كلمة العدد: قضية الوحدة في المشروع القومي
كانت الوحدة، ولا تزال، ويجب أن تبقى، واحدةً من أوائل أهداف المشروع القومي العربي التي شكّلت هاجسا حقيقيا لحركات النضال القومي في العصر الحديث. وقد تعددت الطروحات حول طريق الوحدة في الأدبيات القومية، فمن المفكرين والدعاة القوميين من ذهب إلى ضرورة اتباع الحل الاقتصادي للتهيئة لقاعدة اقتصادية للوحدة، ومنهم من رأى ضرورة وجود قطر مركزي مكوّر (إقليم قاعدة) لتحقيق الوحدة من خلال ذراع سياسية متفوقة نسبيا، والبعض الآخر تخلى عن فكرة الوحدة وذهب لطرح إقليمي حول استحالة تحقيق الوحدة وأن المنطقة العربية تتكون من كيانات منفصلة ومستقرة تاريخيا في نطاق إقليمي معين (طرح مخترَق)، وغيرها من الطروحات. يقول نديم البيطار في هذا السياق أن النضال القومي إما أن يكون وحدوياً أو لا يكون، لأن كلمة وحدوي تحمل في ذاتها معنىً ثوريا. فالمطلب الوحدوي هو مطلب جذري في مواجهة التجزئة ومفاعيلها، بمعنى مواجهة إحدى أهم أدوات المشروع الغربي المتمثل في التفكيك.
لقد وضع ياسين الحافظ في كتابه (في المسألة القومية الديمقراطية) تحليلاً شافياً حول صيرورة الوحدة، من زاوية بنيوية تاريخية للعوامل الجاذبة والنابذة لهذه الصيرورة، وأضاف أيضا رؤيته للتجربة الناصرية بما فيها دولة الوحدة بين القطرين المصري والسوري. ونحن بدورنا نؤكد على ضرورة وأولوية الوحدة دائما في الخطاب وفي الفعل السياسي، لأن البوصلة الوحدوية لا يمكن أن تخيب. لقد زرع الغرب من خلال سايكس-بيكو ووعد بلفور إسفيناً تاريخياً في جسد هذه الأمة وخلق كل المفاعيل اللازمة للحفاظ على التقسيم الاستعماري الكريه وإعادة إنتاجه. وأضاف من خلال “الربيع العربي” تقسيماً من نوع آخر على أساس إثني وطائفي وغيره، ليزرع إسفيناً آخر أشد خطرا على جسد هذه الأمة هو التفككك الاجتماعي الداخلي، بعد التفكك السياسي القُطري.
إن الغرب لا يتسامح البتة مع النزوع الوحدوي العربي خصوصاً منذ محمد علي باشا. وحديثا، عجّل التقارب العراقي-السوري، على سبيل المثال، في مستهل حكم الرئيس بشار الأسد، من احتلالَ العراق والبدء في مشروع “الشرق الأوسط الجديد”. إن كسر حدود التجزئة والحصار المفروض على العراق من قبل الدولة السورية، وتنامي العلاقات التجارية والتبادل الاقتصادي بين البلدين تحت الحصار، لم تنظر إليه المنظومة الإمبريالية كنزهة عادية على ضفاف الفرات. لقد احتمت سورية آنذاك من ضخامة البلدين المجاورين؛ تركيا وإيران، بميل عربيّ الهوى رغم كل الخلافات التقليدية التاريخية بين النظامين السوري والعراقي، وكذلك فعل النظام العراقي بقيادة الرئيس صدام حسين لكسر العزلة الاقتصادية والدبلوماسية على بلاده، وهو شروع حقيقي واستراتيجي ذو مغزى لأولي الألباب (أنظر موقف البعث العراقي اليوم في الأزمة السورية!).
تبادل اقتصادي بملايين الدولارات، تشغيل خط كركوك-بانياس للنفط، تدشين خط سكة حديد الموصل-حلب… لقد جعل كل هذا من كولن باول يهرع إلى سورية لوضع الأمور تحت وصاية الأمم المتحدة. وقد استصدرت القوى الدولية قرار يتناول ما اسمته “العقوبات الذكية” خصيصاً لمكافحة فك سورية للحصار عن العراق. وهذا يثبت مجددا أنّ الوحدة ليست بحلمٍ كما يصورها البعض، بل هي حقيقة راهنة. هنا جاء تدمير العراق، ثم تبعه تكبيل سورية بخطط الدردري في الانفتاح الاقتصادي، وربط سورية في العجلة الرأسمالية والإفقار المتعمّد، لنصل إلى تدمير سورية مجددا كما حدث للعراق، كتصفية للمحاور الإقليمية العربية، وكتتمة لمشروع التفكيك الغربي، ولا يخرج تدمير ليبيا العام 2011 عن هذا المشروع أيضاً. وفي هذا السياق نفسه جاء “الربيع العربي”، بما جلبه من تفكيك، كخطوة استباقية تمنع أي محاولة تقارب من هذا النوع بين الأقطار العربية كضرورة اقتصادية وسياسية ملحّة في ظل طغيان الرأسمال المعولم والسيطرة الإمبريالية.
لقد لفت ياسين الحافظ الانتباه، في كتابه في التجربة التاريخية الفيتنامية، الى زاوية أخرى تتعلق بأهمية النزوع الوحدوي لدى الحركات السياسية في السياق النضالي التحرري. فقد كان الفرنسيون قد جزأوا فيتنام إلى ثلاثة أقاليم، وجاءت الإمبريالية الأمريكية لتكريس تقسيم الأمة الفيتنامية إلى دولتين. فماذا كان ردّ الحركة الفيتنامية على ذلك؟؟ يشير ياسين الحافظ إلى أن الفيتناميين وضعوا الطروحات الستالينية حول الأمة على الرف ورفضوا بلا تردد وبحزم التجزئة الكولونيالية. ولم تستطع نظرية ستالين أن تقنعهم، أن أمتهم ليست أمة بل أمم أو أنها قيد التكوين. ويحزننا هنا أن نقول أنّ اليساريين العرب ذهبوا إلى الاعتراف بالتجزئة وأكدّوا على الخصوصيات الإقليمية وأبرزوها بوصفها عقبات تقف أمام الوحدة، وسعوا لإثبات طوباوية المشروع الوحدوي أو ضرورة تأجيله إلى ما بعد بناء الاشتراكية وإرساء (دكتاتورية البروليتاريا) كما يقول الحافظ، ناهيك عن الخلل في النزوع الوحدوي عند الحركات ذات الشعارات القومية الوحدوية.
إنّ التراجع الحاصل اليوم في النضال الوحدوي لا يعود إلى خلل في الأمة، أو إلى غياب الشروط الأساسية والموارد اللازمة لتحقيق الوحدة، بل إلى خلل ذاتي في التنفيذ تتحمله حركات التحرر القومي السابقة التي لم يرتقِ نضالها لمستوى المخاطر التي تحيط الأمة. وبالتالي فإن الحركات السياسية العربية اليوم مُلزمة بإعاده إحياء المشروع الوحدوي وباعتباره أرضية أساسية لأي نهضة أو تنمية مستقبلية. لقد اعتبر حزب الشغيلة الفيتنامي، أن مهمة تحرير الجنوب هي كبناء الاشتراكية في الشمال ليخوض على مدى عشرين سنة حربا وحدوية، ألقى خلالها الطيران الأمريكي من القنابل على الشمال الفيتنامي أكثر مما ألقيَ على ألمانيا في الحرب العالمية، واقتربت خلالها الأمة الفيتنامية من الدمار الشامل. والعبرة واضحة: إذا توفّرت الإرادة الحقيقية وراء العمل الوحدوي، فلن يقف في وجهها شيء لأن الوحدة شرط أساسي لبقاء الأمم، وبالتالي لا يمكن تقبّل أي طرح أو عمل سياسي لا يتضمن نزوعاً وحدوياً خصوصاً في ظل عمليات التفكيك الجارية اليوم في وطننا العربي.
المقولة الوحدوية عند ناجي علوش – الجزء الأول
دروس التجارب الوحدوية الأوروبية والآسيوية:
وحدة الوجود القومي كأساس للوحدة السياسية
إبراهيم علوش
ما كتبه ناجي علوش في الأمة والقومية والوحدة يُعتبر من أهم إسهاماته في الفكر العربي المعاصر، ومن أغناها، مع أن سيرته النضالية طغت إلى حدٍ ما على سيرته الفكرية، فلم تنَل تلك الإسهامات الفكرية حقها من الدراسة والاهتمام، خصوصاً أنها ترافقت مع انحسار المشروع القومي وتعثره في الحياة السياسية العربية. غير أنّ من يتمعن في كتاباته الوحدوية سوف يلاحظ أنها وُضعت على مستويين في آنٍ: 1) بشكل شعبوي يوصل الفكرة العامة، التعبوية، للنص سريعاً لمن يقرأ على عجل، و2) بشكلٍ أكثر عمقاً وتعقيداً حرص ناجي علوش أن لا يكون سفسطائياً أو ثقيل الظل أو استعراضياً، فلا يلتقطه إلا من يسعى للقراءة بين السطور، فهو تمرينٌ عربي في “السهل الممتنع”، وهي “لغةٌ ليس يحل طلاسمها إلا الضالع في الأضواء”، على حد تعبير مظفر النواب، وفيما يلي تلخيصٌ لجانبٍ من جوانب الفكر الوحدوي عند ناجي علوش، زائد محاولة للقراءة بين السطور، أي لحل طلاسم الأضواء، من خلال الجزء الأول من كتابه الغني: “الوحدة العربية: المشكلات والعوائق”، الصادر عن المجلس القومي للثقافة العربية، المغرب، العام 1991 (والكتاب متوفر الكترونياً على موقع ناجي علوش على الإنترنت).
يقول ناجي علوش: ماذا نقصد بالوحدة؟؟ نقصد قيام دولة واحدة من الدول المنضوية في إطار الجامعة العربية زائد الأراضي العربية المحتلة، على أن تكون تلك الوحدة مركزية، بسيطة أو اتحادية، وعلى أن تسقط الحدود السياسية والجمركية بين الدول العربية، لتصبح أي تقسيمات ضمن دولة الوحدة إدارية داخلية، مع الاعتراف بحكم ذاتي لكردستان العراق، ولجنوب السودان، معتبراً إياها “استثناءات مؤقتة”، وعلى أن تقوم مؤسسات مركزية واحدة (حكومة واحدة ومجلس شعب واحد إلخ… بما لا يتعارض مع قيام إدارات محلية على مستوى البلديات أو المحافظات…). ويؤكد ناجي علوش أن دولة الوحدة هي دولة أمة واحدة كانت مجزأة، لا دولة اتحادية لأمم متعددة، كالاتحاد السوفييتي السابق مثلاً، وأن دولة الوحدة هي التعبير السياسي عن وحدة الأمة، التي تنشأ بقيامها “جنسية” عربية واحدة، بعدما كانت الأمم مشتتة في عدة جنسيات في ظل منظومة التجزئة.
وجرْياً على نهج المفكرين القوميين العرب الأساسيين، لا يعتبر ناجي علوش أن وجود الأمة يقوم على أساسٍ عرقي أو عنصري، أو أن هنالك سلالة عربية خالصة، بل يؤكد أن الشعوب المسماة “سامية”، وهي تسمية ملتبسة يضعها بين مزدوجين، تفاعلت على مدى زمني طويل مع أقوام آرية وحامية لتنتج هوية عربية خاصة انصهرت فيها السلالات والثقافات، كأي أمة أخرى (ص. 10)، وأن تلك الهوية الثقافية العربية الخاصة هي ما حمى وحدة الأمة عندما كانت تسقط الدول المركزية وتقوم أشكال من الحكم المحلي، وأن وحدة الأمة لم تتخذ شكلاً واحداً على مدى الزمن، لأنها تكيفت مع أنماط التطور الاجتماعي التي مرت بها الأمة، أما اليوم فهي تمر بمرحلة تجزئة في ظل التبعية للنظام الرأسمالي العالمي، ولذلك يفترض أن تقوم الوحدة القادمة للأمة على أسس اجتماعية جديدة.
يعتبر ناجي علوش أن وجود الأمم سابقٌ للرأسمالية، فالأمة الألمانية لم تقم مع نشوء دولة الوحدة الألمانية العام 1870، والأمة الإيطالية لم تنشأ مع دولة الوحدة الإيطالية العام 1871، بل قبل ذلك بكثير، وأن علينا أن نميز ما بين حقيقة وجود الأمة ككيان اجتماعي-سياسي، وما بين التعبير السياسي والقانوني عن مثل ذلك الوجود في دولة الوحدة. لكن الدعوة الوحدوية تنطلق من الاعتراف بوجود الأمة الواحدة، مما يجعل حالة التجزئة غير طبيعية. وقد توفر للوحدة العربية دعاةٌ منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين منهم أديب إسحاق، ومحمود شكري الألوسي، وصلاح الدين القاسمي، وعبد الغني العريسي، وساطع الحصري، ومحمد عزة دروزة، وعلي ناصر الدين، وميشيل عفلق، وقسطنطين زريق، ومنيف الرزاز، وجمال عبد الناصر وغيرهم… أما من الأحزاب، فهنالك جمعية العربية الفتاة (1909)، وحزب الاستقلال (1918)، وحزب النداء القومي، وعصبة العمل القومي، وحزب البعث العربي الاشتراكي، وحركة القوميين العرب، والحركات الناصرية طبعاً. ويضيف ناجي علوش أن الحركات الإسلامية الأولى، مثل السنوسية والمهدية، التي نشأت في ظل وجود الدولة العثمانية، كانت مع العرب والعروبة ضد الأتراك العثمانيين، لكنّ الحركات الإسلامية التي نشأت بعد انهيار الدولة العثمانية اعتبرت القومية عدواً، ودخلت صراعاً ضارياً مع الفكرة العروبية، استمر حتى يومنا هذا.
التجزئة، بالنسبة لناجي علوش، ليست البتة دلالة على عدم اكتمال عناصر وجود الأمة، كما يزعم من يقولون بأن الأمة العربية هي “أمة في طور التكوين”، أولاً لأن علينا أن نميز ما بين دولة الوحدة من جهة ووحدة الأمة من جهة أخرى، كما سبق، وثانياً لأن التجزئة جاءت مفروضة من الخارج، بعد تحقق وحدة الأمة العربية، بأشكال مختلفة ومتفاوتة، في العصر القديم والوسيط، ولأن التجزئة مرتبطة بالتبعية للمراكز الرأسمالية العالمية التي كرستها وعملت على استمرارها. فالتجزئة العربية لا تعبر عن تطور طبيعي في تاريخ الأمة، وتمثل حالة راهنة لا حالة تاريخية، وهي ليست كالتجزئة الألمانية والإيطالية، أو تجزئة فرنسا وبريطانيا قبل قيام الدول المركزية فيها، التي عكست مرحلة الإقطاع في تطورها الاقتصادي-الاجتماعي، لتحمل البرجوازيات الأوروبية الصاعدة مشروع توحيد السوق القومية عبر الدولة المركزية، فالوحدة العربية لن تتحقق بالطريق الاقتصادي لأن الكمبرادور، الشكل الأساسي للبرجوازية في الواقع العربي المعاصر، لا يحمل مشروعاً وحدوياً، بل يحمل مشروع تطوير العلاقة مع المركز الإمبريالي.
