد خطبة، فهو ظل يردد دائماً أن على الشاعر أن ينتبه إلى مهنته وليس فقط إلى دوره.
أما الشاعر سميح القاسم، والذي حصل مرّتين على “وسام القدس للثقافة” من الرئيس ياسر عرفات، وعلى جائزة “السلام” من واحة السلام، فإنه لم يكن أقل فعالية وحرصاً من زميله ومواطنه محمود درويش على حوار”الإسرائيلي” وتفهّمه، فبالإضافة إلى عضويته في “الحزب الشيوعي الإسرائيلي/ راكاح”، عمد إلى نشر ثقافة وخطاب “السلام”، وتجاوز الكثير من قصائده الأولى التي عرف من خلالها بأحد شعراء المقاومة، لقد قام بحذف كل قصائد المقاومة من أعماله الشعرية التي أعيدت طباعتها لاحقاً، ورثى الجنود الصهاينة الذين سقطت مروحيتهم المقاتلة في شمال فلسطين المحتلة نهاية العام 1996 بعد عودتها من غارة جوية في جنوب لبنان، بل تجاوز الأمر إلى المساهمة الفاعلة إلى جانب الروائي إميل حبيبي في أسرلة المجتمع العربي في فلسطين عام 48، فالأخير كان عضواً أيضاً في “الحزب الشيوعي الاسرائيلي”، بل أحد أهم ممثليه فيما يسمى بالكنيست، وهو أحد أهم دعاة الاندماج والتعايش مع المجتمع الصهيوني قبل رحيله في العام 1996، وقد منحه الكيان الصهيوني أرفع جائزة أدبية، وهي جائزة تسمى “جائزة إسرائيل في الأدب”.
ربما تمتلىء الكتابة بين الأقواس في هذا المقال، فالأمة العربية لم تُبتلى أمة مثلها كما ابتليت هي بمثقفيها، إذ بات من الصعب اليوم الحديث عن انتلجنسيا فلسطينية أو عربية، بعد أن شهدنا تجاوزاً رهيباً لمفهوم الثقافة ووظيفتها ومفهوم المثقف ودوره، خاصة في ظل راهن وواقع عربي صعب شهد تراجعاً كبيراً منذ اتفاقية كامب ديفيد الخيانية التي دشّنت لمرحلة التطبيع الثقافي عبر زيارة علنية قامت بها سناء حسن لـ”إسرائيل” لتعود بمؤلفها «عدو في أرض الميعاد»، الذي اتخذ الطابع التبشيري بالسلام والتعامل مع الوجود “الإسرائيلي” بوصفه إضافة للمنطقة، سناء حسن كانت من أوائل المطبعين وأكثرهم خطورة، ولقد عملت على استمالة العديد من الشخصيات إلى المنزلق التطبيعي الذي بدأته، نذكر أيضاً علي سالم الذي كتب مسرحية “مدرسة المشاغبين” والذي دعا إلى تعزيز العلاقات مع العدو الصهيوني في كافة المجالات، ورحل حتى وهو يدافع بشراسة عن ضرورة الذوبان في العدو وليس التطبيع معه فحسب. ونذكر أيضاً الكاتب والروائي نجيب محفوظ الحائز على “جائزة نوبل للآداب”، وكلنا يعلم ما هو الثمن السياسي الذي يكمن وراء منح تلك الجوائز العالمية، هو الآخر كانت تربطه علاقات وثيقة بالسفير “الإسرائيلي” الثالث في القاهرة المدعو شيمون شامير كما تشير مجلة “مصر اليوم” في عددها الصادر في 15/3/2015، وتشير ذات المجلة إلى أن اليسار المصري لم يكن هو الآخر بعيداً عن سيناريوهات التطبيع وساعد موقفه غير الواضح من “إسرائيل” على جذبه لمنطقة الاعتراف والتطبيع.
لاحقاً ساهمت الاتفاقيات الموقعة مع العدو الصهيوني كأوسلو ووادي عربة إلى تسهيل المهمة وفتح الباب على مصراعيه أمام عدد كبير من المثقفين والفنانين العرب لزيارة فلسطين المحتلة، أو إجراء حوارات وأمسيات ومقابلات مختلفة مع شخصيات ومؤسسات صهيونية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر زيارة الشاعر قاسم حداد من البحرين، والروائية بثينة العيسى من الكويت، والروائي حمور زيادة من السودان، الذين شاركوا جميعاً في أسبوع الأدب العربي بتنظيم من متحف محمود درويش في رام الله، وزيارة الشاعر هشام الجخ من مصر والفنان لطفي بوشناق من تونس إلى الأراضي العربية المحتلة عام 1948، والزيارة التي قام بها الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله من الأردن إلى رام الله. ولا ننسى الدور الكبير الذي لعبه كل من الأكاديمي إدوارد سعيد وعزمي بشارة في مجال التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني، ولا ننسى اللقاء الأخير للروائي اللبناني أمين معلوف مع إحدى المحطات الصهيونية.
إلّا أن هناك ما هو أخطر وأوقح من فعل التطبيع نفسه، وهو تبرير التطبيع وتبرئته والذي مارسه كثر، نذكر هنا موقع “الحوار المتمدن” والعديد من كتّاب هذا الموقع الذين دعوا للتطبيع الثقافي مع العدو، وكمثال نذكر الدفاع المستميت لأحمد أبو مطر عن تطبيع إدوارد سعيد وإبراهيم نصر الله في مقال له على نفس الموقع “ما هو مفهوم التطبيع مع دولة إسرائيل” ونشر بتاريخ 15/7/2009، في موقف رخو ومتهالك لا يساوي قيمة الحبر الذي كُتب به.
عند الحديث عن الموقف من زيارة الأدباء والمثقّفين والفنّانين لفلسطين، يجب أن ننطلق أساساً من موقف مبدئي، ونبني عليه، وهو أنه ما من شيء يبرر التعاطي الطّبيعي والعادي مع الاحتلال، أو وجود علاقات مفتوحة مباشرة معه، ضمن أي سياق كان، وهذا هو معنى التطبيع وهو مُدان قولاً واحداً، ولا بد أن ندرك جيداً أن الثقافة أوسع وأكبر وأعمق من عرض موسيقي في حيفا، وقراءة شعرية في مقهى برام الله. مؤسف أن يتبنى المثقّفون موقف سلطة أوسلو، ومؤسف أن يحصر المثقّف عقله بنشوة النّجومية اللّحظية بدل بناء مشروع حقيقي ينسجم بالفكر والسياسة والنضال التحرري.
الوطن العربي بين مشروعين
بشار شخاترة
إنّ الدارس للتاريخ العربي منذ الحملة الفرنسية على الوطن العربي بقيادة نابليون يلمح البوادر الأولى للصراع على الوطن العربي والذي ابتدأ من بوابة مصر، وتتسرب من بين سطور التاريخ ملامح المشروع النهضوي العربي الذي أسس له محمد علي باشا وكان بحق طلقة التنوير الأولى التي يمكن إطلاق اسم مشروع وحدوي نهضوي في الوطن العربي عليها.
وفي معاصرة لولادة ذلك المشروع، وفي “جدلية” لافتة، تبدأ ملامح المشروع الصهيوني-الدخيل على تراثنا وثقافتنا وعلى جغرافيا الوطن العربي وقوميته- بالتطور التاريخي بتبنّيه من قبل الإمبراطورية البريطانية، وهذا لإثبات نقطة هامة بين مشروع قومي عربي أصيل ومشروع مضادّ يزاحمه بفعل القوى الاستعمارية التي تبنّت المشروع الصهيوني في الوطن العربي. أما مفهوم “الجدلية” فإنها ليست بالدّقة التي يعنيها المصطلح، أي أنّ كلا المشروعين لا يبرران وجودهما على ساحة الصراع الدائرة على الوطن العربي، حتى لا يقع في الذهن أن المشروعين متساويان، والحقيقةً أنّ التضاد قائم بين أصيل قومي عربي وبين دخيل استعماري جاء بهدف هدم المشروع الأول أو لمحاصرته وسدّ السبل في طريق تكوينه، وفي هذا المقام لم تكن بعض المحاولات النقدية للواقع العربي عامة والفلسطيني خاصة موفقة، من حيثية مواجهة المشروع الصهيوني، والتي نقدها البعض ذاتياً مستفيداً من التجربة الصهيونية ذاتها في نشوء هذه الحركة وتطورها ووصولها إلى مرحلة “الدولة” “إسرائيل”، والتي تسرّبت إلى بعض فصائل المقاومة الفلسطينية وتمّ التعاطي معها بتفهّم في بعض الأوساط العربية. لقد تراءى للبعض أنه يمكن استجرار هذه التجربة في الاتجاه المعاكس وبناء مشروع مضادّ للصهيونية يستلهم التجربة الصهيونية نفسها من حيث التأسيس والعمل الشعبوي بين أبناء فلسطين في الشتات مسلّمين “بدون وعي” أو بوعي أنّ التجربة “الفلسطينية” شبيهة بالتجربة اليهودية من حيث توزع الشعب الفلسطيني في “الشتات” وأن من يتولى التحرير هو الحركة الفلسطينية التي تنطلق في عملها بما يشبه الحركة الصهيونية، غير مدركين أولئك النفر أنهم يقعون في فخ استنساب الحلول، والتي تبدأ بالتحرير فإذا لم يكن مناسباً انطلقنا إلى شيء آخر؛ تحرير أي جزء ثم إقامة الدولة في المنفى ثم المسايرة للنظام الدولي بشيء يشبه الحركة الصهيونية واستداراتها مع التبدلات الدولية، ومتناسين أنّ الفارق بين الهدفين تضيق به المسافة بين الأرض والشمس، وأن الانزلاق في هذه الطريق يتجاوز أساساً فهم الجذور التاريخية للمشروع الصهيوني، والذي هو بالأساس مشروع إمبريالي كان يمكن أن يحمله الأكراد مثلاً أو الأتراك أو الاثيوبيون ولكنّ الإمبريالية وجدت ضالّتها في اليهود لعوامل ذاتية تخصّ هذه الفئة من البشر لا يمكن أن تتحقق في الشعوب المذكورة سابقاً لا يتّسع المجال لمناقشتها في هذه المقالة، وأنه من الغباء الانطلاق نحو البحث عن الحل فقط من باب دراسة أساس المشكلة ودون البحث في كوامن هذا المشروع، فاقتصر النظر على الصهيونية كحركة يهودية أرادت تأسيس كيان لها فنجحت، وضمن إطار الدعاية الصهيونية؛ أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وأرض الميعاد وغيرها من الترّهات الصهيونية ودون التوقف للحظة أنه مشروع مضاد أسس بغرض استباق حركة النهوض القومي العربي التي كانت بوادرها تتهيأ في مصر.
وبالعودة لظروف ولادة المشروع النهضوي العربي الأول في مصر يلفت الانتباه إلى الحالة الرجعية المتهاوية التي مثّلتها الإمبراطورية العثمانية والتي كانت المقدمة لانطلاق المشروع القومي، سبقت فيه مصر الأمة العربية في التنبّه إليه بقيادة محمد علي باشا، وهذا بفعل عوامل موضوعية قومية الطابع في مصر، وهو ما يؤكد الوعي القومي الأصيل في مصر حتى لو لم يكن محمد علي من أصل عربي وهو ما تردده دائما العقيدة القومية أنها ليست عنصرية أو شوفينية وهذه النقطة تحديداً لها ما بعدها في هذا السياق، وعوامل ذاتية تؤكد النقطة السابقة من أنّ مصر بثقلها الجيوسياسي من الطبيعي أن تنزع نزعة عروبية، وكان من الطبيعي وطبقاً لقوانين الطبيعة ولتطور الأمم التاريخي أن تنضج هذه الحالة في مصر بحكم عواملها المذكورة، وأن تتولى مشروع نهضة قومي شامل لا يخفى على أحد تفاصيله.
لقد تولّى مشروع محمد علي النهضوي بأداته التقليدية، وهي الدولة المركزية القوية الدولة الصناعية، عملية الانتشار الأفقي في الفضاء العربي، وقد أفلح حيثما ذهب بدرجة أو بأخرى، وطرحَ بديلاً قومياً لأول مرة منذ انهيار الدولة العربية على يد الأتراك العثمانيين والتي سبق انهيارها مخاض طويل أفضى لدخول العثمانيين على خط الدولة العربية بحيث أفرِغت من مضمونها القومي وأصبحت الدولة أداة رجعية بيد الطارئين عليها أوصلت الأمة العربية إلى حضن الاستعمار الأوروبي لقمة سائغة، تلتها الأداة الاستعمارية الأوروبية وهي المشروع الصهيوني كاستكمال للاحتلال المباشر وقاعدة أمامية للقوى الاستعمارية التي لا تزال تتبناه وتمدّه بأسباب الحياة، وهذا يدل وبشكل واضح أن المشاريع الدخيلة على أمتنا هي بالضرورة مشاريع تؤسس لبعضها وتخلق الأرضية المناسبة للتسلل إلى الوطن العربي ككل.
إذن المشروع الصهيوني، وبعيدا عن الخرافات التي يسوقها هذا المشروع عن نفسه حول أرض الميعاد والشعب المختار، هو رأس الحربة في الصراع على الوطن العربي، ومما يلفت الانتباه هو أن هذا المشروع لم يشكّل ضيقاً حتى لأقرب الحلفاء للعرب، وهم السوفييت الذين رأوا فيه حالة تقدمية في بعض تفاصيله، ورأوا فيه حالة مريحة لوقف التمدد القومي العربي وتجربة الوحدة المصرية-السورية مثال صارخ على العداء السوفييتي المبطّن للجمهورية العربية المتحدة، ويمكن الإضافة أيضا أنه حتى اليوم ليس المشروع الصهيوني هو العدو الأول لبعض الدول القومية المجاورة للأمة العربية ومنها تركيا على سبيل المثال، لا بل إن الذي يشكل الأولوية لتلك الدول هو التمدد على حساب الوطن العربي والأمة العربية بعناوين مختلفة.
حصيلة الواقع أن الصهيونية وآداتها “إسرائيل” هي نقطة تقاطع العديد من المشاريع القومية والإمبريالية والدولية التي تعتبر أنّ الوطن العربي ساحة لها أو ميدانا للتمدد على حسابه.
عملت الإمبريالية البريطانية على محاصرة المشروع العربي الأول في مصر تارةً بترويج هوية ملفّقة لمصر غير هويتها القومية، وتارة أخرى بافتعال انتماء ديني إسلاموي على حساب الانتماء القومي لا أساس له ليُترك فيما بعد يتفاعل بشكل انقسامي متنامي تجلّت ظواهره في ايديولوجيا الإسلام السياسي، لتنتقل دفة المشروع القومي إلى المشرق العربي الذي نظّر له وأعطاه بعدا فكريا في إطار الصراع مع مشروع التتريك، على أنه لا يصحّ القول أنّ مصر أصبحت غير قومية، ولكنّ الاحتلال البريطاني استطاع أن يخلقَ من خلال ثقافة روّج لها لتغيير وجه مصر؛ نجح بعض النجاح لكنّه تلّقى ضربة قوية على يد جمال عبد الناصر، الذي استعاد ألق المشروع الأول ولكنه بنكهة شامية مشرقية هذه المرة بقيام دولة الوحدة، فالفكرة القومية كعقيدة ومشروع نضجت في سورية بحكم صدامها المباشر مع المحتل العثماني، وبحكم صراعها المباشر أيضا مع الطلائع الأولى للمشروع الصهيوني في فلسطين.
لقد شكّل المشروع القومي العربي القوة الصاعدة في مواجهة الصهيونية ضمن نضاله الوحدوي التحرري التقدمي، ولم تُخفِ الصهيونية عداءها له، بل خاضت معاركها الصعبة مع هذا المشروع متحالفةً مع الرجعية العربية القديمة ممثلة بالملكيات العربية، ولحقت بها قوى سياسية إسلاموية وطائفية حديثا بحيث اجتمع الفريقان على العداء للعروبة والهوية العربية، ولا أدلّ على ذلك إلّا الحالة العربية المتردية التي آلت اليها بتراجع هذا المشروع، بحيث أصبحت الساحة العربية تعاني من الفراغ الذي أوصل إلى تفشي الانقسام المذهبي والطائفي وبروز أمراض على السطح القومي بشكل بدا واضحاً فيه حالة الاسترخاء لدى الكيان الصهيوني .
