محور العدد: التحالفات والجبهات العريضة
كلمة العدد: نحو جبهة إنقاذ شعبية عربية
نظرياً، يُفترض بمن يتبنّون منظوراً عقائدياً وسياسياً متماثلاً أن يكونوا جزءاً من إطار تنظيمي واحد. لكنّ الواقع الاجتماعي والسياسي المعقّد والمتشابك لا يسري بخنوع خلف الرغبات المثالية البريئة، فتراه يترك في ركابه جروحاً وجرعاتٍ من المرارة والإحباط ممن كان يُفترض أنهم رفاقُ خندقٍ واحد، وهي امتحاناتٌ عسيرة من نوعٍ آخر للقوى والشخصيات صاحبة المشاريع التاريخية الكبرى؛ إما أن تردّها على أعقابها إلى قواقع المشاريع الصغيرة، الشخصية أو الانتهازية، لتنطفئ جذوة طموحاتها فتهجر مكنونها الثوري وتثبِت أنها غير جديرة بمشروعها الكبير، وإما أن تجعلها صعوبة التجربة السياسية والتنظيمية أكثرَ نضجاً، وبالتالي أكثر إدراكاً لمعادلات الواقع وشروط التعامل معه، لتتعلم في خضم العرق والدم والتضحيات والزمن المفوت كيف تمرر مشروعها التاريخي العملاق من خرم إبرة قوانين حركة الواقع وشروطه الصماء.
هنا يكمن الفرق في القدرة على تجاوز الذات السياسية والتنظيمية إلى الأمام ارتقاءً وتجذراً بدلاً من تجاوزها إلى الخلف نكوصاً وانهزاميةً، كما يكمن في قدرة الحركة النضالية على الاحتفاظ بالجوهر الحيوي لمشروعها التاريخي تحت أقسى الظروف، وهو ما تمكن ترجمته عملياً بامتلاك الاستراتيجية، أو خطة العمل، الأكثر ملائمة لكل مرحلة تاريخية، والمضيّ قدماً في تطبيقها على الأرض، والقدرة على تحشيد أوسع القوى لتحقيق الهدف المشترك في كل مرحلة رغم كل الصعوبات، وفيما يتعلق بالعلاقة مع من يفترض أنهم يتبنون هدفاً سياسياً واحداً أو عقيدة واحدة من خارج الإطار التنظيمي الواحد، فإن ذلك يطرح فوراً إشكاليات مسألة التحالفات والجبهات العريضة.
يعتقد كثيرون ممن يهتدون لفكرٍ عقائديٍ، في لحظة ما من تبلورهم النفسي والسياسي، أن الإطار الذي يصنعونه أو ينتمون إليه سوف ينتشر كالنار في الهشيم في متوالية استقطاب هندسية: 1، 2، 4، 8، 16، 32، إلخ… حتى يعم المجتمع بأسره، ما عدا أعداء المشروع من العملاء والمرتبطين بالخارج، فلا يتبقى حيزٌ هنا لأي قوة أخرى في الصف الوطني أو القومي، وهي قوى تنتفي الضرورة لوجودها أصلاً ما دام “مشروعي” موجوداً! ولأن اصحاب المشاريع الوطنية الأخرى يفكرون بالطريقة نفسها طبعاً، فإن ما ننتهي إليه هو نزاعات واسعة النطاق، وضيعة الأهداف ضمن ما كان يفترض أنه صفٌ واحدٌ في الكثير من الحالات.
أضِف إلى هذه المعادلة الصفرية إرثَ النزعة العشائرية والقبلية في المجتمع العربي، التي كانت تزدهر كلما ضعفت الدولة المركزية والتي كانت تضعف كلما قويت، لننتهي إلى قبائل وعشائر ضمن الصف الوطني نفسه، لا بل إلى حمائل وأفخاذٍ ضمن القبيلة الحزبية الواحدة، وإلى شللٍ تتكون على أساس الولاء الفردي (جماعة فلان وجماعة علان). إن مثل هذا الإرث التاريخي في المجتمع العربي، الذي عمّقه تعثر مشروع النهضة العربية والتأخر عن بلورة مفهوم المواطنة العابرة للأقطار والطوائف والعشائر والجهويات، منذ ضرب تحالف الاستعماريْن الغربي والتركي مشروع محمد علي باشا في مصر، وجد للأسف في نظرية “الطليعة”، سواء بنسختها القومية أو اليسارية، أو بنسختها الإسلامية (الفرقة الناجية)، مصداقاً وغطاءً يوفران “المشروعية” العقائدية والسياسية لاستباحة القوى الوطنية الأخرى وتهميشها والتعامل معها بشكل غير أخلاقي أو لامبدئي، مما خلق جواً مسموماً يولد الشكوك والمشاحنات الأبدية غير المجدية، ويقود حتى أكثر المناضلين نقاءً لتوخي الحذر في التحالفات ولتوقي الشر في العلاقات الجبهوية، وهو ما يعني عملياً إعاقة تحقيق الأهداف القومية الكبرى.