يستعرض الفصل الثاني من كتاب “الوحدة العربية: المشكلات والعوائق” التجارب الوحدوية المختلفة في العصر الحديث ابتداءً من التجربتين الإنكليزية والفرنسية، حيث قامت الوحدة القومية على كاهل حكم ملكي مطلق فكك التأثير التجزيئي لسيطرة النبلاء والإقطاعيين والنفوذ الديني الخارجي للسلطة البابوية (وهو الغرض الحقيقي من فكرة فصل الدين عن الدولة)، مما رسّخ مؤسسة الدولة المركزية التي تلونت بلونٍ قومي، وقد حدث هذا في بريطانيا أولاً ثم في فرنسا، وبعد أن نشب الصراع بين الملك والبرلمان حول صلاحيات كل منهما، حسمت المعركة نهائياً لمصلحة البرلمان في بريطانيا العام 1689 مع إعلان The Bill of Rights، وحسمت في فرنسا مع الثورة الفرنسية العام 1789، لكن الدولة القومية المركزية كانت قد وطدت وجودها بشكل نهائي، فنمت الطبقة البرجوازية وراكمت الثروة والنفوذ في ظل الحكم المطلق، ثم انتزعت السلطة منه.
ما لبثت تلك الدول القومية طبعاً أن تحولت إلى دولٍ إمبراطورية، تحدوها النزعة للتوسع الاستعماري، وفي حالة بريطانيا بالذات ارتبط تأسيس الدولة المركزية بالسعي لهضم قوميات أخرى مجاورة في اسكتلندا وإيرلندا، لكن ذلك لا يعني أن إرادة الملوك الأقوياء المتجسدة في حكم مطلق هي التي صنعت الأمة بمعزل عن الشروط والقوى الاجتماعية التي تعبر عنها الدولة في النهاية، بل يعني أن السلطة، بصفتها نزّاعة للتوسع دوماً، تسعى لترسيخ وجودها في محيطها القومي أولاً، ثم في محيطها الإقليمي، ثم في محيطها العالمي، ولا يوقفها عن ذلك التوسع شيءٌ سوى اصطدامها بمقاومة عنيفة من خارجها، أو حلول عوامل الضعف من داخلها. فإذا اصطدمت بقوة قومية أخرى في طريق توسعها، ذهبت في مسار توسعي آخر، عالمي، ربما توظفه في تعزيز عناصر قوتها الداخلية القومية وفي حرمان الدول الأخرى منه.
النمط الثاني من التجارب الوحدوية الذي يتناوله ناجي علوش في هذا السياق هو النمط الألماني والإيطالي، الذي تأخر كثيراً عن الوحدة البريطانية والفرنسية، مع أن كلاً من المانيا وإيطاليا لا تضم قوميات ولغات متعددة كبريطانيا، بل تتألف من قومية واحدة وتتحدثان لغة واحدة، لكن تأخر الوحدة الألمانية، بحسب ناجي علوش، جاء بسبب تفكك ألمانيا إلى إقطاعيات عديدة تتمتع بشبه سيادة وحق إبرام المعاهدات مع الدول الأجنبية، ولأن الإصلاح الديني (البروتستنتي) الذي أضعف الإقطاعيات في بريطانيا أدى إلى حرب دينية طاحنة بين تلك الإقطاعيات زادت من تمزقها، ولأن الملوك البريطانيين كانوا يستعينون على النبلاء بعامة الشعب، فيما كان الملوك الألمان يعتبرون الاستعانة بالشعب تقليلاً من شأنهم، ولأن الشريحة المتعلمة في ألمانيا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر كانت تزدري القومية والدولة المطلقة وتهيم بالنزعات العالمية، ولأن الصراع بين بروسيا والنمسا، أهم قطبين في الفضاء الألماني، ترك أثره على قدرة ألمانيا على التوحد، وأخيراً، لأن بريطانيا وفرنسا وروسيا كانت تخشى الوحدة الألمانية وتعمل على إعاقتها.
لذلك تأخرت الوحدة الألمانية قروناً، حتى برزت قوة بروسيا الصاعدة ببرجوازيتها الصناعية وجيشها لتحسم المعركة مع النمسا، ثم مع فرنسا، ولتعلن الوحدة الألمانية العام 1870، من دون النمسا. فقام النمط الوحدوي الألماني على الحسم العسكري، بالحديد والدم، الذي تفرضه دويلة قوية، هي بروسيا، على باقي الدويلات الألمانية. وكانت المفارقة أن هزيمة النمسا وفرنسا على يد الألمان هو الذي هيأ الظروف للوحدة الإيطالية، التي ما كان لها أن تقوم لولا ذلك، بوجود جيران أقوياء، من بينهم إسبانيا أيضاً، كانوا يحرصون على منع الوحدة الإيطالية. وكان من أهم عوامل تأخير الوحدة الإيطالية أيضاً، بالإضافة لقوة النبلاء الإقطاعيين والمدن الحرة، وجود كرسي البابوية في روما، ومحاربة البابوية للنزعة القومية الإيطالية. وفي النهاية، كان الحسم العسكرية من فوق، لا الحركة الشعبية من تحت، هو ما حقق الوحدة في إيطاليا وفي ألمانيا، مع أن الحركة الشعبية الوحدوية كانت أقوى في إيطاليا منها في ألمانيا. وقد أصبح النموذجان الألماني والإيطالي للوحدة ملهمين للكثير من الشعوب في سعيها لتحقيق وحدتها، وعلى رأسها الشعب العربي طبعاً.
النمط الثالث من التجارب الوحدوية التي يعرضها ناجي علوش هو تجارب الوحدة في القرن العشرين، التي قامت في الصين والهند وفيتنام تحديداً، ويبدأ بعرض التجربة الوحدوية الهندية، التي تأسست في سياق حركة مناهضة الاستعمار البريطاني، بالرغم من التنوع العِرقي واللغوي والطائفي الشديد في الهند، فكانت منذ البداية حركة شعبية مناهضة للاستعمار، بدأت بجمعيات طلابية وثقافية وانتهت بالمؤتمر الهندي. وساعد على صهر هذه الحركة انتماء الهنود لحضارة عريقة وتاريخٍ وجغرافيا مشتركيْن، وتحدي التخلّص من الاستعمار، وشيوع لغات الهندي والأردو، والإنكليزية، لغة المستعمر نفسها، ورغبة البرجوازية الهندية بالحفاظ على وحدة السوق الهندية. وقد واجهت بريطانيا حركة الوحدة والاستقلال الهندية بدعم شامل للحركات الطائفية أسفر عن انقسام باكستان عن الهند عند استقلالها العام 1947، ولنا أن نتخيل فقط كيف كان سيكون حال الهند لو تفككت إلى عشرات الدول الصغيرة، بدلاً من أن تكون القوة العظمى التي تمثلها اليوم. وكانت تلك حالة استقلال ووحدة، تحققها حركة شعبية مناهضة للاستعمار تقودها البرجوازية الهندية فعلياً، ولذلك أسست بعد الاستقلال جمهورية ديموقراطية برجوازية.
يوجد في الصين، بالمقابل، تنوعٌ عرقي ولغوي كبير، لكنه ظل محكوماً بهيمنة قومية الهان (بنسبة 90-95% من السكان) واللغة الصينية. وقد عرفت الصين الانقسام والتفكك، لكنها عاشت على فترات طويلة، ومتقطعة، في ظل دولة مركزية واحدة، منذ القرن الثالث قبل الميلاد، فكانت تتوحد قروناً وتتفكك قروناً، حتى جاء المستعمر الأوروبي قبيل أواسط القرن التاسع عشر لتدخل الصين مرحلة من التبعية للقوى الخارجية، والتفكك في ظل مناطق نفوذ أجنبية مختلفة، وهي الحالة التي واجهها الشعب الصيني على مدى أكثر من قرن بمقاومة مستمرة وانتفاضات متتابعة ضد المستعمر والحكومات الخانعة، توجت بالانتفاض على السلالة الملكية الحاكمة وإعلان الجمهورية العام 1912 بقيادة الدكتور صن يات صن. لكن الجمهورية لم يتأتَ لها أن تحكم كل الصين بلا منازع مع نزوع أمراء الحرب المحليين للانفصال بالمناطق التي يسيطرون عليها، والصراع بين الحزب الوطني الحاكم والحزب الشيوعي الصيني، وكثرة التدخلات الأجنبية التي توّجت بتدخل عسكري ياباني مباشر العام 1931، تحول إلى غزو شامل العام 1937. وقد انتهج الحزب الوطني سياسات أدت لانعزاله عن الحركة الشعبية، فيما تمكن الحزب الشيوعي الصيني من قيادة الحركة الفلاحية، التي تمثل أغلبية الشعب، ليخوض حرب التحرير والوحدة بصفته ممثلاً لحركة الشعب الصيني، وساعدت هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، ودخول القوات السوفييتية على منشوريا (التي احتلتها اليابان العام 1931)، في إخراج اليابان من الصين، لكن الفضل الرئيسي في هزيمة اليابان يعود لمقاومة الشعب الصيني، وهناك تقديرات متفاوتة تضع خسائر الشعب الصيني خلال فترة الغزو الياباني ما بين 10 و25 مليون نسمة، وقد سقط ما لا يقل عن أربعة ملايين مقاتل على الجانبين الصيني والياباني ما بين عامي 1937 و1945 فحسب. وبعد انتهاء حرب التحرير، استؤنفت فوراً الحرب الأهلية بين الوطنيين والشيوعيين، وانتهت بهزيمة الوطنيين وإعلان جمهورية الصين الشعبية العام 1949 على كل الصين ما عدا تايوان وهونغ كونغ. وكانت تلك حالة تحرير ووحدة تحققها حركة شعبية فلاحية أساساً مناهضة للاستعمار بقيادة حزب شيوعي ذي توجهات قومية فعلياً، حولت الصين إلى قوة عظمى تتمتع، فيما تتمتع به، بحق النقض ومقعد دائم في مجلس الأمن الدولي.
في فيتنام، الأصغر حجماً بكثير من الصين والهند، كانت القوة الوحدوية التي وحّدت شمال فيتنام وجنوبه شبيهة تماماً بالقوة الوحدوية التي وحدت الصين وحررتها: حركة شعبية فلاحية أساساً مناهضة للاستعمار بقيادة حزب شيوعي ذي توجهات قومية فعلياً، وقد ساعد على تحقيق المشروع الوحدوي الفيتنامي الحس القومي العميق لدى الشعب الفيتنامي الذي تبلور على مدى الألفيات، إزاء الصين أولاً، ثم إزاء قوى الاستعمار الأوروبي واليابان. وكان أول دولة مركزية فيتنامية قد تأسست في القرن الثالث قبل الميلاد، استمرت مئة عامٍ حتى خضعت فيتنام للهيمنة الصينية المباشرة أو غير المباشرة لأكثر من ألف عام، وفي شهادة تاريخية على حقيقة الوجود القومي ورسوخه في الوعي الجمعي، لم تكد تدبّ الفوضى في الصين العام 939 ميلادي، حتى سارعت فيتنام للتحرر من الصين لتعيش في ظل دولة ملكية بقيت موحدة اسمياً حتى عندما كانت تنخرها صراعات الأسر المتنافسة على السلطة، واستمرت الحال هكذا حتى العام 1400 عندما احتلت الصين هانوي من جديد، فتمّ تحريرها بعد عشرين عاماً لتنشأ سلالة حاكمة جديدة استمرت حتى نهايات القرن الثامن عشر عندما بدأت تتنافس بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وهولندا والبرتغال على اختراق فيتنام.
بدأ التغلغل العسكري الفرنسي المباشر تدريجياً للبلاد في أواسط القرن التاسع عشر لينتهي استقلال فيتنام العام 1883 مع حلول الاستعمار الفرنسي كحاكم رسمي للبلاد. ومنذ تلك اللحظة بدأت الهبات والانتفاضات والمقاومة المسلحة. ومع دخول اليابان لفيتنام العام 1940، بالتفاهم مع الفرنسيين المتعاونين مع حكومة فيشي، بات طرد المحتل الياباني هدفاً آخر للمقاومة الفيتنامية. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة اليابان، استمرت المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي وصولاً لمعركة ديان بيان فو الفاصلة العام 1954، التي انتهت بإعلان الاستقلال. غير أن الاستقلال لم يتحقق جنوب فيتنام، لأن الخط الفاصل بين “الفيت مِنه”، حركة التحرير القومي التي يقودها الحزب الشيوعي، والتي تسمى خطأً “الفيت كونغ”، وبين القوات الفيتنامية الموالية لفرنسا – وقد نجحت فرنسا عبر مئة عام من الاحتلال، كعادتها، بفرنسة قطاع من الشعب الفيتنامي، وبتحويل قسم من ذلك القطاع للكاثوليكية – تحول إلى خطٍ فاصل بين دولتين سعت فرنسا، ثم الولايات المتحدة، لتكريس استقلالهما عن بعضهما البعض، أي لتكريس تجزئة فيتنام. وبعد انسحاب فرنسا من المشهد دخلت الولايات المتحدة تدريجياً على خط التدخل العسكري المباشر لتدعيم “استقلال” جنوب فيتنام، وقد استمرت تلك المرحلة بين عامي 1954 و1975، دخلت فيها الولايات المتحدة بقوة منذ العام 1965، وانسحبت العام 1973 بعد تراكم خسائرها وانقلاب الرأي العام الأمريكي ضد الحرب، ومن هنا بدأ ميزان القوى يميل لمصلحة “الفيت مِنه”، ولم يأت العام 1975 حتى سقطت سايغون بأيدي جبهة التحرير القومي، وكان ذلك توحيداً على طريقة ألمانيا، بالحديد والدم، الذي يستمد مشروعيته من حق الأمة بتحقيق وحدتها القومية بالقوة العارية من دون أخذ إذن من أحد.
الطرح الوحدوي في التجربة الناصرية
الجزء الأول: التوجه الوحدوي في مصر قبل ثورة يوليو
إبراهيم حرشاوي
تحتاج مراجعة أي تجربة قومية عربية إلى التطرّق للمفاهيم المركزية كالعروبة والوحدة العربية وما شابهها من المفاهيم التي تشكّل البنية الهيكلية للخطاب الفكري للقومية. وترجع أهمية تسليط الأضواء على دلالة هذه المفاهيم لكشف مدى ديناميكيتها وتماسكها، كما يساعدنا أي تحليل من هذا النوع في تعميق فهم التجارب القومية العربية الذي شهدها الوطن العربي طيلة القرن الماضي من خلال مقاربة متكاملة تجمع بين تحليل الطرح الفكري وتقييم التجربة السياسية. ومما لا شك فيه أن إصلاح الفكر القومي العربي والارتقاء به إلى المستوى الذي يليق بتحديات القرن الحالي لا يمكن أن يتم إلا عبر المراجعة النقدية والمتعددة الأبعاد لمعرفة ما يجب إصلاحه أو تغيبره. وفيما يلي سيتم تناول السياق السياسي المصري، وبالأخص تطور التوجه القومي الذي انبثقت منه الناصرية بهدف التطرق في مادة مقبلة إلى الطرح الوحدوي إبان التجربة الناصرية.
بإمكاننا فصل تطور القومية والوطنية في مصر كطرح سياسي إلى ثلاثة مراحل: مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، ومرحلة ما بين الحربين، ومرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وسنستثني في هذا الاسترسال تجربة محمد علي باشا الوحدوية كونها تجربة تستحق قراءة مستقلة بذاتها.
عرفت الساحة السياسية المصرية، في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الاولى، اتجاهين قومين: اتجاه إقليمي محليّ، واتجاه ببعد عثماني. ونسجل في كلا التيارين أن كلمة الأمة لم تقتصر على القُطر المصري بل شملت على الأقل كل وادي النيل. وكان التيار العثماني الذي مثّله “الحزب الوطني” برئاسة مصطفى كامل هو التوجه المسيطر على الساحة آنذاك، بينما كان “حزب الأمة” المتأثر بالنموذج القومي -الليبرالي السائد في أوروبا يمثل الأقلية. ويمكن اعتبار التيار المتمثل في “مجلة المنار” بزعامة رشيد رضا –وهو تيار إسلامي إصلاحي – تيارا ثالثا يسعى إلى وحدة الدول العربية والإسلامية. وقد تميّز هذا التوجّه بإدخال فكرة القومية العربية بصيغة إسلامية.
