طلقة تنوير23: القومية والأمة والوحدة

الصورة الرمزية لـ ramahu


 

المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 نيسان 2016

 



ويتضمن هذا العدد:


– كلمة العدد: جدلية الوحدة والصمود/ بشار شخاترة


– في الجغرافيا السياسية والصراعات المعاصرة في زماننا/ جميل ناجي


– قراءة في كتاب “الماركسية والمسألة القومية” لستالين/ إبراهيم علوش


– شخصية العدد: شيخ الشهداء عمر المختار/ نسرين الصغير


– شهادة لناجي علوش في محمد عزة دروزة/ معاوية موسى


– إضاءات على كتاب (الرسالة السياسية لهوليوود)/ طالب جميل


– قصيدة العدد: ثورة  فلسطين..”يا جهادا صفق المجد له”/ للشاعر بشارة الخوري “الأخطل الصغير”


– كاريكاتور العدد



العدد رقم 23 – 1 نيسان 2016
لقراءة المجلة عن طريق فايل الـ PDF



للمشاركة على الفيسبوك




















































كلمة العدد: جدلية الوحدة والصمود

 

 

بشار شخاترة

 

 

في الواقع العربي الممزق، وفي زمن تنتقم فيه الذات القومية من ذاتها، يبرز سؤال مهم في هذا الواقع المتهاوي: كيف للأمة أن تحافظَ على وجودها؟ وكيف يمكن أن تتجاوز فكرة الخروج من التاريخ كأمة لكي لا تتحول إلى حالة هلامية؟

 

 

يعرض التاريخ تجربة لشعب قارة أمريكا الأصيل، الذي سماه الاستعمار الأوروبي “الهنود الحمر”، وهم شعب خاض معركة طويلة مع الاستعمار الأوروبي الذي غزا بلادهم وأحالهم أقلية ممزقة بعد حملات الإبادة والتهجير القسري، ولم تسعفهم مقاومتهم ولم يشفع لهم تراب وطنهم في أن يحافظوا على وجودهم القومي في وطنهم.  هذا العرض يُقصد منه أن نناقش إشكالية الأمة العربية بعدما دخلت مرحلة غير مسبوقة في صراعها مع أعدائها وباتت تواجه ذاتها بذاتها، ليقتتل أبناء العروبة تحت عناوين طائفية تقدّم لانقسام تاريخي عمودي إذا ما اكتملت عناصره، ومن هنا فإن حالة انعدام الوزن النوعي للأمة قد تذكّر بكارثة “الهنود الحمر”.

 

 

مع هذه المقدمة المحزنة والمتشائمة يبقى إيماننا بعروبتنا يبعث بصيصا من الأمل من خلال ثقوب هذا الكهف المظلم والطويل بعمر الزمن، فمشكلتنا لم تولد مع قدوم الاستعمار الأوروبي، بل سبقتها قرون أربعة تحت ظلام الأتراك العثمانيين، هيّأت لما تعانيه الأمة اليوم.

 

 

لكنّ التفاؤل الذي يميّز المناضل القومي الجذري ليس مبنيا على مجرد الأمل، بل له أساسه القومي المستقر في عقيدة الأمة العربية وفي وعيها وحتى في اللاوعي، وبين هذا وذاك ففي تاريخ الأمة الطويل مع الغزاة ما يسعف ويدلل على صحة وجهة النظر هذه.

 

 

فالأمة العربية واجهت عبر التاريخ غزوات وهجمات طال بعضها وقصر، وكانت دائما تخرج منتصرة وتلفظ عباءة المستعمرين والطامعين، وتعيد بناء وحدتها في إطار مشاريع التحرير، ففي كل مواجهاتها مع الغزاة كانت تنجز وحدتها ولو بحدها الأدنى القادر على التحرير ودائما كان ركناها في مصر والشام، لكنّ الوضع العربي الراهن يواجه سؤالا وجوديا بالنظر إلى طبيعة التناقض الذي تواجهه قوى الأمة العربية، فالتناقض الإضافي الذي برز على مسرح الأحداث اليوم هو انتشار ظاهرة تفكيكية بصبغة طائفية تستند إلى حوامل دينية تكفيرية أو لا تكفيرية، لكنّ قاسمها المشترك أنها لا عقلانية، وخطورة هذا النوع من التناقضات في حياة الأمة أنه ذو طابع متسلسل أشبه بكرة الثلج المتدحرجة، فالحالة هذه كلما تقدمت على أرض الواقع تعاظمت معها حالة التفكك، فإذا تظافرت هذه الظاهرة مع وجود حالة التجزئة القائمة في الواقع العربي مع التدخل الصهيوني الذي يذكي هذه الحالة فإنّ المخاطر حول قضية خروج الأمة من التاريخ تجد من يبحث عنها ومن يبحث فيها بدواعي مختلفة منها أن الأمة العربية لم تتكون بعد أو أننا شعوب ناطقة بالعربية وما إلى ذلك.

 

واجهت الجزائر شيئا شبيها جدا بحالة “الهنود الحمر”، لكنّ المستعمر الفرنسي لم يفلح فيما أفلحوا به في أمريكا، وقد دفعت الجزائر ثمنا باهظا لكنها بقيت ولا زالت عربية الهوى والهوية، لا بل إنّ الحس القومي لدى العرب الجزائريين عالٍ جدا قياسا بأقطار عربية أخرى.  لم تقوَ فرنسا على فرنسة الجزائر وهذا سببه أنّ الجزائر كانت تركن إلى أمّتها وتجد في العمق القومي سندا أثبتت التجربة القاطعة أنه لولا ذلك لواجهت الجزائر مصيرا كمصير سكان أمريكا الأصليين.

 

 

أمّا فلسطين، القطب المحدد لكل بوصلة قومية فإنها تواجه احتلالا لم يتوانَ على مدى قرن ويزيد عن استخدام كل الأساليب لتهويد فلسطين، وهذا الصمود الفلسطيني، برغم أي دعاية إقليمية، لم يكن ليستمر لولا أن شعب فلسطين العربي ممتد في أعماق الأمة العربية كما جغرافية فلسطين هي في القلب من هذا الجسد العربي.

 

 

يجب أن يدرك العرب، وبالذات الفلسطينيون منهم، أن العدو الصهيوني لو كان بمقدوره حسم الصراع لصالحه لما توانى، فهذه النقطة من الأهمية ما يبنى عليها في أنّ قضية إلحاق الهزيمة بالأمة العربية حتى يستقلّ العدو ويطمئن في فلسطين لم يكن يوما بمقدوره ولن يكون.  ونزيد فوق هذا أنه حتى يحقق العدو هذا، عليه أن يلحق الهزيمة الساحقة بالأمة العربية لا بالفلسطينيين فحسب، وإلا لكان حسم الصراع لصالحه مبكرا، على أنه يجب ألا يفهم أن هذا تقليل من كفاح الشعب العربي الفلسطيني، فالواقع أن صمود الشعب الفلسطيني يجد سنده في أمته.

 

 

لم يستطع سكان أمريكا الأصليون أن يستمروا وأن يُبقوا على وجودهم القومي، لأنهم لم يكونوا أمة مكتملة التكوين كالأمة العربية، أو أنهم لم يملكوا على الأقل المقومات التاريخية التي تحافظ على وجود الأمة، وبذات الوقت لم يكن لهؤلاء عمقا قوميا يبقي جذوة الصراع محتدمة من دون أن تنتهي بهم الحالة إلى أقلية تعيش على هامش المجتمع العنصري الرأسمالي الجديد الغازي لبلادهم.

 

 

فالوحدة القومية التي تربط أبناء الأمة العربية والتفاعل بينهم، بحيث يكون الكلّ عمق ورديف للكل، حتى لو ظهرت آثار التجزئة وطفت على المشهد القومي، فالحقيقة التي تؤكد هذا نابعة من نقيضها، بمعنى أنه مع وجود التجزئة العربية كحاجز في وجه العرب لنجدة أخوتهم في فلسطين إلا أنها تبقى عمقا وسندا يبقي العدو في حالة العاجز عن الحسم لصالحه بإبادة الشعب الفلسطيني غير آبه بالرأي العام الدولي لمن يخدعون أنفسهم.

 

 

إنّ الوحدة القومية العابرة لحدود التجزئة والمستقرة في وعي الأمة وفي لا وعيها أيضا تبقى الحارس الأمين على بقاء فلسطين قضية مفتوحة إلى حين حسمها لصالح الأمة العربية، لأن الصراع بين الصهاينة والأمة العربية لا يمكن إلا أن يحسم بغير هذه الطريقة لأن جذور العدو مقطوعة حتى لو تلقّى الدعم من الغرب، وسيواجه المصير الذي واجهوه أيام نبوخذ نصر.

 

 

وبالعودة إلى الأمة في صراعها القائم والمستجد مع القوى الظلامية التكفيرية فإنها عصيّة على أن تنهيها حتى لو حققت الهجمة التفكيكية نجاحات موقعية فإنها تبقى مرحلية، فإذا أصابت الهزيمة جزء في الأمة بقيَ العمق الذي يركن إلى هوية قومية حقيقية وموجودة تستأنف الصراع مع هذه التناقضات، وبما يعيد الأمور إلى نصابها لأنه يتوجب على هذه القوى المعادية أن تلحق الهزيمة بالأمة العربية بأسرها وهذا من المحال بمكان أن يحدث بالاستناد إلى عوامل قومية بنيوية وعوامل تاريخية.

 

 

وبثقة تامة يصحّ القول أن الوحدة العربية غير متحققة على أرض الواقع، إلا أنها متحققة في العقل العربي والوجدان العربي بشكل أو بآخر، قوة لا ضعفا، ووجودا لا عدما، إلا أنها تبقى حارسا قوميا للأمة وعندما يدير الأعداء معركتهم يأخذون هذه الحقيقة بعين الاعتبار ويبحثون في إلحاق الهزيمة بالأمة العربية منطلقين من هذه الحقيقة، وهذا الذي أثبتت الوقائع أنه ليس سهلا إلا بالإبادة الكاملة وفيه استحالة مطلقة. من هنا نجد أن صمود الأمة العربية عبر قرون طويلة لم يكن صدفة أو ضربة حظ، بل هي الوحدة المتحققة في الذات العربية والتي لن تخرِج العروبة من التاريخ كما حدث لغيرها، ستبقى معه بناء قوميا مكتملا حتى بغياب الدولة القومية وإن طال غيابها ستتحقق.

 

 

 

في الجغرافيا السياسية والصراعات المعاصرة في زماننا

 

جميل ناجي

 

جرت العادة على تعريف الجغرافيا السياسية بوصفها تحليل القوة بهدف تحديد الوزن السياسي للدولة، بما يشمل تركيبها وتكوينها ومعطياتها الطبيعية والبشرية، وقدرتها على مواجهة العقبات والأزمات بناءا على هذا الوزن السياسي.  وهي تهتم بالمساحات الجغرافية للوحدات ذات الحدود، ومجالاتها الحيوية النابعة أصلا من قوتها ووزنها ومكانتها السياسية.  والجغرافيا السياسية مشرّبة أساسا بفكرة الأمة والدولة القومية (وهنا تكمن أهميتها)، فهي تركّز على دراسة الدولة، طبيعتها الجغرافية واستراتيجيتها القومية ودورها في تحقيق الأمن القومي والحفاظ على مصالحها في أرضها وفي الساحة الدولية، ومن جانب آخر تحقيق إرادة الأمة وشخصيتها السياسية (التي تتحدد بصفاتها القومية).

 

أما الجيوبولتيكس، فهو علم مشتق من الجغرافيا السياسية ويقوم على دراسة الوضع الطبيعي للدولة من ناحية مطالبها في مجال السياسة الدولية.  فيما تُعنى الجغرافيا السياسية بالدولة وتحليل بنيتها الجغرافية ومقوماتها. وينظر الجيوبولتيكس إلى التطورات السياسية وعلاقتها بالأرض، وعن اللون السياسي للرقع الجغرافية وتكوينها، وعن الفعل السياسي للدول في دفاعها عن مجالها الحيوي أو توسيع هذا المجال.  وهو علم متغير باستمرار ومرتبط باختلاف الأوضاع الجغرافية والسياسية، وحتى التكنولوجية.  فهو علم علاقات وصراعات دولية بامتياز، ومرتبط بالهوية القومية للجغرافيا، فليس هناك مجال للحديث عن الجغرافيا بمعزل عن وجود الأمم، وفي نفس الوقت تُعتبر القومية الأساس الاستراتيجي-السياسي للدول التي تمتلك “ضميرا قوميا”.

 

لقد قامت أوروبا على الأفكار والسياسات القومية، كوسيلة لتقويض التبعيات الإقطاعية الإقليمية القديمة، في سبيل الوحدة والتمركز، وأثبتت نجاعتها كأداة سياسية في هذا المجال، فأثرها واضح على تشكل الخريطة السياسية اليوم، مقابل الأيدولوجيات الاشتراكية والليبرالية.  ولكن تجدر الإشارة إلى أن شكل هذه الخارطة السياسية محكوم أكثر من أي وقت مضى بسيادة القوة والتجاذبات السياسية للدول الكبرى.  وهذا يدفعنا تماما إلى ربط النطاقات الجغرافية بتحليل النظم الاجتماعية إضافة إلى الاقتصاد السياسي، لكي لا تضيع الصورة للجغرافيا إذا أغفلنا النظر للعناصر الجوهرية الأخرى التي تربط هذه النطاقات سويا.