إنّ استمرار الوجود الصهيوني يمثل استمراراً للعدوان على الأمة العربية، وإنّ هذا المشروع بكل مكوّناته وإفرازاته ومتعلقاته وكلّ ما ينشأ أو يتفرّع عن العلاقة معه يشكّل جزءاً من العدوان على الأمة العربية، والحلّ المنطقي معه هو تصفية الصهيونية بكل تفاصيلها وتصفية قواها العسكرية والمدنية لما تمثله الصهيونية من أداة للعدوان الغربي على الوطن العربي برمته بوقوفه مانعاً ومعيقاً ومثبّطاً لأي نهضة عربية، ولا يمكن بأي حال التعايش معه ومن دون البحث عن الدليل، لأنه ليس مطلوبا أن نثبتَ بشاعة الاحتلال الصهيوني، فمثلا الحالة الواقعية التي أفرزتها المفاوضات العربية مع الصهيونية لم تفضِ إلا لمزيد من تشبث هذا المشروع وامتداده على الأرض العربية. إنّ عناصر الحل للمشكلة الصهيونية لا تشكل إلا جزءاً من كلٍ في ثنايا المشروع النهضوي العربي الطامح للوحدة والتحرر ومقولة تصفية الوجود الصهيوني ليست من باب السقف العالي ولا من باب طرح المستحيل للوقوف عاجزين الفعل، إلّا أنّه لا يستقيم نهوض العرب بوجود الصهيونية واليهود على أرض فلسطين، وليست شوفينيةً قوميةً الدعوةُ لتصفية المشروع الصهيوني لأنه بالأساس غارق بالعنصرية والشوفينية بالممارسة وبالتعاليم البالية التي يتبنونها في كتبهم وأدبياتهم، وأمة تبّنت مشروع قاده محمد علي وهو ليس بعربي لا يمكن نعتها بالشوفينية أو العنصرية، لا هي ولا المشروع الذي تبّنته. إنّ تبني الفصل بين اليهودية واليهود من طرف والصهيونية من طرف آخر تعتبر مثالية في غير مكانها، ومجاراة ” للمجتمع الدولي” الذي شرعن الوجود الصهيوني، المجتمع الذي لا ينظر بذات العين إلى العربي الذي اغتُصبت أرضه وشرّد شعبه، وهنا تدخل كثير من النخب العربية في حبال الأوهام الصهيونية، متذرّعة بيهود هنا أو هناك ينكرون الصهيونية وذلك لنكسب “الرأي العام العالمي” ولنكسب دعم هؤلاء ولننفي عنصرية العرب، وما لا يفهمه العقل أن تخسر وطنك في سبيل أن تكسب تعاطف المتعاطفين، وفي النهاية نحن نناضل لاسترجاع حق مشروع لنا هو عروبة أرض فلسطين، ويشهد تاريخنا أن من أتونا مهاجرين مسالمين كنا أكثر من مرحبين بهم دوماً، أما الغزاة فليسوا مجرد مهاجرين، علماً أنه لم يضر الصهيونية بيانات الاستنكار والإدانة، ولن يضيرنا كثيرا وصفنا بالعنصرية إن استعدنا وطننا وحققنا مشروعنا القومي، عندها لا معنى للمعايير الدولية الراهنة لأنها معايير القوى المهيمنة على القرار العالمي، وعندها فقط يمكن الحديث عن معايير جديدة أكثر عدالة .
لذلك يبقى المستقبل العربي متوقفاً، والحالة العربية تراوح مكانها، ما بقيَ مشروعها الوحدوي النهضوي خارج العمل. ويصحّ القول أنّ هذه الأرض العربية لا تعرف إلّا حلاً واحداً هو الحل القومي لأنه حلٌ أصيلٌ نابع من ترابها وأي مشاريع حلول هي إما مضادة أو غازية إمبريالية أو رجعية مضللة، وجميعها تقع على الضفة المقابلة لمشروع الثورة العربية بتفاوت بينها.
الحركة النضالية وانحسار العداء مع الصهيونية
كريمة الروبي
كانت الحركة النضالية وحتى غزو العراق في 2003 تقوم أساساً على فكرة العداء للصهيونية ولم تجد القضايا الداخلية والحريات الكثير من حيز الاهتمام بالنسبة لممارسي السياسة أو الجماهير التي لم تكن تستجيب بالقدر الكافي لتلك القضايا، حتى أننا كنا ندرك من البداية، قبل الإقدام على ممارسة أي نشاط سياسي جماهيري، مدى استجابة الجماهير من نوع القضية المطروحة، وكان المدخل الرئيسي الذي يمكن به ضمان الاستجابة للقضايا الداخلية هي ربطها بالعداء للصهيونية. حتى في انتفاضة 18 و19 يناير سنة 1977، التي انطلقت احتجاجاً على القرارات الاقتصادية، كانت الجماهير معبأة ضد النظام منذ مفاوضات جنيف مع الكيان الصهيوني بداية من 1974، فكانت تلك القرارات هي القشة التي قصمت ظهر البعير، وإن كان هذا الصنف من القرارات الاقتصادية المتعلقة برفع الدعم وفتح السوق المحلي أمام الاستثمار الأجنبي (القادم بشروطه وأجندته وأفكاره)، ليست بعيدة من أي وجه عن منظومة رأس المال الغربي التي غرست الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية، لتضمن به عدم وحدتها، وتفتتها، وتحجيم أقطارها لتبقى مخزوناً للمواد الخام، وأسواقاً لتصريف سلعهم.. لتحصيل مزيد من الربح… ذلك هو النهج منذ موشى مونتيفوري وروتشيلد وهنري بالمرستون، وحتى البنك الدولي، في العقود الأخيرة.
ما الذي تغير إذاً؟ هل هي اهتمامات الجماهير أم تبدلت أجندة المعارضة؟
لعبت أمريكا على تغيير أجندة المعارضة حيث لم تكتفِ بدعم الأنظمة بل دعمت المعارضة أيضاً من خلال التمويل، فأصبح الصدام مع السلطة قائماً على القضايا التي تطرحها الجهة الممولة للفعاليات السياسية، والتي لن تشير ولو من بعيد لقضية الصراع العربي-الصهيوني، بل تعمل على تمرير التطبيع معه وتهميش القضية الفلسطينية.
حتى المعارضة غير الممولة لم تجد أمامها سوى الشركات متعددة الجنسيات لتعمل بها ووسائل الإعلام المملوكة إما لرجال أعمال أو لأنظمة يتمنى جميعهم اختفاء القضية الفلسطينية من الوجود لتحقيق مصالحهم الشخصية، أما مواقع التواصل الاجتماعي المتاحة للجميع فهي تحت سيطرة المخابرات الأمريكية تستفيد منها وتدعم جهة وتحارب أخرى ما يجعل المعارضة الوطنية محاصرة لا منبر لها ولا داعم لتوجهاتها، فخفتت الأصوات الداعية للعداء مع الصهيونية وتعالت الأصوات الرافضة للسلطات المحلية خدمة للسلطات العالمية ممررة أفكاراً تدعو للتطبيع وتصفية القضية الفلسطينية.
إن وجود المعارضة الوطنية محاصرة بهذا الشكل جعل القضية الفلسطينية قضية فرعية ولم تعد كما كانت في السابق؛ هي المدخل والدافع لكل القضايا الأخرى، حتى أن الصراعات والحروب الأهلية التي تشهدها البلدان العربية قد قامت لمصلحة وبدعم الكيان الصهيوني إلا أنه تم تحييد الصراع معه.
حتى الرفض الشعبي والنخبوي لداعش لم يتم توظيفه في الاتجاه السليم، فلم يُنظر لداعش على أنها الابنة الشرعية للمشروع الصهيوني، رغم أن جميع معاني البنوة متحققة، فـ”داعش” أقامت مشروعها “ككيان” على اغتصاب الأرض واستخدمت العنف والتهجير بحق أهلها، ورفعت شعارات “دينية” لإقامة دولتها، وهو الفكر الذي قامت عليه الحركة الصهيونية.
أي يمكننا القول بأن بين داعش والمشروع الصهيوني قناة اتصال حقيقية وحبل سُري متين.
“داعش” وشقيقاتها من التنظيمات المتطرفة، التي تقوم فكرتها المركزية على فكرة الصدام مع (الجميع)، بغير غرض حقيقي سوى (التخريب)، هي النتاج الطبيعي لتدخل الحلف الصهيوأمريكي في الأقطار العربية، لتعطيل المشاريع التقدمية والحداثية التي انطلقت في الوطن العربي في زمن ما بعد الاستقلال ابتداءً من منتصف الخمسينيات (في مصر والعراق وسورية والجزائر..)، فما كان من الآلة العسكرية الغربية وقاعدتها المتقدمة في فلسطين إلا أن تدخلت لتعطل وتخرب وتجهض التجربة تلو الأخرى.. بل إنها تحالفت مع النظم العربية، التي هي الضد دوماً من هذا المشروع الحداثي التنويري، فتحالفت معها في الجزيرة العربية (السعودية وأنظمة الخليج) وثبّتت أركانها في (المغرب) و(الأردن).. أي أن الصهيونية سعت بأقصى ما يمكنها لتصحير الأرض العربية، وعطّلت أي يد عربية حاولت أن تمتد إلى تلك الأرض لتمدها بالماء والأسمدة والبذور…. وعليه كان من الطبيعي أن تتشقق الأرض، وتخرج في جنباتها النباتات الشيطانية، ومن شقوقها الثعابين… هذه هي “داعش” ابنة مشروع إضعاف الحكومات المركزية، وتفتيت الدول، وتفكيك بنيتها الاجتماعية ودعم النزعات الانفصالية فيها، بل هي النتاج الطبيعي لأجندات البنك الدولي التي حرّمت على الدولة رعاية مواطنيها والتدخل في العملية الاقتصادية لإشباع حاجات شعبها المادية والثقافية، وهي ابنة “كامب ديفيد” و”أوسلو” و”وادي عربة”.. وابنة كل كتاب أو رواية همّشت العداء مع الصهيونية، فكان من الطبيعي أن تتجه البنادق إلى قلوب الأشقاء، هذا جوهر المشكلة التي لا يتعرض إليها أحد.
والحقيقة أنه لم ينجح في دحر الدواعش سوى من ربط وجودهم بالحركة الصهيونية واعتبرهم جزءاً منها.
إن انحسار فكرة العداء للصهيونية، إلا من بعض الفعاليات الرافضة والمقاوِمة للحصار الذي تفرضه العوامل سالفة الذكر، ليس مبرراً للتخلي عن القضية، فمن وهب نفسه للدفاع عن قضية يؤمن بها لا ينتظر الجهة الأقوى لينضم إليها بل يدافع عن الحق ويرى أنه الأقوى ولو تصور الجميع أن هذا الحق ضعيف.
التّطبيع والعالميّة ونوبل
طلقة تنوير – محمد العملة
لم يعد الحديث عن التطبيع مع الكيان الصهيوني في الوقت الحالي أمراً جديداً، فما قيل في توصيفه وفي التنظير الذي يعكس عمليّاً تلك الرؤية المعمول بها لمناهضته شافٍ ووافٍ، حيث لا يستقيم منطقاً ولا عقلاً ولا لغةً القول بأن تكون علاقتي مع العدو طبيعية أو علاقة صداقة، فكيف يكون العدو صديقاً؟!
لكن المطبّعين يتجاوزون كل هذا لأنهم ينطلقون من قاعدة أن الكيان الصهيوني ليس عدوّاً أصلاً، والساحة هنا تتجاوز ميدان السياسة إلى ساحات الاقتصاد والثقافة والفن وكل نشاطات الحياة الأخرى، لتصب في خانة تشويه الوعي الجمعي والسعي لنقيض مصلحة الأمة؛ فيصبح المطبّع بذلك صِنواً للعدو وعوناً له.
موضوع التطبيع واسع جدّاً، وكما أن وسائل مناهضته -بصعبها وسهلها- موجودةٌ، كذلك باب التطبيع مفتوحٌ ومتجددٌ وسهلٌ، فكل يوم نسمع عن سياسي مطبع، وفنان مطبع، ورجل دين مطبّع، وكاتب مطبّع والقائمة تطول. لكن نظرة سريعة على قائمة المطبّعين المعروفين في الإعلام تكشف لنا أن معظمهم يحملون صفة العالميّة مقرونة مع اختصاصهم، فالفنان المطبّع هو الفنان العالمي، والنحات المطبّع هو النحات العالمي، والعالِم المطبّع هو ذلك العالِم العالمي الذي يدرّس في أرقى الجامعات، وهكذا دواليك ما خلا القليل جداً من الاستثناءات.
العولمة أم العالمية؟!
الاقتران بين “العالميّة” والتّطبيع وجيه وقابل للتفسير، ففي ظل النظام العالمي القائم تحمل “العالمية” ذات الدلالة التي تحملها “العولمة”، وكلاهما تعبران عن اختراق بنيوي في الوعي والثقافة ونمط المعيشة، وتكرّسان لتعزيز علاقات الإنتاج القائمة بين الأطراف والمراكز كوجه من وجوه الإمبريالية، وترسيخ النظام المسيّر لها، وبالتالي الارتهان أكثر فأكثر لمنظمات التمويل الأجنبية الحكومية وغير الحكومية، بما تحمله من أجندات هيمنة سياسية- اقتصادية تصب كلها في مصلحة التطبيع.
صفة العالميّة إذن ليست متعلقة بالأممية، ولا تدور في فلكها لأنها -أي العالمية- لا تمثل هوية في ذاتها، بل هي النقيض للهوية وتعبير عن انسلاخ الذات عن ذاتها القومية لحساب شكل جديد من الليبرالية الحديثة “النيو-ليبرالية” يلغي سيطرة الدولة على مفاصل كثيرة، مانحا مساحة أوسع للفوضى، ومعزِّزاً لمفهوم “دولة الشركات”.
تحت مسمى “العالمية” إذن تمارس العولمة هيمنتها، ومن أمثلتها الهيمنة على المجالات الثقافية والعلمية باعتبارها باباً ينفذ منه التطبيع، والخطوة الأولى تكون بتلميع “المثقّف أوالمختصّ في مجاله” تمهيداً لأن يكون شخصاً عالمياً للأسباب التالية:
- إبراز الإعلام لهذه الشخصيات يهدف إلى إبقائها تحت الأضواء وإعطاء صورة للعالم أن النخبة في المجتمع العربي تؤيد التطبيع وتسعى له.
- أن يكون الشخص عالمياً ولا يكون عربياً بما يمثله ذلك من دونيّة وانسلاخ عن الهوية الحقيقية لحساب مفهوم سلعي هو “العالميّة”.
- استخدام هذه الشخصيات كبيادق لمهاجمة الثقافة القومية، فالعولمة غير معنية بتعزيز التبادل بين الثقافات، إنما تهدف إلى تعميم نمط واحد وتمرير التدفق باتجاه واحد من الغرب نحو نقاط الوصول المُهيمَن عليها.
- تعميم النظرة القائلة بأن العربي لا ينجح ثقافياً إلا بالانغماس في ثقافة الغرب والتعلّم منها، وتبني أطروحات أهل الاستشراق حول انحطاط العرب وثقافتهم.
مطبّعون عالميّون:
قبل أربعة أسابيع ظهرالروائي أمين معلوف في لقاء متلفز مع إحدى وسائل الإعلام الصهيونية. تطبيع معلوف “العالمي” ليس مفاجئاً بل يتناسب مع أفكاره، فنظرة بسيطة إلى مؤلفاته تمنحنا فكرة عن ليبراليته وانحيازه للمشروع “الشرق أوسطي” بدل المشروع العربي، وهذا يظهر واضحاً في كتابه “الهويات القاتلة”. استخدام مصطلح “الشرق الأوسط” يمثل صيغة معولمة تمنح شرعية لوجود الكيان الصهيوني ضمن هذا النطاق الجغرافي، بينما يعبر اصطلاح الوطن العربي عن رفض لوجود الصهاينة في أرضٍ عربيةٍ محتلّة. معلوف ينحاز للاستشراق أيضاً، ففي كتابه “سمرقند” يروي سرديّته عن “عمر الخيام” بأسلوب لا يخلو من الاستشراق، وأتحدث هنا عن الاستشراق كمؤسسة، وعن استفادة الصهيونية منها، كونها -أي مؤسسات الاستشراق- عززت وخرجت بخرافات تاريخية كالسامية والشعب العبراني والقول بوحدانية التوراة كمصدر للتاريخ القديم، كما كانت عوناً لكل مشاريع الاستعمار التي مرّت على المنطقة في القرن المنصرم.
على كل حال، لا أستبعد أن يحصل معلوف على جائزة نوبل بعد بضع سنوات، وليس من قبيل المصادفة أن يكون العرب من حملة جائزة نوبل أو المرشحون لها في مجملهم من المطبعين، فهم “عالميون” في نهاية المطاف! السؤال المطروح، كيف يمكن أن يكون المطبّع مثقّفاً أو سياسياً محنكاً أو عالماً مختصاً وهو يسقط في شبكة التطبيع؟
الجواب بشكله المجرد لا يلغي أن هؤلاء المطبعين يملكون معرفة معتبرة في المجالات التي يختصون بها، لكن المعرفة أو الثقافة التي يمتلكونها مصنّفة هنا ضمن السّمت المعرفي الغربي، أي أنها لا تنحاز للسمت الثقافي المعبر عن العروبة، المنادي بأهدافها، العامل لمصلحتها، فهي ثقافة نقيضة لما يجب عليها أن تكون.. ثقافة لا تنتمي للعروبة بالمفهوم الاجتماعي.
نوبل والعرب:
الحاصلون على جائزة نوبل من العرب جمعيهم مطبّعون، وأنا لا ألجأ هنا لمغالطة التعميم المتسرع ولا أتحدث عن مؤامرة، لأنها ليست أمورا تُحاك في الخفاء أو تُدَبّر في السر، بل أمور واضحة للعيان لا تخفى على كل ذي عقل، فنظرة بسيطة إلى هذا المثقف أو ذاك تمنحك معرفة كبيرة عن القاعدة الأيديولوجية التي ينطلق منها وعن المشوار الذي أوصله للعالمية ونوبل!