مثل هذا الواقع الحزبي المتشرذم لا يمكن أن يخفيه الخطاب المرائي، ناعم الملمس الذي يعلن غير ما يبطن (“كلنا شيء واحد”). وقد ازدادت مشكلة التشرذم هذه تفاقماً مع تكرّس النزعة القُطرية أو الإقليمية خلال سبعينيات القرن الماضي، ومن ثم تكرّس النزعات الطائفية والجهوية والإثنية خلال الثمانينيات وما تلاها، حتى بتنا نرى أحزاباً وشخصيات وطنية وقومية ويسارية ليست أكثر من واجهات رقيقة لمثل تلك الهويات الفرعية، حين لا تكون واجهات رثة لطموحات فردية. أما المشروع القومي نفسه، فلم يعد هناك إطارٌ يحمله في الشارع العربي فعلياً، لا على شكل حزب، ولا على شكل جبهة عريضة، خصوصاً مع انغماس الدول العربية التي تحكمها قوى قومية في الأولويات القُطرية في إطار منظومة التجزئة نفسها التي قامت تلك القوى أصلاً لتنفيها.
كانت مرجعية الزعيم جمال عبد الناصر السياسية قد ذهبت مع رحيله، لتبقى مرجعيةً معنويةً عامة غير ُملزِمة، ولتبدأ موجات الانشقاق في الأحزاب الناصرية. ولم يعد البعث تياراً هادراً في الشارع العربي خارج الأقطار التي حكمها كما كان في الخمسينيات والستينيات، وانعكس صراع البعثين في سورية والعراق على القوى الوطنية في الكثير من الأقطار العربية فعلياً. ولم تقم الأحزاب الشيوعية العربية، أو أحزاب اليسار الجديد، المتقوقعة في كل قُطر عربي على حدة، بالتحول إلى “يسار عربي”، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى عابر للحدود القُطرية، ولم يكن ذلك مشروعها أصلاً. ولم تتمكن الأحزاب الوطنية من الحفاظ حتى على استقلال أقطارها في وجه زحف العولمة والنفوذ الإمبريالي والحرب والعدوان الخارجيين في القرن الواحد والعشرين. أما التيارات الدينية، فقد ازدهرت، لكنها تحولت ببساطة إلى مشاريع تفكيك طائفي أو إلى مشاريع مأسسة الهمجية مما لم نسمع أو نقرأ عنه حتى في زمن الديناصورات.
انسلّت المنظمات غير الحكومية الممولة أجنبياً عند ذلك المفصل لتستكمل مشروع تفكيك ساحة العمل الوطني من خلال تجزئة القضايا المجتمعية إلى شذرات منفصلة (مثل قضايا المرأة، قضايا الأقليات، قضايا الحريات الفردية، قضايا البيئة، قضايا الريف والأقاليم، إلخ…) عملت على فك ارتباطها العضوي بالقضية الوطنية أو القومية العليا التي ظلّت القوس الذي تفيّأت في ظله الأحزاب العربية وحركات التحرر الوطني والوحدة القومية معظم عقود القرن العشرين.
هكذا مضت عملية اختراق الوعي في جهد منهجي منظم تقوم عليه الدول الغربية ومؤسساتها والشركات الكبرى متعدية الحدود، عبر أدواتها المحلية، لنشر الفكر الليبرالي المتغرّب المناهض للتحرر القومي وللاشتراكية باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحيوان والباذنجان، ولضرب الفكرة الحزبية نفسها التي تتيح تأطير قوى المجتمع لتحقيق أهدافه العامة. ولم تقتصر هذه العملية على الوطن العربي، بل تعدته للعالم الثالث والدول الاشتراكية سابقاً، لتنتج ثورات ملونة عرفتها أوروبا الشرقية، وأعيد إنتاجها في الدول العربية على هيئة “ربيع عربي” (تم تناول بعض جوانبه في العددين 17 & 18 من مجلة “طلقة تنوير”). وصارت موضة العمل السياسي هي “الشبكات المجتمعية” المتمحورة حول هدف ترقيعي محدود مثل “حقوق الطفل” أو “التنمية المحلية” إلخ…، بعد أن أصبحت كلمة السر في العمل السياسي هي “المجتمع المدني”!