 

فلا يمكن على سبيل المثال أن نفهم ما يقع من تحولات اجتماعية سياسية في مجتمع معين إلا من خلال إطارأوسع إقليمي وعالمي شامل.  وعلى الجانب الآخر تؤثر بنية الاقتصاد العالمي في الأبعاد الجغرافية السياسية والفعل السياسي.  فالمكان بحدّ ذاته، وما ينتجه من تموضع ومصفوفة مصالح مادية ملموسة، ليس وحده المهم بالنسبة للقطاع الجغرافي خارج سياق منظومة الاقتصاد العالمي في كل مرحلة تاريخية.  فالدول تحدد توجهاتها السياسية والعسكرية تجاه العوامل الجغرافية والبشرية من خلال دورها في الاقتصاد العالمي.  وقوة الدولة ضمن الميزان الجغرافي السياسي وملحقاته، هي التي تؤمن لها السيطرة والوجود ضمن ساحة الاقتصاد العالمي، بما يحقق مصالحها المادية المباشرة.   ولذلك فالعلاقة بين الجغرافيا السياسية والاقتصاد السياسي هي علاقة جدلية تفاعلية متحركة.

 

ولتحليل القوة هناك العديد من العوامل والحيثيات التي أشرنا إليها سابقا، فمساحة الدولة وجغرافيتها، عدد سكانها وجيشها، إنتاجها للمعدن الصلب وقوتها النووية، تعتبر عوامل مهمة في تحليل القوة لكنها غير كافية. فالقوة أيضا مرهونة بالأطراف الأخرى وطبيعة ساحة الصراع.  إنّ أهم عنصر في الاستراتيجية السياسية هو تحديد ساحة الصراع ودائرتها لتغيير ميزان القوى، خاصة بالنسبة للدول الضعيفة.

 

يعتبر الجيوبولتيكس صيغة مختصرة للإشارة إلى عملية عامة لإدارة التنافس الكوني من أجل تحقيق التوازن بين القوى المتصارعة، ويمثّل الميراث الواقعي في العلاقات الدولية.  ويميل الجيوبولتيكس لوصف التنافس السياسي بين القوى الكبرى والأطراف الصاعدة، على عكس الإمبريالية التي تصف علاقات الهيمنة.  وهناك نظريات عديدة انبثقت عن الجيوبولتيكس أهمها نظرية (منطقة المركز) عند ماكيندر، والتي أثّرت على السياسات الاستراتيجية للدول الكبرى حتى عهد قريب.  وتقوم نظرية ماكيندر على اعتبار المنطقة الأوروبية-الآسيوية كمنطقة مركز في العالم، من يسيطر عليها يمتلك أوراق السيطرة على العالم ككل.  وقد شمل التعريف أيضا شمال افريقيا إضافة إلى الرقعة العربية من آسيا.  وقد أضاف الاستراتيجيون الألمان أمثال كارل هوزهوفر وغيره إلى هذا التعريف بما يتماشى مع مصلحة ألمانيا فيما بعد الحرب العالمية الأولى، لينتج ما سُمي فيما بعد بالجيوبوليتيكا الألمانية.  وقد اعتبرت الأخيرة أنّ هناك ثلاث مراكز قوى تتمثل في ألمانيا، اليابان والولايات المتحدة وتضم مناطق طرفية تلتف حول هذه المراكز.

 

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وتقهقر الاستعمار التقليدي، بدا أن هناك صعوداً للفكر الاستراتيجي الأمريكي عامة، خصوصا مع وجود ندّ مسيطر على أوروبا الشرقية متمثلا في الاتحاد السوفييتي. هنا بدا  المشهد وكأنّ منطقة المركز قد حسمت لصالح السوفييت، لكن التاريخ يقول غير ذلك.  لقد اعتبر أعلام الفكر الاستراتيجي الأمريكي، أمثال نيكولاس سبكمان وسول كوهين أن تحييد منطقة المركز أو القلب عند ماكيندر يمكن أن يتم من خلال السيطرة على منطقة الحافّة، ونستطيع أن نخمّن مجددا أن الحافة تشمل إضافة إلى منطقة غرب وشرق آسيا، منطقة (الشرق الأوسط) كما توصف والتي تشمل الوطن العربي.  يبقى أن نشير إلى أن طروحات الجيوبولتيكس اختلفت في قواعد ونقاط الاشتباك في مراحل الحرب الباردة المختلفة وما بعدها، لكن المبدأ نفسه المتمثل في الصراع والتنافس بقيَ ثابتاً.

 

قلنا سابقا أنّ الدول تضع خططها الاستراتيجية فيما يتعلق بالدول الأخرى، ضمن قواعد الجيوبولتيكس، والتي تشمل مستويات ثلاث، محلي وإقليمي وعالمي. فكما أن هناك اعتبارات إقليمية ودولية هناك اعتبار جيوبولتيكي أيضا.  فعلى سبيل المثال لو نظرنا إلى معدّل الأجور المدفوع في دول (المركز)، كشأن استراتيجي أيضا يهدف إلى خلق حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي، لوجدنا أنها ليست مجرد رشوة إلى الطبقة العاملة في دول المركز فحسب،، بل هي ميزان في منظومة الاقتصاد والجغرافيا العالمية في تحديد أسعار السلع وأماكن تصنيعها.  هناك أيضا في الميزان الإقليمي أو الدولي ما يسمى مصالح جيوبولتيكية مشتركة.  فمن منظور جيوبولتيكي صرْف مثلاً يعتبر أي تقارب عربي هدفاً استراتيجياً لأي دولة إقليمية، ويشكل تهديداً للمشاريع الجيوسياسية للدول الإقليمية المجاورة وغيرها (دولة الوحدة والتقارب السوري-العراقي نموذجا).

 

هناك أيضا ميزان جغرافي سياسي محدد للإمبريالية، فالهدف الأساسي وراء الخطط الجيو- استراتيجية للإمبريالية هو الهيمنة، أو خلق الأوضاع التي تُفْضي إلى الهيمنة، كالتفكيك مثلا.  ويذهب البعض إلى اعتبار الإمبريالية كجيوبولتيكس رأس المال العالمي، إضافة طبعا إلى دورها في الاقتصاد العالمي. لكن نستطيع القول أن الامبريالية بوصفها الجيوبوليتيكي، تهدف إلى الحفاظ على مصالح رأس المال، وعلى ضمان سيطرة المركز على الأطراف، بالإضافة إلى كبح جماح الدول الصاعدة (أشباه الأطراف) أيضا.

 

وختاما، إنّ الدول ذات الشأن محكومة في تحرّكها السياسي، بمصالح جيو-استراتيجية محددة تشكل أساس خططها العليا.  وليس هناك أي مجال للخطأ أو الاعتباط.  كما أنّ هناك مشروعاً إمبريالياً ضخماً يتربّص في كل لحظة، لفرض الهيمنة والتفكيك.  ومن هنا، وفي ظل ما تعيشه الأمة العربية، يجب أن يدرك ساسة الدول المركزية، أنّ هناك حاجة ملحّة دائما لضمان الأمن القومي من خلال تهيئة الظروف لواقع جغرافي سياسي أكثر رحابةً، وهذا لا يتم إلا من خلال مشروع قومي عربي موحّد، خارج إطار المفاعيل الإمبريالية.  فكما رأينا، إنّ نظريات التحليل الجيوبوليتيكي كانت تتمحور في غالبها على الوطن العربي كنقطة صراع استراتيجي بين الدول الكبرى عبر المراحل السياسية المختلفة وصولاً إلى يومنا هذا.

 

 

قراءة في كتاب “الماركسية والمسألة القومية” لستالين

 

إبراهيم علوش

 

شكل كتاب “الماركسية والمسألة القومية” الشهير، لمؤلفه جوزيف ستالين(1)، معلماً هاماً في النظرية الماركسية حول الأمة والقومية والوحدة على مدى أكثر من قرن، ولعله شكّل الصياغة الأكثر نفوذاً وتأثيراً للرؤية الشيوعية التقليدية حول المسألة القومية.   وقد لوّن هذا الكتاب الصغير نظرة الكثير من الماركسيين واليساريين حول العالم، وترك أثراً عظيماً في الفكر السياسي اليساري، خصوصاً في الوطن العربي، فنتجت عنه نظرة مشوبة بالحذر والتشكيك في حقيقة وجود الأمة العربية، باعتبارها “أمة في طور التكوين”، لو طبقنا عليها معايير كتاب “الماركسية والمسألة القومية”(2).

 

لذلك كله نعود مجدداً اليوم إلى كتاب ستالين الريادي، الصغير في حجمه والكبير في تأثيره، ولو أنه صدر في العام 1913، محاولين أن نضعه في سياقه السياسي والتاريخي كرد حزبي مسيّس من قبل البلاشفة على دعاة تفكيك الحزب والحركة العمالية ضمن روسيا القيصرية على أسس عرقية وقومية، مما كان سيطيح بكل مشروع الثورة الديموقراطية للإطاحة بالنظام القيصري، ومما كان سيؤخر فرص الانتقال من الثورة الديموقراطية إلى الثورة الاشتراكية.  ولعل من يطالعونه اليوم بإمعان، من سطره الأول لسطره الأخير، واضعين جزءه الأول الذي يقدم تعريفاً للقومية ضمن، وليس بعيداً عن، ذلك السياق، سيجدونه أقرب لمساجلة سياسية مباشرة مع خصوم كان لا بد من دحض مشروعهم السياسي.  فالكتاب فرضته الضرورات المباشرة للعمل السياسي والحزبي للبلاشفة، في بداية العقد الثاني للقرن العشرين، أكثر مما كان تأملاً نظرياً مجرداً صالحاً لكل زمانٍ ومكان، حتى لو تم للتعامل معه فيما بعد على هذا الأساس،  فهو لم يكتب، عندما كتب، ليكون “رأس المال” في مجال نظرية القومية مثلاً، بل ليعالج شأناً خاصاً بلحظة محددة في النضال ضد القيصرية الروسية، وقد أعاد كاتبه ستالين التأكيد على بعض استنتاجاته السابقة، وارتد على بعضها الآخر، في مقالة طويلة في العام 1929، بعنوان “المسألة القومية واللينينية: رداً على الرفاق مشكوف وكوفالتشك وآخرين”(3)، بعدما تغيرت الضرورات السياسية لطريقة تعريف المسألة القومية، ومفهوم الأمة، بعد تأسيس الاتحاد السوفيتي.

 

في البداية لا بد من الإيضاح أن هذه المادة لا تستهدف على الإطلاق المشاركة مع أعداء التجربة السوفيتية  في شيطنة شخصية ستالين أو تشويهها، ونحن في “لائحة القومي العربي” نكنّ أعظم الاحترام لهذه الشخصية التاريخية الفذّة التي أشرفت على نقل الاتحاد السوفيتي إلى مصاف الدول العظمى خلال عشرة أعوام، خصوصاً في مجالي الصناعة الثقيلة والعسكرية، وأدارت على مدى ثلاثة عقود أكبر مواجهة مع الإمبريالية العالمية، وقادت خلال الحرب العالمية الثانية عملية تحرير الاتحاد السوفيتي من الاحتلال النازي وصولاً إلى تحرير أوروبا الشرقية وبرلين، مما عُرف في الاتحاد السوفيتي باسم “الحرب الوطنية العظمى”.  لقد اجتهد ستالين وعمل بما يملكه من أدوات متاحة على تأسيس أول دولة اشتراكية في التاريخ الحديث، فأصاب كثيراً وأخطأ كثيراً، وكان في الحالتين نتاجاً طبيعياً للبيئة شبه المتأخرة ونصف الرأسمالية للإمبراطورية القيصرية الروسية، حتى لو خصمنا المبالغات الهائلة للدعاية المضادة عن ستالين إلى ما بعد عقودٍ من وفاته، كما في مجلد المؤرخ البريطاني روبرت كونكوِست “الإرهاب العظيم”(4) عن حملة التطهير في الاتحاد السوفيتي في ثلاثينيات القرن العشرين، مما يمثل مدرسة في الشيطنة والتشويه ما برحت كل القيادات التاريخية المناهضة للإمبريالية تعاني منها وصولاً لتشويه التجارب القومية في مصر والعراق وسورية في زماننا المعاصر.