في مقالة بعنوان “جائزة نوبل للآداب: إبداعية أم سياسية؟”، يتناول الدكتور إبراهيم علّوش الأبعاد السياسية المتحيزة في منح الجائزة لمن ينحازون للمشروع الغربي بشكل عام، والصهيوني بشكل خاص، ويعطي مقارنة بين مفهوم اليسار المتداول في أوروبا -كليبرالية متطرفة- وبين مفهوم اليسار المنوط بالتحرر الوطني ومناهضة الإمبريالية، لكنني سأركز فقط على العرب الحاصلين على نوبل، ولماذا اختيروا هم بالذات للجائزة:
- في الأدب، لم يحصل على الجائزة سوى نجيب محفوظ، فهو الأديب “العالمي” الذي رحل بالرواية العربية نحو آفاق جديدة، وكأنَّ الأدب العربي لم يكن عالميّاً قبل محفوظ؟!
نجيب محفوظ كان داعماً لزيارة السادات إلى الكيان الصهيوني ومدافعاً عن مسار كامب ديفيد التطبيعي، ويظهر ذلك في تصريحاته ومقابلاته مع الإعلام خلال تلك الفترة، بل وتفاخره بأنه كان داعياً للسلام قبل السادات نفسه، بحسب ما يورد محمود عبده مؤلف كتاب “أصدقاء إسرائيل في مصر”.
- في الكيمياء، نال المصري أحمد زويل الجائزة عام 1999 بعد تطويره على مجال “الفيمتو كيمياء”، لكن زويل ليس المبدع الوحيد من العرب في مجالات العلوم، فهناك العديد ممن برعوا في مجالات الكيمياء والأحياء والفيزياء وغيرها من العلوم قبل وبعد زويل، فلماذا هو تحديداً؟
الممهد لحصول زويل على نوبل في الكيمياء كان مشواره التطبيعي الواسع في الحقل العامل فيه، فهو الذي نال جائزة “Wolf” عام 1993 وتسلّمها في الكيان الصهيوني من يد “عازار وايزمان”، والأخير هو نفسه الذي أمر باغتيال “يحيى المشد”، دكتور الكيمياء النووية في جامعة الإسكندرية. نشاطات زويل التطبيعية يذكرها أمين بسيوني في مقالة له في مجلة “الوعي العربي”، ومنها:
- رئاسة الوفد الممثل للولايات المتحدة في مؤتمر الكيمياء الضوئية عام 1983 والمنعقد في الإسكندرية، واحتوى الوفد على عدد من الشخصيات التي زارت الكيان الصهيوني مسبقاً، إضافة لوجود علماء “إسرائيليين” ضمن وفده.
- شغله لمنصب المستشار العلمي لمشروع “نوتيلاس” الذي يهدف للبحث عن طريقة تستخدم تقنيات الليزر الكيميائية لإسقاط صواريخ المقاومة اللبنانية والفلسطينية، بل ومكوثه في مدينة حيفا لمدة تزيد عن ستة شهور بعقد إعارة من الولايات المتحدة إلى الكيان الصهيوني.
- محاضر في معهد “تكنيون” الصهيوني، وعضو في جمعية السلام القاهريّة المناصرة للتطبيع ونشاطاته.
- في السياسة والسلام، لا حاجة لنا للحديث كثيراً عن صاحب كامب ديفيد “أنور السادات” وصاحب أوسلو “ياسر عرفات”، فالأول هو المدشن للتطبيع الرسمي العلني، الذي أصاب الصراع العربي-الصهيوني في مقتل، بعد أن أخرج مصر من موقعها الوازن وأحلّ قوى الرجعية مكانها في تصدر المشهد السياسي. حريٌّ بأعضاء الحركة الصهيونية أن يضعوا صورة السادات بجانب صورة ثيودور هرتزل تعبيراً عن الخدمات الجليلة التي قدمها للصهيونية العالمية.
أما ياسر عرفات فاستكمل مشوار السادات التطبيعي بانحيازه لمشروع الاستسلام المناهض للمقاومة، ومعانقة الخونة المطبّعين لمناحم بيغن وإسحاق رابين ترسم المشهد السوريالي المعبر عن التطبيع في أعلى مراحله.
آخرون حصلوا على نوبل في السياسة، محمد البرادعي الليبرالي الذي لعب دوراً في تثبيت تهمة “أسلحة الدمار الشامل” على العراق قبيل غزوه أثناه شغله لمنصب رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولا يتسع المجال هنا لذكر دوره وعلاقته المتينة مع الإدارة الأمريكية المتصهينة في حقبة جورج بوش.
توكّل كرمان هي الأخرى حصلت على الجائزة قبل أربع سنوات، وهي تمثيل لإفرازات الفوضى التي أسمتها وزيرة الخاجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس بـ”الربيع العربي”. كرمان “الثّورية” -العضو في حزب الإصلاح، الذراع السياسي للإخوان المسلمين في اليمن- دافعت عن الصور التي جمعتها بـ”عوفير براينشتاين” المستشار السابق لرئيس الحكومة الصهيونية “إسحاق رابين” واصفةً إياه بمناصر الشعب الفلسطيني!
في العام الماضي حصلت لجنة “الرّباعي الرّاعي” في تونس على جائزة نوبل للسلام لجهودها في “الانتقال الديمقراطي” الذي أشادت به عواصم الغرب، انتقال ديمقراطي بدأت تونس تشعر بأثره في الأيام القليلة الماضية بعد انخفاض سعر صرف الدينار التونسي وتمرير خطة صندوق النقد الدولي تمهيدا لمزيد من الهيمنة الاقتصادية على هذا البلد العربي.. بعبارة أخرى، العولمة كطريق يمهد للتطبيع!!
أمتنا بحاجة إلى مثقفين عرب وسياسيين عرب وعلماء عرب يعملون للنهوض بمشروع عروبي أصيل هو وحده كفيل بمناهضة التطبيع والقضاء عليه، مشروع يرفد المقاومة ولا يحتاج لوصفات العولمة، مشروع لا ينتمي للعالميّة؛ فالوحدة والتحرير والنهضة بوصفها أهدافا تحتاج لوحدة الجهود وتحرير من النخبة “العالميّة”ونخبة عربية تنهض بها!
الصهيونية وأسس مناهضتها
إبراهيم علوش
كثيراً ما تضيع الصورة الكبيرة حول الصهيونية في وحول الحدث السياسي الراهن وغابات التفاصيل اليومية، فلا بد من رسم الصورة بأوسع المقاييس، قبل الدخول في التفاصيل:
- الصهيونية حركة سياسية هدفها استعماري استيطاني إحلالي فعلاً، لكن فصلها عن اليهودية يشبه الفصل ما بين النبتة والتربة، وفكرتا “أرض الميعاد” (احتلال فلسطين) و”شعب الله المختار” (استباحة الأمم الأخرى كأغيار) فكرتان توراتيتان بامتياز، كما أنها تظل في النهاية مشروع يهودي لليهود، ولو استخدم أدوات أخرى من “الأغيار”.
- يتألف البرنامج الصهيوني من شقين، شق يتعلق باستعمار بفلسطين، وشق يتعلق بتأسيس حركة صهيونية ذات نفوذ عالمي، ولا يمكن فصل المسارين أحدهما عن الآخر، ومن هنا يختلف احتلال فلسطين عن أي احتلال آخر في أنه ليس موضعياً فحسب، بل يعتمد على شبكة نفوذ يهودية دولية.
- يقوم البرنامج الصهيوني في فلسطين على الأسس التالية: أ – هجرة اليهود إلى فلسطين، ب – افتعال مجتمع يهودي في فلسطين، ج – تأسيس بنية تحتية لدولة في فلسطين، وهي الأسس التي تناولها كتاب ثيودور هرتزل “الدولة اليهودية”، وبالتالي فإن من يتسامح مع أيٍ من هذه الأسس لا يمكن أن يكون بأي شكل مناهضاً حقيقياً للصهيونية.
- لا يوجد “يهودي جيد” في فلسطين، ومناهضة الصهيونية بالنسبة لليهودي تتطلب، كشرط ضروري غير كافي، مغادرة فلسطين، أما الشرط الثاني فهو بالحد الأدنى اعتزال شبكة النفوذ اليهودي خارج فلسطين، ومناهضتها إن كان يصر على اعتبار نفسه تقدمياً…
- مناهضة الصهيونية تعني: أ – تبني عروبة أرض فلسطين كاملة، والجولان، والأراضي العربية المحتلة الأخرى، ب – دعم كل أشكال مقاومة الاحتلال، وعلى رأسها العمل المسلح والاستشهادي، ج – مناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني، د – مناهضة نفوذ وسياسات ومشاريع الحركة الصهيونية في الوطن العربي وحول العالم.
- التمييز بين اليهودي الشرقي واليهودي الغربي، وبين اليهودي “التقدمي” وغير التقدمي في فلسطين عبارة عن هراء، فكلهم جزءٌ لا يتجزأ من المشروع الصهيوني ما داموا على أرض فلسطين.
- ليس على العربي أن يثبت أنه “غير معادي لليهود”، إنما على اليهودي أن يثبت أنه مناهض للصهيونية، بحسب التعريف أعلاه.
- ليس هناك ما يثير الشفقة والحيرة أكثر من مشهد شخص عربي يحاول أن يثبت للـ”راي العام الغربي” أنه غير “معادي للسامية”!!
- كل مشاريع التعايش مع العدو الصهيوني، من “الدولة الواحدة” إلى “الدولتين”، هي مشاريع مناقضة لعروبة فلسطين، بالتعريف، وبالممارسة.
- دولة العدو الصهيوني ليست مجرد قاعدة للإمبريالية في الوطن العربي، كالرجعية العربية مثلاً، بل تشكل الحركة الصهيونية جزءاً رئيسياً من المنظومة الإمبريالية، فهي ليست مجرد أداة، بل شريك عضوي في شريحة رأس المال المالي الدولي.
- من البديهي أن صراعنا مع الإمبريالية، كأمة عربية وكعالم ثالث، لا يُحل بتخليص الغرب من “السيطرة اليهودية”، كما يزعم بعض السطحيين، فصراع العالم الثالث مع الإمبريالية أساسه منظومة الهيمنة والاستغلال الدولية، وصراعنا كعرب مع الغرب، فضلاً عن ذلك، أساسه الجغرافيا السياسية للسيطرة على حوض المتوسط والعالم القديم، كما أدرك هنيبعل في صراعه مع روما، وهو الصراع الذي كانت تتمته الطبيعية تأسيس الدولة العربية الإسلامية في الأندلس ومعركة بلاط الشهداء (بواتييه)، وكما أدرك جيداً من شنوا حملات الفِرنجة على بلاد الشام ومصر، إنما يزيد البعد الصهيوني في زماننا الصراع مع الإمبريالية احتداماً ودموية في حالتنا كعرب في الحقبة الإمبريالية الحديثة.
- لا يوجد مناهض حقيقي للإمبريالية، من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا إلى آسيا، لم يصطدم بالصهيونية، أي شبكة النفوذ اليهودية العالمية، ولا توجد أداة أو حليف حقيقي للإمبريالية لم يتقارب مع الصهيونية، جماعة البترودولار الخليجي اليوم نموذجاً. فقضية فلسطين مقياس دولي للعداء للإمبريالية، لا للصهيونية فحسب.
- أساطير المخرقة، أي مزاعم إبادة النازيين لليهود في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية في غرف الغاز الخرافية، ليست شأناً أوروبياً فحسب، بل هي إحدى الملفات الرئيسية في الصراع العربي-الصهيوني لأنها تمثل الذريعة المعنوية الكبرى لحاجة اليهود لكيان خاص بهم يحميهم من “لاسامية” هذا العالم.
- تقوم أساطير المخرقة على ثلاث دعائم: أ – أن النازيين قتلوا ستة ملايين يهودي، ب – أنهم فعلوا ذلك في “غرف غاز” مزعومة، ج – أن النازيين كانت لديهم سياسية إبادة منهجية لليهود في الحرب العالمية الثانية.
- الرد: أ – سياسة النازيين إزاء اليهود في الحرب العالمية الثانية كانت الترحيل من ألمانيا، باتجاه أوروبا الشرقية، ولا توجد ورقة أو أمر واحد في كل مذكرات قادة الحرب العالمية الثانية، من ديغول إلى تشرتشل، تثبت أن النازيين سعوا لإبادة اليهود في أوروبا، ب – لم يكن يوجد ستة ملايين يهودي في ظل الحكم النازي في الحرب العالمية الثانية، ومن النصف مليون ونيف من اليهود الألمان الذين عاشوا في ألمانيا أيام النازيين، ظل حوالي مئتي ألف منهم أحياء في ألمانيا بحسب الأدبيات السوفييتية، ج – لا يوجد دليل واحد أن شخصاً واحداً، أكرر، شخصاً واحداً، يهودياً أو غير يهودي، مات بغرف الغاز المزعومة، بل مات اليهود كغيرهم في الحرب العالمية الثانية بسبب الجوع والمرض والقصف وما شابه، وكان مجموع عدد ضحاياهم بمئات الآلاف، من أصل 55 مليوناً ماتوا في الحرب العالمية الثانية، فقصة “فرادة موت اليهود”، من دون غيرهم من الناس، عبارة عن هراء.
- أساطير المخرقة، أو ما يعرف باسم “الهولوكوست”، باتت من البقرات المقدسة في عالمنا المعاصر، فهي أشبه بأصنام ما بعد الحداثة، وبالتالي فإن تحطيمها والدوس والتبول عليها بات واجباً مقدساً لكل مناهض للإمبريالية والصهيونية حول العالم، لمن يزعم أنه مناهضٌ للأصنام، فتلك هي اللات والعزة ومناة في زماننا.
- لينتبه كل من يهمه الأمر أن هذا الموضوع حساس جداً في الغرب، وأنه مصدر ابتزاز مالي وسياسي كبير عند الحركة الصهيونية العالمية لتحقيق ما يلي: أ – تبرير وجود الكيان الصهيوني في فلسطين، ب – تبرير نفوذ الشبكة اليهودية العالمية، ج – شطب كل من يجرؤ على نقد الصهيونية وكيانها ونفوذها باعتباره “معادياً للسامية”، ه – تبرير حاجة الحركة الصهيونية وكيانها لتجاوز كل القوانين الدينية والوضعية، يعني البقاء فوق أي قانون، بذريعة “حماية اليهود من تكرار المحرقة” تحت شعار Never Again.
- للأسف، المشكلة الوحيدة في المخرقة، بحسب الرواية السائدة عنها، هو أنها لم تقع. وإذا كان هنالك عربٌ يزعجهم مثل هذا الكلام، فإن ذلك سيكون من دواعي سرورنا، ومن الطبيعي أن تتم معاملتهم معاملة اليهود الذين يتعاطفون معهم.
- الاندفاع خلف إدانة النازية والفاشية، الذي تصر أفلام هوليود يومياً على إعادة إحيائه، لا يعنينا كثيراً كعرب. فمن استعمرنا وفككنا وأدخل الكيان الصهيوني إلى فلسطين، هو الاستعمار “الليبرالي” الإنكليزي والفرنسي. وباستثناء ليبيا التي احتلها الإيطاليون الفاشيون، فإن مشكلتنا كعرب أكبر بكثير مع الاستعمار “الليبرالي” و”الديموقراطي” المناهض للنازية والفاشية، مما هي مع النازية والفاشية..
- على كل حال، النازية والفاشية ماتت، وما بقي منها هو الليبرالية الجديدة، المتقنعة بقناع مناهضة الفاشية والنازية، وهي أكثر خطراً علينا، وأشد عداءً، بالضبط لأنها تبتز “الحس الإنساني” فينا للاصطفاف مع الاستعمار الحقيقي هنا والآن، ضد أنفسنا، في مواجهة خطر نازي وفاشي مزعوم “صارت عظامه مكاحل”.
- فلسطين هي بؤرة الصراع مع الحركة الصهيونية، فهي التعبير المكثف للصراع العربي-الصهيوني، ولصراع كل محبي الحرية والعدالة في العالم مع الإمبريالية والصهيونية، ولذلك فإن أي مشروع “حل سياسي” للصراع، غير تفكيك المجتمع اليهودي في فلسطين تماماً، وتصفيته جسدياً إذا اقتضى الأمر، يمثل موقفاً انتهازياً وتوفيقياً لا يجوز منحه حتى حق النقاش في المعسكر الوطني والقومي.
- فلسطين احتلت لمنع قيام الوحدة العربية بعد مشروع محمد علي باشا الوحدوي النهضوي، وقد تبنى الاستعمار البريطاني المشروع الصهيوني ضمن ذلك السياق الجغرافي السياسي بالتحديد، لذلك يجب التعاطي مع المشروع الصهيوني كمشروع نقيض للمشروع الوحدوي النهضوي التحرري في الوطن العربي، وليس في سياق منطق إيجاد الحلول للصراع.
- الصراع تناحري عنيف ودموي إما نحن وإما المشروع الصهيوني، كما صاغها نجيب عازوري في العام 1905: إما المشروع الصهيوني المتمدد، وإما المشروع القومي العربي، وهما مشروعان يعتمد على صراعهما مصير العالم.