إن جواً موبوءاً من هذا النوع بات يقتضي قيام “جبهة إنقاذ” شعبية عربية، تضمّ القوى والشخصيات الوطنية والقومية واليسارية والدينية المتنوّرة المعنية بمحاربة مشروع التفكيك والطائفية والتدخل الإمبريالي في وطننا والتطبيع مع العدو الصهيوني. إن جبهةً من هذا النوع، لو قامت، لن تمثل بعد مشروعاً لتحقيق الأهداف القومية الكبرى من وحدة وتحرير ونهضة، لأنّ هدفها سيكون وقف حالة الانحدار المريع والتدهور السريع في الوضع العربي، لكنّ قيامها وتفعيلها وشروعها في تحقيق أهدافها، التي تبقى دفاعية من المنظور التاريخي، سوف يمهّد بالضرورة لإعادة الاعتبار لمفهوم العمل الحزبي والجبهوي في الشارع العربي. غير أن مثل هذه الجبهة لن تقوم بالنوايا الحسنة فحسب، ولن تقوم بشكل عفوي أو بالصدفة، وإذا قامت اعتباطاً هكذا فإنها لن تدوم، إذ لا بد لها من روافع حزبية صلبة تعمل على قيامها وحل مشاكلها وتناقضاتها واستمرارها، ولا بد لتلك الروافع أن تمتلك الإرادة لبناء مثل هذه الجبهة، وأن تتمتع بقدر من الفاعلية والتأثير في الميدان السياسي، لكي لا تكون الجبهة مجرد إضافة صورية رثة للواقع العربي المعاصر أو مجرد دكانٍ جديدة. وكل هذا لا نرى له من أثرٍ اليوم. فالأساس في أي عمل جبهوي هو وجود أنوية صلبة قادرة أن تصبح عامودها الفقري.
حول التجاذبات السياسية
جميل ناجي
فلسطين كانت ولم تزل قضية العرب الأولى، فهي الاسم الحركي للأمة العربية وهي الخاصرة وعنوان الصراع مع الإمبريالية والصهيونية، وهي البوصلة التي لا تخيب في أي صراع وفي أي تحليل، وهي الثابت الذي لا بديل عنه، والخط الذي لا يمكن تجاوزه. إنها الرقعة التي تناوَب الغزاة على خلعها دوما من الحضن العربي، لتمرير مشاريع السيطرة على هذه الأمة وتفكيكها. إنّ أي مشروع سياسي لا ينطلق من هذا المفصل المقدّس في المواجهة، هو عبءٌ حقيقي على كواهل أصحاب المشاريع الحقيقية. هذه مقدمة للواقفين اليوم، كدروعٍ بأجسادهم، على خط التماس الحقيقي لإعادة الاعتبار لهذه الأمة في فلسطين وعلى أرض فلسطين التي لا تنتهي.
لقد فرض الربيع العبري مؤخرا تغييراً شاملاً في قواعد وأبعاد المواجهة، الاشتباك والتحالف، بل يكاد يكون قد نسف كل هذه القواعد التي شكّلت مرجعية للجيل السابق في حركة التحرر الوطني. إنّ الذي يحكم اليوم في ميزان العمل السياسي مختلفٌ عن البعد الأيديولوجي التقليدي، ومرتبطٌ بالموقف من مواجهة المشروع الإمبريالي أولا وأخيرا. بمعنى أن اليساري الذي يطالب بإسقاط النظام وتخفيض أسعار المواصلات، لا يقف بصفٍ واحدٍ مع اليساري الذي يقف مع النظام في مواجهة مشروع تفكيك الدولة. إذن بات الموقف السياسي هو الذي يحكم بالدرجة الأولى أيَ تقارب أو تباعد بين الأفراد والجماعات. والأيدولوجيا على صعيد آخر ليست ضمانةَ قربٍ أو مانع للانحراف.