 

إذن هذه مراجعة نقدية من موقع صديق مبدئياً وسياسياً، وقد كان الاتحاد السوفيتي بالأعم الأغلب صديقاً للعرب منذ ثورة أوكتوبر الاشتراكية العظمى في العام 1917 حتى انحلاله في العام 1991، أي على مدى أكثر من سبعة عقود بدأت بكشف البلاشفة لاتفاقية سايكس-بيكو السرية لتقسيم الأراضي العربية الواقعة تحت الاحتلال التركي، هذه الاتفاقية التي تمر علينا هذه الأيام مئويتها الأولى ونحن في خضم المزيد من التفكيك، وقد دفع العرب الثمن الأكبر لتفكك الاتحاد السوفيتي، ابتداءً من العدوان على العراق في العام 1991، مروراً باختلال ميزان القوى العالمي لمصلحة الإمبريالية الأمريكية، إلى أن عاد نجم روسيا للصعود من جديد.   لكن الصداقة والتحالف لا يعنيان السكوت عن الأخطاء، ولا يعنيان رفض التعلم من التجارب، ولا يعنيان الذوبان في الحليف، ولعل أكبر تلك الأخطاء وضوحاً، لا بل الخطايا القاتلة، الاعتراف السوفيتي بالكيان الصهيوني في العام 1948، أما الخطأ الآخر الأقل إثارة والأكثر خطورة، حتى من الاعتراف بحق العدو الصهيوني بالوجود، فقد كان الموقف السوفيتي، وبالمعية، موقف الشيوعيين العرب، من قضية الوحدة القومية، الذي يجد أساسه النظري غير المتين بتاتاً في كتاب ستالين: “الماركسية والمسألة القومية” عندما يتم تحويله من بيان سياسي إلى كتاب “نظري”.

 

– لمحة عن خلفية كتاب “الماركسية والمسالة القومية”:

 

صدر الكتاب لأول مرة في ثلاث حلقات في المجلة النظرية الشهرية للبلاشفة Prosveshchenie، وتعني بالروسية “تنوير”(5)، في أعداد آذار ونيسان وأيار من العام 1913، وصدرت تلك الأجزاء الثلاثة تحت عنوان “المسألة القومية والاشتراكية الديموقراطية”، وأعيد جمعها ونشرها في كراس، أو كتاب، في العام 1914، بعنوان “المسالة القومية والماركسية”.  وكان لينين قد كتب في شهر تشرين ثاني 1912 مقالة تدين تفكيك حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي النمساوي- وكانت النمسا آنذاك إمبراطورية كروسيا تضم قوميات متعددة- على أسسٍ عرقية وقومية، بحيث يكون هناك قسم ألماني في الحزب، وآخر تشيكي، ثم سلوفيني، وبولندي، وإيطالي، وروسي، مما أدى لتفكيك الحزب عملياً والحركة العمالية، وخاف لينين أن دعاة “الحكم الذاتي الثقافي” الناشطين في حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي سوف يلعبون الدور نفسه في روسيا القيصرية، وكان أن سافر ستالين للقاء لينين في كراكاو (بولندا)، التي كانت مدينة شبه مستقلة في ظل الإمبراطورية النمساوية آنذاك، حيث اتخذ قرار بقيام ستالين، المسؤول الحزبي البلشفي الجورجي الأصل والقادم من منطقة القوقاز، الذي كان يقيم في باكو أذربيجان منذ العام 1907، بكتابة مادة يحدد فيها الموقف الرسمي للحزب من المسألة القومية.  والمقصود بوضوح طبعاً هو موقف الحزب من المسألة القومية في روسيا القيصرية، وليس في العالم، أو عبر الزمن، بالرغم من الصلة الضرورية ما بين العام العالمي، والخاص النسبي الروسي في بداية القرن العشرين.  لكنّ السبب المباشر الملح الراهن لوضع الكتاب كان الخوف على وحدة الحزب البلشفي والحركة العمالية وقتها من دعاة “الاستقلال الذاتي الثقافي”، والمقصود بالحكم الذاتي الثقافي هو الحكم الذاتي على السكان، وليس على الأرض، بما يشبه ما يمنحه الكيان الصهيوني للسلطة الفلسطينية حالياً.

من كراكاو ذهب ستالين إلى فيينا، عاصمة النمسا، وتمت كتابة معظم مسودة الكتاب هناك في شهر كانون الثاني من العام 1913.

 

هذه النقطة بالذات أثارت حفيظة ليون تروتسكي، خصم ستالين اللدود، وآخرين، ليتهموا ستالين بناءً عليها أنه ليس في الواقع مؤلف “الماركسية والمسألة القومية”، فقد اعتمد على مواد بالألمانية (مثلاً من منتصف الجزء الأول حتى نهاية الجزء الثاني، حيث يرد على منظِّري الحكم الذاتي الثقافي أوتو باور وسبرينغر النمساويين)، وستالين لا يعرف الألمانية!!!  ويقول ليون تروتسكي في السيرة التي كتبها عن ستالين(6)، أن ملامح لينين تبدو واضحة في كتاب ستالين عن المسألة القومية، فقد تلقّى ستالين المادة البحثية ومخطط الكتابة في كراكاو من لينين، ثم ذهب إلى فيينا ليجمع الوثائق ويجري الحوارات، تحت إشراف بوخارين، المنظر الماركسي الروسي الكبير الذي يعرف الألمانية، والذي كان تحت تعليمات من لينين بمساعدة ستالين، ليعود إلى كراكاو بعدها مع مسودة عن الموقف البلشفي من المسألة القومية قام لينين بتحريرها وتعديلها ليظهر نَفَسَه واضحاً جلياً فيها، بحسب تروتسكي.

 

وينفي المؤرخ الأمريكي روبرت تكر من جامعة برنستون، المتخصص بسيرة ستالين، والمعادي للتجربة السوفيتية، تهمة تروتسكي (وإسحق دويتشر وغيره) عن ستالين، قائلاً أنه لا يوجد سبب مقنع للسير مع تروتسكي في تهمته تلك، وأن الأجزاء المهمة من الكتاب التي ترد على البوند (اتحاد العمال اليهود في روسيا وأوكرانيا وليتوانيا)، وعلى الاشتراكيين الديموقراطيين الداعين للحكم الذاتي الثقافي في القوقاز، لم يكن ستالين بحاجة لمساعدة في الترجمة أو الكتابة فيها(7).  والأرجح أن هذا صحيح، فالجزء المتعلق بالمنظِّرين النمساويين لا يمثل أهم ما في الكتاب، لكن الحق يقال أن نمط الكتابة في صفحات كثيرة من كتاب “الماركسية والمسألة القومية” هو نمط سجالي ألمعي نفاذ أقرب لنمط لينين منه لنمط ستالين، التلقيني عامة، والمتسلسل بشكل نمطي، مع العلم أن تروتسكي يتّهم ستالين بالأخذ من نمط كتابة بوخارين الأكاديمي البارد والتفصيلي، وهو ما لا نجده في الكتاب في الواقع.

 

لكن، لو افترضنا جدلاً أن تهم تروتسكي وتلامذته لستالين بتلقّي المساعدة في وضع كتاب “الماركسية والمسألة القومية” من لينين أو بوخارين كلها صحيحة، ما هي المشكلة في الموضوع؟  ما المشكلة في أن يكلف البلاشفة كاتباً غير روسي مثل ستالين بوضع أطروحة عن المسألة القومية في روسيا ترفض تفكيك الحزب والحركة العمالية على أسس عرقية؟!  وفي أن يكون ذلك تحت إشراف مفكري الحزب وبمساعدتهم، بما أن المادة يفترض أن تعبر عن موقف الحزب البلشفي في المسألة القومية في روسيا القيصرية؟!  وما المشكلة أن يضع ستالين المسودة وأن يصححها لينين وأن يسهم فيها بوخارين وأن يتم نشرها باسم شخصية جورجية كستالين، لا باسم الحزب أو باسم كاتب روسي كلينين، لكي لا يساء فهم الأمر من قبل القوميات المختلفة بأنه مسعى روسي لإبقائهم تحت ربقة القيصرية؟  وفي النهاية، بذل ستالين الجهد الأساسي في تلك المسودة، ويمثل تقبله للتصحيح والتعديل والحذف والإضافة بما يخدم مصلحة الحزب دليلاً في الواقع أنه لم يكن تلك الشخصية الديكتاتورية المتعجرفة التي يوصم بوصمها، بل لاعب فريق، مع العلم أن الكتاب، رغم أهميته، لم يظهر في أيٍ من مجموعات الأعمال المختارة لستالين في حياته، بل أعيد نشره منفرداً في العام 1934 تحت عنوان “الماركسية والمسألة القومية والكولونيالية”، وظهرت الطبعة الإنكليزية منه تحت العنوان نفسه في العام 1935.

 

… وهذا كله يبقى صحيحاً حتى لو لم يتفق المرء مع ما ذهب إليه ستالين في تعريف الأمة، خصوصاً خارج سياق روسيا في العام 1913، وخصوصاً في السياق العربي.  وتأتي بصمة لينين وبوخارين فيه لتعطيه وزناً  تاريخياً وأيديولوجياً أكبر بالضرورة.  ولكن لا شك أن إضافة “كولونيالية” لعنوان الكتاب، من دون تغيير شيء في مضمونه، يمثل لحظة الانزلاق النظري الذي تحول فيها إلى كارثة سياسية عابرة للمراحل التاريخية.

 

– الداعي لوضع تعريف للأمة:

 

يوضّح ستالين منذ السطور الأولى في الكتاب، قبل الدخول في تعريف القومية، أن النزعات القومية في صفوف الطبقة العاملة في روسيا القيصرية تصاعدت بمقدار ما: 1) تراجعت الحركة الثورية، وتقدمت الثورة المضادة، 2) انتعشت نزعة التمثيل البرلماني في الدوما، وحرية النشر والتعبير، 3) تطورت الرأسمالية في روسيا، مما ساعد على تبلور القوميات.  ويعطي ستالين هنا أمثلة محددة على تلك النزعات القومية: انتشار الصهيونية بين اليهود، انتشار النزعة الإسلاموية بين التتر، انتشار التعصب القومي في بولندا، ثم ازدهار الحس القومي بين الأرمن والجورجيين والأوكرانيين، وصعود “العداء للسامية” (كراهية اليهود).  ويضع بناءً عليه هدفاً محدداً هو محاربة “تلك”، مع التشديد على “تلك” النزعات القومية، التي لا يمثل بعضها في الواقع نزعات قومية على الإطلاق، بل طائفية دينية بغلاف قومي، ويمثل بعضها الآخر نزعة “هوياتية” محلية.  وقد جعل ستالين “البوند” (اتحاد العمال اليهود في روسيا وأوكرانيا وليتوانيا) منذ البداية على رأس بنك أهدافه: “البوند، الذي كان يشدد سابقاً على المهمات المشتركة، بدأ الآن يعطي الأفضلية لأهدافه القومية المحددة والخالصة: فقد ذهب إلى حد اعتبار إعلان “مراعاة حرمة يوم السبت” و”الاعتراف باللغة اليديشية” مسألة صدامية في حملته الإنتخابية”.  ومن هنا ينطلق للتأكيد على ضرورة محاربة “تلك” النزعات القومية، في ذلك السياق بالذات، من أجل الحفاظ على وحدة الطبقة العاملة والصراع الطبقي في روسيا القيصرية، باستخدام سلاح الأممية، لمواجهة الاشتراكيين-الديموقراطيين المزعومين من ذلك النوع الذي يخوض حملة انتخابية عنوانها “مراعاة حرمة يوم السبت” و”الاعتراف باليديشية”(8)!

 

من الواضح إذن أن سياق محاربة القومية بسلاح الأممية المجرب، كما يصفه ستالين، يختلف تماماً هنا، لا بل يتناقض تماماً، مع دعوات “الاشتراكيين الصهاينة” الذين تحول بعضهم إلى توظيف سلاح “الأممية” هذا لشطب الحس القومي العربي وشطب عروبة فلسطين باسم تلك الأممية!  فالحديث كان بالأساس موجهاً ضدهم.  ومحور كتاب ستالين هو الرد على البوند، متهماً إياهم بسرقة أفكار الاشتراكيين الديموقراطيين النمساويين حول الحكم الذاتي الثقافي والذين يرد عليهم أولاً، قبل الانتقال للتركيز على البوند، لينتقل بعد ذلك للرد على الاشتراكيين الديموقراطيين في القوقاز بتهمة التأثر بأفكار البوند، وهي البنية العامة للكتاب.  أما الكاتبان النمساويان اللذان يرد عليهما ستالين فأحدهم أوتو باور، الذي أصبح فيما بعد زعيم حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي النمساوي، وهو يهودي، كما نستطيع أن نجد من سيرته على النت، أما الآخر، وهو ر.سبرينغر، فلم أتمكن من معرفة إذا كان يهودياً أم لا.

 

– تعريف الأمة عند ستالين:

 

يضع ستالين، في الجزء الأول من الكتاب، بعد معالجة ما يعتبره كلّاً من عناصر الأمة على حِدة، التعريف التالي للأمة: “الأمة هي جماعة مستقرة من الناس، متشكلة تاريخياً، تكونت على أساس وجود لغة مشتركة، رقعة أرض مشتركة، حياة اقتصادية مشتركة، وتكوينٍ نفسيٍ مشترك يعبر عن نفسه بثقافة مشتركة”.