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى وتفكيك الدولة العثمانية، اختفت من الساحة السياسية المصرية التوجّهات المؤيدة للدولة العثمانية وبرز حزب الوفد الذي ناضل لتحرير مصر والسودان ولبناء دولة حديثة بنفحة ليبرالية. ومن جهة أخرى، برزت حركة الإخوان المسلمين كامتداد للتيار الذي كان يمثله رشيد رضا وأتباعه. وكان هدف هذا التيار استقلال مصر وبناء خلافة إسلامية تشمل كل الدول العربية والإسلامية. وقد تميّزت هذه الحركة بعدائها لمشروع القومية العربية الذي اعتبرته متناقضاً مع الدين الإسلامي. وظهرت، بالإضافة إلى ذلك، “الرابطة الشرقية” التي كانت منفتحة إزاء المشرق العربي من دون غلاف إسلامي أو قومي، كما ظهرت بعض الجمعيات ذات الطابع الإسلامي التي اكتفت بالدعوة إلى التضامن بين المسلمين. وقد طالبت تلك المنظمات، وهي “جمعية الشبان المسلمين”، بالوحدة العربية سنة 1933م.
خلال النصف الثاني لثلاثينيات القرن السابق بإمكاننا التحدث عن مرحلة ثالثة برز فيها بشكل تدريجي تيار عروبي مستقلّ جسّدته تنظيمات مثل “مصر الفتاة” و”جمعية الاتحاد والترقي”. عرفت جمعية “مصر الفتاة” تحوّلا من منظمة تسعى إلى وحدة بلاد وادي النيل إلى منظمة تدعو إلى قومية مرتكزة على الإسلام، وتعتبر مصر زعيمة الكتلة العربية. وقد غيّرت في هذه المرحلة اسمها إلى “الحزب الوطني الإسلامي”. ويقول الدكتور البشري في هذا الصدد “أن هذا الحزب عرف باتجاه عربي واضح منذ تكوينه وأنه لم يلحظ في تاريخه قط أنه وضع الوطنية المصرية في تعارض وامتناع مع القومية العربية”. كما يشير البشري أن هذا الحزب عرف الكثير من اضطراب المفاهيم السياسية بين الوطنية المصرية والقومية العربية، وبين الجماعة الإسلامية.
في المرحلة نفسها أعلن مؤسس منظمة “عروبة مصر”، أحمد حسين، عن ضرورة تحقيق الوحدة العربية قبل الوحدة الإسلامية في رسالة موجهة إلى “جمعية الشبان المسلمين”، وحدد مرتكزات القومية العربية بـ”وحدة اللغة، ووحدة الدين ووحدة الثقافة ووحدة الإيمان”. وفي سنة 1942م تأسست منظمة تحت قيادة فؤاد أباظة اسمها “الاتحاد العربي”. وقد امتازت هذه المنظمة بخطها القومي العربي المحض، ودعت لتكوين رابطة تضم سورية ومصر ولبنان وفلسطين والأردن والعراق واليمن والسعودية وليبيا والجزائر والمغرب. واعتبرت هذه الجمعية اللغة العربية أساس القومية العربية بدلا من الدين. فكانت هذه الجمعية، أول منطمة سياسية في مصر تطرح الانتماء القومي كمشروع سياسي خارج الإطار الديني أو الطائفي. وتوسّع نشاط “الاتحاد العربي” عبر إنشاء فروع له في بغداد وبيروت وعمان وبلاد المهجر، كما دعم الحركات الوطنية في لبنان وسورية، وأرسل الأموال والسلاح لمساعدة الفلسطينيين في مقاومتهم للغزو الصهيوني.
إلى جانب منظمة “عروبة مصر” و منظمة “الاتحاد العربي” ظهرت خلال هذه الفترة جمعيات قومية عربية عديدة منها: “المؤتمر العربي العالمي”، الذي تحول بعد ذلك إلى “المؤتمر الشعبي العربي العام”، و”جماعة الوحدة العربية” التي تزعّمها أسعد داغر.
ولا تقل أهمية الدور الذي لعبته الشخصيات الفكرية والسياسية ذات التوجه العروبي عن دور المنظمات السياسية في بثّ الروح القومية العربية في الساحة السياسية المصرية قبل ثورة 23 يوليو. وكان من بين تلك الشخصيات التي أثّرت على عملية بروز الخطاب القومي كل من: عزيز علي المصري، ومكرم عبيد، وساطع الحصري، وعبد الرحمان عزام. وينبغي التوقف هنا عند الدور الذي لعبه ساطع الحصري في مصر، كونه ساهم في بلورة الطرح الفكري للقومية العربية بشكل علمي وعقلاني، وبالإضافة إلى ذلك، فقد ساهم الحصري أيضا في مناقشة وتفنيد الأطروحات القومية المصرية والفرعونية. كما ساهم في تعريف المثقفين المصريين بشكل نقدي على النظريات القومية الأوروبية. وقد كانت كتاباته تلاقي إقبالا كبيرا في مصر وسائر الأقطار العربية. أما على المستوى السياسي، فكان عبد الرحمان عزام هو أول رجل سياسي مصري حاول أن يدفع سياسة مصر نحو التفاعل والالتزام بالقضايا العربية. ولما انتُخب في سنة 1945م أمينا عاما لجامعة الدول العربية، حاول ترجمة حاجة مصر الاقتصادية والإستراتيجية إلى رافعة لتحقيق الوحدة العربية.
يتضح من كل ما سبق أنّ عبد الناصر أمضى سنوات مهمة في تكوينه السياسي خلال المرحلة التي بدأ فيها الطرح القومي العربي يطفو على سطح الساحة السياسية المصرية، خاصة خلال مرحلة ما بعد 1930م. فخلفية المعلومات التي تمّ الإشارة إليها أعلاه ستكون ضرورية لقراءة المفاهم القومية العربية التي هيمنت على الخطاب الناصري، وبالأخص مفهوم الوحدة العربية.
مراجع:
-الدكتورة مارلين ناصر، التصور القومي في فكر جمال عبد الناصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1984م
-الدكتورة بثينة عبد الرحمن التكريتي، عبد الناصر: نشأة وتطور الفكر الناصري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2000م
عروق الوحدة العربية لا تزال تنبض، وستظل – الجزء الأول
السيد شبل
ليست القضية شجون وحنين إلى ماضٍ قريب كان الحديث فيه عن الوحدة العربية يطغى على كل حديث سواه ويطرحه خارج حلبة الصراع، ليست القضية هكذا إذن، وكل من يرغب في خنقها في هذا الحيز فإنه يتآمر عليها دون أن يدري، ذلك لأن الوحدة العربية معنى حاضر لا يغيب، يعيشه العرب يوميًا بشرط أن يجمعهم محيط واحد بأشقائهم، سواء أكان عبر وسائل الاتصال الحديثة أو عند سفرهم وانتقالهم من قطر عربي إلى آخر، حينها يدركون كم أن الروابط بين أبناء هذا الوطن العربي جذرية لم تصطنعها الشعارات، ولم يحجبها غيابها. تلك إذن حقيقة كونية، كطلوع الشمس من المشرق وتتابع الليل والنهار.
لعلها اللغة المشتركة أول ما يلمسه المرء كرابط بين أبناء هذا الوطن، سواء عند انتقاله بين أرجائه أو ربما سفره خارجه، حينها (عند السفر للخارج) يكون البحث عن العربي هو أول مطلب للفرد (بحث الشقيق عن الشقيق)، للتعرّف به، ومن خلاله على هذا العالم الجديد، وحده ابن جلدته من يتكلم لغته، وهو دون غيره الأمينُ عليه في بلاد الغربة.
ليست مبالغةً، ولا خضوعًا لوطأة الشعارات، إن قلنا أنّ من لم تأسره أناشيد الوحدة وخطابات أزمنة المدّ العربي، حتمًا، سيكتشف معانيها بنفسه اكتشافًا لا حاجة معه إلى كثيرِ تنظير، وحسْبنا حينها أن نعرّفه بأن ما يشعر به في غربته عند اصطياده للعربي فيها، ليس إلا ترجمة عملية لشعور فطري واقعي بالانتماء إلى وطن واحد يمتد من جبال زاجروس شرقا حتى الأطلسي غربًا، ومن جبال طوروس والبحر المتوسط شمالًا حتى الصحراء الكبرى والمحيط الهندي جنوبًا، تلك إذن المعادلة ولا شيء أكثر!.
ليس هذا فحسب، هناك أيضًا عوامل شتى ومركبة، يستنبطها العربي خلال مسيرة حياته أو عند تعرّضه لحكاوي التاريخ، يثبُت بها لديه أن أسس الوحدة ليست افتعالًا من واضعيها، وإنما هي رصدٌ أمينٌ للواقع، لا أكثر ولا أقل. أول ما يدركه العربي ببساطة، بعد وحدة اللغة التي أشرنا إليها، هو تقارب سحن، وملامح، وألوان، وأطوال أبناء الوطن العربي، ومع معرفته بأن الموروثات الجسدية لا تفنى ولا تُستحدث من عدم، وأن تأثير الطبيعة والتغذية والعوامل النفسية فيها يظلّ محدودًا لا جذريًا، يؤثر ربما على درجة سمرة البشرة أو امتلاء الجسد أواستقامة العود، يتأكد لديه حتى قبل أن يتحدث علماء الأنثربولوجيا في مشارق الأرض ومغاربها، أن هذا الحوض العربي ينتمي أبناؤه إلى عائلة جنسية واحدة، وأن جذورهم تعود إلى أصل ومنبع واحد قريب، تطوروا وتفرعوا منه، وبه شكلوا الأساس القاعدي للأقطار العربية من المحيط إلى الخليج، فلا تدري مَنْ ساكن النيل ومن ساكن الفرات، ومن ساكن جنوب الجزيرة العربية ومن ساكن جنوب البحر المتوسط.. يدرك هذا المركب العميق، دون أن يسقط في أوحال العنصرية، وذلك لسببين، أولهما: أن الوطن الذي ينتمي إليه قد حكمت عليه الجغرافيا أن يكون في وضع مركزي، تمر به حركة التجارة العالمية، ويشهد لثرائه وغناه قيام الدول والإمبراطوريات منذ فجر التاريخ، وذلك لا يعني سوى أنه كان معرّضاً طوال تاريخه لمؤثرات جنسية شتى سواء من أفريقيا السمراء، أو مشارق آسيا الصفراء، أو أوروبا البيضاء، أو من الفرس والأتراك على تخومه، وبما أن المجتمع العربي خاصة في الأقطار الكبيرة لم يعرف غالب تاريخه وبشكل مؤثر الجزر والأسافين البشرية فقد اختلطت الدماء بالدماء وانصهرت الأجساد في الأجساد وتوحّد الجميع في كيان واحد، وانتفت مع ذلك أوهام العنصرية وتخاريف نقاوة الدماء. كما أن سكان الوطن العربي، بحكم أصول تكوين الأجناس البشرية، أقارب أثنولوجيًا لغالب من هم قريبين جغرافيًا، لذا تجد كثير من العرب يميل في السحنة إلى سكان دول جنوب أوروبا مثلًا أو بعض الهنود؛ أما ثانيهما، فهو العامل الديني الإخباري الذي علّم المرء منذ الصغر أن البشر شرّقوا أم غرّبوا فعنصرهم واحد (تراب وماء)، وأن أبيضهم وأحمرهم وأسودهم يرجع إلى أب واحد وأم واحدة، وعليه كانت القومية العربية تبعًا لهذا الترتيب هوية ثقافية حضارية، مفارقة على التمام لخزعبلات العنصرية. (لاحظ هنا أن الحديث يدور حول الوعي المبدئي وحول السائد طوال التاريخ العربي، وعليه فالحديث لا يستبعد وجود استثناءات، لكنها تؤكد القاعدة لا تنفيها).
أما ثاني ما يدركه العربي من عوامل الوحدة عند بلوغه مبلغ التعلم، في حال كان محصنًا من ترهات المستشرقين معزولًا عن تلفيقاتهم، فهو يدرك، بما يبصره ويستبصره، وحدة الحوض الحضاري الممتد بلا انقطاع جغرافي حاد من شرق الوطن إلى غربه على مساحة 14 مليون كم مربع، حتى أن كثير من المؤرخين يقللون من مسألة اعتبار البحر الأحمر حاجراً مائياً معتبَراً بين أفريقيا وآسيا، وعلى كلٍ فسيناء كانت حاضرةً كحلقة وصل برية طوال التاريخ، كما أن اختراع السفن والإبحار ليس حديثًا بل هو قديم قِدم حضارة الإنسان الأولى، وعليه فقد شهد هذا الحوض، على مرّ الزمان، حلقات متتابعة من التفاعل والهجرة والانتقال، ومن المناسب هنا الإشارة إلى التساؤل الاستنكاري المنطقي الذي طرحه البروفيسور “علي مزروعي” حول السبب الذي جعل الجغرافيين يضمون موروشيوس التي تبعد ألف ميل عن الساحل الأفريقي ومدغشقر التي تبعد خمسمائة إلى أفريقيا، في حين استبعدوا عدن التي تقع على مرمى حجر من سواحل الصومال؟!، كذلك هناك ما ساقه “جمال حمدان” في معرض حديثه عن مصرية سيناء، حول أن الشام كله، إذا تتبعنا المنطق الذي يريد أن يفصل ويقسّم الأوطان على أساس القارات، ليس عصيًا على أن يكون من الناحية الفيزيوغرافية ضمن أفريقيا أكثر من آسيا، حيث أن جبال طوروس هي النهاية الطبيعية للأخدود الأفريقي العظيم، بل إن شبه الجزيرة العربية كلها في وضع حرج، بين ذراعي البحر الأحمر والخليج العربي ثم بحر العرب، يجعلها تسقط بين القارتين. وهذا فقط لهواة التنظير الجغرافي واختلاق العوائق.. أما في الواقع فإن مصر كانت دائمًا في آسيا بالتاريخ، كما هي في أفريقيا بالجغرافيا.
وإذا قرّبنا بين هذه النقطة وبين ما سبقها، علمنا أن هذا الوطن يتحدث من البداية لغة واحدة (حتى قبل أن يعتمد عربية القرآن الكريم) بلهجات مختلفة، وما دام علماء اللغة يؤكدون صباح مساء أن المشترك بين اللغات جميعها في مشارق الأرض ومغاربها كثير ويثبت وحدة الأصل، فالأولى أن تكون اللغات التي يتحدثها أبناء هذا الحوض الحضاري العربي الموصول بلا انقطاع قريبة جدًا جدًا، هكذا يكون الاستنباط المنطقي حتى قبل أن يؤكد علماء اللغة المعاصرين تقارب ألسنة ساكني الوطن العربي قديمًا، وأن لغاتهم تنتمي إلى مجموعة لغوية واحدة، وأن الاختلافات لم تزد في يوم من الأيام عن الاختلافات العادية التي نجدها حاليًا بين الأقطار العربية خاصة كلما اقتربنا من المفردات العامية. ومن الجدير هنا لفت الأنظار إلى ما طرحه “جمال حمدان”، في سياق حديثه عن أنثربولوجية التعريب، وهو أن المشترك بين العربية التي دخلت مصر في القرن السابع الميلادي وبين اللغة المصرية القديمة يبلغ 10 آلاف كلمة، مما سهّل التقريب بين العنصرين (أبناء ذات العائلة)، وشجع الامتزاج الكامل بينهما بحيث تحوّل التعريب إلى بوتقة للشعبين، ناهيك عن العلاقة العضوية بين اللغة القبطية القديمة واللغة العربية، وهي علاقة لا تقل تجذراً عن علاقة اللغة الأكادية باللغة العربية.