- لا يستطيع المشروع الصهيوني أن يعيش ويستمر في هذا الجزء من العالم إلا إذا فكك المنطقة وغيّر هويتها، ولذلك فإن ما نشهده من صراعات طائفية واثنية ومناطقية لخلق فسيفساء “الشرق الأوسط” هي المشروع الصهيوني في زماننا المعاصر بعد انتقاله من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم.
- النقيض الموضوعي الوحيد للمشروع الصهيوني في الوطن العربي هو المشروع القومي، وكل مشروع يتعامل مع اليهود كـ”أهل كتاب” أو كـ”تقدميين” محتملين هو مشروع مخترق يصب في جيب المشروع الصهيوني، وبالحد الأدنى يفتقد للجذرية اللازمة ليكون نقيضاً للمشروع الصهيوني.
الصهيونية.. لكم عدو فاتخذوها عدواً، لا أكثر
السيد شبل
يمكن أن يكون تشبيه “الصهيونية” بالشيطان، حسب المعتقد الديني، مدخلاً يسيراً لتوصيف الأمر، صحيح أن هذا قد يجرنا إلى تشعبات ميتافيزيقية قد نكون في غنى عنها، لكنه على أية حال.. يعتبر وصفاً مباشراً وصريحاً، لثبوتية عداء الصهيونية كعقيدة وممارسة للأمة العربية وللإنسانية أجمع، من منطلق ثبوتية عداء الشيطان لبني آدم “إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً”.
إذن فلا منهج آخر للتعامل مع الشيطان متجسداً في الصهيونية، وخدام الصهيونية (من المسؤولين العرب)، وعملاء الصهيونية (من مثقفي الطابور الخامس)، ورعاة الصهيونية (الرأسمالية العالمية).. إلا بالعداء، والعداء المستحكم، وبهذا العداء يتحقق (السلام).. السلام مع القيم التي هي الضد دوماً وعلى طول الخط مما تمثله الصهيونية (الاستيلاء على حقوق وأراضي ومساكن وأموال وثروات وتواريخ.. الآخرين، واستيطانها، مما يترتب عليه حرمان أصحاب الحق الأصليين من ممارسة حقهم الطبيعي في الحياة، والحيلولة دون تطورهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ثم التبجح والسعي نحو “شرعنة” عملية السرقة بنصوص دينية أو بألاعيب قانونية أو بالقوة الجبرية). وبالضدية مع هذا النهج “الشيطاني” يمكن تحقيق السلام.
يبدو أن الأمور في وطننا العربي قد انتكست كثيراً، إلى أن وصلت إلى زمنٍ نحتاج فيه أن نذكرَ الجماهير العربية، أو بالأحرى “النخب”، بما هي الصهيونية؟
في طفولتنا، ورغم عمليات كيّ الوعي التي مارستها بعض النظم العربية التي اختارت مسار التطبيع والدخول تحت العباءة الأمريكية، كانت “إسرائيل” عدواً، ولا عدو إلّاها. لكن الأمور تغيرت كثيراً، وعلى نحو مفزع اليوم، فصار قصف الطيران الصهيوني لقطر عربي كسورية في سياق دعم المؤامرة التي تجري على أراضيها، لا يثير حفيظة كثيرين، ولا يدخل ضمن حسابات التقييم؛ وصار المقاوِم متهماً إلى أن يثبت العكس، بل صار دور “النخبة” هو النبش والتقليب في سلوكيات وتصريحات جبهات المقاومة للخروج بموقف أو تصريح يمكن تجييره للانقضاض عليها، تخديماً على رغبة الصهيوني في إخلاء الساحة من أي طرف يحمل خطاباً مناهضاً لمشروعه؛ وصار رفض التطبيع، الذي كان لأعوام مضت اللؤلؤة التي يتزين بها الخطاب النضالي، مهمشاً نسياً منسياً، وصار ضمن (الكلام الخشبي) الذي يحرم على “النخب الربيعية” ترديده.
يجادل البعض فيقول أن الهموم الخاصة بكل إقليم أو قطر عربي قد أثقلت كاهل نخبه، ولم يعد هنالك متسعٌ للفلسطينيين وقضاياهم، ونهب أراضيهم وإجلائهم عنها؟، فنرد، بأن هذا الكلام الاحتجاجي قد كان وارداً أن يحوز على بعض الوجاهة، لو كانت النخب معنيةٌ حقاً بقضايا قطرها، غارمة في سبيلها، مضحية بتجرد للدفاع عنها. لكن الحقيقة أن النخب لا هي غارمة (بل ممولة)، ولا هي مضحية (بل تنتظر الأجر من واضع الأجندة بالخارج..، الأجندة التي تريد تشعيب الهمّ النضالي واستنزاف الوسط السياسي في كل شيء هامشي وفرعي، فقط لإهمال قضاياه المركزية)..
لكن، أليس في عرض القضية في صورة (الفلسطينيين الذين نُهبت أراضيهم) استغفالٌ؟ الحقيقة، أن هذا المدخل في عرض القضية، هو الاستغفال بعنيه، ذلك لأنه:
أ) يتجاهل أن ساكني ذلك القطر المسمى فلسطين، هم عرب قبل أن يكونوا فلسطينيين، وأن أرضهم التي نهبت هي عربية تخص هذا الشعب العربي الممتد على هذه الرقعة الجغرافية من المحيط إلى الخليج، ذلك الشعب العربي الذي يتضمن تلك “النخب” جبراً ورغماً عن أنوفهم؛
ب) يهمش التاريخ تماماً ليصور أن الأمة العربية بطبيعتها مجزأة، أو أن قطعة الأرض المسماه اليوم فلسطين، لم تكن ولفترات تاريخية طويلة، جزءاً طبيعياً – على سبيل المثال – يخضع لسيادة منظومة السلطة التي حكمت مصر، في القديم ولمدة ثلاثة قرون متتالية في الألفية الثانية قبل الميلاد في زمن الأسرتين الثامنة عشر والتاسعة عشر.. وحتى ضعف مصر ذاتها، وتفككها نفسها.. ثم ولمدة ستة قرون منذ الطولونيين في التاسع الميلادي وحتى هزيمة الجيوش العربية في الـ 1516 في مرج دابق أمام جحافل العثمانيين – باستثناء فترة انقطاع في القرنين الـ 11 و12 نتيجة الحملات الصليبية أو قبلها بقليل مع نمو قوة السلاجقة- أي أنها (فلسطين) كانت جزءاً طبيعياً ينتمي إلى جارها العربي الطبيعي مصر كما الشام كله، والحجاز واليمن غالباً، في وحدة واحدة، وربما لو سار التاريخ مساراً آخرَ لكانت فلسطين، أو على الأقل غزة التي كانت تتبع مصر إدارياً حتى الـ 67، اليوم كما رفح والشيخ زويد في الشرق أو السلوم في الغرب.. (لا شك أن ثمة عبثاً في قراءة التاريخ يصور الأمور على غير حقيقتها، ويوحي بأن للحدود المصطنعة بعد الاستعمار الغربي شيئاً من القداسة)؛
ج) يُسقط حقيقة أن الكيان الصهيوني ليس تجمعاً قبلياً أغار على منطقة من الأرض وانتزعها من أهلها، وإنما هو كيان وظيفي إحلالي يلعب دوراً منذ نشأته على يد القوى الغربية، كقاعدة عسكرية متقدمة، في إجهاض مشروع التحرر والتنمية العربي وفرض التجزئة عليه، أي أنه بأسلوب آخر، عدو بالطبيعة يحول دون تحقيق الشعب العربي وحدته، وعدو أيضاً لكل قطر عربي يحاول تنمية ذاته اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، مستقلاً – ولا تنمية إلا باستقلال- عن ماكينة النهب الغربية (تشكيل “إسرائيل” للضلع الثالث في مثلث الاعتداء على مصر الناصرية بعد تأميم قناة السويس 56، وتحملها نيابة عن الرأسمالية العالمية عبء إجهاض التجربة ذاتها في 67، بالتحالف مع أمريكا – وتدمير الطيران الصهيوني للمفاعل النووي العراقي في الثمانينيات – ودعم ترسانة “إسرائيل” العسكرية للسعودية في محاولتها لإجهاض الثورة اليمنية بداية من 62 بالتحالف مع شاه إيران – ودورها في تحشيد العالم الغربي ضد العراق في مطلع التسعينيات، ودورها في الحصار، وحتى الاحتلال في 2003.. وصولاً إلى ما جرى بالأمس القريب في ليبيا وتُستكمل حلقاته اليوم بسورية تحت راية التحالف “الصهيو-خليجي”- حتى في سيناء المصرية فقد كانت كامب ديفيد واحدة من أهم أسباب تفشّي القوى المتطرفة فيها، عبر شل يد الدولة عن الوصول إليها في المنطقة ج، (التي هي مسرح الصراع اليوم).. وعليه فمن يفكر في تنمية “قطره” -هذا إن جاز أن تكون التنمية كاملة دون وحدة – فإنه لن يتمكن من إتمامها لأن هناك عدواً على حدوده الشرقية أو الغربية أو الجنوبية، متربصاً به، ويعمل ككلب حراسة للمشروع الرأسمالي الغربي، وسينبح حتى لا يتمكن ذلك القطر من السيطرة على وسائل إنتاجه وتوظيف موارده المادية والبشرية بالشكل الذي يتوافق مع حاجاته هو المادية والثقافية، وليس مع أرباح الرأسمالية الغربية.
هل اتضحت الصورة، إذن؟
لا نظن، لأن هذه “النخب” في الحقيقة تتحدث العربية، وتردد أشعار المتنبي وتتفاخر بفلسفات ابن رشد، وتؤمن بالأنبياء الذين ربطوا هذه المنطقة ربطاً وثيقاً منذ إبراهيم في الـ 2000 قبل الميلاد تقريباً (والذي قدم من العراق إلى فلسطين ثم مصر ثم الحجاز ثم عاد إلى الشام ثانية) وحتى الدعوة المحمدية، وتعرف أنها عاجزة عن فتح حوار وإيجاد موضوعات مشتركة وهي في رحلتها إلى الحج أو جولتها في إحدى الدول الأجنبية، إلا مع عربي (يعرف لغتها، ويشاركها ذات الثقافة، وتجمعه بها ذات الاهتمامات)، وتوقن أن لا أحد في الـ 7 مليار من بني آدم، يشابهها في ملامحها، قدر ما يشابهها العربي.. إلا أنها تجادل على أنها (كذا.. وكذا..) لكنها ليست عربية، تعلن ذلك بلغة عربية، أيضاً!، ولأن هذه النخب نفسها، قد وطّنت حياتها – بما يتوافق مع مصالحها الذاتية -على أنها ترس في منظومة الشركات متعدية الحدود، والتي هي الطور الحديث من الرأسمالية التي وطدت أركان المشروع الصهيوني يوماً ما ولا تزال، فتكون النتيجة خضوعها لها بالعمل المباشر فيها أو بقبول التمويل السياسي من حقائب جورج سورس وبيتر آكرمان ومؤسسات فورد وشركات الأطعمة والمياه الغازية الدولية.. وإلخ.
وعليه فقد صارت تلك “النخب”، ضلعاً أصيلاً في المنظومة الشيطانية، التي لا نعرف سبيلاً لتحقيق (السلام) منها إلا (بمعاداتها).. ومن ثم فلسنا معنيين بتغيير مفاهيمها، غاية ما نريده هو عزلها عن التأثير في غيرها، ومنعها من غرس بذورٍ جديدة تنتج شياطين أكثر.. وهكذا. لكن كيف يتأتّى ذلك، وقد أُفسحت لها المراكز البحثية، والتمويلات السخية، والمنابر الإعلامية؟ لا يوجد حل سحري لهذا السؤال، ويمكن أن يناقش كثيرون في صعوبة المهمة، في زمن انقلبت فيه المعايير.. فعلاً وقولاً ومنهجاً، لكن المهم أن نبقى ننظر إلى (الموقف من الصهيونية) على أنه (الاختبار الأهم) في حياة أي فرد يزعم امتلاكه ضميراً، وهذا معناه أن الاختبار ليس سهلًا، وإلا لاجتازه كل زاعم!. ولنتفق على صعوبة المهمة – لا إشكال-، لكن لنتفق أكثر على أن تجيير مسألة (صعوبة المهمة) لتبرير التفريط في الالتزام تجاه (الاختبار الأهم) هو خيانة قد تكون أكبر من ذلك المفرّط الذي أعلن من البداية انحيازه للمنظومة الشيطانية!
ثم لنتفق – وكمحاولة أكثر للتوضيح – أن، مثلاً، المقاطعة الشخصية للبضائع الصهيونية هي من ضمن وسائل المقاومة التي يتجاهلها أولئك القائلون (بصعوبة المهمة كمحاولة للتجيير)، رغم أنها لا تحتاج سوى لإرادة على المستوى الشخصي واعتياد على الزهد وضبط للسلوك الاستهلاكي؛ ولنتفق على أن الدعوة للمقاومة – ولو في المحيط العائلي-، والكتابة عن المقاومة –ولو في وسائل إعلامية لا تحظى بالانتشار المثالي-، والترويج لمشروع المقاومة، خاصة في شطره المسلح – ولو برسمة على جدار- هي أيضاً من وسائل المقاومة التي يصر أولئك القائلون (بصعوبة المهمة) على تجاهلها، لحمل الحراك الجماهيري على اليأس من إمكانية مناهضة الصهيونية، ولو بحجر!. والقائمة تطول، فقط للذي يريد أن يستعيذ من الشيطان، بالحق المتجسد في خندق المقاومة؛ وفقط للذي يريد أن ُيبقي شعلة النضال متقدة، تنير الطريق لجيل قادم، وتجمع تحت ضوئها أولئك القابضين على جمر النضال في جيل حالي.. يريد بشعلته أن يجابه الظلام حتى لا يتمكن (وفي هذا الكفاية).
نعود فنقول، أننا لسنا من هواة إشاعة الإحباط، وليس تظليم الصورة مقصدنا، وليس الحديث عن الانتكاسة النخبوية، إلا زاوية في الموضوع، بل أضعف زاوياه، وذلك انطلاقاً من يقين بأن ثمة سنن حتمية (لا تبديل لها) تحكم العالم، وأن الصراع جولات، وأن القول بأن النار أسفل الرماد، ليس كلاماً إنشائياً، وليس أدل على ذلك من طابور شهداء (انتفاضة السكاكين- تلك الانتفاضة المنسية) قد تخطى حاجز الـ 400، وأغلب الشهداء العرب الفلسطينيين، هم شباب، لم يحضروا بطبيعة السن، لا بداية عمليات الهجرة في القرن التاسع عشر، ولا نكبة 48، ولا حتى 67، وبعضهم كان طفلاً في الانتفاضة الأولى بـ 87.. هؤلاء الذين لم يحضروا كل ذلك، والذين يُحاصرون بفضائيات تهمش قضيتهم، وأغانيها، وأشعارها، أعدّ الواحد منهم – ما استطاع- وليس أكثر من سكين، وطعَنَ المشروع الصهيوني (القائم على تصوير “إسرائيل” على أنها المكان الأكثر أمانًا لليهود في العالم، كمقدمة لدعوتهم للهجرة إليه) في قلبه، غير مبالٍ، بشهادتهم بعد عملية الطعن، وتهديم منزله، واعتقال أفراد أسرته، والتنكيل بهم.. متجرداً من حظوظه الذاتية، مكتفياً بـ”الإخلاص” زاداً لحياة أخرى، غير مضنٍ على أهله (المهدوم منزلهم، والمعتقلين من بعده) بالمشاركة في أجر النضال.
لسنا نشك إذن في أن كل مكسب تخيل الشيطان الصهيوني، والآلة الاستدمارية الرأسمالية التي غرسته، أنه حققه، بمكاتبات فيصل الحسين وحاييم وايزمان، أو بمعاهدات آل سعود مع أربابهم بيرسي كوكس وجون فليبي، أو بمعاهدات السادات مناحم بيجن.. وحتى أوسلو عرفات وإسحق رابين… كل هذه المكاسب التي يتصور أنه بها قد أخمد نيران الثأر في القلوب، يكتشف يوماً بعد يوم أنها أوهام، لا أكثر.. وأن الحق يعرف أصحابه… وأن مقولة “الآباء سيموتون، والأبناء سينسون” التي آمن بها مؤسسو الكيان، لم يتحقق منها إلا نصفها الأول، فالآباء قد غابوا، لكن الأبناء، زاوجوا بين ذاكرة آبائهم، وتجربتهم الذاتية، فراكموا بُغضاً أكبر لكيان يستحقه.
ملاحظات نظرية حول الوجود الصهيوني وموقف اليسار منه
محمد فرج
في لقاء جمعني مؤخراً مع مؤرخ لبناني جاد، قال لي “إذا ضاعت الأصول، ضاع التاريخ معها”، وهذا ما يتناسق بالضبط مع معنى “الفهم المادي للتاريخ”، ما ينطبق على فهم التاريخ مادياً في تشكل الجماعات والكيانات والأنماط الاجتماعية والبنى السياسية، وأيضاً الحالات الاستعمارية، ومنها بطبيعة الحال الاستعمار الاستيطاني لأرض فلسطين.