 

إنّ ما يقدمه ستالين هنا يتضمن بعض التقاطعات مع تعريف الأمة حتى عند غير الماركسيين، لكن النقطة الخلافية الكبرى معه هي ربط وجود الأمة بنمط الإنتاج الرأسمالي، ويظهر هذا الجزء الإشكالي، بوضوح، في الفقرة الأولى من الجزء الثاني من كتاب ستالين تحت عنوان “الحركة القومية” حيث يؤكد: “ليست الأمة فئة تاريخية فحسب، بل هي فئةٌ تاريخية منتمية لحقبة محددة، حقبة الرأسمالية الصاعدة.  إن عملية الإجهاز على الإقطاعية ونمو الرأسمالية هي في الآن عينه عملية تشكل الناس في أمم.  وقد كانت تلك هي الحال، مثلاً، في أوروبا الغربية.  فقد تشكل البريطانيون والفرنسيون والألمان والإيطاليون وغيرهم في أمم مع التقدم المظفر للرأسمالية وانتصارها على التفكك الإقطاعي”.  فالأمة عنده هي ظاهرة تاريخية ذات بداية ونهاية ترتبط ببداية ونهاية الرأسمالية، أي أنها لم تكن موجودة قبل الرأسمالية، ولن تبقى بعدها، أي أن الأمم الأوروبية الغربية لم تكن أمماً قبل الرأسمالية، ولما يتحول غيرها بعد، ممن لم يمر بطور نمط الإنتاج الرأسمالي، إلى أمم!  كما أن الحركة القومية هي حركة برجوازية، صغيرة أو كبيرة، تجارية أو صناعية، تسعى لتجيِّش العمال والفلاحين في صفوفها!

 

وهي زبدة الكلام بالنسبة لنا، خصوصاً عندما يتم الاستنتاج أن العرب ليسوا أمة لأنهم لم ينتقلوا إلى نمط الإنتاج الرأسمالي، وهو استنتاج خائب على المستوى التاريخي، وعلى مستوى تطبيق النص الستاليني أعلاه، مع أن ستالين لم يذكر العرب من قريب أو بعيد، ولم يكن هذا التطبيق جزءاً من أجندته أو أجندة الحزب البلشفي عند وضع الكتاب…  كما أنه كان، ولينين، وبقية البلاشفة، مع حركات التحرر القومي في مواجهة الإمبريالية ومن الداعمين الحقيقيين لحركات الاستقلال في الدول المستعمرَة وشبه المستعمرة.  فالحديث إذن يبقى في إطار أجندة خاصة هي الحفاظ على وحدة الحزب والحركة العمالية والطبقة العاملة في روسيا القيصرية، لا بالعام المجرد.  بالرغم من ذلك، يمثل اعتبار الربط الزائف أعلاه، بين تشكل الأمم ونمط الانتاج الرأسمالي، كنظرية عامة للقومية في العصر الحديث، إمكانية حقيقية لا يمكن تجاهلها، وبالتالي لا بد من الرد عليها.

 

ورب قائل:  أفلا يشفع للعرب، أو لغيرهم، توفر بقية عناصر تعريف الأمة عند ستالين مثل اللغة المشتركة والرقعة الجغرافية المشتركة والثقافة المشتركة؟  والجواب هو كلا، بحسب ستالين، إذ يجب أن تتوفر تلك العناصر معاً، معاً، لا بالأغلبية، ليتحقق شرط وجود الأمة!  وكما يضع ستالين الفكرة في الجزء الأول من الكتاب: “يتوجب التأكيد أن أياً من الخصائص أعلاه، إذا ما أخذت كلٌ على حدة، ليست كافيةٌ لتعرِّف أمة.  أكثر من ذلك، يكفي أن تكون واحدة من تلك الخصائص غائبةً لتتوقف الأمة عن كونها أمة”!  ويبدو التعريف صارماً أكثر مما ينبغي هنا، ولكن ليس إذا انتبهنا جيداً للفقرة التالية مباشرة التي تظهر الهدف من تلك الصرامة: “من الممكن تصور أناس يمتلكون “شخصية قومية” مشتركة، ممن لا يمكن القول، بالرغم من ذلك، أنهم يشكلون أمة واحدة إذا كانوا مفككين اقتصادياً، يعيشون في مناطق مختلفة، يتحدثون لغاتٍ مختلفة، وإلى ما هنالك.  وهذه، على سبيل المثال، هي حال اليهود الروس والغاليشيين والأمريكيين والجورجيين والقوقازيين، الذين لا يشكلون برأينا أمة واحدة”.

 

ويستمر ستالين على هذا المنوال تكراراً على مدى فقرات طوال: “اليهود يمتلكون طبيعة مشتركة لكنهم ليسوا أمة”، وفي الرد على أوتو باور وعلى ر. سبرينغر يتركز الرد على فكرة انفصال الأمة عن الجغرافيا عندهما، وانتقالها إلى حيز الطبيعة النفسية المشتركة، وفكرة المصير المشترك المنفصل عن الوجود المادي للأمة، التي تجد أقصى تجلياتها عند يهود أوروبا الشرقية.  والاستهداف واضح تماماً: مشروع البوند للانفصال التنظيمي، والجرثومة الانفصالية التفكيكية التي نشروها عبر منظمات الحزب وقواعده العمالية.   وقد كان اليهود كتلة مسيّسة منتشرة بالملايين عبر أصقاع أوروبا الشرقية…  وفي الجزء الخامس من الكتاب،  المعنون “البوند وقوميته وانفصاليته”، يقول ستالين عن مشروع البوند بإقامة حكم ذاتي لليهود: “الحكم الذاتي يتم اقتراحه لأمة مستقبلها غير مضمون ووجودها لا يزال بحاجة لإثبات”، وهم بالتحديد من يقول عنهم ستالين أنهم أمة يحتاج وجودها لإثبات، ولا يقولها عن غيرهم من القوميات التي تتشكل منها روسيا القيصرية.  واعتراضه المفهوم تماماً ليس على الحكم الذاتي لليهود فحسب، بل على وجود منظمة مستقلة للعمال اليهود، وعلى اعتبار البوند لذاته “ممثلاً شرعياً وحيداً” للعمال اليهود.  وهو ما جعل ستالين يتهم البوند مباشرة بأنه يريد أن يعيد تنظيم (تفكيك) الحركة الاشتراكية-الديموقراطية الروسية على “أسس فيدرالية قومية” لكي يؤمن لنفسه وجوداً تنظيمياً مستقلاً كممثل للعمال اليهود، لأن بديل ذلك هو حل البوند نفسه.  ولكن كل تلك الأجزاء في كتاب ستالين يتم إهمالها ليتم أخذ نصف الفصل الأول منه حول تعريف الأمة خارج السياق تماماً، وليتم الاستنتاج بعدها أن العرب، وغيرهم ممن لم يمر بطور التطور الراسمالي، ليسوا أمة بعد!

 

أما الحل البلشفي للمسألة القومية، فهو بحسب كتاب ستالين: 1) الاعتراف بحق الأمم بالانفصال من حيث المبدأ، مع أخذ الظرف السياسي بعين الاعتبار، بمعنى أن ليس كل مطلب قومي يتوجب بالضرورة تأييده بغض النظر عن مصلحة الطبقة العاملة في تلك القومية أو بشكلٍ عام،  2) اقتراح فكرة الحكم الذاتي على الأرض، في المقاطعات التي تكثر فيها عناصر قومية محددة أو أكثر، كصيغة لحل التناقضات بين القوميات، وليس الحكم الذاتي الثقافي، على السكان، الذي يشمل الأفراد حيثما كانوا، من دون الأرض، مما يفكك الحزب والحركة الشعبية ويقوّي الحكم القيصري ولا يمسّه بسوء.  ويشكل جزءاً كبيراً من الكتاب سجالاً ضد فكرة الحكم الذاتي الثقافي، مما لا يعنينا كثيراً هنا، سوى أنه مشروع البوند ومن تأثر به، ومن ينظِّر له مثل الكاتبين البونديين كوسوفسكي وغولدبلات.   والفصل الأخير من كتاب ستالين، الذي يقدم كخلاصة محاجة طويلة لوحدة الحركة العمالية واليسارية في روسيا باسم الأممية، عنوانه “المسألة القومية في روسيا”، فهو يتناول خاصية سياسية روسية محددة في لحظة محددة، لا يمكن تعميمها بالمطلق على المسألة القومية في كل زمانٍ ومكان في العصر الحديث، ولا يدّعي ذلك أصلاً.

 

– مقالة ستالين “المسألة القومية واللينينية”:

 

النقطة الأخيرة بالذات، حول عدم إمكانية تطبيق حل المسألة القومية في كل ظرف سياسي بشكل واحد موحد، هي ما يتطرق إليه ستالين بعد ستة عشر عاماً، بعد تأسيس الاتحاد السوفيتي، في مقالته “المسألة القومية واللينينية” المنشورة في العام 1929.  يقول ستالين: “إن المسألة القومية هي جزءٌ من المسألة العامة لتطور الثورة، ففي المراحل المختلفة للثورة تكون للمسألة القومية أهدافٌ مختلفة، مقابلة لطبيعة الثورة في كل لحظة تاريخية، وسياسة الحزب حول المسألة تختلف بناءً على ذلك”.

 

ومن يقرأ مقالة ستالين “المسألة القومية واللينينية” يلاحظ الفرق في طريقة كتابتها مقارنة بكتابه “الماركسية والمسألة القومية” المذكور أعلاه.  فليست طريقة حل المسألة القومية هي وحدها ما اختلف، وهو أمر مفهوم ومبرر تماماً، بل أن اللهجة السياسية إزاء وجود الأمم اختلفت.  فالتأكيد الآن على وجود الأمم، وليس على نفي وجودها.  فمنذ البداية ثمة ردودٌ قاطعةٌ على من طالبوا بتشديد شروط وجود الأمة باعتبار وجود الدولة القومية، دولة الوحدة، شرطاً خامساً من شروط أو خصائص الأمة التي لا تتم الأمة بدونها.  يردّ ستالين بقوة: هل نعتبر أن الإيرلنديين لم يصبحوا أمة إلا بعد تشكيل “الدولة الإيرلندية الحرة، ولم يكونوا أمة قبل ذلك؟  هل نعتبر أن النرويجيين لم يكونوا أمة قبل انفصال النرويج عن السويد، وأنهم أصبحوا أمة بعد ذلك الانفصال فقط؟  هل نعتبر أن الأوكرانيين لم يكونوا أمة عندما شكلت أوكرانيا جزءاً من روسيا القيصرية، وبأنهم أصبحوا أمة بعد انفصالهم عن روسيا السوفيتية، لكنهم توقفوا مجدداً عن كونهم أمة بعد توحيدهم لجمهورية أوكرانيا السوفيتية مع الجمهوريات السوفيتية الأخرى لتشكيل اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية؟!”

 

في مقالة لينين عن المسألة القومية في العام 1929 اختفت الإشارات لليهود تماماً.  فالبوند لم يعد قيمة سياسية تذكر.  وبدلاً من الحديث عن بداية نهاية القومية مع نشوء الاشتراكية، بحسب النظرية التي تعتبر القومية ظاهرة تاريخية ذات بداية ونهاية ترتبط بشكل وثيق ببداية ونهاية الرأسمالية، نجد تأكيداً على إمكانية نشوء أمم أشتراكية جديدة، وازدهار القوميات واللغات والثقافات القومية في ظل الاشتراكية بعد أن زال عنها نير الاضطهاد القومي.  وكما يضع ستالين المسألة:  “إن فترة انتصار الاشتراكية في بلد واحد لا تخلق الشروط الضرورية لاندماج الأمم واللغات القومية، على العكس من ذلك، تخلق تلك الفترة شروطاً موائمة لنهضة وازدهار الأمم التي كانت في السابق مضطهدة من الإمبريالية القيصرية والتي تمّ تحريرها الآن من نير الاضطهاد القومي من قبل الثورة السوفيتية”.  وهذا الكلام مهم جداً بالنظر إلى أن النظرية الماركسية تتنبأ باندماج الأمم وبزوال القوميات مع انحلال نمط الإنتاج الرأسمالي ودخول نمط الإنتاج الاشتراكي على مسرح التاريخ.  يقول ستالين رداً على ذلك بأنه مؤجل إلى ما بعد انتصار الاشتراكية في كل بلدان العالم ووضع أسس النظام الاقتصادي الاشتراكي على نطاق عالمي… لا بأس!  فقد أثبتت التجربة السوفيتية الممتدة أكثر من سبعة عقود، وتجارب الأمم على مدى العصور، أن الأمم لا تعيش ولا تموت بقرار سياسي، ولا باجتهاد شخصي أو أطروحة نظرية، وأن الأمم حقيقة اجتماعية-تاريخية تكوّنت على مدى آلاف السنين، وأنها تتخذ أشكالاً مختلفة في المراحل التاريخية والأنظمة الاقتصادية-الاجتماعية المختلفة، لكن الرأسمالية لا تخلقها، والاشتراكية لا تفنيها، بل يمكن أن تسهم بتحولها من شكل إلى آخر.