أي تحالف أو تقارب قد ينشأ بالتالي بين أي قوى سياسية ينبغي أن يكون نابعاً بالضرورة من وحدة الموقف السياسي أولا. فبدون موقف سياسي مشترك لا يمكن أن ينشأ أي تحالف حتى لو توافقت الأيدولوجيات، وإن وجد، فلا بد أنه لتحقيق هدف مصلحي عابر لا علاقة له بالأيديولوجيا. على سبيل المثال، قد يقوم حزب يساري يتشدّق بشعارات مناهضة الإمبريالية بالتحالف مع قوى يمينية متصالحة مع المشروع الإمبريالي من أجل تخفيض أسعار الخبز في حي معين، وفي ظل هجمة شرسة تخوضها الأمة مع المشروع الإمبريالي. وهذا يحملنا لاستنتاج مهم هو أن التوافق حول الهدف في أي تحالف لا يسقِط ضرورة وحدة الموقف السياسي. ومن البديهي أننا لا نقصد هنا وحدة الموقف من كل القضايا الراهنة الكبيرة والصغيرة المطروحة على بساط المرحلة، بل تقاطع المواقف، في ما يعتبره كل طرف من أطراف التحالف، التناقض الرئيسي الذي يحكم رؤيته للمرحلة السياسية الراهنة.
النقطة الأشد أهمية هنا هي: هل ينبغي أن تتوافق الدوافع إذا توافقت الأهداف والمواقف السياسية؟؟؟ الجواب شائك قليلا، لأن هناك أبعادا عديدة مرتبطة أصلا بالمصلحة العامة (مصلحة الأمة)، فاخذ دوافع الطرف المقابل بعين الاعتبار يتعلق بأهمية الهدف (الهدف من التحالف)، وبقدرتنا على إدراك الدوافع الحقيقية وتمريرها للطرف الآخر إذا كان هدفه السياسي اعتباراً مهماً للمصلحة العامة. ولتقريب الصورة، قد يقف حزب مطلبي إصلاحي ضمن حدود إقليمية معينة موقفاً مناهضاً للإمبريالية، ويطالب بإنشاء تحالف ما يخدم أهدافاً مرتبطة بالمصلحة العامة (ليست إصلاحية ومرتبطة بمواجهة مشروع التفكيك)، لكنّ دوافعه الحقيقية لعقد مثل هذا التحالف هي المساومة أو تحقيق مطلب مصلحي وضيع أو غير ذلك من الدوافع ضيقة الأفق. نعود لنقول أن الأساس ضمن أي تحرك في هذا السياق يرتبط بمصلحة الامة في ظروف الزمان والمكان، وفي الاتفاق حول هذه المصلحة. فالجذري هو مبدئي في الأهداف لكنه مرِن في الوسائل.
إنّ تعثر المشروع القومي في العقود الماضية أورث الحياة والحركات السياسية رصيداً ضخماً من الأنماط والسلوكيات غير الثورية والتخريبية. إنّ العجز عن المسير قدما (ناهيك عن المشروع الغربي في ضرب النخب السياسية والثورية وتجويفها واختراقها) ترَك الواقع السياسي العربي بركة آسنة لكل الأمراض المجتمعية المرتبطة بالواقع المتخلّف، الذي لم ينفض عن كواهله بعد ثقافة القرون الوسطى. إنّ النضال السياسي اليوم يواجه عمليات تخريبية حقيقية من قبل الحركات السياسية الرثّة المتناثرة عبر وطننا العربي أكثر مما يواجهها من قبل المشروع الأمريكي الصهيوني. وقد شكلت تلك البيئة الآسنة منفّراً حقيقياً للجماهير المندفعة نحو العمل النضالي، لدرجةٍ انقطع فيها الهدف الحقيقي لوجود معظم تلك الحركات والتنظيمات السياسية كطليعة للجماهير، بل أصبحت في كثير من الأحيان مدعاة للاستهزاء والضحك.
إنّ قيام صيغة لتحالف ما بين التيارات السياسية في الواقع العربي اليوم يحمل في طياته بذور فشله نتيجة هذه التركة التقليدية من المسلكيات اللاثورية، وانعدام الثقة، وتشعّب الأهداف والمكاسب الثانوية التي لا تمتّ للعمل السياسي بشيء سوى أنها تشكّل أجندات شخصية. إنّ ردة الفعل إزاء الشخص الانتهازي أو المتسلّق أو غيره، باتخاذ موقف ما اتجاهه، أو تقزيم العلاقة معه، هي ردة فعل غريزية للإنسان النقي. وفي أي مجتمع معين، ما يجري على الأفراد يجري على الجماعات أيضا والحركات السياسية، فحيّز المناورة وإنشاء التحالفات ضمن هذا السياق ضيق جدا، ويظل محكوماً بالمصلحة المباشرة للأطراف المنخرطة في التحالف، حتى تنشأ قوى ثورية حقيقية صاحبة مشروع يتجاوز الذات المبعثرة بين الأجندات الشخصية والضيفة والصَدَفة الأيديولوجية الفارغة والبكاء على الأطلال. عندها، وعندها فقط، يمكن أن نتحدث عن جبهة عريضة لتحقيق مشروع قومي كبير.