إن قراءة تاريخ الاستيطان الصهيوني لفلسطين، الذي تم فرضه بالمال أولاً منذ حقبة السلطان عبدالحميد الثاني، وبالسلاح لاحقاً، تفضي في نهاية المطاف إلى معركة طبقية بالأساس، لا علاقة لها بالمشاعر والعواطف القومية أو الدينية بالمناسبة، على الأقل عندما يتعلق الأمر بموقف التيارات الأممية.
وهذه القراءة تفضي كذلك إلى نتيجة يستخدمها أنصار “حل الدولتين أو الدولة الاشتراكية الواحدة” ويقفزون عنها مضطرين، أو يذكرونها على عجالة: (الكيان الصهيوني كذراع للإمبريالية العالمية). فإن كان كياناً، فما معنى قبوله كإحدى الدولتين؟ وإن كان ذراعاً للإمبريالية، فما معنى محاولات تحويله إلى “دولة اشتراكية، دولة ديمقراطية،…إلخ”؟
وكما نقرأ التاريخ، ونتعمق في الأصول فيما يتعلق ببدايات تأسيس الكيان، كذلك نقرأ مواقف الشيوعيين تاريخياً، والتي كانت في جناحات واسعة منهم، ضد قرار التقسيم وليست معه، وعن تحولات مواقف شق كبير منهم قصة طويلة، لا تنتهي بشكل العلاقة مع السوفييت.
يقول الكثير من الشيوعيين: “لو أن العرب صدقونا آنذاك، لكان الحال اليوم غير الحال”. لم يصدقكم العرب، وأنتم كذلك لم تصدقوا كُتّاب الحركة الصهيونية ومؤرخيها: “لقد كنا مستمرين إلى المالانهاية، لم يكن هنالك شيء يوقفنا، ولم يكن هنالك أي قرار يمكن أن يوقف توسعنا”.
لنفترض أنكم كنتم على حق، والعرب “الأغبياء” ارتكبوا حماقتهم ولم يصدقوكم، وحصل ما حصل، المزيد من القتل والتشريد والتعذيب في السجون، ألم يكن من الأولى أن تراجعوا أنتم فطنتكم السياسية، وتنحازوا للموقف الأخلاقي؟ وبعد حماقة العرب عقوداً من الزمن، فلقد قرروا إبرام اتفاقيات السلام مع العدو، والتراجع عن حماقتهم، ومنها ما وقّعه الفلسطيني نفسه، وأصبح له “دولة” .ومع أنه وقّع، ومع أنه أصبح بـ”دولة”، إلا أن التوسع الصهيوني استمر. هل كان العرب حقاً حمقى قبل أكثر من ستين عاماً بتفويتهم فرصة السلام؟ هل كانوا أكثر حماقة عندما وقّعوا الاتفاق عليه؟
الابتعاد عن مزاج الناس وهمومهم بمسافات واسعة من أكبر أسباب الفشل، لقد كان الموقف “العقلاني” لكثير من الشيوعيين، ولا أقول جميع الشيوعيين، كان من أهم الأسباب التي رحّلت العناصر المستعدة للقتال إلى جبهات أخرى، تحولت لاحقاً إلى حركات مقاومة إسلامية، حتى أن بعض العناصر من مقاتلي اليسار أصبحوا لاحقاً مقاتلين في هذه التيارات، إنهم بحاجة لذلك، ليس لأنهم اعتادوا حمل السلاح، ولكنهم أدركوا خيارهم منذ البداية، المتمثل في المقاومة المسلحة للكيان الصهيوني.
في مقالات كارل ماركس عن المسألة الشرقية ملاحظات تُشعِر القارئ البسيط بشوفينية مبطنة ضد الأتراك، ولكن المسألة كانت مختلفة تماماً، لقد ناقش ماركس تاريخهم، ودرسه جيداً، ووصل إلى نتيجة مفادها أن غياب الأتراك عن الشرق لن يضر بحضارته، إنهم معتمدون بالكامل على القتل والجيش والسلطة، أما المستلزمات الأساسية للحضارة فتقف على أكتاف الفرس والأرمن والعرب، وليس في ذلك من موقف معادٍ لقومية بعينها، إنها قراءة تاريخية متعمقة، درست نمط الإنتاج والثقافة الخاصة بها. هل يخطئ القائل أن اليهود في فلسطين هم من جبلة الاحتلال القائم؟ هل يخطئ من يعتبرهم الحمولة الديمغرافية المنقولة من الخارج لغايات استكماله (أعني الاحتلال)؟ هل في محاكمة الكتلة اليهودية بأكملها في فلسطين شوفينية مبطنة أو علنية؟
لقد رفض لينين انضمام البوند إلى صفوف الحزب قبل الثورة، ولم يكن ذلك موقفاً معادياً لليهود على أنهم يهوداً، لقد كان معادياً للاحتفاظ بهذه الهوية داخل صفوف حزب اشتراكي، مع أن أعدادهم كانت تصل إلى عشرات الآلاف، على أقل تقدير. هل من أمل في احتواء “الهوية اليهودية” في فلسطين لصالح مشروع دحر الاحتلال؟ ماذا عن اليهود الذين غادروا هذه الأرض ورفضوا الإقامة فيها بوصفها كياناً استيطانياً غاصباً؟ لقد كان من السهل القول “الحزب الاشتراكي في روسيا”، لأنه يبحث عن ضم عضويات من قوميات مختلفة متأصلة في الجغرافيا الروسية، ولكن من الصعب أن نعكس ذلك على الحالة الفلسطينية، فالأصل في “القومية الدينية” الأخرى (اليهودية الوافدة من الخارج) هو الاحتلال وليس التحرير!
إن وقف التمييز العنصري، وحقوق المواطنة هي شعارات تحسين شروط الهزيمة في فلسطين، ماذا لو استيقظنا غداً، وقدم “الإسرائيلي” رداً إيجابياً على هذه المطالب؟ ولا سيما أن اقتصاده قادر على استيعابها! هل سيرقى ذلك لسقف مانديلا الذي انخفض إلى إيقاف التمييز ضد أصحاب البشرة السوداء في جنوب إفريقيا؟
قال لي أحد المتحمسين للحزب الشيوعي الإسرائيلي يوماً “إن موقفك هو الموقف السهل، موقف الشخص الذي يتجنب التفكير المتعمق في المسألة”، فقلت له أنا فقط لا أرغب في تعقيد المسائل البسيطة كي لا تتوه بوصلتي، كما أنني في إنتاج مواقفي لا أتكئ على الظواهر الأدبية والشعرية، فلا أقتبس من زياد الرحباني عندما يصل الحديث إلى الاقتصاد السياسي، ألم يلفت انتباهك أن الحكومات الأكثر “اعتدالاً” في تاريخ الكيان الصهيوني، كانت حكومات رابين وباراك؟!
يمكن اختصار الملاحظات حول الوجود الصهيوني في فلسطين وموقف تيارات يسارية مطبعة منه كالتالي:
أولاً: تتعارض المقدمات مع النتائج في أطروحات هذه التيارات، فهي تصمم على الحفاظ على اللغة الماركسية القائمة على تحليل القاعدة الاقتصادية للظواهر، وتُصر على اعتبار الكيان الصهيوني بوصفه إحدى أدوات الإمبريالية العالمية، وفي الوقت نفسه تصمم على حلول لا تلغي وجود الكتلة الاجتماعية الحاملة أساساً لهذا المشروع، وتستند في ذلك إلى رؤيا مشوهة لمفهوم الأممية، التي تعني بالأساس تحرر الشعوب وليس استعمارها!
ثانياً: تستخدم هذه التيارات مبررات على جبهتين، الأولى هي المبررات الإنسانية في الحفاظ على الكتلة الاجتماعية الحاملة للمشروع باعتبارها بريئة تاريخياً، والثانية هي البراغماتية العملية، ومفادها: لا جدوى من الاستمرار في المقاومة مع اختلال ميزان القوى. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حل التحرير على أساس هدم الكيان الصهيوني بكامل مكوّناته هو الحل الأخلاقي والعملي في الوقت نفسه، ففي الشقّ الإنساني، نلاحظ أن الكتلة الاجتماعية في الكيان الصهيوني تجري تنشئتها على أساس الانتقام التاريخي، الانتقام للأجداد المهجرين والمغربين. إن الجيل الناشئ في الكيان يتشرب عصارة الانتقام التاريخي لمآسي الماضي، ويصب هذا الانتقام على شعب لا علاقة له بكل هذا التاريخ (الذي مازالت دراسته قائمة)، والأنكى أن هذا الشعب مطالب بتفهم هذا الانتقام على شكل خضوع واستسلام. إن النظرة إلى الكتلة اليهودية تختلف عنها إلى الكتلة اليهودية في أوروبا والبوند في روسيا، فالأولى اليوم تمارس الانتقام التاريخي للثانية في حق طرف ثالث، والأولى لعبت دور الضحية لتبرير دور الجلاد عند الثانية. وفي الشق العملي، وبعد عقود من التكتيكات السياسية، نقف اليوم أمام أطنان من الورق المكتوب، ومحاضر للاجتماعات وخرائط الطريق، ولم يزحزح من موقف الكيان الصهيوني سوى المقاومة المسلحة، التي تمكنت من فرض شروط تبادل الأسرى، ولجم جنون الآلة العسكرية، في الوقت الذي عززت فيه نتائج الاتفاقيات والمفاوضات أمن الكيان الصهيوني، ورفعت من شروطه يوماً بعد يوم. من المهم الإشارة هنا إلى خيار المقاومة على أنه الخيار الواقعي والعملي، على نفس السوية من الإشارة إليه كخيار أخلاقي.
ثالثاً: لقد توافقت مواقف تيارات يسارية مطبعة، مع مواقف التيارات نفسها من المنظمات العالمية، ومنظمات حقوق الإنسان، ومؤسسات الأنظمة القائمة. لقد كانت الأكثر نعومة في التعامل معها، ولا سيما مع موجة اجتياح أفكار الليبرالية و”التغيير الديمقراطي” إبان انهيار المنظومة الاشتراكية. لقد نسخت هذه التيارات الموقف الناعم نفسه، وطورته إلى موقف أكثر نعومة عندما تعاملت مع مؤسسات كيان غاصب. اليسار الراديكالي الذي أعلن موقفاً صارماً في مقاطعة مؤسسات الأنظمة التابعة، هو نفسه الذي اتخذ موقفاً قومياً تحررياً من الكيان الصهيوني، لذلك كشف هذا التيار التحرري عن التناقض الصارخ بين فعل المقاومة وأية علاقة مع مؤسسات الكيان الصهيوني، القائمة أساساً على يهودية الدولة، كما تقوم أنظمة عربية على التبعية المفرطة للغرب الاستعماري.
في رحلة البحث عن خيارات حلول القضية الفلسطينية، التقيتُ قبل ما يزيد عن سبعة أعوام الأكاديمي إيلان بابيه، الذي دعا إلى مقاطعة المؤسسات الأكاديمية في الكيان الصهيوني، وغادره. سألته عندها: “ما هي نسبة الكتلة اليهودية في فلسطين التي قد تقبل في حل الدولة الديمقراطية الواحدة، وهو الحل الذي تتبناه أنت؟”، فرد أن تلك النسبة ضئيلة جداً، ونحتاج لكثير من الوقت كي تزداد. كم على اليساريين أن ينتظروا كي لا يخجلوا من إعلان موقفهم التحرري؟ كم منهم سيتبنى شعار “دفاعاً عن الماركسية”؟ وكم منهم سيرفض المعادلة البائسة التي تلخصت في رسالة الشاعر اليهودي المغربي، سامي شالوم شطريت، إلى الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “كم هو لك تماماً ذاك الوطن، أما أنا فلا وطن لي، ولكن بالله عليك لا تشفق علي، ففي نهاية المطاف أنا هو القاتل”. تلك هي الرسالة التي رفض الأخير حتى قبولها ولزم موقف القبول باقتطاع الأرض كما ارتأى العدو.
وجهة نظر:
الأحزاب الشيوعية العربية وفلسطين أو أصول التطبيع اليساري
المهندس صالح بدروشي
نودّ من خلال هذه المقالة تسليط الضوء على ظاهرة هامة في الحياة السياسية العربية مرتبطة بالموقف من الصراع العربي-الصهيوني ومن اغتصاب أرض فلسطين العربية من قِبَلِ يهودٍ قدموا من كل أصقاع المعمورة بدعم من الدول الإمبريالية. وهذه الظاهرة هي ما تؤكّده كل المعطيات التاريخية بشأن نشأة الحركة الشيوعية في الوطن العربي بفعل اليهود الذين كانوا أيضاً أنشط العناصر داخل هذه الحركة، ولتدعيم هذه الملاحظة وقبل أن نخوض في حيثيات الموضوع سوف نبدأ بذكر أمثلة عن أسماء بعض النشطاء والمؤسسين للأحزاب الشيوعية العربية، علماً أن عديداً من الكتب والدراسات تؤكّد أنّ مؤسسي كل الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي كانوا يهوداً أو أجانب في معظمهم:
كان الحزب الشيوعي الفلسطيني من أوائل الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي، تأسس عام 1919م، وكان جـمـيـع عناصره من اليهود الروس الذين حملوا بذور الفكرة الأولى إلى فلسطين ومنهم جاك شابيليف، وراوول كارنبورغ. وكان بعيد تأسيسه قد غيّر اسمه إلى الحزب الشيوعي الأرض-إسرائيلي. وعند قيام دولة الكيان الصهيوني غيّر الحزب اسمه مرة أخرى ليصبح “الحزب الشيوعي الإسرائيلي”، وانحاز انحيازاً كاملاً للصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في حرب 1948. كما انخرط في مختلف الجهود الصهيونية لتأسيس دولة يهودية على حساب الشعب العربي الفلسطيني وعلى أنقاضه. وفي 1948 اتخذ قراراً بانخراط أعضائه في كبرى المنظات العسكرية الصهيونية ‘الهاجاناه’ وفي صفوف الجيش الصهيوني، كما قام الحزب الشيوعي “الإسرائيلي” بقيادة شموئيل ميكونيس بجلب المهاجرين المقاتلين من دول أوروبا الشرقية، وقد شارك هؤلاء الشيوعيون اليهود، في صفوف الهاجاناه والجيش الصهيوني، في طرد العرب الفلسطينيين من المدن والقرى الفلسطينية، وشاركوا في المجازر المروّعة التي ارتكبتها عصابات الهاجاناه. علماً وأنه إلى جانب قيادات شيوعية أمثال ميكونيس ومئير فلنر نجد موشيه سنيه الذي كان قائداً للهاجاناه قبل أن يلتحق بـ”الحزب الشيوعي الاسرائيلي” ويصبح رئيساً له.
في لبنان وسورية تأسس الحزب الشيوعي السوري اللبناني عام 1924-1925م، بواسطة كلّ من: برغر، أبو سيام، جاكوب الياهو تيبر، برنمو و نخمان ليتفنسكي وكلهم يهود، وبمساهمة عناصر يهودية وافدة من فلسطين، أوكلت إليها مهمة نشر الفكرة الشيوعية والإشراف على تنظيم خلاياها في منطقة المشرق عموماً، وظلّ اليهودي جاكوب تيبر (اسمه الحركي شامي) محتفظاً بأمانة الحزب العامة وكان يعقوب تيبر هذا يهودياً من روسيا هاجر إلى بلجيكا والتحق بالحزب الصهيوني العمالي (بوعالي تسيون) ثم التحق بالشيوعية وأرسل من قبل المنظمة الأممية الشيوعية “الكومنتيرن” إلى فلسطين ثم سورية.
ومن اليهود المبعوثين إلى المنطقة العربية والذين ساهموا في تأسيس وقيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني ومن ثم إلى سورية ولبنان نذكر أيضاً:
- أبو زيام أو حيدر (اسمان حركيان) واسمه الحقيقي وولف ب. أورباخ، يهودي روسي، عضو الحزب الشيوعي الفلسطيني وسكرتيره العام بين 1923 و1930، كان مسؤولاً عن القسم العربي بالجامعة الشيوعية لكادحي الشرق.
- بييرجيه أو بيرغر اسمه الحقيقي جوزيف ميكائيل زيلسنيك، يهودي بولوني معروف باسم بارزيلي.. عاد إلى موسكو فيما بعد وتحوّل إلى صهيوني معلن.
- أفيجدور (بهيل كوسي) من أوكرانيا هاجر إلى الولايات المتحدة ليلتحق بالفيلق اليهودي Jewish Legion ثم ذهب إلى فلسطين وأقام في مصر للإشراف مع يهود آخرين على تنظيم الحزب الشيوعي المصري .. ثم أُرسل عام 1932 للتّفتيش على الأحزاب المحلية في المشرق العربي.
وفي العراق أسس الحزب الشيوعي كل من اليهود التالية أسماؤهم: صديق يهودا، يوسف زلوف، حسقيل صديق، موشي كوهين.