 

وإذا كانت الطريقة الصحيحة لطرح المسألة القومية عند ستالين تختلف باختلاف المرحلة السياسية، فإنها يمكن أن تختلف باختلاف النطاق الجغرافي أيضاً.  لكنه في مقالة “اللينينية والمسألة القومية” لعام 1929 يكرر التأكيد على فكرة ربط وجود الأمم بنشوء الرأسمالية، وهي الفكرة الإشكالية التي تضع وجود الأمم المتأخرة والتابعة والمستعمرة من قبل روسيا القيصرية، والتي يفترض أنها ازدهرت في ظل الاشتراكية موضع شك، كونها لم تمر بمرحلة التطور الراسمالي، فأي شكل من نمط الإنتاج الرأسمالي كان عند التتر وشعوب القوقاز، وعند الكثير من قوميات الاتحاد السوفيتي السابق؟  لكن ستالين يصرّ:

 

“كيف يمكن أن تنشأ وتوجد أمم قبل الرأسمالية، في الفترة الإقطاعية، عندما كانت البلدان منقسمة إلى مقاطعات منفصلة مستقلة، لا تربطها معاً روابط قومية، لا بل تؤكد على إنكار ضرورة مثل تلك الروابط؟  … لم تكن هناك أمم في المرحلة ما قبل الرأسمالية، ولم يكن من الممكن أن يكون، لأنه لم تكن توجد بعد أسواق قومية ومراكز ثقافية قومية، وبالتالي، لم تكن توجد أيٌ من العوامل التي يمكن أن تنهي التفكك الاقتصادي لشعب ما، وأن تلم أجزاءه المفككة حتى هذه اللحظة في كلٍ قوميٍ موحد”.

 

ويتابع ستالين على المنوال نفسه:  “بالطبع، لم تسقط عناصر وجود الأمة، مثل اللغة والأرض والثقافة المشتركة، إلخ…، من السماء، بل كانت تتشكل تدريجياً، حتى في المرحلة ما قبل الرأسمالية.  لكن هذه العناصر بقيت في حالة بدائية، وظلّت في أحسن الأحوال، مجرد احتمالية كامنة، أي أنها شكلت إمكانية تشكيل أمة في المستقبل، إذا توفرت الظروف الملائمة.  ولم تصبح مثل هذه الاحتمالية الكامنة واقعاً إلا في فترة الرأسمالية الصاعدة، مع توفر سوق قومية ومراكزها الثقافية والاقتصادية”.

 

للأسف تستند مثل هذه التعميمات إلى فقر معرفي بتاريخ الأمم القديمة، مثل العرب وفارس والصين وغيرها، التي كانت توجد فيها مراكز اقتصادية وثقافية قومية الطابع، ودولٌ مركزية قومية الطابع، قبل أن يفرض نمط الإنتاج الرأسمالي الحديث نفسه على نطاق عالمي بقرون.  وفي حالة العرب بالذات بدأ التفكك الإقطاعي مع هيمنة الأعاجم على الخلافة في نهاية القرن العاشر، ولم تكتمل عملية التفكك إلا بعد مرور ما ينيف عن قرنين، لكن ما سبق ذلك، في العصر العباسي الأول خصوصاً، كان رأسمالية تجارية صاعدة، ومراكز تجارية وثقافية ذات طابع قومي-كوسموبوليتي، في العراق خصوصاً، باعتباره مقر الخلافة.  والحقيقة أن التعميم المطلق عن التفكك الإقطاعي باعتباره نفياً لحقيقة وجود الأمة مسألة خلافية بحد ذاتها، وبنفس الطريقة التي رفض فيها ستالين اعتبار الدولة القومية شرطاً من شروط وجود الأمة باعتبار أن وقوع أمة ما تحت الاحتلال وانحلال دولتها لا ينفي وجودها القومي، وأن استقلالها لا يعني نشؤوها من العدم، يمكن أن نسأل: هل يعني وقوع الأمة العربية تحت ظل الإقطاع السلجوقي، بعد وجود بدايات رأسمالية تجارية ومراكز ثقافية، كما في البصرة مثلاً، وأدبيات قومية في الرد على الشعوبيين (كما عند الجاحظ وغيره مثلاً)، أن الأمة العربية توقفت عن الوجود؟  وهل يعني اتخاذ الاحتلال العثماني للأراضي العربية شكلاً خراجياً إقطاعياً أن الأمة التركية لم تكن موجودة خلال ذلك الاحتلال الذي اتخذ، تحت ستار الدين، طابعاً قومياً؟  وهل يعني وجود دولة مركزية صينية منذ القرن الثالث قبل الميلاد، ظلّت تتفكك وتتوحد حتى مجيء الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر، أن الصين كانت رأسمالية منذ القرن الثالث قبل الميلاد؟  وإذا كانت الشعوب التي لم تعش في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي ليست أمة، لماذا خاضت الصين مثلاً ثورات مستمرة ضد الاستعمار الأوروبي على مدى أكثر من قرن حتى تحررت؟

 

ثم، هل الرأسمالية الحديثة وحدها ما يزيل التفكك والتقوقع الإقطاعي؟  وهل يعني قيام الرأسمالية الأوروبية بضرب التجربة التنموية الوحدوية النهضوية لمحمد علي باشا في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر مثلاً أن الأمة قد كفّت عن الوجود، أم أن المشروع القومي لتأسيس دولة الوحدة هو الذي تلقّى طعنة نجلاء؟  وهل كان مشروع النهضة هو الذي أنتج الرأسمالية الصناعية في اليابان في القرن التاسع عشر، أم أن الرأسمالية هي التي أنتجت المشروع النهضوي الياباني كما حدث في أوروبا؟  وماذا عن الشعوب التي عاشت مثل العرب على طرق الهجرات والغزوات والقوافل التجارية منذ عدة ألفيات لتتشكل فيها دول مركزية كبيرة الحجم مثل الدول التي شكلها البابليون والآشوريون والفراعنة والقرطاجيون؟

 

الحقيقة أن التعميمات العشوائية لا تشكل نظرية في القومية أو في غيرها.  وعلى من يرغب بمتابعة تاريخ الرأسمالية التجارية في الوطن العربي أن يدرس مثلاً الفصل الثالث من كتاب عبد العزيز الدوري، مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي(9)، المعنون “المجتمع التجاري وازدهار المدن”، الذي جاء فيه مثلاً عن العصر العباسي الأول: “وتكونت طبقة من التجار تمتلك الأموال الطائلة، وقد بلغت ثروات البعض الملايين.  وظهرت فئة رأسمالية نشطة، وكوّنوا أنواعاً من الشركات، مثل شركة الضمان (تشبه الشركة المساهمة)، وشركة المفاوضة (حيث تبقى رؤوس الأموال مستقلة)، وشركة الوجوه، وتكون اختصاصاً بين التجار، من المجهز (الذي يستعين بالوكلاء ويجمع البضائع من جهات عدة من دون أن يغادر مركزه)، والركاض (وهو الكثير الأسفار المتعامل مع بلدان مختلفة بعد دراسة أوضاعها)، والخزان (الذي يركز على نوع يشبه الاحتكار)، إضافة إلى السماسرة” (ص. 57).    ونلاحظ هنا فكرة نشوء نواة الشركات المساهمة التي تدرِس كتب الاقتصاد الحديث أنها نشأت في مرحلة متقدمة من تطور الرأسمالية في مننصف القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة وبريطانيا، وهو ما اعتبره لينين في كتاب “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” أنها طريقة رأس المال الكبير في السيطرة على رأس المال الصغير.

 

يضيف الدوري: “ومما يسّر نشاط التجارة ووسعها، نشاط المؤسسات المالية والصيرفية.  فقد كان للصرافين دورٌ مهم في تسليف التجار، وفي تنشيط معاملاتهم، وفي توسيع نطاق معاملات الائتمان، بل أننا نجد التعامل التجاري في بعض الموانئ كالبصرة يتم عن طريق الصرافين الذين يسددون الحسابات بين التجار من دون اضطرارهم إلى الدفع المباشر في كل صفقة تجارية.  وكان للصرافين مراكز خاصة بهم أحياناً مثل درب عون في بغداد، وحلقة أصحاب العينة في البصرة” (ص. 58).  وعن الصناعة يقول الدوري أنها كانت تعتمد على الورش والمصانع الصغيرة، إلى جانب نشوء مصانع للدولة “واسعة نسبياً، كدور الطراز، التي تصنع البنود والأعلام والملابس الرسمية، ومثل دور السكة وضرب النقود.  كما كانت هناك مصانع أهلية كبيرة كمصانع الزجاج ومصانع النسيج” (ص. 59).

 

رغم ذلك، لا يجوز أن نستند إلى مثل هذه الحيثيات لاعتبار العرب أمة، كما أن إجهاض النهضة الرأسمالية التجارية في الوطن العربي التي نشأت في القرن العاشر، أي قبل أوروبا بخمسمئة أو ستمئة عام، لا يجوز اعتباره دلالة على انحلال الأمة العربية.  كما أن اعتبار ستالين أن جورجيا، الأمة التي ينتمي إليها، لم تصبح أمة إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد إزالة نظام القنانة، وتطور الاتصالات، ودخول الرأسمالية (التي يقول في موضع آخر أنها كانت تعيش هيمنة تجارية أرمنية، كانت تقبع بدورها في ظل هيمنة روسية)، لتنتقل إلى الاشتراكية، ولتخرج من عباءتها في العام 1990، ليس بالضرورة تصنيفاً علمياً لمراحل تطور الأمة الجورجية على مرّ الزمن.  فلا يمكن أن تكون الأمة الجورجية قد نشأت خلال بضع عشرات السنوات ابتداءً من نهاية القرن التاسع عشر، وإن كان مدى التطور الرأسمالي في جورجيا مسألة مشكوك بأمرها فعلياً، على الأقل بالمقدار الذي يمكن أن ينتج أمة بحسب مقاييس ستالين.  وهو تفسير اقتصادوي ميكانيكي للتاريخ في أحسن الأحوال، ولو كان الربط بين مدى تطور الرأسمالية ونشوء الدولة القومية، كما في أوروبا الغربية في القرنين الثامن والتاسع عشر، لكان الطرح أكثر إقناعاً بكثير.

 

نختتم بمقتطف من المجلد الأول للأعمال الكاملة للينين أورده ستالين في مقالة “اللينينية والمسألة القومية” ليدلل على صحة وجهة نظره:  “وهكذا، الروابط القومية هي استمرار وتعميم للروابط العشائرية!  السيد ميخائلوفسكي، كما هو واضح، يستعير أفكاره عن تاريخ المجتمع من القصص الخيالية التي تدرس لأطفال المدارس.  فتاريخ المجتمع – بحسب مبدأ دفتر الرسم هذا – هو أن العائلة جاءت في البداية، كنواة لكل المجتمع… ثم نمت العائلة إلى قبيلة، والقبيلة تحولت إلى دولة.  وإذا كان السيد ميخائلوفسكي يكرر مثل هذا الهراء الصبياني، فإن ذلك يثبت فقط – بعيداً عن أي شيء آخر – بأنه لا يمتلك أدنى فكرة حتى عن مجرى التاريخ الروسي.  فبينما يمكن أن يتحدث المرء عن الحياة العشائرية في روسيا القديمة، لا يوجد أي شك بأنه في القرون الوسطى، حقبة القياصرة الموسكوفيين، لم تعد تلك الروابط العشائرية موجودة، والمقصد أن الدولة لم تعد قائمة على الإطلاق على الوحدات العشائرية، بل على الوحدات الجغرافية: فملّاك الأراضي والأديرة باتوا يأخذون فلاحيهم من أماكن مختلفة، ولذلك فإن المجتمعات المتشكلة بهذه الطريقة شكلت وحدات جغرافية صرف.  لكن يصعب أن يتحدث المرء عن روابط قومية بالمعنى الحقيقي للكلمة في ذلك الوقت: فالدولة كانت مقسّمة إلى أراضٍ منفصلة، على شكل مقاطعات أحياناً، ظلّت تحتفظ بآثار قوية من استقلاليتها السابقة، فقد كان لها خصائص إدارية وقواتها الخاصة أحياناً (وكان النبلاء المحليون يذهبون  للحرب على رأس كتائبهم الخاصة)، وكان لتلك المقاطعات حدودها الجمركية الخاصة، وإلى ما هنالك.  فقط الفترة الحديثة من التاريخ الروسي (ابتداءً من القرن السابع عشر تقريباً) تتميز بالاندماج الفعلي لكل تلك المناطق، الأراضي، والمقاطعات، في كلٍ واحد.  هذا الاندماج، أيها السيد ميخائيلوفسكي المحترم بشدة، لم يتمخض عن الروابط العشائرية، ولا حتى عن استمراريتها وتعميمها:  لقد تمخّض عن نمو التبادل بين المناطق، والنمو التدريجي للتداول السلعي وتركّز الأسواق المحلية الصغيرة في سوق واحدة لكل روسيا.  وبما أن قادة وسادة هذه العملية كانوا التجار الرأسماليين، فإن خلق مثل هذه الروابط القومية لم يكن أكثر من خلق روابط برجوازية”.