المنظور القومي الجذري في مسألة التحالفات والجبهات العريضة
إبراهيم علوش
تطرح مسألة تأسيس جبهة متحدة إشكاليتين محددتين إحداهما عامة، والأخرى خاصة بالواقع العربي المعاصر. أما الأولى فهي طبيعة العلاقة بين الحزب والجبهة في الواقع العالمي منذ نشأت الأحزاب الحديثة، أما الثانية فتتعلق بانحسار تأثير الأحزاب الوطنية على أنواعها في الواقع العربي المعاصر لمصلحة بنى أخرى تقليدية أو معولمة (العشيرة، الطائفة، المنطقة، المنظمة غير الحكومية، الفرد…) ولمصلحة الحركات الهوياتية التي قد تطلق على نفسها تسمية “حزب”.
لا بد لنا، من أجل معالجة هاتين الإشكاليتين أن نعود إلى الأسس: اهتدى البشر منذ وجدوا على هذا الكوكب إلى أن تحقيق الأهداف الجمعية يتطلب عملاً جمْعياً، وأن الجهد الفردي لا يثمر إلا في سياق عمل جماعي. فإذا جاء العمل الجماعي كلقاء صدفة بين مجموعة من الإفراد، كما في تظاهرة عفوية مثلاً ضد الجرائم الصهيونية في فلسطين، فإن ذلك، رغم أهميته وفائدته وضرورته، قد يسهُل استيعابه أو امتصاصه وتشتيته وتجازوه. أما إذا جاء العمل الجماعي نتاجاً لتخطيط هادف وبلورة لمشروع، فإننا نصل لتركيز أعلى للموارد السياسية والتنظيمية قد يمتلك فرصةً أعلى في تحقيق أهدافه، أي نصل إلى العمل الجماعي المنظم.
يتّخذ العمل الجماعي المنظم أشكالاً مختلفة، بحسب طبيعة هدفه، فإذا كان الهدف قضية محددة، مثلاً مقاومة التطبيع أو دعم سورية أو اليمن، أو العراق سابقاً، فإن الشكل الأنسب له قد يكون لجنة أو هيئة تنسق عبرها الشخصيات والهيئات جهودها ونشاطاتها. وقد تكون تلك اللجنة أو الهيئة مؤقتة، لتنسيق مهرجان تضامني مثلاً، وقد تكون لجنة دائمة بديمومة القضية التي تأسست من أجلها، مثلاً مناهضة العولمة. وإذا كان الهدف سلسلة من القضايا المرتبطة ببرنامج ورؤية وخط سياسي عام، لا قضية واحدة محددة فحسب، فإن الشكل الأنسب للعمل الجماعي المنظم عندها يصبح حزباً أو تنظيماً أو حركة يرتبط أفرادها بعضهم ببعض بأواصر البرنامج السياسي المشترك والبنية التنظيمية. وقد تكون البنية التنظيمية متراخية أو حديدية أو في منزلة بين المنزلتين، وقد تكون قائمة على أسس هشة وغائمة أو متبلورة وواضحة، وقد تكون سرية أو علنية، وقد تكون محكومة بنظام داخلي متوافَق عليه أو محكومة بالمزاج الشخصي لمن يمسكون بمفاصل الحزب أو التنظيم أو الحركة، إلخ…
لكن النقطة المركزية هنا هي أن تأسيس بنية تنظيمية سليمة وفعالة هو من أهم عناصر نجاح المشروع السياسي أو تمثيل الخط السياسي الذي قامت تلك الحركة أو التنظيم أو الحزب من أجل تحقيقه. فإذا كان هناك مشروع كبير يتطلب الظرف التاريخي تحقيقه من دون أن يجد جماعة منظمة تتصدى له، فإن العيب على الأمة التي تواجه تحدياً تاريخياً مصيرياً وتفشل فيه، ومن هنا دعوتنا المتواضعة في “لائحة القومي العربي” لإعادة إحياء المشروع القومي العربي في وطننا اليوم. وإذا كان هنالك اندفاعٌ للانخراط في تحقيق المشروع القومي الكبير من دون أن يتمخض ذلك عن بناء أداة تنظيمية، أو رافعة، قادرة على حمله بما تقتضيه المرحلة التاريخية، فإن العيب يقع بالضرورة على النخبة السياسية والتنظيمية والفكرية القائمة عليه، مع العلم أن فشل تجربة تنظيمية أو سياسية محددة لا يلغي الحاجة التاريخية للمشروع الذي قامت من أجله، بل يعمّقها، مشروع الوحدة والتحرير والنهضة العربية نموذجاً. وللمزيد حول “التنظيم القومي في القرن الواحد والعشرين”، الرجاء مراجعة العدد 11 من مجلة “طلقة تنوير”، عدد 1 نيسان 2015.