والحزب الشيوعي المغربي: أسـسـه اليهودي المغربي ليون روني سلطان في عام 1943م، وكان يعمل في سلك المحاماة وكان ضابطاً في الجيش الفرنسي. وقد ظل الحزب الشيوعي المغربي (أصبح حزب التقدم والاشتراكية فيما بعد) ذيلاً للحزب الشيوعي الفرنسي، واستمر كذلك بعد الاستقلال مع التبعية المطلقة للاتحاد السوفييتي، وبعد وفـاة ليون سلطان تسلّم علي يعتة (عامل فرنسي من أصل جزائري) مهام الأمين العام، وكان على علاقة وطيدة بالجالية اليهودية في المغرب. ونسبة الـمـنخـرطين اليهود في الحزب الشيوعي المغربي كانت تفوق نسبة انخراطاتهم في كل التنظيمات والاتحادات الأخرى، علماً بأنّ اليهود المشرفين على تعذيب المقاومين المغاربة في سجون الاحتلال كانوا أشد حقداً من غيرهم.
ومن الناشطين الشيوعيين اليهود بالجزائر نذكر جورج صماجة ودانيال تمسيت عضو الحزب الشيوعي الجزائري الذي التحق بجبهة التحرير لتأسيس فرع أوروبي لليهود والمسيحيين، ونذكر أيضاً اليهودي الشيوعي من أصل بولوني هنري علّاق ..
وفي تونس تأسّس الحزب الشيوعي التونسي في 1920 على يد مجموعة أغلب عناصرها من اليهود التونسيين والفرنسيين: جورج شمامة، أوغست فور، جورج عدة، أندري باروش، بول صباغ، جان بول فينيدوري، كوهين حضرية، سيرج معاتي إلى جانب علي جراد وحسن السعداوي …
وكانت الخلايا الشيوعية في تونس تنشط منذ قيام ثورة 1917 في روسيا، وعُقد أول مؤتمر لهم سنة 1921 في منظقة حلق الوادي، حيث يقيم الكثير من اليهود التونسيين، بوصفه جناحاً تابعاً للفرع الفرنسي للأممية الشيوعية. وقد رفع شيوعيو تونس آنذاك شعار الاتحاد الفرنسي الذي يتناقض مع مبدأ الاستقلال. ومن مواقف الشيوعيين في تونس، سواء الحزب الشيوعي أو حركة آفاق، أنهم يعتبرون أن تونس بلدٌ لا ينتمي إلى الوطن العربي، بل ينتمي إلى دول العالم الثالث، وأن اللّهجة التونسية المحلية ينبغي أن تكون أداة الاتصال مع الجماهير، وينبغي اعتمادها في الصحافة الحزبية في مخاطبة الجماهير وهذا الاتجاه كان يقوده جلبار نقاش، وهو يهودي وفرانكوفوني. كذلك ورغم صراعات الحركة الشيوعية مع نظام بورقيبة حول عدة مسائل إلّا أنهم ساندوه في موقفه المؤيد لاحتلال جزء من فلسطين لصالح الصهاينة الوافدين إليها من يهود العالم.
وفي مصر تأسس الحزب الشيوعي سنة 1920 على يد اليهوديين جوزيف روزنتال وهنري كورييل وهو أحد أهمّ قادة الحركة الشيوعية في مصر… وساهم معهم في تأسيس الحركة الشيوعية في مصر كلّ من مارسيل إسرائيل وهليل شوارتز وهي شخصيات يهودية ثرية عاشت في مصر بين الحربين، كما كان اليهودي روبرت جولدنبرج سكرتيراً للجنة القاهرة للحزب الشيوعي المصري، وكان أ. أفيجدور و أ. ن. تيبير (اسمه الحركي أ.شامي)، عضو الحزب الشيوعي الفلسطيني وعضو الحزب الشيوعي السوري، مندوبيْن للأممية الشيوعية لدى الحزب الشيوعي المصري.
كذلك كان اليهودي هنري كوريل مؤسس أول حزب شيوعي سوداني بمشاركة مارسيل إسرائيل وهليل شوارتز.. علماً أنّ كوريل هو من قام بتحضير تنظيم اتصالات بين الطرفين الفلسطيني والصهيوني “حمائم السلام” قبل وقت طويل من اتصالات أوسلو.
ثمة روايات عديدة ومتنوّعة عن تأسيس النشاط الحزبي الشيوعي في الأقطار العربية، ولكن كل الروايات تتقاطع في أن الانطلاقة كانت بأيدي يهودية وأجنبية. ومن الملاحظ أن الأحزاب الشيوعية العربية أسّسها اليهود ثم اختاروا لقيادتها من بعدهم عناصر محلّية منسلخة معادية لكل اتجاه عربي فضلاً عن معاداة القومية العربية والمعتقد الديني.
إنّ من أهمّ منزلقات هذه الأحزاب هو اعتبارهم مقاومة الاحتلال الصهيوني عملاً برجوازياً يجب التخلّي عنه لصالح مقاومة الإمبريالية وترسيخ عملية الهجرة، سواء أكانت هجرة المستعمرين من الدول الإمبريالية أم هجرة اليهود المستوطنين إلى فلسطين، متناسين أن الهجرة اليهودية هي السّر وراء هذه النزعة ووراء التناقض المستعصي. وكما يقول أحد المفكرين “لقد بقي الحزب الشيوعي في فلسطين، رغم كل محاولات الإصلاح، حزباً يهودياً في تركيبه وتوجهّه” (كما يصفه نايف سلوم في أحد أبحاثه)، حيث كان يعطي شرعية للهجرة اليهودية ويثبّتها.
لقد استعمل الشيوعيون اليهود العناوين الإنسانية والكونية للتّأثير على الماركسيين العرب وجعلهم يعمهون عن حقوق وطنهم المستعمَر والمجزَّأ، وأصبحوا لا يـرون مشاكل وحلول وطنهم إلّا من خـلال مخططات الشيوعية الدولية، وهم يعـملون على تنفيذها بشكل تلقائي وبانقياد تـام. وهذا باعتراف العديد من الشيوعيين العرب في مذكّراتهم وتصريحاتهم… حتى أن أحدهم أدلى بما يلي في كتاب “مذكرات شيوعي عراقي”: “إنّ اللجنة المركزية لحزبنا تتسلم شهرياً المخصصات من إسرائيل والاتحاد السوفيتي”. وقال أيضاً: “إنّ إسرائيل تعمل على تقوية الحزب الشيوعي العراقي أكثر مما يعمل الحزب نفسه”.
في ديسمبر 1947 نظّم الحزب الشيوعي العراقي مظاهرات ضمّت كل أعضائه وطافت في شوارع بغداد لتأييد قرار تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية، وفي مقدمة هذه المظاهرات سار عضوا الحزب الشيوعي العراقي، مسلم وآخر يهودي، متشابكي الأيدي كرمز للصداقة والتعايش التي يدعو لها الحزب ويباركها… تماماً كما تتشابك اليوم أيادي جماعة السلطة الفلسطينية مع أيادي جماعة نتنياهو، وتتشابك أيادي “يسارية” فلسطينية مع أيادي جماعة حزب راكاح الصهيوني الشيوعي!!
تجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أمر مهمّ للغاية معلوم للجميع وبديهي ولا يحتاج إلى تعليل، وهو أن الدولة الصهيونية هي صنيعة الإمبريالية التي فرضت، وهي في أوج سيطرتها العسكرية والعدوانية على شعوب ما سمي بالعالم الثالث، تأسيس دولة لليهود على أنقاض فلسطين… والمفترض بديهياً هنا هو أن الفكر الذي تأسّس على معاداة الإمبريالية وكنقيض لها، يجب أن يكون أوّل المعادين والرافضين لهذا الكيان، ولكن مفعول المؤسّسين اليهود على مريديهم العرب كان ساحراً وجعل من بين أيديهم ومن خلفهم سدّاً عن إدراك هذه الحقيقة البيّنة للحقّ العربي المسلوب.
فـفي عام 1959م خرج عضو القيادة المركزية رفيق رضا على الحزب ـ واعترف في بيان نشرته جريدة (الجماهير) السورية بأنه: في عام 1932م وفد إلى بيروت عدة مندوبين شيوعـيـين يهود حملوا مبالغ وافرة من المال إلى قيادة الحزب الشيوعي في سورية ولبنان، وذكر منهم أميل وأوسكا ومولر، وقد أبدل لهم شخصياً قسماً من الأموال بالعملة المحلـية، كما حمل للحزب أموالاً، وضعها الحزب الشيـوعي الفرنسي تحت تصرف الحزب الشيوعي السوري؛ لتوسيع حملته مـن أجل إقرار المعاهدة الفرنسية، ومحاربة الاتجاه الوطني في ذلك التاريخ، ويقول رفيق رضا القيادي المنشق: “وكانت حماسة قيادة الحزب الشيوعي السوري اللبناني بمثل حماس بن غوريون عـلى بعث الدولة اليهودية في فلسطين لأنها في نظرهم واحة من واحات الديموقراطية في المنطقة”، ناهيك عن واجب التضامن الأممي كمبدأ ماركسي تجاه “الشعب اليهودي المشرّد”.
لذلك: لم يكن غـريباً ـ أن تتّخذ الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي موقفاً معادياً للحق الفلسطيني المغتصب، وكان للعناصر الـيهـودية النشطة دور كبير في توجيهها نحو هذا الموقف.
لقد دأبت الأحزاب الشيوعية العربية كما تربّت منذ نشأتها على اتّهام حكام دولة الكيان اليمينيين بأنهم عملاء للاستعمار دون المساس بكيان الدولة الصهيونية أو اليهوديّة “إسرائيل” أصل المشكلة وجوهر الخلاف. ولقد أتقن اليساريون اليهود بعناية فائقة تمرير النظرة المحرّفة إلى القضية الفلسطينية، وإغراق الماركسيين العرب في المفهوم الشيوعي الجديد الذي يهاجم الحكام الصهاينة ويسكت عن دولة “إسرائيل”، وأن ما يغيظ الشيوعيين ولا يرضيهم، هو فقط ارتـبــاط “إسرائيل” بالغرب، فإذا ارتبطت “إسرائيل” بموسكو تصبح دولة صديقة محبّة للسلام وواحة جديدة للديمقراطية يدعو لها الشيوعيون العرب بالسلامة وطول البقاء!! وينسى بذلك أن هذا الكيان هو الذي اغتصب حق الفلسطينيين وأرضهم ووجودهم، واضطهد شعباً بأكمله بين الأسر والقتل والتشريد وتنسى حمامات الدماء التي اقترفتها أيدي الإرهابيين الصهاينة في حقّ عشرات آلاف النساء والشيوخ والأطفال والشباب فلسطين ؟! وتُنسى كل مذابح غزة وصبرا وشاتيلا ودير ياسين وجنين وكفر قاسم وو… ويجوز عندها لأدعياء السلام المزعوم أن يباركوا للسفاح بيغن حصوله على جائزة نوبل للسلام؟!!
وفي جانب آخر ملفت للنظر، نجد أن هذا اليسار الشيوعي العربي لا يستنكف من الدين إلّا إذا كان إسلاماً والرجعية عندهم هي خاصية الدين الإسلامي بحكم انتشار الإسلام كدين لأغلب أفراد الأمة، وكثقافة لعموم الأمّة العربية، ولهم نفس الاستنكاف من المسيحية المشرقية خصوصاً، ومن المسيحية عموماً، وهي حال “اليسار الليبرالي” عموماً، ما عدا من كان منهم يعاني أيضاً من مركّب النقص تجاه الغرب ولا يرى المسيحية كدين لجزء من الأمة (مهما كانت نسبته) ولكن يراها كديانة لأغلب الشعوب “المتحضّرة والمتقدّمة”. أمّا اليهودية وكنائسها فهي مجرّد طقوس ثقافية يجب احترامها؟!! بل وتتحوّل من دين إلى قومية بديلة، فكما تمّ إعماء الشيوعيين العرب عن أنّ ما يسمّونه “إسرائيل” هو صنيعة عدوّهم الرئيسي الإمبريالية، تمّ إعماؤهم عن أن اليهودية دين وأن الدين عندهم “عدو الشعوب”، ولا تتفتّح أعينهم لرؤية الدين كأفيون إلّا عندما يكون إسلاماً. فاليهود يدركون جيّداً ارتباط الإسلام بالهوية القومية العربية بفعل اللغة والتاريخ، وهذا لا يعني لدينا غياب دور وأهمّية المكوّن المسيحي في الهوية القومية والتاريخ القومي العربي. لقد أصبح يطلق على عديد الشيوعيين العرب خاصة في المغرب العربي توصيف اليسار الفرنكوفوني من شدة عشقهم واستعمالهم للغة المحتلّ الفرنسي.
ومن مظاهر “التديّن اليساري” نذكر مثال علي يعتة زعيم الحزب الشيوعي المغربي وعلاقته الوطيدة بالجالية اليهودية في المغرب وظهوره بمناسبة عيد رأس السنة الميلادية لعام 1994م في معبد يهودي مرتدياً طاقية اليهود التقليدية، وهو يستمع إلى الحبر الكبير الحزّان داخل المعبد اليهودي “السنياغوغ” أو الحبيب القزدغلي عضو الحزب الشيوعي التونسي الذي يحضر ممثلاً لحزبه مراسم البكاء في مقبرة أوشفيتز البولونية والترحّم على أرواح “ضحايا” المخرقة النازية المزعومة. فهذا المطبّع القزدغلي فعل الأفاعيل في كلية الآداب بمنوبة التونسية، وهو عميدها، فهو كسائر أعضاء حزب التجديد والمسار، وهي كلّها تلوّنات وتسميات جديدة للحزب الشيوعي التونسي، لم ينسوا أبداً أن حزبهم الذي تأسس على أيدي يهود تونسيين وفرنسيين كان يرفض مبدأ استقلال تونس عن فرنسا بدعوى رفض الشوفينية؛ ولقد وصلت وقاحة العميد الحبيب القزدغلي إلى درجة التصريح بعد أحداث 14 جانفي/ كانون الثاني 2011 بـ: “إن مناهضة الصهيونية ليست من ثوابت الشعب التونسي بل هي مسألة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وهم يتفاوضون من أجل حلّها” !! لقد سعى هذا العميد اليساري المتصهين إلى تفعيل التطبيع الأكاديمي مع الصهاينة بإدخال مواضيع وأسماء صهاينة من الكيان الصهيوني في المقرّرات الدراسية، وهو حاصل بفضل كلّ مجهوداته تلك على لقب “مواطن شرفي” من الكيان الصهيوني. ومرّة أخرى نلاحظ أنّ هذا النوع من الشيوعيين العرب لا يعترفون بالروحانيات إلّا عندما تخصّ اليهود. واللافت للانتباه أيضا غرامهم باللّونين الأزرق والأبيض في تصميم جرائدهم وفي أعلام تظاهراتهم وتصميم رايات وشعارات أحزابهم!!
ولا يفوتنا لفت الانتباه إلى خطورة بعض الشيوعيين اليهود البارزين الذين تغلغلوا بعمق في المجتمعات العربية التي أقاموا فيها وكسبوا مكانة مرموقة في الأوساط النضالية وكانوا يعبّرون عن رفضهم التوجّه إلى دولة الكيان الصهيوني وينتقدون الصهيونية والإمبريالية، فهم بهذا الموقف يُخفون ولاءهم ودفاعهم عن حقّ دولة الكيان في الوجود ويتغاضون عن أنها قامت على حساب سرقة أرض شعب آخر طُرد من أرضه بمساعدة أنظمة الاحتلال الإمبريالية ولا ينتقدون هذه الدولة الصهيونية إلّا بشأن مواقفها العنصرية تجاه الفلسطينيين الذين يجب أن يصبحوا، حسب رأيهم، مواطنين “إسرائيليين” ومتساوين مع “رفاقهم” اليهود المعتدين أي الذين سرقوا أرضهم!! أو يقبلوا بدويلة على جزء من أرضهم التي أخذها منهم اليهود غصباً. وكمثال على هؤلاء اليهود الشيوعيين نذكر المغربي إبراهام السرفاتي الكاتب والقيادي في منظمة (إلى الأمام) الماركسية، واليهودي التونسي النقابي جورج عدّة عضو الحزب الشيوعي التونسي واليهودي المصري دافيد ناحوم …
وكانت الأحزاب الشيوعية في تونس والجزائر والمغرب تهاجم الإمبريالية الفرنسية وتنادي بالتآخي بين البروليتاريا التونسية والجزائرية والمغربية والفرنسية، فالحزب الشيوعي الجزائري قام على سبيل المثال 1936 بمساندة مشروع بلوم فيوليت الذي كان يرمي إلى تمكين شريحة من الجزائريين، بشروط محدّدة، من حق الانتخاب كما أيّد الحزب الشيوعي الجزائري مطالب حكومة السيد موريس فيوليت الفرنسية المتمثلة في إلحاق الجزائر بفرنسا وإلغاء القوانين الاستثنائية والمجموعات الانتخابية المزدوجة وتمكين كل الجزائريين من حق الانتخاب والترشح لجميع المناصب والتمثيل البرلماني…
وقد اعتبر الحزب الشيوعي الجزائري كل خطاب مطالِب بالاستقلال وعدم التفريط في أرض الجزائر خطاباً استفزازياً وتحريضاً على الانفصال وعملاً فاشياً، وأنّ دعاة الانفصال أقلية ولا يمثلون سوى كبار المستعمرين وإن المسلمين “لا يريدون تطليق فرنسا”، وإن وحدة الشعب في الجزائر وفي فرنسا ضرورة وتبقي كذلك!! كما ألغى الحزب الشيوعي الجزائري من أدبياته استقلال الجزائر وفكرة البرلمان الجزائري وظلّ متمسّكاً بضرورة العمل على اتحاد الشعب الجزائري مع الشعب الفرنسي وذلك من أجل إنجاح برنامج حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا التي كان الشيوعيون الفرنسيون أحد أطرافها. ومن ثم أصبح زعماء الحزب الشيوعي الجزائري يطالبون بالعمل من أجل تحرير فرنسا من الإمبريالية الألمانية!!