 

لينين هو لينين.  ومستوى الاحتراف في خطابه والعمق في طرحه والحيوية في نقده مدرسة سياسية عابرة للأجيال.  وأسمح لنفسي أن أقول أن خرافة عائلة-قبيلة-أمة المسطّحة سبق أن نقدتها عند الدكتور عصمت سيف الدولة الذي يتبناها أيضاً، وذلك في كتاب “أسس الفكر القومي العربي”(10) (ص: 69-71)، وهي أطروحة لاتاريخية بالفعل، فلا مشكلة فيما يذهب إليه لينين هنا أبداً، ونشوء الأمم يتم على أساس ثقافي، لا عنصري ولا عشائري، ولكن لا يعني وجود عشائر، بالمقابل، عدم وجود الأمم.  كما أن المشكلة هي اعتبار لينين أن الرأسمالية التجارية، الحديثة تحديداً، التي تمخضت عنها لاحقاً صناعة كبيرة، هي وحدها ما يحقق الاندماج من خلال التداول السلعي ونشوء السوق الكبيرة، وأنها بالتالي من يصنع الروابط القومية.  فالتداول السلعي واسع النطاق، وعلى نطاق دولي، لا القومي فحسب، نشأ منذ ما قبل “طريق الحرير” من الصين إلى أوروبا، ونشأ عندنا في مكة ورحلة الشتاء والصيف قبل الإسلام، ونشأ عبر المراكز التي أسسها الفتح العربي الإسلامي من البصرة إلى القيروان، ونشأ قبل أن تنحلّ الروابط العشائرية التي عبّرت عن نفسها بشكل قومي في معركة ذي قار قبل الإسلام مثلاً، ونشأ في العروبة القديمة النشاط التجاري الواسع للفنيقيين، من الشاطئ السوري إلى قرطاجة.  ولا شك أن التداول السلعي الحديث واسع النطاق يعزز الاندماج والروابط القومية، ويخلق مصلحة للبرجوازية الصاعدة بتبنّي مشروع الوحدة القومية، لكنه ليس الشكل الأول أو الوحيد لتعزيزها، أو لتبنّي مشروع الوحدة، ولو افترضنا أنه كذلك، فقد كنّا السبّاقين إليه.  ولو بحثنا في تاريخ روسيا القديم لوجدنا مثالاً على الصراع الذي خاضه الروس بصفتهم القومية مع دولة اليهود الخزر على شاطئ بحر قزوين من خلال دولة “رس كييف” التي حطمت دولة اليهود الخزر تحت قيادة سفياتوسلاف إيغورفيتش في العام 968 أو 969 للميلاد(11).   والنظرة اللاتاريخية تكمن في اعتبار الشكل البرجوازي للوحدة القومية الأوروبية، الشكل الوحيد للوحدة، والأسوأ، الشكل الوحيد للأمة، فيما هو أحد تجلياتها الممكنة فحسب.

 

الهوامش:

 

  • للمزيد حول السيرة الذاتية لستالين، انظر “جوزيف ستالين: الرجل الحديدي”، في عدد 1 تشرين الأول 2015 من مجلة “طلقة تنوير”، صفحة 25، على الرابط التالي:

http://www.qawmi.com/wp-content/uploads/2015/09/%D8%B7%D9%84%D9%82%D8%A9-%D8%AA%D9%86%D9%88%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF-17.pdf

 

  • كل المقتطفات والإحالات من كتاب “الماركسية والمسألة القومية” لستالين تستند في هذه المراجعة للنص الإنكليزي المنشور على الرابط التالي:

https://www.marxists.org/reference/archive/stalin/works/1913/03.htm

 

  • كل المقتطفات والإحالات من مقالة “المسألة القومية واللينينية: رداً على الرفاق مشكوف وكوفالتشوك وآخرين” لستالين تستند في هذه المراجعة للنص الإنكليزي المنشور على الرابط التالي:

https://www.marxists.org/reference/archive/stalin/works/1929/03/18.htm

 

 

  • Conquest, Robert, “The Great Terror”, The Macmillan Company; First American edition (1968)

 

  • صدرت مجلة “تنوير” من سانت بطرسبرغ من كانون الأول 1911 حتى حزيران 1914، قبيل الحرب العالمية الأولى، كمجلة شهرية مرخصة، وصدر 27 عدداً منها بالمجمل، وكان يرأس تحريرها فريق بلشفي على رأسه لينين من المهجر، وقد وصل توزيع بعض أعدادها إلى 5000 نسخة، وترأس قسمها الأدبي الروائي المعروف مكسيم غوركي، وفي النهاية تم حظرها من قبل الحكومة القيصرية، وكان لينين قد بادر بتأسيسها بعد حظر مجلة “فكر” النظرية الشهرية التابعة للحزب أيضاً (المصدر: The Great Soviet Encyclopedia, 1979). والرجاء الانتباه أن هاتين المجلتين النظريتين شيء مختلف عن الجريدة السياسية للحزب، مثل برافدا (الحقيقة)، والأيسكرا (الشرارة)، اللتين تناقلتهما أيدي البلاشفة والمناشفة على فترات مختلفة.

 

  • Trotsky, Leon, “Stalin: An Appraisal of the Man and His Influence”. Charles Malamuth, trans. New York: Harper and Brothers, 1941; pp.157-159.

 

  • Tucker, Robert C., “Stalin as Revolutionary, 1879-1929: A Study in History and Personality”. New York: W.W. Norton, 1973; pp. 155-156.

 

  • اليديشية لغة هجينة يتحدثها اليهود الغربيين، وهي مزيج من الألمانية والعبرية أساساً، مع بعض السلافية واللغات الرومانسية، وتكتب بالحرف العبري، وتوجد منها لهجات، شرقية أكثر تأثراً بالسلافية، وغربية أكثر تأثراً بالألمانية.

 

  • الدوري، عبد العزيز، “مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي”، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، أيار 2007. (الكتاب متوفر كنسخة PDF على الإنترنت).

 

  • علوش، إبراهيم، “أسس الفكر القومي العربي”، دار فضاءات، عمان، 2013.

 

  • علوش، إبراهيم، “في التطبيع وقضاياه الخلافية”، دار ورد، عمان، 2014، ص. 153 -158.

 

 

 

شخصية العدد:

 

شيخ الشهداء عمر المختار

 

 

نسرين الصغير

 

 

ولد عمر المختار في 20 آب 1858 وارتقى شهيداً يوم 16 أيلول من عام 1931. عاش عمر المختار 73 عاماً كانت مكللة بالكفاح المسلح ومقاومة المحتلين وعلى رأسهم المحتل الإيطالي الذي كان يفرض “إنتدابه” احتلاله على ليبيا.  كان أسد الصحراء قائد أدوار السنوسية في ليبيا، بدأ قتاله عام 1911 عندما بدأ الاحتلال الإيطالي واستمر عشرين عاماً إلى أن صدر حكم المحتل في حقه بالإعدام كما صدر صبيحة العيد في حق الشهيد صدام حسين، فمع اختلاف جنسية المحتل إلا أنه يبقى واحداً، سواء كان صهيونياً أو أمريكياً أو إيطالياً أو بريطانياً، فالمحتل لا يختلف إلا بالاسم وفي طريقة الاحتلال، فمن الممكن أن يكون الاحتلال عسكرياً أو ثقافياً أو اقتصادياً، إلا أنه مهما اختلف لن يختلف جوهره، فهو في النهاية يبقى احتلالاً.

 

تلقّى عمر المختار تعليمه الأول في زاوية جنزور، ثم سافر إلى الجغبوب وهو معهد وملتقى للعلماء ليمكثَ فيه ثمانية أعوام للدراسة والتحصيل، وقد أظهر المختار من الصفات الخلقية السامية ما جعله محبوباً لدى شيوخ السنوسية وزعمائها متمتعاً بعطفهم وثقتهم، وعندما غادر السيد المهدي الجغبوب إلى الكفرة سنة 1895م، اصطحب معه عمر المختار.

 

شارك عمر المختار في الجهاد بين صفوف المجاهدين في الحرب الليبية الفرنسية في المناطق الجنوبية (السودان الغربي) وحول واداي. وقد استقر المختار فترة من الزمن في قرو مناضلاً ومقاتلاً، ثم عُين شيخاً لزاوية “عين كلك” ليقضي فترة من حياته معلماً وناشراً لرسالة الإسلام في تلك الأصقاع النائية. وبعد وفاة السيد محمد المهدي السنوسي في العام 1902م تمّ استدعاؤه ليعين شيخاً لزاوية القصور.

 

بدأت حياته النضالية منذ دخول الغزو الإيطالي الأراضي الليبية عام 1911، وعاش معارك التحرير يوماً بيوم حتى استشهاده، كان يبلغ من العمرالثالثة والخمسين عاماً عندما دخل المحتل الإيطالي لليبيا، ولكنه لم يرضَ أن يمضي حياته بالطريقة التي اختارها الآخرون، خانعاً ومستعبداً للمحتل إلا أنه رفض أن يعيش ويموت إلا حراً، فهو ابن قبيلة عربية ليبية معروفة اسمها “منفة الهلالية”.

 

بدأ الاحتلال الإيطالي من بنغازي الساحلية شمال برقة، ومباشرةً وبمجرد أن وصلت أخبار نزول القوات الإيطالية في بنغازي ذهب المختار إلى زاوية القصور، مسرعاً لتجنيد أهل القبيلة لمقاومة الطليان، ونجح بجمع ألف مقاتل وقام بتأسيس معسكر لهم في منطقة الخروبة، وتنقل بين المناطق إلى أن وصل لبنغازي وخلال مسيرته انضم إليه كثيرٌ من المقاتلين، الذين كانوا كالصقور يغيرون على القوات الإيطالية باستمرار ويلحقون بها الخسائر المادية والبشرية.

 

كان يمتاز عمر المختار بأنه يتقدم الصفوف الأمامية دائماً لمواجهة المحتل، فكان المخطط والمنفذ لخططه العسكرية.  في عام 1912 بدأت حروب البلقان، فعقدت الدولة العثمانية التي كانت تتنطح بأنها (دولة الخلافة الإسلامية) اتفاقية صلح مع القوات الإيطالية المحتلة وتم توقيعها في لوزان في شهر تشرين الثاني من عام 1912 انسحبت بموجبها القوات العسكرية العثمانية إلى الأستانة، في هذه المرحلة وقف عمر المختار وأعاد حساباته فبعد أن كان يعمل مع العثمانيين أصبح يراجع خطواته السابقة، فقد كانت أحد شروط الصلح بين العثمانيين والطليان انسحاب القوات العثمانية بأسلحتها، مما أثار سخط الثوار الذين طلبوا أسلحة الجنود العثمانين فرفضوا، مما اضطرهم لإطلاق النار عليهم، عندها تدخل المختار وأقنع المقاتلين أن عدوهم الأول هو العدو الإيطالي لا العثمانيين الذين استسلموا للمحتل، فهذه الأرض أرض عربية لا تركية.  بقي المختار في موقع قيادة القتال في منطقة برقة إلى أن جاء أحمد الشريف السنوسي إلى درنة عام 1913، أي بعد عامين من الاحتلال، وظلّ على رأس المقاومة في منطقته حتى عام 1931 وهو العام الذي اعتزل فيه أحمد الشريف السنوسي ليتسلم القيادة منه محمد إدريس السنوسي.

 

امتازت هذه المرحلة بعسكريتها وشراستها ضد المحتل، فكانت خسائر الطليان على يد المقاتلين الليبيين كثيرة ومن أبرز معاركه ضد المحتل:

  • معركة يوم الجمعة 16 آيار 1913 التي استمرت يومين، وكانت الخسائر الإيطالية أكثر من 70 جندياً وأكثر من 400 إصابة.
  • معركة 6 تشرين الأول 1913 في شمال عين مارة.
  • معارك أم شخنب وشلظيمة والزويتينة في شهر شباط 1914.
  • معركة فزان كانت القيادة الإيطالية حريصة على الاستيلاء على فزان فخرجت في أواخر يناير 1928م قوتان؛ أحدهما من غدامس والأخرى من الجبل الأخضر، وكان الجيش الإيطالي بقيادة غراسياني، والتحم المجاهدون معه في معركة دامية استمرت خمسة أيام بتمامها، وانهزم الطليان شر هزيمة فتقهقروا تاركين ما لديهم من مؤن وذخائر، ثم ما لبثت أن خرجت قوة إيطالية أخرى قصدت فزان مباشرة، فعلم المجاهدون بأمرها بعد خروجها بثلاثة أيام وانسحبوا إلى الداخل، حتى وصل هذا الجيش الجديد إلى مكان يقع بين جبلين يعرفان بالجبال السود فانقض المجاهدون على الطليان وأرغموهم على التقهقر، فعمل قواد الحملة الإيطالية إلى الفرار بسياراتهم تاركين الجيش وراءهم، فاستأصلوهم عن آخرهم، وعندئذ لم يجد الطليان مناصاً من أن يجددوا محاولتهم فخرجت هذه المرة قوات عظيمة من جهات متعددة، غير أن الطليان ما لبثوا أن انهزموا في هذه المعارك وتركوا وراءهم غنائم وأسلابًا كثيرة .
  • معركة أم الشافتير (عقيرة الدم): يقول الأستاذ علي الصلابي عن هذه المعركة ونتائجها: لقد استمر المجاهدون في الجبل الأخضر يشنون الهجمات على القوات الإيطالية وحققوا انتصارات رائعة من أشهرها موقعة يوم الرحيبة بتاريخ 8 آذار 1927م جنوب شرقي المرج قرب جردس العبيد ووقعت بعد معركة الرحيبة معارك ضارية في بئر الزيتون 10 محرم 1335هـ/ 10 تموز 1927م، ورأس الجلاز 13 محرم 1335هـ/ 13 تشرين الثاني 1927م.