أما ثالث ما يكتشفه العربي، في رحلته الذاتية لاكتشاف عوامل الوحدة، هو المصير المشترك، وأن الوحدة بين مصر وسورية، التي حصرت الكيان الصهيوني بين فكي الكماشة وأزعجت الدنيا كلها في أواخر الخمسينيات لم تكن وليدة إخلاص وعروبة وزعامة جمال عبد الناصر فحسب، وإنما كانت استجابةً في الحاضر لنداءِ وإلحاحِ التاريخ، بل كانت حلقةً في سلسلة ممتدة، منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد وربما أبعد من ذلك، حين اكتشف حكام مصر القديمة من الأسرتين الثامنة عشر والتاسعة عشر أنْ لا أمان لهم إلا بتمددهم بمحاذاة ساحل المتوسط، كإمبراطورية دفاعية، تتصدى لغارات جماعات الحيثيين الهندوأوروبيين سكان الأناضول، حينها أدركوا كم أن جبال طوروس لا يمكن لها إلا أن تكون الخط الدفاعي الأول عن مصر، وأن فلسطين لا يمكن لها أن تبقى خارج الدائرة السياسية المصرية (لاحظ أن: فلسطين بقيت لثلاثة قرون أو أكثر تحت السيادة المصرية، ولم تبتعد عنها إلا مع ضعف الأسر الفرعونية وهجمات شعوب البحر من جزر المتوسط واليونان والبلقان وروما في نهايات القرن الحادي عشر قبل الميلاد). أي أن إدراكهم لمفهوم الأمن القومي، هو ذاته ما يدركه ويلخّصه المصري المعاصر، حين يسمي الجيش العربي السوري بالجيش الأول، ويؤمن بأن الباديء بسورية، حتمًا، سيثنّي بمصر.
ولنُضِف في ذات السياق كمثالين، لا أكثر، الأول: نجاحات الملك العسكري المصري الفذ “تحتمس الثالث” في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، في توحيد جناحي الأمة العربية مصر وسورية، كوحدة إنسانية تمزج ما هو حضاري بما هو عسكري، وتؤكد أن الوحدة حماية للبلدين ضد الأعداء الشماليين، مما يعنى خلو هذا النمط الوحدوي من عناصر الهيمنة الذكورية أو الرغبة في التوسعات الاستعمارية. حيث كان من ضمن حسن تدبير “تحتمس الثالث” تشجيعه أبناء الزعامات الشامية والمرشحين لوارثة الملك على القدوم إلى مصر ليتشبّعوا من حضارتها ويتزوجوا منها فتمتزج الدماء بالدماء، وتتحقق الوحدة القابلة للاستمرار. والثاني: تجربة محمد علي باني نهضة مصر الحديثة ونجله إبراهيم باشا، الذي حقق شكلًا من أشكال الوحدة العربية الاندماجية، ونجح في لمّ شمل الأمة، بغض النظر عن نواياه حينها، وقد كان له أن يغير وجه التاريخ ويعيد عقارب الساعة لتسير في الاتجاه الصحيح، لولا تكتل الدول الغربية ضده، وإعانتهم للإمبراطورية العثمانية عليه، وشنّ الحملات العسكرية على الأراضي الواقعة تحت سلطته في مصر والشام والجنوب العربي، إلى أن انتهى الحال بتوقيع معاهدة لندن 1840 ميلادية، والتي أردات حصار مصر داخل حدودها، وبالتالي القضاء على أية فرصة للتوحد العربي، ثم تلى المعاهدة بداية التدبير لغرس كيان استيطاني عنصري (الكيان الصهيوني) يفصل شرق الوطن العربي عن غربه، ويعطّل أي مسيرة مصرية في المستقبل تسعى في هذا الاتجاه، وكان بطل هذه القصة هنري بالمرستون وزير الخارجية الإنجليزي، وبالمناسبة، فـ”بالمرستون” فوق ما سبق يعتبر من أوائل من تبنّوا مشاريع إشاعة الفوضى الداخلية في الدول المعادية لسياسة بلاده، كمحاولة لإضعافها من داخلها، فكان هو (كوندليزا رايس وبيتر آكرمان وجورج سورس) القرن التاسع عشر، أو كانوا هم بالمرستون القرن الحادي والعشرين!.
أما رابع وخامس وسادس ما يمكن أن يكتشفه العربي خلال رحلته الحياتية، وتؤكد لديه إحساسه الغريزي بالانتماء إلى هذا الوطن العربي الكبير، من دون استفاضة واسعة في الشرح والتفصيل، فهي وحدة الثقافة ووحدة التاريخ ووحدة العدو، أغلب العصور، بداية من الاستبسيين، فالحيثيين، فشعوب البحر، فالفرس، فالإغريق، فالرومان، فالفرنجة (الصليبيين)، فالمغول، فالعثمانيين وحتى الاستعمار الغربي والكيان الصهيوني في العصر الحديث، وهذه قضية شديدة الأهمية تلعب دورًا بالغَ الحساسية في مسألة ربط المصير وتوحيد الأطراف مع القلب، لكنها إن عولجت من زاوية ضيقة فقد تفضي بالفكر العروبي إلى التخندق خلف أسوار الصراع الحضاري ونظرياته الخبيثة، فهذا ضلال خطير في المنهج لأن مختلف الشعوب التي غزت الوطن العربي جرى معها عملية تلاقح حضاري وامتزاج واستيعاب، ولو حتى في أوقات أخرى غير أوقات الغزو والمقاومة، بل جرى مع بعضها تحالف ضد عدو مشترك (كما يجري الآن عند التحالف مع إيران وروسيا وأمريكا الجنوبية وكوريا الشمالية ضد الطرف الصهيو- أمريكي)، ونحن عند ذكر مسألة تعرّض ساكني هذا الحوض الحضاري الواحد لذات الأخطار من ذوات الأطراف منذ القدم، إنما نسوقها كعامل مضاف من عوامل الوحدة، لا كعامل يفضي إلى الانعزال والتقوقع وادعاء المظلومية والحذر من الآخر بالمطلق ودون عقلانية، كما أنه في حال تضييق العدسة سنجد أن عصورًا مختلفة قد شهدت صراعات أثّرت بالسلب على مسيرة النهضة بين الأشقاء سواء داخل الوطن العربي ككل، أو داخل كل قطر عربي على حدة.
إذن فنحن في حاجة إلى استحضار مكثف لمعاني الأخوة الإنسانية عند طرح القضايا القومية حتى لا ننزلق إلى أفخاخ التعصب الشوفيني الأحمق، كما أننا بحاجة إلى قومية جذرية ثقافية وحضارية (لا عرقية) عند التعرض للأطروحات الإنسانية حتى لا نذوب.. وهذا ما تلخصه الآية الكريمة: “إنا جعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا”.
يمكن هنا، ولو حتى بتجوّز، أن نسوق، ضمن عوامل وحدة السمات الثقافية، وحدة المزاج النفسي، تلك التي تتجلى حتى في نوع الفن الذي نفضله، وطريقة تشجيع فريق كرة القدم الذي ننحاز إليه، وتفاصيل الحياة اليومية من مأكل ومشرب وملبس.. طبعًا مع الاعتبار والتفهم لكل الفروق بين الأقطار، والخصائص المزاجية لساكني كل واحد منها، لكننا فقط نراها كما نرى الفروق داخل القطر الواحد بين شماله وجنوبه، أو بين فلاحيه ورعاته، أو بين سكان ساحله البحري وسكان أوديته… وإلخ.
أخيراً، وليس آخرًا، يأتي الدين كأحد أهم العوامل المكونة للحضارة، باعتباره أهم مكونات المرء الذاتية، ونعني هنا الشق الروحاني المطلق، لا الجانب التنظيري الضيق. ومن هنا نرى الدين من مستوى ذاتي ينقل المرء من البهيمية والسير خلف الغرائز إلى الآدمية والحرية الحقيقية، ويتخطى في هذا حاجز اللفظ إلى المعنى، وحجاب الصورة إلى الجوهر، وعليه فكلما اكتمل المرء معنويًا (روحانيًا) كلما صار أكثر وعيًا بمفردات الحياة حوله، وليس التوحد مع أبناء وطنه إلا واحد منها، بل وتعطيه تلك الدفعة المعنوية القدرة على تأطيرها في السياق السليم، بل وتسمح له في أوقات الخطر بالارتكان إلى جدار صلب هو ليس إلا الفطرة الإنسانية السوية التي تدور العبادات في حقيقتها حول فكرة إزالة الحواجز المتوهمة بينها وبين المرء، وليست تلك الحواجز سوى النفس وأطماعها وغرورها.. وإلخ، الخلاصة في كلمة واحدة، هي “الإيمان”، الذي يصل العبد بخالقه، ويوحّده مع ما حوله، ويجعله باذلًا لنفسه وماله ووقته من أجل قيمة أسمى ومعنى أهم. وهذا عندنا هو الاعتبار الأول لدور الدين في مستواه الروحي الأولي الخام والخامة، والذي ينحدر عنه ويتشكل منه سائر المستويات الأخرى، والتي منها ننتقل إلى الدين الإسلامي الذي يدين به أغلب المواطنين العرب والذي يلعب دور المادة الصمغية التي تقرّب وتؤلف وتمزج بينهم (طبعًا إذا تم استبعاد دعاوى الطائفية وتم وأدها في مهدها)، والذي كان انتشاره (أي الإسلام) بلسان عربي مبين مؤذنًا بانفتاح المنطقة العربية على بعضها وانصهارها في بوتقة واحدة، وكذلك إلى دور المسيحية العربية التي أخذت طابعًا وطنيًا منذ القرون الأولى في العراق والشام ومصر وضَعَها في خصومة مع الكنيسة البيزنطية الممثلة للمستعمر الرومي، وهي خصومة جسدت مشروعية المقاومة القومية للاستعمار، أي أنه، بحسب ما يختصر “إبراهيم علوش” الأمر ويبلوره، كان صراعًا مقنعًا بين قومية عربية مضطهَدة، وقومية رومية مضطهِدة.. وقد مهد ذلك الصراع، بشكلية القومي والديني، لمجيء الإسلام بشكل طبيعي إلى بلاد الشام ومصر بلا قتال، لا بل حتى بتأييد الجماهير العربية له وانتقالها إلى صفوفه.
أما عن وضع الدين كلاحم للأمة قبل الميلاد، فلنشِر إلى أن النبي إبراهيم عليه السلام قد جاء من العراق حاملًا دعوته، وعبر إلى أرض كنعان العربية (فلسطين حاليًا)، والتقى ملوكها، ثم انتقل إلى مصر وتزوج منها السيدة هاجر أم ولده إسماعيل عليه السلام جدّ عرب الجزيرة الذي جاء من أصلابهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فكان النبي إبراهيم (من العراق إلى الشام إلى مصر إلى الجزيرة العربية ورفع قواعد البيت الحرام ثم إلى الشام من جديد…) كمن يلحم المنطقة بعضها ببعض ويؤسس للجسور الرابطة بينها منذ أكثر من 4 آلاف سنة، ومنه ننتقل إلى النبي يوسف الذي دخل إلى مصر في القرن الثامن عشر أو السابع عشر قبل الميلاد، وكانت قصته مع تعبير الأحلام ثم الوصول إلى خزائن الأرض فيها، ثم موسى عليه السلام الذي ولد في مصر ثم خرج منها ليلتقي النبي شعيب في الجزيرة العربية، ثم يعود ليتصدى لطغيان فرعون مصر ويخرج بقومه إلى سيناء. لاحظ كمّ التفاعلات الحاصلة في المنطقة، والثابتة دينًيا منذ أربعة أو خمسة آلاف سنة.
مصادر:
– شخصية مصر الجزء الثاني.. جمال حمدان
– من فكرنا القومي الجذري.. إبراهيم علوش
– عروبة السودان ثقافيًا.. الخضر هارون
– مصادر متنوعة عبر الإنترنت
كتاب المشروع القومي من الدفاع إلى الهجوم لناجي علوش، عرض سريع
جميل ناجي
نودّ في هذا المقال تقديم رؤية المناضل ناجي علوش لقضية الوحدة ضمن رؤيته العامة للمشروع القومي من خلال قراءة في كتابه “المشروع القومي من الدفاع إلى الهجوم” (الدار العربية للكتاب، 1991، والكتاب متوفر الكترونياً على موقع ناجي علوش على الإنترنت).
لا شك أن المشروع القومي تعرض لانتكاسة قاسية مع وصول السادات للحكم، لكنّ هذا لا يمنع أن يعود هذا المشروع للوقوف على قدميه مجددا. يلخّص ناجي علوش في هذا السياق حاجة المشروع القومي للبرامج السياسية التي تحدد الأهداف، وتخلق رؤية واضحة حول القضايا الخلافية. ويرى أنّ وحدة الأمة تحتاج لبرنامج يتصدى لتحقيق أهداف الوحدة والتحرير والنهضة، يتمثل في برنامج الثورة القومية الديمقراطية الشعبية. ويضيف حاجة الأمة إلى توحيد الأطر السياسية والقيادة وكل القوى القومية والديمقراطية الملتزمة بالمشروع القومي تحت سقف برنامج سياسي واحد.
يرى ناجي علوش أن تحقيق الوحدة وإحباط مخططات التجزئة يتطلب بناء قوة قومية وحدوية من خلال تكثيف التعبئة القومية، لأنّ القوى القُطرية لا تستطيع أن تنجز مشروعا قوميا بل هي غالبا ما تمثل النقيض، من خلال الاحتماء بالطوائف والمذاهب في مواجهة الحل القومي الديمقراطي الثوري، مما أدى إلى زيادة الشرخ في جسد الأمة. وبالتالي يبدأ برنامج الوحدة من اعتبار حالة الوحدة عودة بالأمة إلى وضعها الطبيعي (الذي يتجلى في الكثير من المظاهر، رغم أنف الحدود والجمارك)، والتعبير الأمثل عن مصلحتها، ويستند إلى وعي أوسع جماهيرها وإلى نضال قواها الحية، وخاصة الفئات ذات المصلحة. وبالتالي فإنّ وحدة الأمة تفرض وحدة برنامج تحريرها، وترفض الأطروحات الداعية إلى البرامج القطرية. ويلفت ناجي علوش الانتباه إلى أنّ الفكر لا يستطيع وحده أن يغير مجرى الصراع إلا بالتفاف الجماهير الواسعة حوله، من خلال خلق الأطر والمؤسسات المعبرة عن إرادة الجماهير، بمعنى تحوّل الفكر إلى حركة شعبية واسعة فلا يبقى معزولا في رؤوس النخب، أو محنطا على رفوف المكتبات.
نحن مطالَبون إذن بأن نعمّق الوعي بالأمة العربية، وأن نجعل من هذا الوعي أساسا لوجود دولة عربية واحدة، لأن الأمة العربية تعبر عن وجودها بالدولة الواحدة. فالتجزئة تتناقض مع وجود الأمة لكنها لا تلغيها، لأنّ وجود الأمة تاريخي والتجزئة طارئة لا تلغيه، لكنها تعرّضه للخطر كما يقول ناجي علوش. وإضافةً إلى التجزئة فقد لعبت الاتجاهات الدينية الطائفية فوق القومية، والاتجاهات الوطنية المحلية واليسارية دور المشوش على الاتجاه القومي، واستخدمت في ذلك كل الأساليب والمسلكيات الملتفة والدعاوي الملفقة. على أي حال يعتبر ناجي علوش بأن المشروع العربي القومي الحديث قصّر كثيرا في طرح المشروع السياسي، وتحديد طبيعته وأهدافه وأبعاده.