وفي المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الفرنسي الذي انعقد عام 1945م قال مندوبو الحزب الشيوعي الجزائري ما يلي: “إن الذين يطالبون باستقلال الجزائر هم، بوعي أو بغير وعي، عملاء لدولة استعمارية أخرى…. والحزب الشيوعي الجزائري يعمل ويناضل لتقوية أواصر الوحدة بين الجزائريين والفرنسيين”. كما صرّح الأمين العام للحزب الشيوعي الجزائري السيد عمار أوزقان أن “مصلحة الجزائر لا تكمن في الانفصال عن فرنسا الجديدة لأن الاستقلال مستحيل وهو لا يخدم سوى إمبرياليات أجنبية أخرى… “، وقد قام نتيجة لكلّ ذلك عدد كبير من المناضلين بالانسحاب من الحزب ورأوا أنَّ سياسته لا تتماشى مع مطلب الشعب الجزائري في استرجاع استقلاله الوطني.
وما تمّ ذكره من أمثلة يسيرة عن الحزب الشيوعي الجزائري ينطبق تماماً على شيوعيي المغرب وتونس حيث الأولوية، بل لا شيء آخر سواها بالنسبة لهم، هي أن الشعب التونسي والفرنسي يناضلان ضد الإمبريالية والمطالبة بالاستقلال هو موقف رجعي معادٍ لمصلحة الشعب!! وهاجم الحزب الشيوعي التونسي أقطاب الحركة الوطنية والحركة النقابية المطالبة بالاستقلال واتهمهم بالولاء للنظام النازي.
وبالمناسبة تجدر الإشارة هنا إلى أن الإمبريالية كانت ولا تزال تحارب الشيوعية في بلدانها الغربية، ففي الولايات المتحدة منع القانون الحزب الشيوعي الأمريكي من الانتخابات بدعوى أنه يقف ضد الديمقراطية والليبرالية، وفي اليابان بموجب أحكام قانون حفظ السلامة العامة لعام 1925: أي شخص ينضم للحزب الشيوعي يعاقب بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة تصل إلى عشر سنوات. وتمّ عام 1928 تعديل القانون، ورُفعَ الحد الأقصى للعقوبة من عشر سنوات إلى الإعدام. وفيما كانت تسود في الدول الإمبريالية مثل هذه التشديدات والتضييقات على الشيوعية فإنها كانت تلاقي تشجيعاً على الأقل في البلدان العربية الخاضعة للاحتلال الفرنسي. وفي تونس والمغرب العربي فتح الاحتلال الفرنسي الطريق امام الشيوعيين، وهم بدورهم في افتتاح اجتماعهم كانوا يقومون بانشاد نشيد la marseillaise النشيد الفرنسي…
وعندما رحلت القوات العسكرية الفرنسية عن تونس مثلاً، تركت لنا أسطولاً من معلّمي التعليم الابتدائي وأساتذة التعليم الثانوي أغلبهم من اليسار الماركسي الفرنسي تربّى على أيديهم العديد من خيرة شباب تونس الثائرين والذين أصبحوا مع الأسف مدجّنين بالاغتراب والاستلاب الثقافي والحضاري واللغوي وانساق العديد منهم، وليس كلّهم، في حبال منزلق التطبيع الصهيوني بفعل من أطّرهم من اليساريين اليهود، وخلّفوا لنا موروثاً ثقافياً سيئاً جدّاً كحقوق الإنسان والديمقراطية الليبرالية والدفاع عن الحريات الفردية قبل الحرية الوطنية الجماعية لتفكيك الترابط الاجتماعي بتهميش الوعي الجمعي إلخ.. .
وإنّنا رغم كل ما ذكرنا عن التماهي الشيوعي العربي مع المشاريع المعادية فإننا لا ننفي حسن النية عن الكثيرين ممن انطلقوا بنفس نضالي حقيقي مناهض للإمبريالية والرجعية العربية، ولكن ما حصل لهم باعتقادنا هو أنّ الشيوعيين العرب نقلوا الفكرة الشيوعية من ناحية التطبيق خارج إطار الأمة (أمتهم)، وغاب عنهم أن الدول التي تبنّت النظام الاشتراكي وصولاً للشيوعية من الصين إلى الاتحاد السوفياتي كانت تبني نظامها بعد تحقيق وحدة أمتها القومية واستقلالها، وليس بشكل منفصل عنه. ويعزو بعض الكتاب تفاقم هذا الانحراف إلى بيروقراطية المركزية الأممية الشيوعية وتغليب مصلحة الدولة السوفييتية وإخضاع الأحزاب الشيوعية القومية لمصلحة الدبلوماسية السوفييتية، وإلى عمى الأممية عن رؤية خصوصية مسألة الاحتلال والقومية في فلسطين والجزائر، وأنّ كل ذلك وغيره مكّن عناصر ملوثة صهيونياً من أن تتسرّب إلى الأممية الشيوعية ومن ثم قدومهم إلى المشرق العربي ليشرفوا على تأسيس أحزاب شيوعية محلية بما يتّفق مع دعم المشروع الصهيوني. ولكن في الختام لا تعنينا الأسباب وقد كشفنا عنها بقدر ما يعنينا أنّ هذه المسائل وغيرها من الانزلاقات ونتائجها بالإضافة إلى أنها تخدم المشروع الصهيوني بطريقة آلية، فإنّها تعرقل جهود خلق جبهة عربية تقدّمية متحدة واسعة، وتخلق المزيد من التباعد بل حتى العداوات بين الحركة القومية العربية وبين الحركات الشيوعية في الوطن العربي، وهذا يصبّ مباشرة في مصلحة المشروع الصهيوني وضد مصلحة المشروع القومي العربي الذي ننشده. وحتى الدول التي يريد الكثير منهم اليوم محاكاة ما يسمّى تجربتهم “الديمقراطية” مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا فهي دول حقّقت وحدتها القومية وتحرير أرضها وليست في وضع الأمّة العربية التي لا تزال تعاني من التجزئة والاحتلال.
وكلمة أخيرة إلى من يودّون المجادلة في مصطلحي اليهود والصهيونية نورد ما ذكره الكاتب والمناضل القومي المرحوم حسين التريكي (من تونس) في كتابه “هذه فلسطين… الصهيونية عارية” عن مقال لأحد اليهود صدر بصحيفة “كلارين” الأرجنتينية جاء فيه: “إنّ علوّ اليهود على ما عداهم من الأمم يكمن في رسالتهم: ألا وهي المراقبة التاريخية على العالم. ذلك أنّ الشعب اليهودي هو الشعب الذي اختاره خالق الكون…شعب له رسالة خاصة، إليه يرجع حقّ تعيين الخبيث من الطيّب… إليه يرجع حقّ تعيين السبيل الذي يجب أن تتّبعه الإنسانية وهذا القانون هو القانون الأزلي الذي جاءت به التوراة. وليست هذه فلسفة أو فكرة دينية بل إنّها حقيقة أزلية”. هكذا يتربّى اليهود منذ الصغر وهذا جوهر تعاليم التلمود ومن يصبحون منهم يساريين سواء حقيقة أو بالتقية لغاية في نفس يعقوب لا يستنكفون من فكرة سلب أرض الآخرين لصالح اليهود ويستسيغون من دون حرج إقامة الدولة الصهيونية على أرض العرب واستقدام اليهود إليها من جميع بلدان العالم.. إذن دعونا من فكرة التفريق بين اليهود والصهاينة لأن التلمود يجمعهم على أرضية الثقافة اليهودية.
وفي الختام نقول لمن اختار بأن يكون شيوعياً في الوطن العربي، لكي يكون مقبولاً ومرحّباً به في جبهة النضال العربي لا بدّ له أن يصحّح موقفه من الاحتلال الصهيوني لفلسطين بشكل جذري لا لبس فيه وأن يحدّد موقعه إمّا مع فلسطين للعرب كاملة غير منقوصة، أو مع “إسرائيل” مهما كان حجم الجزء الذي تُقام عليه فوق أرض فلسطين، وليعلم أنه لا وجود لأي حل وسط سوى رحيل الغزاة عن كلّ أرضنا… ومن يختار أن يعترف بأي مكوّن من الكيان الصهيوني أو يقف إلى جانبه فإنه بالنسبة لنا يعترف بمبدأ شرعية الاحتلال، ومكانه مع العدوّ وليس بيننا أي يُعتبر خائناً للوطن .
بعض المراجع :
- د. ماهر الشريف: “الشيوعية والمسألة القومية العربية في فلسطين 1919- 1948” .
- نايف سلوم: الحوار المتمدن-العدد: 1208
- حوار تلفزي مع الكاتب الفرنسي جيل بيرو
- رفعت السعيد عن “تاريخ الحركة الشيوعية المصرية”
- طارق البشري بشأن مسألة “اليهود والحركة الشيوعية المصرية”
- د. محمود محارب “وثيقة قرارات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي” عن كول هعام، صحيفة الحزب الشيوعي “الإسرائيلي”
- الموسوعة الفلسطينية
في الدولة العربية والحركة العربية الواحدة
د. واصل البدور
حيث أننا الآن نعيش نمطاً غير طبيعي من حيث البناء السياسي الذي ننتمي إليه كشعب عربي، وهو غياب الدولة العربية الواحدة، فلا بد من العمل والتخطيط وبناء المرحلة التأسيسية التي تقعّد لمرحلة الوحدة وبناء الدولة. وبناءً على معطيات الوضع القائم من انقسام وتخلف وضعف وتبعية فإنه لا بدّ من وجود البناء الذي يوطّىء لعملية الانقلاب الكبرى التي تُصهَر الكيانات المجزأة من خلالها لتعود إلى طبيعتها التي كانت عليها قبل وقوع المؤثِر الذي أدى إلى تفتيتها وخروجها عن واقعها الصحيح.
إن هذا البناء التحويلي الانتقالي هو الحركة العربية الواحدة التي يفرض قيامها واقع التخلف والتجزئة وغياب الوعي العربي والحالة النفسية الثقافية التي يعيشها المواطن من ضعف أو انعدام الانتماء أو الولاء أو كليهما لكيانه الحقيقي الصحيح: العروبة والعرب والدولة العربية على امتداد الأرض العربية من المحيط الأطلسي إلى حدود فارس.
إنّ الحركة العربية هي مشروع الوحدة العربية الذي يرجع في مضمونه إلى النموذج التاريخي العربي وإلى النموذج المادي والجيوسياسي. إنّ مشروع الحركة العربية الواحدة هو مشروع ايديولوجي يحدد الهدف الأعلى ويرسم الطريق ويضع محددات مصلحة الأمة السامية.
إنّ هذه الحركة العربية الأداة تختلف في كيانها ومهامها عن الدولة العربية ودورها الوجودي اختلافاً بيّناً نتيجة للظروف الموضوعية التي تولد فيها الحركة، والدولة العربية هي الهدف الآجل لهذه الحركة.
الحركة هي مشروع ايديولوجي ينبثق عنه برنامج شامل ذو رؤية وهدف ومخطط عمل تسير بتفاصيله نحو القضاء على التجزئة وتحرير الأرض والإرادة العربية والارتقاء بالمواطن العربي الراهن ليحطّ على طريق المشروع الحضاري النهضوي العربي. إنّ هذه الحركة لا تنغمس بالجزئيات التي قد تقوم بأداء مديونية مواطن أو تهب حذاء لآخر أو ماشابه، لأنّ ذلك ليس إلا نتيجة منعكسة من الواقع الأكبر للأمة على الواقع الأدنى للفرد، وأنّ ذلك لا يتأتى من عدم أهمية تلك التفصيلات، وإنما يأتي من أنّ التعامل معها بشكل فردي وجزئي لن يحل إلا مشكلة فرد وبشكل مؤقت، وتبقى الحالة العامة القائمة قائمة، لا بل قد تتفاقم. إن ّمن أبسط الأمثلة على عدمية الأخذ بالجزئيات، هو ارتفاع عدد المثقفين والعلماء والمبدعين العرب في أقطارهم وهي جزئية واحدة، وعلى أهميتها، فإننا لا نرى لهؤلاء أي أثر أو تأثير يذكر في بناء دولة حديثة ذات إرادة حرة.
إنّ ما تسعى إليه المنظمات الخارجية والداخلية التي تسير بهذا الاتجاه هو خلق حالة من الفوضى والعشوائية المنظمة. إنّ جميع المنجزات والإبداعات مهما كثرت سواءٌ أكانت فردية أم جزئية فإنها لن تقود إلى النجاح ما لم تتشكل كعنصر من بناء منظومة متكاملة تصهر جميع المنجزات التي تتفاعل مع بعضها البعض، لتنتجَ نتاجاً مادياً ومعنوياً أكثر بكثير من عملية الجمع البسيطة للمنجزات.
كما وأنّ الحركة المنشودة تضطلع بالتصور الكامل لمشروع الدولة، أي أنّ الحركة هي حركة مشروع الدولة واستدامة الحالة الحركية التحررية باتجاه الوحدة. إنّ من مهام الحركة الموضوعية تشخيص ومواجهة الحقيقة الكبرى وهي الانقسام والتخلف والانحطاط والتجزئة، حيث أن الدولة القطرية ليست إلا كياناً مجتزأً مجتزئ من كلٍ لا يعبرعن انتمائنا الجذري وشخصيتنا التاريخية الحضارية، وتطرح الحركة نموذج الدولة المركزية القومية كحل وحيد مبني على هذا التشخيص.
والحركة هي أداة استدامة وتفعيل الوعي العربي وتوجيه الانتباه للخطر الخارجي وتوحيد التناغم الداخلي. الحركة العربية تقدم حلاً للخلافات الطائفية والعنصرية بالتوعية والتنظيم، وهذا فرق جوهري بين الحركة والدولة حيث تقوم الدولة بصهر جميع أطياف مكوناتها بقوة القانون وسطوة الدولة لتستقرَ أخيراً (دولة الرفاه العربي).
إنّ الدولة العربية الكبرى الواحدة هي الكيان المنوط به العناية بكل التفاصيل الصغرى والكبرى في جميع المجالات لئلا يؤتى من ضعف أو قصور، والتفاصيل الجزئية مهمة عند قيام الدولة، وعلى السلطة التعامل معها على أدقّ المستويات. ولعلّ شكل الدولة العربية المنتَظرة مرتبطٌ ارتباطاً جذرياً بالثقافة الراهنة والثقافة المنحدرة المسيطرة على أفراد الأمة العربية. إنّ شكل هذه الثقافة يفرض بنيوية الدولة الصاقلة لشخصية الفرد وسلوكه وأفعاله.
وحيث أنّ استقلالية الشخصية تُقاس بحجم منجزاتها التي تمثّل في توجهها لبنة بنائية لا يمكن للدولة القيام بدونها، وعندما تختفي أو تتعذر الإنجازات يقدّم التخلف نفسه كبديل ونقطة استناد في كافة مجالات الحياة كما وأن الإنجاز المشتت غير المصاغ ضمن نظام عام حاضن يؤدي إلى نفس المآل، ويصبح الاستناد إلى التاريخ الموهوم وحمية الآباء والأجداد والقُطرية المفرّغة من المعنى والتشبث بها كبديل أمثل للدولة وللفرد للحديث عن مجد راهن، غير موجود وصنيع مفتعل.
وعندما كان الفرد العربي بوضعه الراهن وبعموم مفرداته إنساناً مجرداً عن المنجزات- كما رُسِمَ له- فإنه يلجأ للتعويض عن هذا النقص بالاتكاء إلى أمجاد كاذبة من قبلية وإقليمية وطائفية، كأداة تعويض، ليستمدَ منها كيانه كحالة نفسية.
إنّ الشخصية العربية عندما افتقدت إلى كيان الدولة التي تحفظ كرامتها وإلى القانون الذي يصون هيبتها وإلى الثقافة العربية التي تحمي هويتها، ركنت إلى العائلة والقبيلة وفي أحسن حالاتها لقطرٍ مبتور لتجدَ الحماية المنشودة، ومع الزمن أصبح هذا السلوك الرجعي ثقافة عامة ومتجذرة تهدد حتى عوامل الوحدة بعد الانقسام، وأصبح هذا النسق من الحياة يفرض صورة الدولة العربية المركزية الاندماجية لأنّ تجذر هذه الثقافة أصبح من أقوى عوامل الانفصال وتغيير هذه الثقافة يحتاج إلى عقود طويلة حتى داخل الدولة العربية الواحدة، ولذا لا يمكن التعامل معها بدولة فدرالية أو كونفدرالية أو ما شابه.
بقي أن نؤكد أنه في اليوم الذي تبدأ فيه الحركة بالاقتراب من هدفها، تبدأ نهاية الدولة الصهيونية والأنظمة الرجعية، وعليه فإن هذه الحركة سوف تكون محارَبة على الدوام من كلا الكيانين.