أراد الإيطاليون أن ينتقموا لقتلاهم في معركة الرحيبة، فشرعوا يعدون العدة للانتقام لقتلاهم الضباط الستة وأعوانهم المرتزقة البالغ عددهم (312) في محاولة لإعادة معنوياتهم المنهارة نتيجة لتلك الهزيمة الساحقة، وتمّ إعداد الجيوش الجرارة، ويضاف إلى تلك الاستعدادت سلاح الطيران الذي انطلق من قواعده بالمرج ومراوه وسلنطة، لقد كانت قوات الإيطاليين ضخمة مما يدل على خوفهم ورهبتهم من قوات المقاتلين.

بالمقابل، كان عدد المقاتلين العرب الليبيين ما بين 1500 إلى 2000 مجاهدًا منهم حوالي 25% من سلاح الفرسان ويرافقهم حوالي 12 ألف جمل وما يثقل تحركاتهم من النساء والأطفال والشيوخ والأثاث، وعلمت إيطاليا بواسطة جواسيسها بموقع المقاتلين في عقيرة أم الشفاتير فأرادت أن تحكم الطوق على المجاهدين فزحفت القوات الايطالية نحو العقيرة بعد مسيرة دامت يومين كاملين واستطاعت أن تضرب حصارًا حول المقاتلين من ثلاث جهات، وبقوات جرارة تكونت من حوالي (2000) بغل و5000 جندي، و1000 جمل بالإضافة إلى السيارات المصفحة والناقلة.
علم المقاتلون بذلك، وأخذوا يعدّون العدة لملاقاة العدو، فأعدّوا خطة حربية وقاموا بحفر الخنادق حول أطراف المنخفض ليستتر بها المجاهدون، وخنادق أخرى لتحتمي بها الأسر من نساء وأطفال وشيوخ، وتم ترتيب المجاهدين على شكل مجموعات حسب انتمائهم القبلي، ووضعت أسر كل قبيلة خلف رجالها المقاتلين، وكان قائد تلك المعركة التقي الشيخ حسين الجويفي البرعصي، ولم يغب شيخ المجاهدين عن التواجد في تلك المعركة.

 

انتهت عمليات الإيطاليين في فزان بإحتلال مرزق وغات في شهري كانون الثاني وشباط عام 1930، ثم عمدوا إلى الاشتباك مع المجاهدين في معارك فاصلة، وفي 26 آب 1930 ألقت الطائرات الإيطالية حوالي نصف مليون طن من القنابل على الجوف والتاج، وفي 28 كانون الثاني 1931 سقطت الكفرة في يد الغزاة، وكان لسقوطها الأثر الكبير على المقاومة وحركة الجهاد.

 

وفي 11 أيلول 1931 نشبت معركة عند بئر قندولة والوديات المجاورة له، واستمرت المعركة يومين، ويومها وقع عمر المختار في الأسر وأرسل إلى مرسى سوسة بحراسة مشددة ليتم نقله من سوسة بمركب حربي إلى بنغازي، وصل غرسياني إلى بنغازي يوم 14 أيلول 1931 قادماً من روما عن طريق طرابلس ليعلن عن انعقاد محكمة خاصة لشيخ المجاهدين يوم 15 أيلول 1931، وفي صبيحة ذلك اليوم وقبل المحاكمة رغب غرسياني في الحديث مع عمر المختار، وأورد غريسياني في مذكراته  المقتطف التالي للحوار الذي دار بينهما:

“وعندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية. يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة, وكان وجهه مضغوطاً لأنه كان مغطياً رأسه (بالجرد) ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر،  وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح”.  وكان أول سؤال وجهه له غرسياني:

 

لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الإيطالية؟”

فكان ردّ عمر المختار: ” من أجل ديني ووطني.”

غرسياني: ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه ؟

فأجاب الشيخ: لا شيء إلا طردكم … لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرضٌ علينا وما النصر إلا من عند الله.

غرسياني: لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك إن تأمر الثوار بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم ؟

فأجاب الشيخ: لا يمكنني أن أعمل أي شيء … وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر، ولا نسلم أو نلقي السلاح…
عقدت للشيخ الشهيد محكمة هزلية صورية في مركز إدارة الحزب الفاشستي ببنغازي مساء يوم الثلاثاء، عند الساعة الخامسة والربع في 15 أيلول 1931، وبعد ساعة تحديداً صدر منطوق الحكم بالإعدام شنقاً حتى الموت.
وعندما ترجم له الحكم، قال الشيخ: “إن الحكم إلا لله … لا حكمكم المزيف … إنا لله وإنا إليه لراجعون”.

 

أشهر أقوال عمر المختار:

  • إنّ الظلم يجعل من المظلوم بطلاً، وأمّا الجريمة فلا بدّ من أن يرتجف قلب صاحبها مهما حاول التظاهر بالكبرياء.
  • إنّني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح.
  • لما حكم القاضي على عمر بالإعدام شنقاً حتى الموت قهقه عمر بكل شجاعة قائلاً:

لئن كَسَرَ المدفع سيفي فلن يكسر الباطل حقي.

  • إن الضربة التي لا تقصم ظهرك تقويك.
  • سوف تأتي أجيال من بعدي تقاتلكم، أمّا أنا فحياتي سوف تكون أطول من حياة شانقي.
  • التردد أكبر عقبة في طريق النجاح.
  • حينما يقاتل المرء لكي يغتصب وينهب، قد يتوقف عن القتال إذا امتلأت جعبته، أو أنهكت قواه، ولكنه حين يحارب من أجل وطنه يمضي في حربه إلى النهاية.
  • نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت.

 

 

شهادة لناجي علوش في محمد عزة دروزة

 

معاوية موسى
في كتابه الموسوم “أسس العروبة القديمة” يعيد الكاتب الدكتور إبراهيم علوش، ومن خلال الإشارة لكتاب المفكر الراحل ناجي علوش”مختارات قومية لمحمد عزة دروزة”، يعيد الاعتبار لأحد أهم المفكرين العرب، ومبدعا لن يتكرر كثيرا، ليس لقيمة ما أنتجه من فكرٍ فحسب، لكن بشكل أكثر أهمية لريادته وإبداعه في العمل السياسي ولحقيقة انتمائه القومي الجادّ، ولأفكاره الوحدوية الفذة، إنه المفكر الراحل محمد عزة دروزة.

لم يكن دروزة رجلا عاديا، رحل دون أن ينال نصيبا كافيا من الشهرة، كيف لا، وهو لم يكن يبحث عن تميز فردي، ولذلك كان في العمل منصهرا دوما في جماعة، كما كان في الفكر منصهرا دوما في قضية ذاب فيها وذابت فيه.
يقول الدكتور علوش عنه: كان يتّصف بصفة نادرة بين القيادات الفاعلة في العمل السياسي العربي، وهي أنه في الوقت الذي كان يدفع فيه التوجه العام بقوة بعيدا عن التفريط والتنازلات ونحو اتجاه أكثر جذرية ووحدوية في العمل الوطني الفلسطيني، وفي الوقت الذي كان يتجشم فيه المخاطر ويتكبد المشقة، وفي الوقت الذي كان يفني فيه الساعات في العمل الدؤوب، ويقضي الأيام في السفر، فإنه كان يختار دوما أن يترك الصفوف الأمامية لغيره، ليس فقط بسبب ذوبانه في القضية التي التزم بها، بل ليورط أكبر عدد ممكن من القيادات التقليدية والمحلية محدودة الأفق، على ما يبدو، في الأطر الوطنية أو التنظيمية التي أسهم بخلقها. وهي عملة نادرة هذه الأيام بين الناشطين السياسيين، ناهيك عن ندرة المثقفين والمفكرين الذين ينخرطون في العمل السياسي المباشر بهذا القدر من الجدية ونكران الذات، وناهيك عن ندرة الناشطين الميدانيين الذين يقدرون على إنتاج هذا الكمّ والنوع من الفكر.
شهادة مجروحة يقدمها الراحل ناجي علوش في حقّ محمد عزة دروزة، لا سيما أنه لم يصلنا عن الأخير سوى القليل القليل، حيث الكثير من كتبه العديدة والمتنوعة لم تجد طريقها إلى القارئ بعد، ربما  كونه لم يكن معروفا كما يجب، أو لظروف مرضه، أو لأسباب تتعلق بظروف الطباعة والنشر في الوطن العربي آنذاك.  أيا يكن الأمر نستطيع القول أنّ ناجي علوش استطاع أن يمهّد الطريق أمام القارئ العربي والباحث المختصّ لمعرفة رجل كنز وباحث موسوعي ومفكر لم تصلنا عنه سوى شذرات إذا ما تمت المقارنة مع حجم إنتاجيته وكتاباته الفكرية الواسعة.

 

تشكّل المذكرات التي كتبها دروزة جزءا أساسيا ورئيسيا من سيرته الإبداعية والإنسانية والأثر الواضح في كتاباته هو حول فلسطين والهوية العربية، وحواراته حول القضايا العربية الساخنة والقضية الفلسطينية والصورة الإنسانية العميقة للحضارة العربية، عابرا بكتاباته ومذكراته أهم مفاصل التاريخ العربي المعاصر منذ ما قبل احتلال فلسطين وسايكس- بيكو حتى آخر سنوات عمره.
وبعيدا عن البناء السردي الأفقي للسير الذاتية، يقدّم محمد عزة دروزة اقتراحا فنيا جديدا بكتابته لسيرة ومذكرات غير تقليدية، يضيء من خلالها جوانب كثيرة غير معروفة من حياته، من خلال سرده غير التقليدي لهذه الأحداث الصاخبة والمهمة لغةً وتأملا، كما انعكست خبرته ككاتب ومفكر قومي كبير بصورة واضحة في تلك المذكرات التي تصل صفحاتها إلى 4256 صفحة في ستة مجلدات.
وإذا ما أردنا الغوص في الجانب العملي والمهني المباشر في سيرة الرجل، والتي يمكن للقارىء الكريم الاطّلاع عليها في العدد العشرين من مجلة طلقة تنوير، فإنّه حري بنا أن نشير إلى تجربة محمد عزة في العمل القومي كما قدّمها المفكر القومي الراحل ناجي علوش في الكتاب الآنف الذكر، وهي الهدف الأسمى والأهم ربما من التركيز على سيرته ومؤلفاته فحسب.
لقد أشار الراحل ناجي علوش إلى الدور المهم لدروزة في المفهوم القومي العربي، حيث كانت البداية مع كتاب تاريخ الجنس العربي، حيث قسّم التاريخ العربي إلى مرحلتين أساسيتين هما ما قبل العروبة الصريحة والعروبة الصريحة، فالعرب وجدوا قبل الإسلام بآلاف السنين، والعروبة سابقة للإسلام، والكتاب يأتي لمحاولة تأصيل هذه الحقيقة، وهي من المسلمات القومية والركائز الأساسية التي تتبناها لائحة القومي العربي،  والتي تجاوزت فكرة أو مسألة العرق الواحد. حيث تعتبر العرب أمة واحدة حتى قبل انتشار الإسلام، تجمعها اللغة الواحدة، ورابطة من الأواصر والملامح والطبائع، أمة سجّلت حضورها وامتدادها من الجزيرة العربية إلى العراق والشام إلى وادي النيل قبل شحّ الماء والقحط وقلة الكلأ الذي أصاب أرض الجزيرة.
بحث دروزة في عوامل الوحدة في الوطن العربي والتاريخ العربي وأكّد عليها، رافضا وداحضا لكل محاولات التفرقة والتقسيم فيها، ودروزة لم يؤلف تاريخا فحسب، بل قدم رؤية قومية للتاريخ العربي، وربط هذه الرؤية القومية بالمشروع القومي الوحدوي، ولهذا يقول علوش عن دروزة: إنه يستحق عن جدارة أن يسمى شيخ المؤرخين القوميين، ومبلور الرؤية القومية للتاريخ العربي، وأنه لا بد من أن يدرس على هذا الأساس.

 

يقول علوش أن طروحات دروزة لم تنَلْ بعد ما تستحق من اهتمام، ولم يحاول أحد أن يدرسها من قبل، وهذه إشارات أولى لمن يريدون ارتياد هذا العالم الجديد.

 

 

 

إضاءات على كتاب (الرسالة السياسية لهوليوود) للدكتور ابراهيم علوش

 

 

طالب جميل

 

 

قد يكون كتاب د. ابراهيم علوش (الرسالة السياسية لهوليوود – تفكيك الفيلم الأمريكي) من الكتب القليلة التي سلّطت الضوء على خفايا الرسائل التي تُطرح في الأفلام الأمريكية، وكثافة السموم التي تدسّ فيها خصوصاً تلك التي تحمل مضامين معادية للعرب والمسلمين ومؤيدة للصهاينة ولفكرة وجود كيان لهم.