يقول ناجي علوش أنّ تاريخ الأمة العربية يثبت أن وجود الأمة أسبق من وجود الدولة، فوجود أي أمة هو نتاج عملية تاريخية طويلة، لا تبدأ بقيام دولة واحدة، ولا تشترط دائما وجود دولة واحدة، وإن كانت عوامل وجود الأمة تدفع دوما نحو التوجّه لقيام الدولة الواحدة. ويعزي مرور الأمة بمراحل من التجزئة إلى عوامل عديدة أهمها الصراع على السلطة السياسية، ومحاولات الانفصال عن السلطة المركزية، إضافة إلى التدخل الخارجي وحلفائه المحليين. لكن يبقى وجود الأمة كعامل تاريخي قائمٍ على وحدة اللغة والثقافة عائقاً أمام الاحتلال الخارجي والتجزئة، ودافعاً لقيام الدولة الواحدة عندما تتوفر القوة القادرة على تحقيقها. ثم إنّ عملية تكوين الأمم عملية تقدمية دوما باتجاه التاريخ، وبالتالي فإنّ نقد السياسات أو المواقف الرجعية لبعض الحركات القومية لا تدفع المناضل لاتخاذ موقف معادٍ من وجود الأمم. فالحركة القومية قد تكون رجعية، ولكنّ النضال لوحدة الأمة تقدميٌ دائما.
لماذا لم تتحقق الوحدة إذن؟ يعزي ناجي علوش السبب إلى ثلاث عوامل رئيسية تتمثل أولا، في عجز الحركة القومية، لأنها لم تمثّل إرادة شريحة أو طبقة أو تحالف طبقات، ذات مصلحة في الوحدة، ولم تمتلك القدرة النظرية والعملية لتحقيق البرنامج القومي. وهي لذلك لم تستطع أن تحقق النهضة السياسية الاجتماعية التي أنجزتها أمم كانت محتلَة ومتخلفة كالهند والصين. إضافة إلى أنّ هذا العجز سمح للاتجاهات المختلفة من اليسار غير القومي إلى اليمين غير القومي، إلى القوى الطائفية، أن تنطلق في مواجهة المشروع القومي تشريحا وتجريحا، وقد ساعد التيارات اليسارية الطفولية والتقليدية على تبرير السياسات غير القومية. أما التيارات السلفية التقليدية منها والجديدة، فقد وجدت الفرصة ملائمة لخوض هجوم حاسم ضد القضية القومية كلها.
ثانيا، استعادت القوى الرجعية، المعادية للوحدة القومية ومشروع التحديث الجذري، قدرتها على الهجوم، نتيجة فشل المشروع القومي الثوري والمحافظ من جهة، وارتباط هذه القوى بمخططات الإمبريالية الأمريكية من جهة أخرى. لقد وجهت القوى القومية المعادية للإقطاع والكمبرادور في أقطار عربية رئيسية ضربات للإقطاع والرأسمال التجاري والمصرفي، مما حفّز القوى الرجعية على خوض معركة الدفاع عن مصالحها. وفي الوقت الذي كانت فيه القوى القومية والوطنية عامة تدعو إلى العلمانية والتحديث، فإنّ القوى الرجعية حرصت على استخدام الايديولوجيا الدينية، وتشجيع بناء الأحزاب والقوى الدينية.
ثالثا، القوى الإمبريالية، التي ساندت القوى الرجعية في مواجهة القوى الثورية والديمقراطية، وواجهت الوحدة القومية بمشاريع ما فوق قومية إسلامية، أو أممية طبقية معادية للقومية، أو بمشاريع قُطرية يسارية. وقد لعبت القوى الإمبريالية بموضوع الوحدة العربية للتغطية على مشروع التجزئة المتمثل في سايكس-بيكو وتبعاته. ثم صار اللعب بالمشاريع الإسلامية على رأس جدول أعمال البرنامج الإمبريالي. وفي إشارة يتألق ناجي علوش عندما يتنبأ (قبل عقدين ونصف) أن الإمبريالية الجديدة ستغطي مشاريعها بغطاء طائفي يذر قرونه على كل صعيد.
وحول بدايات نشوء المشروع القومي، يتطرّق علوش إلى المسألة الشرقية، وكيف جاء ضرب محمد علي باشا على خلفية أمرين خطيرين، فهنالك أولاً نقل مركز السلطة إلى القاهرة العربية، أو تحويل القاهرة إلى مركز إقليمي رئيس، مما يتضمن عودة السلطة إلى مركز عربي وعاصمة عربية، وبالتالي عودة العرب إلى لعب دور سياسي عسكري. وثانيا، بناء دولة حديثة مصنّعة، مما يعني تطوير المواجهة مع القوى الاستعمارية. ولقد أثبت محمد علي ذلك في حروبه مع الجيوش العثمانية، وقوات الوهابية، والثورة اليونانية. لقد حدّت السيطرة الأوروبية من حرية محمد علي باشا (في محاولاته في تحقيق الوحدة) في دعمها المباشر وغير المباشر للدولة العثمانية، وقد هُزِم محمد علي دبلوماسيا ولم يُهزَم عسكريا، وإن سياسة المسألة الشرقية ما زالت قائمة إلى وقتنا هذا.
ويتوجّه ناجي علوش في طروحاته حول مسألة الوحدة، إلى ضرورة مراجعة تجارب النضال الوحدوية، وتحديد قوانين عملها من أجل تطوير النضال القومي ليكون قادرا على تحقيق الأهداف القومية، وإلى ضرورة دراسة الواقع الراهن وتحديد معوّقات الوحدة فيه، من أجل امتلاك القدرة على وضع البرامج اللازمة لإعادة بناء الحركة القومية، وتطوير النضال القومي على جميع الصعد. حاولنا هنا تقديم بعض الطروحات العامة حول قضية الوحدة والمسألة القومية للمناضل ناجي علوش كما وردت في كتابه المشروع القومي من الدفاع إلى الهجوم، وسنحاول في أعداد قائمة تلخيص بعض الطروحات الأخرى المتعلقة بالقضية القومية.
الدولة العربية الواحدة
بشار شخاترة
مهما قيل في الحتمية التاريخية من نظريات بين أقطاب الشيوعية والرأسمالية وما أفضت إليه من نتائج، تبقى حتمية واقعية وراسخة أثبتتها التجربة التاريخية الإنسانية وهي النزعة القومية للإنسان أيا كانت قوميته، وتتفرع عن تلك النزعة نتيجةً طبيعيةً وبناء فوقياً يتمثّل بالوحدة القومية، أو ما يمكن أن يُعرّف بهيمنة الأمة على كامل ترابها القومي على امتداد وجودها القومي.
لذلك فإن فكرة الوحدة القومية في إطار دولة واحدة سِمة بشرية عامة، وقد استطاعت الأمم أن تنجز هذه المهمة التاريخية من حياتها في انطلاقها نحو النهضة الشاملة، وهذا كتاب التاريخ يروي قصص وحدة الأمم من خلال حركات متنوعة الخلفية الايديولوجية، ولكن تجمعها سمة عامة – أنه سبق هذا التطور في بنية المجتمع القومي ليصبح أمة واحدة ليصل عبر نضاله إلى الدولة الواحدة – وهي سمة النزعة القومية المبنية على وعي قومي. وقد أدركت جموع تلك الأمم ذاتها القومية ووجودها المنطقي في سياق الوجود الإنساني، وأنها كيان اجتماعي متميز عن غيره من المجتمعات الإنسانية الأخرى لتعي ذاتها كأمة وصلت بها حركتها التاريخية – وبغض النظر عن المرجعية العقائدية لها – إلى وعي ضرورة شدّ أزر البنيان القومي ضمن دولة واحدة، وهذا ركنٌ مهم في منظومة الفكر القومي كفكر يتّسم بالشمول الإنساني بعيدا عن العقائد الرأسمالية والشيوعية. ويمكن القول أيضا أنّ النظرية القومية بشكل عام، ودون تخصيص، هي نظرية ذات طابع متميز، تمثل الوحدة القومية لأية أمة أحد أهم بنودها.
شغلت الوحدة القومية، أو وحدة الأمة، حيزا واسعا في التنظير لها في سياقها العربي. وبعيدا عن أي تعصّب، يمكن الادّعاء أن النظرية القومية، وأهم عناصرها الوحدة، باتت في أحد جوانبها عربية الملامح بالنظر إلى الكتابات القومية للمفكرين العرب في هذا الخصوص، وهذا مؤشر مزدوج المدلول؛ فمن جانب هو مؤشر على الأهمية التي تحتلها موضوعة الوحدة في الفكرة القومية العربية، ومن جانب آخر تؤشر على حجم المأساة القومية بغياب دولة الوحدة العربية، وثقل وطأة التجزئة على الواقع العربي.
يكاد ينصرف الذهن دائماً، في موضوع الوحدة العربية، كنقيض جذري للتجزئة القائمة في حياة الأمة القومية، إلى المشروع القومي العربي كمشروع شامل ونهضوي وثوري بالضرورة، ويصبح شعار الوحدة العربية فيه كناية عن المشروع برمته، مما يعكس، فيما يعكسه، الغياب الواضح للوحدة والحضور الواضح للحلم بالوحدة، ولتجلية العلاقة وعمق الترابط بين الوحدة كعنصر في المشروع القومي وبين عناصر المشروع الأخرى كالتحرر والنهضة، وتحرير الأجزاء المغتصبة، والاشتراكية لتحقيق الكفاية بالعدل، حيث أن اندماج الفرع بالأصل، والجزء بالكل إنما هي السمة المميزة للمشروع القومي العربي الذي تبرر عناصره بعضها وجودا وعدما صعودا وهبوطا، وما هذه الحظوة لفكرة الوحدة وتقدمها في الوعي القومي الجمعي إلا لما لها من أثر حاسم في النهوض بباقي عناصر المشروع.
إنّ الوحدة العربية باعتبارها عملا نضاليا ثوريا، يقلب واقع الأمة العربية بما يغير الميزان الكوني، ويعيد ترتيب شكل العلاقات الدولية، لا يمكن لها أن تضمن لنفسها الاستمرار والنجاح والحماية من الثورة المضادة أو من التآمر عليها من دون التحصين الداخلي الذي يرافق ثورة الأمة العربية ونضالها الوحدوي، ويكون ذلك التحصين باستكمال بناء الوعي واستكمال عناصر الثورة القومية ببناء الصرح القومي، وهو الدولة ذات الطابع الاشتراكي التي تقدم العدل أساسا راسخا في الحكم وفي تنظيم علاقات الدولة بمواطنيها وعلاقات المواطنين ببعضهم، وكل هذا مع الاعتراف بدور الوحدة في النهوض بالمشروع القومي وبالأمة بالنتيجة بشكل حاسم.
حين تراجع النضال الوحدوي وتراجعت ملامح المشروع القومي، تقدم من يملأ الفراغ من حركات رجعية دينية هوَت بالواقع القومي إلى الحضيض، وأنتجت متسلسلة التفكيك القومي في تساوق واضح مع الخطط الإمبريالية التي اجتاحت العالم بعد انهيار المنظومة الاشتراكية التي كانت رديفا لحركات التحرر القومي، رغم إصرار البعض أنها ذات قالب أممي ماركسي. إلا أن شعوب العالم المقهورة وجدت في حالة النضال القومي التحرري فرصة تاريخية من أجل تحقيق نهوضها. ومن حالة النضال القومي الوحدوي ومشاريع الثورة العربية، انحدرنا إلى حالة من الخطاب الطائفي بحيث تبدّل الانقسام في المجتمع القومي العربي من انقسام أفقي على أساس طبقي بين طبقة ثورية قومية تقدمية وحدوية وبين الاستعمار وأذياله من الرجعية العربية، إلى انقسام عمودي بحيث أصبح النسيج القومي يواجه خطرا محدقا ووجوديا أن جاز التعبير بما يعقّد النضال القومي نحو الوحدة أكثر فأكثر، لأنه بما يخلقه من هويّات ثانوية ومناطقية وطائفية يبذر بذور الانفجار المدمر لفكرة الأمة ووجودها، وهذا العداء لفكرة الأمة هو ما راحت كثير من القوى الهدّامة سواء دينية أو علمانية تجاهر به الآن بعد قنبلة “الربيع العربي”.
وحتى لا نغرق في بحر التحليل الذي يذهب بعيدا على غير الهدف المرجو من الخوض في الكتابة عن قضية كبرى في حياتنا القومية وهي قضية الوحدة العربية، يصحّ القول، وليس ذلك من باب تسكين الآلام أو بيع الأوهام، أنه برغم الحالة الرثّة للواقع القومي أن عوامل الأمة الكامنة فيها من مقومات موجودة ونزوع نحو الوحدة يكمن في وعي المواطن العربي والذي لا يلبث أن يظهر على السطح عند هبّة كل ثائر قومي حامل لهذا المشروع، وذلك بدلالة قادة قوميين التفتّ حولهم الأمة في محطات عديدة عبر تاريخها، ونردف على هذا وذاك أن الانحطاط القائم والنتائج الكارثية التي يخلقها مشروع التفكيك والانقسام العمودي سيحفز عوامل الأمة المضادة للانهيار، وهذا ليس من باب الأمل بل مسألة مرجعها في العقل والعلم، فواقع الأنسان ضمن سياق حياته وضمن وجوده القومي والمجتمعي يأبى الانصياع لهكذا واقع يتناقض أساسا مع الحياة، وحركة الإنسان عبر التاريخ كانت تقدمية الطابع بالرغم من حالات الانتكاس التي تصيب أي مجتمع إنساني، إلى أن ارتقت البشرية إلى المجتمع القومي من مجتمع عائلي قبلي وذلك لما لفكرة المجتمع القومي من رقيّ تنعكس على مسيرة الإنسان في مجتمعه وعلى علاقة المجتمع القومي بغيره من المجتمعات الأخرى.
إن مجتمع الأمة، كبناء اجتماعي تقدمي، يؤمِّن سبل التقدم للإنسان بما يزيله من تناقضات تخلقها الحالات ما قبل القومية، كالطائفية أو القبلية أو الإثنية، ويهيء الظرف لبناء دولة المجتمع القومي على أنقاض الظواهر الطائفية والقبلية والإقليمية وغيرها بما تفرزه من نتائج كارثية يعيشها المواطن العربي الذي لا يبقى حلٌ أمامه إلا الحل القومي الوحدوي الكفيل بنسف كل هذا الجنون وإعادة التوازن للحياة. والمشروع القومي يجب أن يخوض المعركة على هذه الجبهة ليتلقّف الظرف التاريخي بانهيار نظام التفكيك الذي لا فرصة له بالعيش في سياق نزعة العربي القومية ونزعة الحياة والتقدم والتحرر، وهو ما يقود أيضا إلى ضرورة تأهّب حمَلة المشروع القومي للتضحيات الكبرى لتلتف حوله الجماهير.
إن جوهر الصراع الحقيقي اليوم بين قوى الواقع العربي الحالي هو الصراع على وحدة الأمة ووجودها، واستهداف الوعي القومي، مما يجعل مهمة القوميين الجذريين خوض هذا الصراع بكل الوسائل، ومنها معركة بناء الوعي الوحدوي في مواجهة دعوات التفكيك وبذر بذور الطائفية، فالتناقضات القائمة في المشهد القومي يغيب عنها أهم عناصر حلّها وهو غياب القوة القومية التي تحمل مشروعا قوميا وحدويا، وهذه مناسبة للقول بضرورة خلق مثل هذه القوة في الواقع العربي كونها القوة القادرة على فرض الحل لأن ما عداها من قوى تخوض الصراع القائم، هي عوامل مؤججة للصراع لا يمكن أن تمتلك الجاذبية الجماهيرية والمشروعية التاريخية وليس لها أن تتقاطع مع مصلحة الأمة كالمشروع القومي العربي، القاسم المشترك للمجتمع العربي.