من هنا نجد هناك متلازمات وفوارق في ذاتية الحركة العربية الواحدة ابتداءً من نشوئها إلى أن تقوم الدولة. إنّ الوعي العربي، ومركزية مشروع الدولة، والحرب الداخلية والخارجية على الحركة هي منطلقات متلازمة ومتوازنة يجب أن نعيها ونقف على وصفها وحلّ إشكالاتها.
سلسلة قواعد المسلكية الثورية -الحلقة الثامنة
الاستمرارية وطول النفس
عبدالناصر بدروشي
تحتم طبيعة الحركة الثورية اعتبار كل مواطن حر وشريف هدفاً يجب دفعه للانخراط في الشأن العام والعمل الوطني، والعمل على رصّ صفوف الجماهير وتحشيدها في اتجاه مصلحة الأمة وتحقيق آمالها في الوحدة والتحرير والنهضة.
وككلّ عمل بنّاء مركّب تتطلّب مهمّة العمل النضالي اختيار عناصرها بكل دقة ووفق معايير ومواصفات سبق أن ذكرنا بعضها، وتزداد هذه المواصفات صرامة خاصة عندما يتعلق الأمر بمن سيقومون بدور ريادي وقيادي وتأطيري لأنهم سيشكلون حجر الأساس أو العماد الذي سيرفع عليه المشروع النضالي.
ليس من الضروري أن يكون من توكل إليهم مهمات نضالية كاملي المواصفات، فمن الطبيعي أن يكونوا حاملين لبعض أمراض مجتمعنا المعتلّ، كما أن طريق المناضل نحو تنقية نفسه طويلة طول أهدافه وشاقّة مشقة طريقه الوعرة في سبيل إنجاز مهماته ولا تعرف نهاية. إلا أن المهم هو مدى قابليتهم واستعدادهم للنضال والجهاد في سبيل رفعة الأمة، والأهم هو صبرهم على طول الطريق ووعورتها وامتلاك نفس طويل يمكّنهم من الاستمرارية وتسليم المشعل لمن يليهم، فأهداف كأهداف المشروع القومي العربي المنشود مثلاً، والمهمات النضالية المنوطة بكوادرها وأعضائها، مهماتٌ وأهدافٌ تتطلب جهداً عظيماً وزمناً طويلاً لا يمكن أن يعمل على تحقيقها إلا من كان له نفس طويل وقدرة على الصبر والجلد، فهي أهداف طويلة المدى.
وكما قيل قديماً أن الصبر مفتاح الفرج، وبأن من يتقن الصبر يتقن كل شيء، ولا شك أننا لا نقصد بالصبر كما يقصد فقهاء السلاطين كالصبر على الحاكم والرضاء بالظلم حتى يُرفع والرضاء بالذل والهوان، بل نقصد الصبر على طول الطريق وعدم الرضوخ أو التراجع، والصبرعلى ما قد يصيب المناضل من ضنك المعيشة وقلة الموارد، والصبر على تبعات القمع السلطوي، والصبر على الإخفاقات التي قد يمنى بها المشروع، والصبر على إحباطات الواقع والاستمرار في النضال رغم كل العقبات.
من الضروري أن يعرف من ينذرون أنفسهم للواجب الوطني والقومي أن نضالهم ومسيرتهم في سبيل الوحدة والتحرير والنهضة شاقة ومحفوفة بالعقبات والمخاطر، فيجب أن لا نقدّم للمنخرطين حديثا في العمل النضالي صورة وردية ومغلوطة عن الواقع الذي سيعايشونه، كي لا تفشل عزائمهم ساعة الجد، فإدراكهم ومعرفتهم بالواقع كما هو يجعلهم يتحملون المشاق والصعوبات والمخاطر عن طيب خاطر وبثبات وعلى درجة عالية من الاستعداد لتجاوز الصعوبات.
إنّ الاستمرار في العطاء والتضحية رغم كل الظروف هو وحده الكفيل بالوصول إلى الهدف الاستراتيجي، كما أن جوارح المناضل لا تتحول عن الهدف الاستراتيجي ولا يثنيه شيء عن الاستمرار في العطاء حتى بلوغه.
وكما كتب أساتذة النضال السياسي “إن مفهوم الحرب الطويلة الأمد هو أحد المفاهيم الأساسية، التي تعتمد عليها النظرية الثورية، حيث أنه الأسلوب الذي أثبت فعاليته لتحقيق أهداف الجماهير، التي تعاني من الاحتلال أو الاستغلال”.
إنّ الصفات النضالية صفات مكتسبَة وعلى رأسها التحلّي بالنفس الطويل، وينبغي على القائمين على تنظيم العمل النضالي تنميتها وصقلها وتطويرها لدى المناضلين الجذريين بالدربة والمتابعة.
ويعتبر النضال الميداني النوعي دربة على الاستمرارية وصقلاً للنفس الطويل وتربية على المداومة على العمل غير المرتبط بردة فعل، كما أنه يمتحن معادن المناضلين وصلابتهم وعقيدتهم. فالمنخرطون في الشأن السياسي من غير المناضلين لا يمتلكون نفساً طويلاً، وهم غير قادرين على الاستمرارية، فانخراطهم في الأنشطة الميدانية عادة ما يكون نابعاً عن نفحات وتقلبات مزاجية لا عن وعي وقناعة راسخة بضرورة العطاء المسترسل.
ولنا من ثقافتنا العربية الإسلامية ما يؤكد على أهمية أن يتحلى المناضل بطول النفس والصبر والتجلد، إذ قالت العرب قديماً أفضل أخلاق الرّجال التَّصَبُّرُ.
قال تعالى في محكم تنزيله مخاطبا النبي العربي ورفاقه المناضلين :
“يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون”.
فالصبر والمصابرة والمرابطة جوهر النضال، وبدونهم لا أهداف تتحقق ولا مهمات تُنجز.
الصفحة الثقافية:
“أبو خليل القباني” الموسيقي ورائد المسرح العربي
طالب جميل
في النصف الثاني في القرن التاسع عشر وعندما كان الشعب العربي يقبع تحت ظلم الحكم العثماني، وعندما كانت لغة الجهل والتشدد ومحاربة العقل والتنوير هي السائدة، والتي أدّت بطبيعة الحال إلى محاربة أي شكل من أشكال الفنون، ظهر رجل دمشقي يدعى (أحمد أبو خليل القباني) ليغيرَ شكل الفن السائد آنذاك ويقدم نهضة مسرحية شكّلت ثورة على شكل ومضمون المسرح البسيط والتقليدي الذي كان ظاهراً في تلك الحقبة في مجتمع محافظ تحكمه العادات والتقاليد.
وُلد أبو خليل القباني في دمشق عام 1833 وهو من أسرة دمشقية عريقة. تعلّم أصول الدين عند شيخ الكتّاب، وبدأ يتردد على المسجد لحضور حلقات الأناشيد والموشّحات، وكان يتسلل في الليل خلسة للمقاهي للاستماع للسيرة الهلالية وسيرة عنترة وحكايا ألف ليلة وليلة من خلال الحكواتي، ثم أكملَ مشواره في حلب حيث تتلمذ على يد أكبر أساتذة الموشحات في حلب وتعلم الموشحات وأصول فن رقص السماح، وغيرها من الفنون الحلبية.
يعتبر أبو خليل القباني أول من أسس للمسرح في سورية، وكان أول عرض مسرحي له في دمشق عام 1871، وقد أسس فرقة مسرحية خاصة به قدمت أكثر من (40) عملاً مسرحياً، وكان هو من يؤلف المسرحيات ويلحن الأغاني ويخرجها، وأشهر مسرحياته التي قُدّمت (ناكر الجميل)، (هارون الرشيد)، (عايدة)، (أنيس الجليس).
قدم في إحدى مسرحياته مجموعة من الأولاد ليقوموا بدور فتيات لاستحالة أن تشارك الفتيات في التمثيل آنذاك، مما أدى لأن يثور عليه بعض رجال الدين وأصحاب العقول المتشددة وشكَوْه إلى والي دمشق باعتبار ذلك منافياً للدين والأخلاق. وظلّ القباني يقدم مسرحياته إلى أن تم إحراق مسرحه في دمشق الذي اضطر إلى بيع قطعة أرض كان يملكها ليكمل بناءه، وبعدها قرر التوجه إلى مصر، حيث أقام في الاسكندرية وبدأ بتقديم عروضه المسرحية هناك، حيث ابتدع طقوساً جديدة على المسرح مثل تقديم الفواصل الغنائية بين مشاهد العرض، وكان يقدمها أشهر المطربين في مصر حينها مثل (عبده الحامولي) و (سلامة حجازي).
وفي فترة لاحقة، انتقل إلى القاهرة وبدأ بعرض مسرحياته على مسرح الأوبرا وأصبحت عروضه تلاقي استحسان الجمهور، كما قدّم وجوهاً نسائية للمرة الأولى بعد أن استقدم أربع سيدات من لبنان، حيث لم تكن المرأة المصرية تشارك بالظهور على المسرح في تلك الفترة بسبب العادات والتقاليد والعقلية المحافظة السائدة وقتها.
أسس له مسرحاً باسمه في (حي العتبة) بالقاهرة وشكّل فرقة مسرحية بلغ عدد أعضائها (50) فناناً بين ممثل وراقص وعازف ومغن، كما سافر إلى أمريكا لمدة (6) أشهر وقدّم مجموعة من مسرحياته الغنائية التي لاقت استحسان وقبول الجمهور هناك.
مكث في مصر أكثر من (16) عاماً قدم خلالها أكثر من مئة عرض مسرحي إلى أن تعرّض مسرحه للحريق مرة أخرى، فقرر بعدها العودة إلى سورية وذلك عام 1900، وبعدها أصيب بمرض وتوفي على أثرها عام 1903.
إن طبيعة ونوعية الأعمال التي قدمها أبو خليل القباني تجعله هو المؤسس الحقيقي للمسرح الغنائي العربي، ويُسجَل له أنه رسّخ الهوية العربية في المسرح الغنائي باعتماد مواضيع مسرحياته على التاريخ العربي الإسلامي وتوظيفه للتراث الشعبي العربي والموشحات ورقص السماح والفنون الشعبية الأخرى، كما عمل على توظيف الشعر العربي والزجل الشعبي في أعماله، عدا عن أهمية المواضيع التي طرحها والتي هي انعكاس للواقع الاجتماعي والسياسي الذي عاشته سورية في فترة الحكم العثماني.
واستند القباني في كثير من أعماله إلى التراث الحكائي الشعبي والسير المتداولة، إضافة إلى الشعر الجاهلي والنثر العربي والحكم والأمثال والموشّحات والألحان الغنائية التراثية، واستمدّ من بعض الشعراء مثل (الشريف الرضي) و(البحتري) و(صفي الدين الحلي)، كما إن إلمامه ببعض اللغات مثل (التركية، الفارسية ، الفرنسية) ساعده على ترجمة العديد من المؤلفات وتقديمها على المسرح بهوية عربية.
قدم القباني المسرحية الغنائية القصيرة (الأوبريت) الذي تميّز به الرحابنة فيما بعد وتتلمذ على يديه أهم أساتذة الموسيقى والغناء في مصر مثل (كامل الخلعي) و (عبد العزيز الجاهلي)، وساهم في تقديم مسرح غنائي تقدم فيه قصائد ملّحنة مرتبطة بقصة المسرحية وفصول غنائية فكان الغناء سبباً في وجود المسرح في مصر، كما يُحسَب له أنه ساهم في نقل الغناء الشامي إلى مصر وأول من نقل معارف مدرسة بلاد الشام الغنائية إلى مصر.
وهنا تجدر الإشارة أيضاً إلى أهمية القباني كموسيقي، حيث يعتبر أول من لحّن القصيدة المغنّاة في المسرح الغنائي وقدّم كثيراً من الأعمال الغنائية، لكنّ غياب التوثيق للأعمال الموسيقية والغنائية في تلك الفترة جعلت بعض الأعمال تُنسَب لأكثر من ملحن ومغن، لكن يُنسَب للقباني حوالي (54) موشح منها (شادن صاد قلوب الأمم) و(صيد العصاري) و(بزغت شمس الكمال) و(يا غصن نقا) و(بالذي أسكر) و(ما احتيالي يا رفاق) و(يا من جفا وما رحم)، كما أن أغنيتي (يا مال الشام) و (يا طيرة طيري يا حمامة) من كلمات وألحان أبو خليل القباني.
عموماً يبقى أبو خليل القباني رائد المسرح العربي وله الدور الأكبر في نهضة الموسيقى والمسرح العربي من خلال إسهاماته وأعماله الغنائية والمسرحية، وقد ساهم في ارتقاء وتطوير ذائقة الجمهور العربي فقدم في أعماله اللحن الجميل والقيم الإنسانية والمشهد البصري، مما جعله يكون الأب الروحي للمسرح والغناء العربي.
قصيدة العدد
عبدالرحيم محمود: دعوة إلى الجهاد
دعا الـوطنُ الذبيحُ إلى الجـهـادِ فـطـارَ لـفرطِ فــرحـتـِه فـؤادي
وسـابقتُ الـنـســيمَ ولا افـتخـارٌ ألـيـس علي أن أفـدي بــلادي؟
حملت على يدي روحي وقلبي ومــا حــمــلــتُـهـا إلا عِــتـادي
وقـلتُ لمنْ يخافُ من الـمـنـايـا أتـفـرقُ من مـجابـهة الأعادي؟
أتـقعـدُ والحمى يـرجوكَ عونـاً وتجبنُ عن مصاولـةِ الأعادي؟
فدونَكَ خـدرُ أمـِّك فـاقـتـحـمـْـه وحـسـبُك خـسـةً هـذا التـهـادي
فـلـلأوطــانِ أجــــنــادٌ شــــدادُ يـكـيـلـونَ الـدمـارَ لأي عــادي
يلاقـونَ الصعابَ ولا تـشـاكـي أشــاوسَ فـي مـيـاديـن الجـهـاد
تراهم في الوغى أسـداً غضايا مـعـاويـنــا إذا نــادى المـنـادي
بـنـي وطـني دنا يومُ الـضحايا أغرَّ عـلـى ربا أرضِ الـمـيعـاد
وما أهـلُ الفـداءِ سـوى شـبابٍ أبـيِّ لا يـقـيـمُ عـلـى اضطهـادِ؟
ومَنْ للحربِ إن هاجَتْ لظاها ومــن إلاكــم قــدح الــزِنــاد؟
فـسـيروا للـنضالِ الـحقِّ نـاراً تـصبُّ عـلـى العدا في كـلِّ وادِ
فـليـس أحطُّ من شـعبٍ قـعـيـدٍ عـن الجـلـى وموطـنُـه يُــنـادي
بني وطـنـي أفـيـقـوا من رقـادٍ فما بـعـدَ الـتـعـسـفِ مـن رقـاد
قـفـوا في وجهِ أيٍّ كانَ صـفـاً حــديـداً لا يــؤولُ إلـى انـفـرادِ
ولا تجموا إذا اربـدَّت ســماءٌ ولا تـهـنــوا إذا ثـارَت بــوادي
ولا تـقـفـوا إذا الدنيا تـصـدَّت لـكـم وتـكـاتـفـوا في كـلِّ نـادي
إذا ضـاعَتْ فلـسـطيـنُ وأنـتم على قـيـدِ الحياةِ فـفي اعـتقادي
بأنَّ بني عروبتِـنا اسـتـكـانـوا وأخـطأَ سـعـيُـهم نُجحَ الرشــادِ
* الشاعر العربي الفلسطيني عبد الرحيم محمود، الملقب بالشاعر الشهيد، وهو نموذج للمثقف العضوي الذي قاتل بالبندقية وبالقلم، وألحق الفعل بالقول. ولد عام 1913 في بلدة عنبتا قضاء طولكرم، وكان أستاذاً للغة العربية في مدرسة النجاح في نابلس التي أصبحت فيما بعد جامعة النجاح. وبعد استشهاد الشيخ عز الدين القسام استقال من عمله والتحق بالثوار في ثورة الـ36، كما ذكر في إحدى قصائده، واستمر مقاتلاً حتى انتهت الثورة عام 39 فارتحل إلى العراق، وانضم للكلية الحربية في بغداد، وشارك مع المتطوعين العرب في ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد المحتل البريطاني عام 1941، وعاد بعد الإجهاز عليها إلى فلسطين، واستعاد وظيفته كمدرس في مدرسة النجاح حتى أعلن قرار تقسيم فلسطين عام 1947 فترك التدريس مجدداً وذهب إلى بيروت ثم إلى دمشق والتحق بجيش الإنقاذ، ودخل فلسطين معه حيث شارك بعدة معارك كان آخرها معركة “الشجرة” قرب الناصرة التي استشهد فيها في 13/7/1948 عن خمسة وثلاثين عاماً، مخلفاً وراءه 27 قصيدة وعدداً من المقالات التي تكشف معدنه العربي الأصيل وقريحته الفذة ولغته المتدفقة عذوبةً وروحه الاستشهادية الوثابة التي امتزجت بثرى فلسطين والعراق وكل أرض عربية. ويذكر أن قصيدته أعلاه كانت من القصائد التي حذفت من المنهاج التعليمي الأردني.
اترك تعليقاً