 

الكتاب الصادر عام 2013 في عمان عن دار دجلة (ناشرون وموزعون) يقدّم تحليلاً ودراسة معمقة لخطورة أفلام هوليوود في زمن الفضائيات التي لا يتوقف بعضها عن بثّ تلك الأفلام الأمريكية للجمهور العربي ليلاً نهاراً، والذي يغريه هذا النمط من الأفلام خصوصاً تلك التي تحصل على جوائز من بعض المهرجانات العالمية.

 

الكتاب مكوّن من جزأين؛ الجزء الأول عبارة عن مقدمة تعريفية بهيوولود كجزء عضوي من الاحتكارات الرأسمالية الأمريكية وكحصن للنفوذ اليهودي ودورها في الاقتصاد السياسي، ويعرّج  د. علوش في هذا الجزء على يهودية هوليوود حيث يقدم كافة الدلائل والقرائن التي تثبت بشكل واضح ومقنع مدى سيطرة وتغلل اليهود فيها، أما الجزء الثاني فيقدم من خلاله تحليلاً مستفيضاً ومعمّقاً ونقداً محترفاً من منظور سياسي وثقافي من دون إهمال البعد الفني لأكثر من خمسين فيلماً متنوعاً.

 

يستعرض المؤلف بشكل تفصيلي أهم الشركات التي تمتلك سوق السينما في أمريكا، خاصة وأن استديوهات هيوولود تسيطر عليها ستّ استديوهات ضخمة ترتبط بكتل مالية عملاقة وشركات اتصالات وشركات إعلامية عملاقة وهي (شركة والت ديزني (Walt Disney)، تونيث سنشري (Twentieth Century Fox)، واستوديوهات يونيفرسال (Universal Studies)، باراماونت فياكوم (Paramount Viacom)، تايم ورنر (Time warner)، شركة أفلام سوني (Sony Pictures)، ونظراً لضخامة تلك الشركات فإن لديها الآلاف من الموظفين، وتملك قنوات تلفزيونية وعائداتها السنوية تتجاوز عشرات المليارات ولا تستطيع الشركات الصغيرة منافستها، ولأن كلفة الأفلام عالية في أمريكا فأنها تجعل من الصعوبة على الشركات غير المحتكرة الدخول إلى سوق صناعة الأفلام حيث تبلغ تكلفة الفيلم الهوليودي العادي منذ عام 2008 أكثر من (100) مليون دولار بالمتوسط.

 

أما دور العرض فتسيطر عليها بعض الشركات الاحتكارية الكبرى حيث أن دور العرض في أمريكا تعد بالآلاف ولكنها مملوكة في الأعم لشركات كبرى ترتبط بالاستوديوهات الكبرى لإنتاج الأفلام في هوليوود، أو بكتل مالية كبرى والتي تملك كل شركة منها المئات من دور العرض، وأشهر هذه الشركات (شركة ريغال للترفيه، شركة مسارح AMC، شركة مسارح Cinemark، شركة مسارح Carmike، شركة Rave motion pictures).

 

ومن البديهي أن يكون لهوليوود خط سياسي داعم للكيان الصهيوني ومناهض للعرب والمسلمين، لذلك فإن أي فيلم يخرج عن الخط العام لهيولوود ولا يكون له نفس التوجه السياسي أو الايديولوجي فإنه لن يجد فرصة لأن يعرض في دور العرض في أمريكا مثل فيلم Redacted الصادر عام 2007 للمخرج (براين دو بالما) الحائز على جائزة الأسد الفضي في مهرجان فينيس السينمائي عام 2007 وتم تصويره في الأردن، ولأن الفيلم يعالج جريمة اغتصاب الفتاة العراقية (عبير قاسم الجنابي) في المحمودية واغتيال أهلها من قبل عناصر الجيش الأمريكي عام 2006 تم خنق هذا الفيلم في دور العرض والتضييق عليه ولم تتجاوز عائداته ثلاثة أرباع المليون دولار، مع أن تكلفته بلغت خمسة ملايين دولار، ولم يعرض الفيلم إلا في سلسة دور عرض أفلام صغيرة وثانوية، وتعرّض لحملة مقاطعة شرسة لدرجة قيام أنصار الحرب في أمريكا بالاعتصام أمام دور العرض القليلة التي تقدّم الفيلم واتّهم منتج الفيلم بأنه يثير العداء لأمريكا في الخارج ويحرّض على القيام بعمليات ضد القوات الأمريكية.

 

وعن مدى سيطرة اليهود على هوليوود، يستعرض د. علوش عبر عدة مواد مترجمة من الصحافة الأمريكية و(الإسرائيلية) مدى استشراء النفوذ اليهودي في هيوليوود واعترافات لبعض الكتاب اليهود وكتابات بعض النقاد الغربيين للنفوذ اليهودي في السينما والإعلام والتي تعبّر عن جبروت اليهود ككتلة متماسكة نسبياً قائمة لذاتها وذات هوية ثقافية محددة وذات أجندة سياسية واضحة، حيث ما زالت هيوليوود تحتفل سنوياً بذكرى تأسيس الكيان الصهيوني عداك عن سيطرة اليهود على قنوات البث التلفزيوني وعلى صناعة البرامج الترفيهية الأمريكية من خلال إدارتها حيث يوجد ثمانية مدراء تنفيذيين يهود من  بين المدراء التنفيذيين العشرة لأكبر شركات البرامج والأفلام الترفيهية بالإضافة إلى السيطرة على محطات البث الإذاعي الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يؤكد أن هوليوود جزء من المؤسسة الحاكمة في أمريكا وليست مجرد دكان لصناعة الأفلام فقط، فهي لها دور خطير في إيصال الرسالة السياسية والثقافية والعقائدية للنخبة الحاكمة المستندة بالضرورة في قراراتها إلى اللوبي الصهيوني.

 

وعبر نقد الكاتب لعدة أفلام أغلبها أمريكية منها ما يتناول موضوع الحرب على العراق وأفغانستان، والحرب على الإرهاب، وصراع الحضارات، وبعض الأفلام القليلة التي تحمل موقفاً إيجابياً من العرب والمسلمين، وأفلام أخرى لها علاقة بالأزمة الاقتصادية والعولمة، وأغلب تلك الأفلام لقيت رواجاً واسعاً وحصلت على جوائز كثيرة مثل “موطن الشجعان” (Home of the Brave)، “منطقة خضراء” (Green Zone)، “خزانة المصابين” (The Hurt Locker)، “أفاتار” (Avatar)، “المملكة” (The Kingdom)، “هانكوك” (Hancock)، “الدرب إلى 11 سبتمبر” (The Path to 11/9)، “مملكة السماء” (Kingdom of Heaven)، “القارىء” (The Reader)، “الماس المخضب بالدماء” (Blood Diamonds)، “القلب الشجاع” (Braveheart)، “منطقة حرة” (Free Zone)، “وادي الذئاب” (Valley of Wolves).

 

عموماً يهدف الكتاب إلى نشر وعي سينمائي وتطوير ملكة النقد السينمائي بحيث يكون نقداً سياسياً وثقافياً معمقاً وقادرا على قراءة الرسائل المبطنة التي تمرر داخل تلك النوعية من الأفلام، وذلك للتصدي لاختراق الوعي للمشاهد العربي خصوصاً، وعدم التأثر بالرسائل المعادية، وللحدّ من حملة المداهمة التي يتعرض لها عقل الشباب العربي من خلال هذا النمط من الأفلام.

 

وعليه يمكن اعتبار الكتاب نقلة نوعية في مجال النقد السينمائي المختلف، ودليلاً استرشادياً لكل مشاهِد مغرَم بالأفلام الهيولوودية للفت النظر لخطورة ما يطرح في تلك الأفلام من مضامين خطيرة من خلال بعض الحوارات والمشاهد والانتباه لمظاهر التقزيم والسخرية من الشخصية العربية والإساءات لتاريخنا العربي وحضارتنا من خلال التزوير والسخرية والتقليل ووضع الشخصية العربية في قالب محدد كتصويره على أنه إرهابي أو بدوي صحراوي يعيش خارج سياق العصر وبعيد عن العلم والتكنولوجيا وأي مظاهر حضارية أخرى.

 

يلخص د. علوش خطورة أفلام هوليوود بقوله: هوليوود ليست نموذجاً للصناعات الأمريكية في هيمنة الاحتكارات الأمريكية وفي خضوعها للبرنامج السياسي والثقافي لتلك الاحتكارات فحسب، بل هي قلعة للنفوذ اليهودي الذي يتكامل عضوياً مع بنية الرأسمالية الأمريكية وهوليوود بصفتها وسيلة إنتاج للوعي، للقيم والمفاهيم، تستخدم بشكل مباشر إلى جانب وسائل الإعلام والثقافة الأخرى التي يسيطر عليها اليهود ككتلة متماسكة مدركة لذاتها في تهويد العالم ثقافيا ابتداءً من الغرب نفسه، وقد ازداد هذا التأثير أضعافاً مضاعفة في عصر العولمة الذي شهد تزايد تأثير هيوليوود العالمي بصورة غير مسبوقة.

 

قصيدة العدد:

 

ثورة  فلسطين

“يا جهادا صفق المجد له”

 

للشاعر بشارة الخوري “الأخطل الصغير”

 
سـائـل العـلـياء عـنّـا والـزمـانـا            هـل خـفـرنـا ذمَـّةً مُـذْ عرفـانـا

الـمـروءاتُ الـتي عـاشـت بِــنـا            لم تزل تجري سعيراً في دِمانا
قُـل (لِـجونْ بـولٍ) إذا عـاتـبتـَـهُ            سـوف تـدعـونـا ولكن لا ترانا
قـد شــفـيـنـا غــلّـة فـي صـدره             وعطشنا، فانظروا ماذا سـقانـا
يـــوم نــادانــا فـلـبـّـيــنـا الـنـِــدا           وتـركـنـا نُـهـيَـةَ الـديـن ورانــا
ضجَّت الصحراء تشـكو عُرْيَها            فـكــســـونـاها زئـيـراً ودُخـانـا
مـذ سـقـيـنـاهـا العُـلا مـن دمـنا            أيـقـنــت أن مَـعَــدّاً قـد نــمـانـا

ضـحـك الـمجـدُ لـنــا لـمـا رآنـا            بـدم الأبـطال مـصبـوغاً لِـوانـا
عرسُ الأحرار أن تسقي العِدى            أكؤســاً حُمراً وأنغامـاً حزانـى
نركب الموتِ إلى (العهد) الذي            نــحـرتْـه دون ذنــب حُـلـفـانــا
أمــِنَ الــعـــدل لـــديــهـم أنــنــا           نـزرع النصر ويجـنيـه سِـوانـا
كـلّمـا لَـوَّحــتَ بـالـذكـرى لـهـم            أوسـعـوا القـول طـلاء ودِهانــا
ذنـبـنا والـدهـر في صــرعـتــه            أنٍ وفــينـا لأخـي الـوِد وخـانــا

يــا جــهـاداً صـفّــق المـجـد لـه            لبـس الغـارُ عليـه الأرجــوانــا
شــرفٌ بـاهــتْ فـلـسـطـيـنٌ بـه            وبـنــاءٌ لـلـمعـالـي لا يـُــدانــى
إن جـرحـاً سـال مـنْ جـبـهـتـها            لــثـمتـهُ بــخـشـوعٍ شــفــتـانــا
وأنــيـنـاً بــاحـت الــنجــوى بـه            عـربـيـاً رشـــفـتـهُ مُــقـلـتـانــا

يــا فـلـسـطـيـن التـي كـدنـا لـما            كابدتـه من أسـىً نـنسى أسانـا
نـحـن يا أخـتُ على العهـد الذي           قـد رضعنـاه من المهـد كِـلانـا
يـثـربٌ والـقدسُ مـنـذُ احــتـلـمـا           كـعبتانا وهـوى العـرب هوانـا
شــرفٌ لـلـمـوت أن نــطـعــمـه           أنـفسـاً جـبـارة تـأبـى الـهـوانـا
وردةٌ مــن دمـــنـــا فـــي يـــده             لو أتـى النـار بها حالت جنانـا
انـشـروا الهول وصُبّـوا ناركـمْ            كيفما شـئتم فلن تـلقـوا جــبـانـا
غــذّتِ الأحـداثُ مـنّـا أنــفُـســاً            لـمْ يـزدهـا العـنفُ إلاّ عنفوانـا
قَرَعَ (الدوتشي) لكم ظهر العصا           وتـحـدّاكـم حــســامـاً ولـسـانــا
إنــهُ كــفـــوٌ لـكــمْ فـانــتــقـمــوا           ودعــونا نــســألُ الله الأمــانــا
قُـمْ إلى الأبطال نلمـسْ جرحـهمْ            لمســة تـسـبحُ بالـطـيب يـدانــا

قـم نـجعْ يومـاً من العـمـر لـهـمْ            هبْهُ صوم الفصح، هبهُ رمضانا
إنـمـا الــحـقُّ الــذي مـاتـوا لـه             حـقنـا، نـمشـي إلـيه أيـن كـانـا

 

 

 


Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..