تتنازع الفكر القومي طروحات عدة حول الشكل الملائم لدولة الوحدة العربية ، وإن كان جزء من هذا الطرح يقع في إطار دراسة القانون الدستوري والنظم السياسية من حيث المبدأ إلا أن واقع الأمة العربية وواقع التجزئة فرضا على الفكر القومي التصدّي لهذه الجزئية، وذلك لأنها كانت مدخلا انتهازيا أو تمثل موقفا لا قومياً، أو أنها التفاف على الفكرة ذاتها من داخلها، فكانت تقدّم دولة الوحدة بقوالب مختلفة؛ إما وحدة اندماجية تخضع لسلطة مركزية تتولى شؤون الدولة كافة، أو وحدة اتحادية (فيدرالية) تقوم على وحدة الأقطار العربية تحت علم واحد وجيش واحد وسياسة خارجية واحدة، على أن تبقى إدارة الأقاليم أو الأقطار بيد أهلها وتشريعاتهم خاصة تختلف من قطر إلى آخر في صيغة تشبه إلى حد كبير الصيغة الامريكية، أو رابطة للدول المستقلة أو ما يسمى (كونفدرالية) بالصيغة التي تمثلها الجامعة العربية.
فإذا صيغة الجامعة العربية فشلت فشلا ذريعا، لا بل أصبحت أداة من أدوات تكريس التجزئة وتمزيق الواقع القومي القائم أشد مما كانت عليه قبل وجود الجامعة، فيغدو معها الحديث عن هكذا صيغة انقلابا على واقع الأمة العربية وينطوي على انتهازية أو عمالة للمستعمر الذي أسس هذه الصيغة، وأما القول بالوحدة الاتحادية (الفيدرالية) فإنها وإن كانت تبدو للعيان مشروعا متطورا عن الصيغة السابقة وتشكل حالة متطورة بالقياس لمثيلاتها في العالم كالولايات المتحدة مثلا، فإنها بالاحتكام للواقع القومي وللمعيار المحدد لأي موقف قومي وهو المصلحة القومية فإن هذه الصيغة إن كانت تناسب أمما بعينها فإنها لا يصح القول بالنسخ والالصاق على الواقع العربي الراهن أو حتى السابق، فالظروف الخاصة بكل أمة تحدد أولوياتها وخيارتها القومية، ونجاح هذه الصيغة في مكان ما لا يعني البتة نجاحه في الأمة العربية، وبقيت صيغة الوحدة الاندماجية والتي تمثل حلا قوميا جذريا بالقياس للظرف الموضوعي للأمة العربية ومطابقتها للمعيار القومي وهو مصلحة الأمة.
إنّ حالة التجزئة الطويلة التي عانت منها الأمة العربية – وبالأخذ بالاعتبار الاستهداف القائم منذ قرون طويلة من قبل القوى الطامعة بالوطن العربي – قد خلقت على هامش المجتمع القومي العربي ظواهر لا قومية، ذات طابع انتهازي وتلفيقي للالتفاف على الانتماء القومي لمجتمعات التجزئة القائمة في سبيل ديمومة التجزئة، وإن اجترار الصيغة الاتحادية (الفيدرالية) على هذا الواقع سيعمّق تلك الظواهر، ومن الحتمي أنها ستكون نقطة الانقضاض على دولة الوحدة العربية في حال تراخي أو ظهور بوادر انشقاق بفعل كثير من القوى المتضررة من الوحدة أو في حال تراجع القوة الدافعة للوحدة بفعل عوامل متنوعة، لا مجال لذكرها لكنها حقيقية وموجودة بالضرورة، هذا عدا عن أن التاريخ العربي يرتبط فيه انطلاق الأمة العربية ارتباطا وثيقا بوجود دولة مركزية جامعة، بسلطة سياسية مركزية.
ولا يرد القول بالأخذ على دولة الوحدة العربية الأولى في العصر الحديث، وهي الجمهورية العربية المتحدة، أنها كانت دولة مركزية قامت على خيار الوحدة الاندماجية، ولو أنها أخذت بالنظام الاتحادي لأمكن تلافي القصور الذي اعتورها وأدّى إلى الانقلاب عليها لأن النتيجة التي آلت إليها هذه الوحدة لم يكن سببها الشكل الاندماجي الذي قامت عليه، إلا أن عدم ضرب الانفصال هو الذي أوصل إلى هذه النتيجة، لا لأن الوحدة الاندماجية لا تتلاءم مع واقع الأمة العربية، أو لأن الوحدة أساس لها.
تصهر الوحدة في إطار الدولة المركزية، باندماج أقطار التجزئة في بوتقة قومية، الظواهرَ الانتهازية، قُطرية كانت أو طائفية أو مناطقية أو قبلية أو نزعات إنسانية أو أممية، وبالمجمل فإن هذا الفعل ينطوي على موقف قومي ثوري جذري، فهو قومي لأنه ينحاز للانتماء القومي على حساب أي انتماء غيره، وثوري لأنه لا يؤمن بالتدرج والتطورية التي ستُنتِجُ مجتمعا مندمجا منشودا يقوم على أنقاض التجزئة، بل يصل إلى هذه النتيجة بأقصر الطرق، وجذري لأنه يؤمن بحل مشكلة الوحدة والتناقضات الناشئة عن التجزئة من جذورها التي أنشأتها وتطورت عنها بحيث يكون مفهوم الوحدة هو نقيض التجزئة، والوحدة تعني الكل الواحد دون تفصيل. لكل هذا تنشد الأمة العربية وفي الطليعة، القوميون الجذريون، الوحدةَ العربية أساسا للنهضة ومشروعا للتحرر.
شخصية العدد:
شيخ المؤرخين العرب، عبد العزيز الدوري
نسرين الصغير
بالرغم من أنه ترك خلفه إرثا علميا غنيا من المؤلفات التي أغنت المكتبة العربية وأضاءت مشعلا في دروب التاريخ، إلا أنه ترك فراغا بيِّناً نظرا لأهميته كمؤرخ وباحث في مجال علم الاجتماع والهوية القومية للأمة العربية، ولا نبالغ إذا قلنا أنه كسر احتكار الدراسات التاريخية التي تميّز بها الأوروبيون، وتميز في مجال الدراسات العربية والإسلامية بنَفَس قومي عربي ممثلا انحيازا لعروبته، ودونما تأثير على حياد العلم من الناحية الموضوعية، بحيث سخّر علمه ومعرفته في خدمة الأمة تاركا مثلا جميلا يحتذى في أنّ الانتماء المسبق لقضية – كالقضية العربية وأمل الأمة بالوحدة – يعزز الباحث في هذا المجال ويساعده في اكتشاف قوانين علمه بما يخدم قضيته.
إنه شيخ المؤرخين العرب وصاحب الصولات في هذا المجال المؤرخ عبد العزيز الدوري، المولود عام 1919 في الدور من أعمال محافظة صلاح الدين في العراق، حيث بدأ فيها تلميذا في أحد كتّابها، زاده من العلم فيها دراسة القرآن الكريم وحفظ آياته وتدبر معانيه، حاله كحال أبناء عصره في تلقيهم العلم الذي كان وسيلة لمحو أمية الأطفال أكثر منه ممرا لولوج مدينة العلم والمعرفة، إلا أن إصراره ونبوغه حملاه إلى فضاء أرحب لينهل من معين العلم فكانت شهادته الثانويه من بغداد متكأً ليبحر إلى مدينة الضباب ليكمل دراسته الجامعية، ليحصل من جامعة لندن على شهادة البكالوريوس مواصلا مسيرته حتى نال درجة الدكتوراه من ذات الجامعة العام 1942 على أطروحته المعنونة ( تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري).
عاد الدوري للعيش في العراق بعد أن أخذ الدكتوراه لأنه كان يعتبر أن من واجبه الوطني أن يستفيد منه أبناء وطنه، ويفيدهم بعلومه ومعرفته فبدأ بتدريس التاريخ في دار المعلمين العالية، ثم عمل مؤسساً وعميداً لكلية الآداب والعلوم في جامعة بغداد، وبعدها تولى رئاسة جامعة بغداد لمدة خمس سنوات 1963-1968 وبعدها انتقل للأردن للعمل في الجامعة الأردنية.
كان الدوري يكتب بوتيرة عالية ونشاط وحماس، وكان صلباً في آراءه وأفكاره، وكان دقيقاً في نقله خصوصاً أنه كان يخوض في بحر التاريخ الذي كان يحتّم عليه النقل بدقة عالية، فكان دائماً يبدأ بحديثه “ما فائدة ما فات؟” ليبث روح الحيوية والإصرار لمعرفة التاريخ، وما الفائدة من إكمال ما بدأ به السلف.
اعتاد الدوري على ربط مؤلفاته بحيث يصعب على القارىء عزل بعضها عن البعض. كان الدوري المؤرخ يعطي التاريخ حقه لأنه كان يعتبر الحاضر بائساً والمستقبل ضبابياً، لهذا كان يعتبر أن الماضي هو الأساس الذي سنسير عليه لنكمل الدرب. كان مؤمناً غير متباكٍ على الماضي، وكان يتجاوز هزائمه ويعتز بانتصاراته ويعتبره وسيلة لتقويم الحاضر، وكان يؤكد على الطلبة أن عليهم تجاوز عثرات الأجداد.
من أهم مؤلفات المؤرخ عبد العزيز الدوري:
- ابن خلدون والعرب
- بحث في نشأة علم التاريخ
- تفسير التاريخ
- الجذور التاريخية للاشتراكية العربية
- الجذور التاريخية للشعوبية
- الجذورالتاريخية للقومية العربية
- دراسات في العصور العباسية المتأخرة
- دراسات في علم التاريخ عند العرب
- دراسات في سيرة النبي
- ضوء جديد على الدعوة العباسية
- العصر العباسي الأول
- الفكر العربي في دور التجديد والتقليد
- في الوعي العربي
- ما ساهم به المؤرخون العرب في المائة سنة الأخيرة
- مستقبل الفكر العربي
- مقدمة في تاريخ صدر الإسلام
- مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي
- موجز تاريخ الحضارة العربية
- نشأة علم التاريخ عند العرب
- نشوء الأصناف والحرف في الإسلام
- نظرات في الوعي العربي
- نظرة إلى تاريخ صدر الإسلام
- النُظم الإسلامية
- الوعي القومي
- التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي
لو نظرنا لجميع العناوين التي كتب فيها المؤرخ العربي عبد العزيز الدوري، لوجدناها تصبّ في ثلاثة محاور أساسية وهي: “التاريخ الاقتصادي العربي، القومية العربية، وعلم التاريخ” والتي تصبّ في تأصيل الفكر القومي العربي، لهذا كان يُسمّى بالمؤرخ العروبي، لأنه كان من الذين كانت لهم الريادة في الشأن القومي وتكوينه عبر التاريخ الاقتصادي، ففسر الحركات الاجتماعية والسياسية في الإسلام وربَطها في العامل الاقتصادي مقتحما بذلك بابا بقيَ حكرا على الماركسيين، مؤكدا ذلك بمقولته: التفاوت الاقتصادي أدّى إلى قلق اجتماعي، وإلى قيام حركات اجتماعية.
من أهم ما قاله عن اللغة العربية في كتابه القومية العربية والإسلام وعن سريان اللغة العربية في المناطق السريانية والآرامية في العراق وعدم سريانها في بلاد فارس أنّ اللغة الفارسية كانت لغة احتلال، وثانياً هناك صلة وثيقة بين العربية والسريانية والآرامية وتواجد عربي ملحوظ في العراق قبل الإسلام ينطلق من الحيرة ودائرها.
كان الدوري من أوائل الذين كتبوا عن التشيّع إبان الحرب العراقية الإيرانية، وكان ردّه لمن كان ينبذ شيعة العراق ويتهمهم بالفارسية ويعتبرهم غرباء عن قوميتهم العربية ووطنهم العراق، فشارك في ندوة العلاقات العربية-الإيرانية التي أقامها مركز الوحدة العربية في قطر عام 1995 قال: ((لكن التشيع لم يميّز إيران من العرب، فالتشيع بدأ عربياً، ووجد مركزه الأول في العراق)).
توفي عبد العزيز الدوري عام 2010، قامة قومية أكاديمية صدَقَت أمتها بعلمها، لا يكفيها مقال، ولو كنا بدولة الوحدة، لرأينا كتبه ومؤلفاته تدرس في المدارس والجامعات. فكم من شبابنا لم يسمع بعبد العزيز الدوري، وسمع الكثير عن الذين زورّوا التاريخ وأدخلوا الدسائس إليه؟! ويجب أن نؤكد في النهاية أن الدوري رفض فكرة التحزب أو التعصب لفكر محدد، فكان يؤمن بالقومية العربية فقط بماضيها وتاريخها وعراقتها وكان منحازاً لعروبته ومتجذراً فيها.
* الحلقة الرابعة من سلسلة قواعد المسلكية الثورية –
التضحية:
عبدالناصر بدروشي
قد يتساءل البعض عن السر وراء إقدام بعض الشباب العربي على تنفيذ عمليات عسكرية ضد الغزاة يدرك منفذوها أنها ستكلفهم إما حياتهم أو الوقوع في الأسر؟؟؟
ما السر وراء إقدام شبابنا في فلسطين على القيام بعمليات استشهادية أو على طعن جنود الاحتلال الصهيوني، مع أن منفذ العملية يدرك سلفا أن فعلته سوف تتسب في استشهاده أو أسره وتعذيبه ونسف منزله وتشريد عائلته، أي أن الثمن الذي سيدفعه جراء فعله المقاوم يتجاوز تضحيته بنفسه وبماله بل سيشمل أسرته أيضا؟؟
ما الذي يدفع شبابا في ربيع العمر لإدارة ظهورهم لمغريات الحياة، والكفّ عن التفكير في مصلحتهم الفردية لينخرطوا في عمل نضالي كاعتصام “جك” الأسبوعي المطالب بإغلاق سفارة الصهاينة في الأردن والمستمر لما يزيد عن خمس سنوات ونصف مثلا، ليكلفهم سنوات عمرهم ويعرضهم لخطر الاعتقال والضرب والطرد من الوظيفة، في الوقت الذي تغزو فيه الثقافة الاستهلاكية عقول وقلوب الآلاف من شباب الأمة، وتجعلهم يركضون خلف تفاهات الموضة وأخبار النجوم وأخبار الأندية الأوروبية والدوري الأسباني؟؟؟
السرّ الذي يقف وراء كل تلك الأفعال البطولية هو “التضحية”.. التضحية هي تلك الكلمة السحرية التي إذا سكنت النفوس، جعلتها تجود بأجود ما فيها…
أثناء عرضنا للقاعدة الرابعة من سلسلة قواعد المسلكية الثورية، ألا وهي “التضحية”، لن نقف فقط عند تسليط الضوء عليها كقيمة نبيلة لنستعرض محاسنها فحسب، بل سنحاول أيضا تحليل الدوافع التي تجعل المناضل مستعدا للتضحية في سبيل انتصار قضيته، وهل أن “التضحية” صفة يمكن اكتسابها وتعزيزها في نفوس المناضلين؟؟
يزخر تراثنا كأمة عربية بمأثورات أكبر من أن تعد تثَمن قيمة التضحية والإيثار والفداء في الأشعار والقصص والحكم التي ورثناها كابرا عن كابر، إلا أن عقودا من الردة والجزر الثوري التي عصفت بنا، بالإضافة للتغريب والتجهيل الممنهج المسلط علينا من قبل المتحكمين في رقاب شعبنا من قوى الهيمنة الخارجية ووكلائها المحليين، كل ذلك غيّب تلك القيم النبيلة وعلى رأسها قيمة التضحية وطمرها لتحلّ محلها قيم وضيعة تسمح باستمرار هيمنة الأقوى الاستعمارية على مقدراتنا.. والثقافة الليبرالية، والنمط الاستهلاكي، واللامبالاة، وانعدام السعي نحو التحرر والكرامة، المتفشي في مجتمعنا العربي اليوم، هو خير مثال على ما تنتجه تلك القيم الوضيعة، فبعد أن كانت العرب تقول “ابذل لصديقك دمك ومالك”، ينتشر مثل شعبي اليوم يقول “نفسي نفسي.. ولا يرحم من مات” و”بعد حماري ما ينبت حشيش”، وغيرها من الأمثلة الساقطة المشبعة بالأنانية والفردانية والجبن والتخاذل التي تدل على سقوط المجتمع.
إنّ انتشار أمثلة شعبية تكرّس مفاهيم نقيضة لقيمة التضحية والفداء مثلا، ليس اعتباطيا ولا هو بالأمر الهين، بل على العكس تماما، فهو يعكس نمط تفكير المجتمع الذي ينبغي على الحركة الثورية معرفته ودراسته إن أرادت التغلغل داخله وتغييره ودفعه نحو الثورة.
فما هي التضحية وكيف يمكن تعزيزها في صفوف الحركة الثورية؟
- مفهوم التضحية في مجال النضال السياسي:
لطالما ارتبطت قيمة التضحية في مجال النضال السياسي بمفاهيم تحقيق العدل ودحر الظلم وردّ العِدى وتقديم المناضل لأغلى ما يمتلكه في سبيل تحقيق أهدافه من دون مقابل.
تكون التضحية بالجهد والوقت وقد تكون بالمال، لتصل في أرقى درجاتها إلى التضحية بالنفس والأهل والولد، كل ذلك في سبيل انتصار قضية أو فكرة ما، فالمناضل القومي الجذري مثلا يضحّي بكل ما يملك في سبيل توحيد الأمة العربية وتحريرها والنهوض بها من دون أن ينتظر مقابلا لقاء تضحيته.
لن تتمكن الحركة الثورية من تحقيق أهدافها وإحراز النصر وقهر القوى التي تتربص بها وتناصبها العداء إذا لم يضحِ أعضاؤها بالنفس والنفيس، فهم دائما على استعداد كامل لتقديم أعظم التضحيات مقابل ذلك.
ترتبط التضحية كمسلكية ثورية بالإيمان بحتمية النصر، حيث أنّ القيادات والكوادر الواعية تناضل نضالاً شجاعاً، لا يائسا كما هو حال بعض المناضلين المحبطين من سواد المشهد وقتامته، كما أنها لا تبحث عن البطولات الفردية أو التضحيات العدمية، وإنما تنبع تضحياتها من عقيدة راسخة بحتمية انتصار قضية الجماهير والشعب.
في الحركات الثورية لا يعيش القادة والكوادر حياة عادية، فهم عمليا محرومون من الحياة الاجتماعية، التي تعيشها الجماهير أو الأعضاء العاديون. وهم يضحّون براحتهم الشخصية وراحة عائلاتهم في سبيل إنجاز العمل الوطني المنوط بهم، وهم الذين يتشردون دائماً حيث أن العدو المضاد للثورة يطاردهم .. كأفراد، ويسعى لاغتيالهم ولضرب معنويات الحركة الثورية من خلال ذلك.
في المقابل تعتبر المحافظة على سلامة القيادات والكوادرإحدى مهام الحركات الثورية، إلا أنّ هذه المحافظة ليست من أجل القيادات كأفراد، وإنما من أجل مسيرة الحركة الثورية، حيث أن التجربة التي يمتلكها القائد لا يجوز أن تفرّط بها الحركة الثورية من أجل عمل عادي. كما أنّ استشهاد القادة على يد الأعداء يعطي في كثير من الأحيان مردودا معنويا سيئا على الجماهير والأعضاء، وقيادات الحركات الثورية يعرفون عِظَمَ الأهداف التي يسعون لتحقيقها، ولذلك فهم دائما على استعداد كامل لتقديم أعظم التضحيات مقابل ذلك.
- تعزيز قيمة التضحية في نفوس المناضلين وفي صفوف الحركة الثورية:
سبق وأن ذكرنا أثناء عرضنا للقاعدة الثانية من قواعد المسلكية الثورية (قاعدة “الالتزام”) بأن المجتمع والأسرة بدرجة أساسية يشكّلان المصدر الرئيسي الذي يتشرّب منه الإنسان قيَمه، فهو الوعاء الأول الذي تُبنى فيه قناعاته، ومن الطبيعي أن تشهد القيم الأخلاقية انحطاطا في المجتمعات المتخلفة كمجتمعنا العربي بفعل الاحتلال الذي يسعى لتكريس حالة التخلف لضمان استمرارية هيمنته علينا، وبفعل التجهيل المتعمّد الذي تمارسه الأجهزة الرسمية العربية التابعة للاحتلال، وكذلك بسبب ضعف حركات التحرر الوطني الحاملة لمشروع نهوض الأمة؛ فتقف قيم المجتمع حائلا دون اكتساب الفرد لمجموعة من القيم والسلوكيات التي لا غِنى عنها ليتحول إلى مناضل قادر على تحمل الأعباء النضالية والقيام بالمهمات المَنوطة به على أحسن وجه، ولعلّ التضحية إحدى أهم تلك القيم.
السؤال المطروح هنا هو: هل أن قيمة التضحية قيمة مكتسبة يمكن غرسها لدى الإنسان؟
كي نتمكن من الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من تحليل الدافع الكامن وراء التضحية.. أية تضحية، سواء في سبيل الوطن أو الأهل أو الصديق أو غيرها.. فما الذي يدفع الإنسان عموما والمناضل خصوصا للتضحية؟
المسألة برمتها لا تتجاوز كونها عملية حسابية بسيطة يجريها الإنسان في وعيه أو لا وعيه، يوازن فيها بين شيئين ثمينين يستحيل جمعهما، فالقضية لا تتعدى كونها قضية أولويات.
للأسف في زمن الردّة وانحطاط المنظومة الأخلاقية والقيمية في مجتمعنا العربي يُنظر للمناضل السياسي الذي يضحّي براحته ويضحّي بوقته وبماله وبحياته في سبيل تحرير أمته والنهوض بها على أنه انسان مختل، إن الذين لا يقوون على تقديم مثل هذه التضحيات إنما يمنعهم جهلهم بقيمة الكرامة والحرية وجهلهم بقيمة الوطن.
من هنا يمكننا القول بأن رفع منسوب استعداد المناضل للتضحية يتوقف على أمرين:
- التثقيف المستمر والتوعية:
إنّ استعداد المناضل للتضحية يكون نتيجة إيمانه بقداسة قضيته واعتقاده اعتقادا راسخا بسموّ ما سيضحي من أجله مقارنةً بما سيضحي به.
إنّ التكوين العقائدي المستمر لمنتسبي الحركة الثورية يفتح أذهانهم على مفاهيم عميَت عليهم بفعل التجهيل، ويكسبهم قناعات راسخة تحلّ محل القيم البالية التي تشرّبوها من مجتمعهم. فوعي المناضل بعدالة قضيته وسموّها على كل ما عداها وتشبّعه بالقيم النضالية وبقواعد المسلكية الثورية يجعل من قضيته تحتل أولوية أولى في حياته.
لذلك على الحركة الثورية أن تحرص على نشر الوعي الجمعي في صفوفها، وأن تضع محاربة الثقافة الليبرالية والقيم الساقطة المتفشية في المجتمع في أول سلم أولوياتها، عن طريق التثقيف والتكوين النظري المستمر. فالاستعداد للتضحية مرتبط ارتباطا وثيقا بالوعي، فكلما ازداد وعي المناضلين بقضيتهم، كلما قوي التزامهم بها وبلغ استعدادهم للتضحية في سبيلها أعلى مستوياته.
إن التضحية ثمرة الإيمان.. والإيمان يُبنى بالعلم.. والعلم بالتعلّم..
- مدى استعداد الكوادر للتضحية
سبق وأن قلنا بأنّ رحلة تشذيب شخصية المناضل وصقلها تبدأ داخل الحركة الثورية، وهي رحلة طويلة وشاقة لإزالة الترسبات العالقة بشخصيته والتي تعيق العمل الجماعي المنظّم. وعندما يتعلق الأمر بقيمة التضحية كإحدى أبرز القيم المفقودة في مجتمعنا العربي، فإنّ ترسيخها داخل التنظيم نضالا وجهادا من طرف الكوادر الذين يُفترض أن يصلَ استعدادهم للتضحية إلى درجاته القصوى حتى يكونوا نموذجا وقدوة لبقية الأعضاء.
والكادر القائد لا يكون قدوة للأعضاء، بمجرد امتلاكه للصفات القيادية أو بعضها، أو لسِعة اطّلاعه في مجال ما من مجالات العمل الثوري، فالمسلكية الأساسية التي تعطي القائد صفة القدوة، هي استعداده للتضحية.. وهذا الاستعداد يجب أن يفوق كل حد، فالكادر دائم الاستعداد للتضحية ماديا ومعنويا وجسديا. والممارسات اليومية للكادر، يجب أن تؤكد هذا الاستعداد للتضحيات اليومية، التي يستطيع الأعضاء أن يقتدوا بها. فالكادر، الذي يقود مجموعاته إلى القتال وإلى ساحات النار، إن لم يشعِرهم، بالممارسة العملية، أنه واحد منهم وأنه تعرض قبلهم للخطر.. للموت، فإنه يفقد قدرته على قيادتهم، وبالتالي لن يكون لدى بقية الأعضاء العاديين استعداد للتضحية في الوقت الذي يشاهدون من هو أعلى منهم غير مستعد للتضحية.
ان أول عناوين الفضيلة، التضحية بالنفس.. وجوهر التضحية هو التخلّي عن الأشياء الثمينة في سبيل ما هو أثمن.
الصفحة الثقافية 1:
مسرح المواجهة: تجربة بيتر بروك
معاوية موسى
ترتفع قيمة التجربة المسرحية بالنظر لمعايشتها الحدث المسرحي وانعدام الفاصل الزمني، ولذا تكتسب المسرحية روعة الرؤية لإيجاد وجهة نظر في الموقف. وعلى هذا فإنّ تحوّل المسرح من التسلية والإغفاءة اللذيذة “كلاسيكيا” إلى مسرحٍ ناقد على يد برخت وانتقاله إلى مسرح موقف أو مواجهة على يد بروك، يعتبر خطوةً أماميةً دفعت بالمسرح الإنساني، فكانت تلك الخطوة ريادة ناجحة.
يتّخذ الكاتب المسرحي الإنكليزي بيتر بروك المولود سنة 1925م، من موقف الانحياز نحو قضايا الإنسان، ليس في وطنه فحسب، بل في العالم، أساسا ومنطلَقا لتجربته المسرحية، وقد ظهر ذلك جليا في عمليْن:
– الأول، عندما كتب مسرحية “ألاك” عام 1946 وفيها يُدين الاحتلال الإنكليزي لأوغندا وما صنعه أبناء قومه بقبيلة ألاك التي كانت تعيش على الصيد، فحوّل هؤلاء المستعمرون قريتهم إلى حديقة واضطروهم للعمل كمزارعين، وجعلوهم يعيشون قسراً في واقع لم يألفوه، فكان صنيعهم قضية الأفارقة من قبيلة “ألاك” التي تستحق أن يُدافع عنها،
– الثاني، حين نشر مسرحيته “نحن والولايات المتحدة” التي أدان فيها التدخل الأمريكي في فيتنام خلال الستينيات،
فكان بهذيْن العملين قد أثبت انحيازَ مسرحه لقضية الإنسان في دفاعه عن حريته، لأن المسرح عنده ليس له تصنيفات، إنه هو الحياة (1) وهذا يعني أنّ المرء عندما يذهب إلى المسرح بحثا عن الحياة ولا يجدها، يصبح الانشغال بالمسرح ضربا من العبث، ولهذا يلجأ إلى التجريب في مسرحه منطلقا من أنّ الحياة في المسرح أمتع قراءة، وهي حياةً مكثفةً.
لقد مثّلت مسرحية “نحن والولايات المتحدة” تجربة جديدة وفريدة، تطرح قضية حرية شعب، حيث تطالبنا بأن نقف لنختار؛ مع أو ضد الحرب المفروضة على شعب فيتنام وقتها. فإذا كان اختيارنا ينبع من نقطة أساس: أن لكل شعب الحق في تقرير مصيره، فإننا نقف ضد الحرب، ولكن هل يكفي أن نصرخ بصوت عالٍ ضد الحرب؟!
إن بيتر بروك يريد منا أن نعيش ونمارس قولنا مترجَما إلى فعل يومي فيقول: إذا قلت أنك مهتم بما يجري في فيتنام، فكيف يؤثر هذا على الطريقة التي تقضي بها يومك؟! حيث أن فيتنام هي رمز لأية قضية يعاني منها الإنسان الاضطهاد والاحتلال، فهي يمكن أن تكون فلسطين وقد تكون غيرها.
إنّ بيتر بروك تميّز واختلف عن غيره من كتّاب المسرح في أنه طلب من المتلقي”المتفرج” موقفا مما يُعرض على الخشبة، فهو يدفع بالمتلقّي إلى موقف المقاتل لا المتفرج الذي يتأثر لما يرى باكيا دون أن يتخذ موقفا، فالمسرح عنده لا يطرح دراما كلاسيكية بفاصل زمني للتأثر، وإنما يعرض علينا قضية راهنة تتطلب منا اتخاذ موقف، منطلقا من أن الالتزام لا يفرَض على الفنان بالرغم منه، وإنما يدفع به إلى اتخاذ موقف يقتنع به، دافعه الأساس قضية تمسّ أمة ووطن، في دراما يتقابل بها حضور فيتنام القضية والجمهور وجها لوجه.
يعرض بروك يوميات القتل والدمار للحرب القذرة التي تشنّها الإمبريالية الأمريكية ويخطط لها البنتاغون، مستغلا أرض فيتنام كحقل للتجارب لأنواع الأسلحة من قنابل النابالم المحرقة، إلى الغازات السامة، إلى المبيدات وإحراق الغابات من أجل أن تتحول إلى أرض مسطحة أمام الغارات الوحشية، ناهيك عن التعذيب الجسدي والنفسي اللذيْن يمارَسان بحق الفيتناميين، ولكن بطريقة يشدّ من خلالها المتلقي ويؤثر عليه ويخرج به من الحياد كما سبق وذكرنا إلى المشاركة الإيجابية التحريضية، حيث يقف هو والممثل والمشاهد على مسافة واحدة ضد الحرب التي يحترق فيها الشعب في فيتنام.
لقد طرح بروك القضايا التاريخية والحياتية بتقريرية مباشرة، رغم شاعرية الحوار ورمزيته وعمقه الفلسفي في بعض الأحيان، فقد حول هذا العمل المسرحي في بداية الفصل الأول (المسرحية في فصلين)، حوله الى نشرة إخبارية، وانطبع هذا حتى على عنوان المسرحية “نحن والولايات المتحدة”.
خلال هذه التجربة المسرحية، تساقطت أعمدة المسرح الكلاسيكي واحدا تلو الآخر، بل تجاوز بروك برخت أيضا، معلنا عن ولادة مسرح المواجهة. هذا المسرح الذي يتسم بانفتاحه حركة وحوارا، وكل شيء يجري ببساطة وسط عالم معقد، هذا العالم الذي يلتزم فيه البعض بقضايا الإنسان في ظل نظام رأسمالي متوحش، يقول بالحرية ولكن لا ينبغي أن تتجاوز مصالحه.
هو مسرح المواجهة إذن، مسرح تحريضٌ على الفعل، ومسرح تعميق للوعي، إنه ليس مسرحاً تنفيسياً، لأنه ببساطة ليس المسرح الذي يقدم المشاكل محلولةً على الخشبة، فيعطي الجمهور حماسا وانطباعا خاطئين يوحيان له بأن المشكلة في حياتهم (حياته) أيضا قد حلّت. إنه المسرح الذي يخرج منه المتفرج مشحونا بالرغبة في فعل شيء لتغيير الأوضاع المجحفة، لتغيير الواقع في هذا العالم بدل تبرئة الذمة بالبكاء كما فعل عنصريو كوخ العم توم.
الهوامش: (1) أبعاد مسرح بيتر بروك: حسب الله يحيى .
(2) نحن والولايات المتحدة: بيتر بروك ، ترجمة فاروق عبد القادر.
الصفحة الثقافية 2: الشهداء يعودون هذا الأسبوع
طالب جميل
تبدو قصة (الشهداء يعودون هذا الأسبوع) للكاتب والروائي الجزائري (الطاهر وطار) التي صدرت ضمن مجموعة قصصية تحمل العنوان نفسه سنة 1984 وكأنها تحمل خلطة تمتزج فيها الواقعية بالخيال، ويتواجه فيها الزيف بالحقيقة، وينتفض فيها الماضي على الحاضر محاصراً الجميع بأسئلة مفعمة بالقلق، أسئلة غير معتادة، أسئلة يكتنفها الغموض وتصبح الإجابة عليها أشبه بالتحدي، خاصة عندما تكون الإجابات لأسئلة تبدأ بـ (ماذا لو؟)، حيث يتسع أفق الاحتمالات وتصبح الإجابة على تلك الأسئلة أعقد.
القصة مبنية على كيفية التعامل مع خبر غير قابل للتصديق، وهي تحاكي فكرة الإصرار على العودة للحياة بأثر رجعي، وفيها مداهمة ومحاكمة وتعرية للواقع وكشف لزيفه، فهي قصةٌ تقوم فكرتها على إعادة ساعة الزمن إلى الوراء، وبقدر ما تبدو الفكرة جميلة ومستحيلة لمن آمنوا بالشهداء وشاركوهم المقاومة، بقدر ما تبدو قاسية لمن اختاروا أن يعيشوا من أجل الحياة.
القصة مكتوبة بلغة عربية مبسّطة ومعنية بشكل مباشر بالشأن الجزائري، وبمرحلة ما بعد الاستقلال تحديداً، أي بعد انتصار الثورة الجزائرية على الاحتلال الفرنسي للجزائر بعد أن قدمت قرابين الفداء متمثلة في أكثر من مليون شهيد، حيث تدور أحداثها في إحدى القرى بالجزائر، فتصور مشاعر رجل قروي مسن يُدعى (العابد بن مسعود الشاوي) يقضي أيامه القاسية وهو يتذكر ابنه الذي استشهد وهو يقاتل الاحتلال الفرنسي، الذي جثم على تراب الجزائر على امتداد عقود طويلة، إلى أن يتسلم هذا الإنسان القروي رسالة من مكتب البريد التابع للقرية، فيقول له موظف البريد وهو يسلمه الرسالة إنها من ابنه الشهيد، وقد أرسلها له من مكان بعيد.. بعيد جدا، ويترافق ذلك مع رؤية للشيخ (العابد) في منامه الذي يثق بصحة أحلامه أن ابنه الشهيد (مصطفى) والشهداء الذين معه سيعودون خلال أيام.
الفكرة تهيمن عليه، وتتحول إلى هاجس مرعب مثلما هو مفرح. يبدأ الشيخ (العابد) في كشف رؤيته لمن حوله. الجميع يسمع منه أن الشهداء سيعودون هذا الأسبوع، إلا أن الشيخ (العابد) لا يجد من يتحمس للرؤية، بل يستشعر ذعراً في عيونهم من هذه العودة المباغتة.
شاع خبر تسلم الشيخ (العابد) رسالة من ابنه الشهيد في كل أرجاء القرية، البعض أصيبوا بالدهشة وآخرون تصوروا أن الرجل قد أصيب بالجنون، وأنه يهذي هذيانا لا شفاء منه، لكن الرسالة ذاتها أحدثت بلبلة كبيرة بين الجميع، فهناك أفراد من كوادر الحزب الحاكم ممن حصلوا على امتيازات خاصة بعد الاستقلال أخذوا يؤكدون للآخرين أن الشهداء لا يمكن أن يعودوا للحياة من جديد، وحتى لو عادوا – وهذا مستحيل – فإن عودتهم لا يمكن أن تعطيهم الحق في أن يقتسموا معهم ما حصلوا عليه من امتيازات خاصة، لم يحصل على مثلها البسطاء والفقراء.
أما أحد الموظفين العاملين في إحدى الدوائر الرسمية فعلّق على ذلك قائلاً: إذا عاد الشهداء للحياة من جديد فإنّ عليهم أن يقدموا شهادات تفيد بأنهم أحياء، لأننا قد استخرجنا لهم من قبل شهادات وفاة، بينما قال واحد من المنتفعين الجدد: لن يلبثوا أسبوعا حتى يتزيفوا، إنهم سيؤولون إلى ما آل إليه غيرهم.
يدور الشيخ (العابد) في كافة أرجاء القرية ليسأل كل من يجده عن ردة فعله إذا علم أن الشهداء سيعودون، فيسأل رفيق ابنه في المعركة التي استشهد فيها، ويسأل شيخ بلدية القرية الذي يدير المدرسة، ومنسق القسمة، ورئيس وحدة الدرك في القرية، ورئيس القباضة (المسؤول عن صرف المنح) ومسؤول الفرع النقابي، وإمام المسجد وغيرهم.
البعض ممن أخذوا كلام الشيخ (العابد)على محمل الجدّ ردوا عليه بجدية أيضاً، ومنهم (مسجل المواليد والوفيات) الذي يؤكد له أنه لو عاد الشهداء فلابد من شطب أسمائهم من سجل الأموات وإعادة قيدهم في سجل الأحياء، وهذا سيستغرق وقتاً طويلاً، ولا يخفي آخرون مخاوفهم للشيخ (العابد) حيث يقولون له إن عودة الشهداء ستُحدث إرباكاً كبيراً في حياتهم، وأول من سيدفع ثمن ذلك هم الذين يتقاضون منحاً مالية نظير استشهاد أقربائهم، كيف سيعيش هؤلاء لو عاد الشهداء؟ وماذا ستفعل زوجات الشهداء اللاتي تزوجن وأنجبن من بعد غياب أزواجهن الشهداء؟
لكن صدمة (الشيخ العابد) تبدو أكبر عندما يقول لإمام المسجد أن ابنه سيعود خلال أيام ليردّ عليه الأخير بقوله: أو تظن ابنك المسيح أو المهدي، استغفر الله! اخرج من المسجد أيها الكافر، ليخرج الشيخ العابد من المسجد ذليلاً منكسر الروح، مطاطئ الرأس والقلب. أما رئيس وحدة الدرك فيردّ عليه متسائلاً: هل ترضى أن يعود ابنك مصطفى رحمه الله وينتزع منك شرف أب الشهيد، ويضيع منك كل الحقوق التي تترتب عليها مثل تلك المنحة، رخصة سيارة الأجرة، السكن في أحسن مساكن القرية والاحترام الذي توليه لك السلطات والشعب.
يصمت الشيخ (عابد) مستعجباً إزاء هذه العاصفة التي واجهها من الاستنكار والاحتجاج لعودة الشهداء، لكن الخوف يتغلغل في نفوس من يهابون هذه العودة المفاجئة، وفي مقدمتهم الذين تسلقوا على ظهور الشهداء، وورثوا أمجادهم وبطولاتهم، وحولوها إلى تركة مباحة لمن يجيد اصطياد الفرص، واللعب على الحقائق التي لا يعرف أسرارها إلا من استشهدوا.
جراء البلبلة التي أحدثها الشيخ (العابد) يُدعى لاجتماع طارىء لبحث الأمر بحضور مسؤولي المنظمات الوطنية، النقابة، قدماء المجاهدين، اتحاد النساء، الكشافة، قائد وحدة الدرك، مسؤول الشبيبة وغيرهم، ويصل المجتمعون إلى نتيجة مفادها أن ما يدعو له الشيخ العابد سيؤدي إلى عصيان مسلح يشترك فيه مليون ونصف من خيرة أبناء هذه الأمة، قصده قلب الأوضاع رأساً على عقب، ولا بد من إلقاء القبض على الشيخ العابد واستنطاقه وإشعار السلطات العليا في الحال.
فكرة القصة بحد ذاتها شائكة وموجعة. فماذا لو عاد الشهداء اليوم وأبصروا دماءهم قد تحولت إلى استثمار، وأن الجميع يرفض عودتهم؟ إما خوفاً من ضياع الامتيازات والمساعدات المرصودة لذوي الشهيد، أو تحسّباً من انكشاف أمر أولئك الذين خذلوا الشهداء، ثم تقاسموا أشياءهم، بل وزوجاتهم،
وما الذي سيفعله الشهداء إذا أدركوا هذه الحقيقة؟ هل سيندمون على تضحيتهم؟ وهل ستتقبل الأجيال القادمة أن تضحي إذا تكشّفت لها هذه الحقيقة التي لا تستثني أحداً؟ وكيف يتحول الشهيد من حالة لها قدسيتها وكرامتها إلى كابوس يهدد استقرار ومصالح البعض، وكيف يصبح من تغنى بالشهيد ومجده إلى رافضٍ لفكرة عودته وكل فكرة العودة التي باتت محملة بالخراب والدمار.
على أي حال فإن قصة (الشهداء يعودون هذا الأسبوع) مليئة بالدهشة والمفارقات وبالتناقضات الحياتية، لكنها تنتهي بمصرع العابد بن مسعود على قضبان السكة الحديدية من دون أن يعرف أحد هل دفعه أحد المنتفعين الجدد نحو القطار ليلقى مصرعه تحت عجلاته أم أنه قد انتحر؟ وتعكس القصة تلك القدرة الهائلة لكاتب مثل (الطاهر وطار) في معالجته لأمور لا تخطر على البال، ففيها رؤية موضوعية لواقع اجتماعي وسياسي حدث في الجزائر (بلد المليون شهيد) ويحدث في بلدان أخرى وربما تستدعي القصة تأملاَ عميقاً نتيجة لارتباطها بما يحدث.
(الطاهر وطار) المفجوع بالمحنة الجزائرية يحاول من خلال (الشهداء يعودون هذا الأسبوع) الردّ على السماسرة وتجار التنازلات بطريقته الخاصة فيزف بينهم بشرى عودة الشهداء، كي يفيقوا، فالمواجهة بينهم وبين الشهداء قد تشعرهم بشيء من الخجل، وتجعلهم أكثر إحساساً بقيمة ذلك الاستشهاد الذي تحول إلى مكاسب رخيصة وأطماع دنيئة لا تنتهي.
قصة مكتظة بالوجع، تبدو أقرب لفنتازيا مؤلمة تفتح من خلالها التساؤلاتُ البابَ لواقع محبِط، وتذكرنا أن دماء الشهداء الزكية يتم يومياً تسليعها للحصول على مكاسب رخيصة يستفيد منها بعض الساسة هنا وهناك. يُذكر أن القصة ألهمت كثير من المسرحيين، فتمّ تحويلها إلى نص مسرحي وعُرضت في الجزائر ودول عربية أخرى مثل سورية، وفي فلسطين.
ومن الواضح أن المادة المعروضة أعلاه هي عبارة عن قراءة ونقد لقصة تطرح فكرة عودة الشهداء إلى الحياة وقابلية المجتمع لاستيعابهم والتفاعل معهم، أما ردود الأفعال المستوحاة من القصة فيغلب عليها الطابع السلبي وليست كلها كذلك – لمن يقرأ القصة بشكل كامل- لكن تم تسليط الضوء على الجانب السلبي، وهو واقعي إلى حد كبير، جاء لتعرية وكشف الانتهازيين والوصوليين والسماسرة وهذا لا ينفي وجود فئة كبيرة من الناس تؤمن بالشهداء وترحب بعودتهم ولديها استعداد لتقديم الغالي والنفيس لهم.
قصيدة العدد: الوحدة العربية
(أو راية العرب، كما جاء في مصدر آخر)
شعر: محمود حسن اسماعيل – 1964
في طَريق الشَّمس عُودي، وأَعيدي عِزةَ الشَّرق على وَجهِ الوُجود
وازحـفي بـالنـور والنـار عـلى حشرجات الذل في باقي القيودِ
* * *
من قـديم الدهـر حـيـاك الإلـه وبصوت الوحي نادتكِ سماه
واصطفى أرضك من بين الثرى فحبَتْهـا بــالـرسـالات يــداه
بســنـاها شـعَّتِ الدنـيـا هُــدىً وبها ثارت على الذُّلِ الجباه
ومضت تسقي الليالي من ضحاها وتذيب الرِّقَّ من وجه العبيدِ
* * *
في ظلام الليل في الماضي الطويلِ كم حضنت العهد جيلاً بعد جيلِ
ومحـا خَـطـوُكِ في إصـرارهِ من طريق الفجر ليلَ المستحيلِ
وضربت السيرَ حتى سطعت شمسُكِ الكبرى على كُلِّ سبيلِ
وتـلاقـى الأهـلُ بالأهـلِ عـلى صيحةِ الحقِّ لأحلامِ الجدودِ!
* * *
بصباح الوحدةِ الكبرى الأبيَّهْ عُدتِ من حلم الليالي العَربيّةْ
فازأري بالنور في كل ثرٍى لم تـزل فـيه من الليـل بقيّـةْ
وعلـى كُـل ترابٍ لم تزلْ فيه للغـرب بـقايـا الهـمجيَّةْ
واستمرِّي حرَّةَ الخطوِ إلى أن تريْ شمسكِ عادت من جديدِ!
* * *
كم سقينا بالدم الفادي ثراكِ ومع الأجيال سُقنا شُهداكِ
ويـدُ اللهِ عـلـى كـل يـدٍ تزرع الفرقةَ ما بين خُطاكِ
طال فيك الجمع حتى أذِنتْ سـاعةُ الجـمع، فدقَّـتها يداكِ
والـتـقـيـنا، أمَّـةً واحـدةً تعبُـرُ الأيام من غير حـدودِ
* * *
فإذا شارفتِ أرضًا زمجرتْ ظمأً للفجرِ من قلبِ الخيامِ
فارشُـفيـها بشُـعاعٍ مُـؤمـنٍ يستردُّ النورَ من أعتى ظلامِ
ويذيـب العـارَ أنَّى خطرتْ لرُؤاهُ حسـرةٌ فـوق الـرغـامِ
وضحى المعراجِ يمحو دمعةً لم تزلْ تصرخُ في القدسِ الشهيدِ
* حشرجات: جمع حشرجة، وهي تردد النفس عند الموت
محمود حسن إسماعيل، شاعر معاصر من مصر، يتميز شعره بالروح الوطنية والقومية، قصيدته هذه من الشعر المُرّسل (الذي لا يلتزم بقافية واحدة). للشاعر عدة دوواوين، عمل بالمجمع اللغوي المصري، ومستشار ثقافي بالإذاعة المصرية، كما عمل كمستشار للمناهج لوزارة التربية والتعليم بالكويت. من قصائده الأخرى: فلسطين، إلى الأمام يا عرب، تكبيرة الزحف، وحدة المسير، لحن من النار، اللاجئون.
اترك تعليقاً