بيد أن تأسيس تنظيم أو حركة أو حزب، أو سمّه ما شئت، لو تمّ، لا يكفي بحد ذاته لتحقيق الأهداف القومية الكبرى. وكما جاء في البرنامج السياسي لـ”حركة التحرير الشعبية العربية”، الصادر عام 1983، فإن المشروع القومي الكبير يتطلب وجود: أ – حزب قومي عابر للأقطار العربية، ب – جبهة قومية متحدة، ج – نقابات ومنظمات جماهيرية، د – جيشاً شعبياً عربياً (الصفحات 82-92 من البرنامج السياسي لحركة التحرير الشعبية العربية). وبما أن موضوعنا هنا هو التحالفات والجبهات العريضة، فإن هدف الجبهة القومية المتحدة، بحسب البرنامج المذكور، هو “حشد أوسع قوى ممكنة في كل مرحلة تاريخية” (ص 88)، وهي جبهة عابرة للأقطار العربية، على أن تنضم إلى صفوفها لا الأحزاب والقوى السياسية فحسب، بل النقابات والمنظمات الشعبية أيضاً، لتكون الجبهة هي الإطار الذي يدافع عن السلطة القومية في أي منطقة محررة. ونقتطف، بعد التأكيد على ضرورة قيام الحزب من صفوف العناصر الأكثر وعياً والتزاماً وجذريةً في الوطن العربي: “ولكن هل يعني هذا أن هذا الحزب بديلٌ لكل القوى السياسية الوطنية والديموقراطية، وأنه الممثل الوحيد للشعب أو للطبقات والفئات التي يطمح إلى تمثيلها؟”، وتأتي الإجابة: “لا قطعاً! لأن الجبهة القومية المتحدة، في حالة قيامها، هي ممثل الشعب، وهي ستبقى كذلك ما دامت هناك ضرورات لوجودها، ولأنه ليس من حق أي حزب أن يعتبر نفسه بديل كل القوى، والممثل الوحيد لإرادة الجماهير الشعبية، بلغ ما بلغ من القوة والانتشار” (ص. 83).
تنظير الجبهة القومية المتحدة جاء بصورة أكثر توسعاً في الفصل الأول من كتاب ناجي علوش “عودة إلى موضوعات الثورة العربية” (الصادر عن دار الكاتب في بيروت عام 1978، والموجود على موقع ناجي علوش على الإنترنت لمن يرغب)، حيث أفرَدَ الكاتب فصلاً كاملاً لذلك العنوان، أوضح في صفحاته الأولى أنّ طبيعة الجبهة القومية المتحدة تحددها طبيعة التناقض الرئيسي في كل مرحلة تاريخية، وبالتالي تحديد معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء، فالجبهة القومية المتحدة التي تكون أولويتها الأولى مواجهة الاحتلال والتدخل الأجنبي قد تجتذب إلى صفوفها قوىً مختلفة بعض الشيء عن الجبهة القومية المتحدة التي تقوم بعد تحقيق الوحدة والتحرير من أجل الدفاع عن سلطة الشعب وتحقيق التنمية الاقتصادية وبناء الاشتراكية. أما التناقضات التي لا بد لها أن تنشأ بالضرورة في صفوف الجبهة القومية المتحدة فيجب أن تُحلّ بالحوار وبالصراع السياسي، من دون السماح بتطورها إلى صراع عنيف يشتت البوصلة ويخسف التناقض الرئيسي.
حول طبيعة العلاقات بين الأطراف المشاركة في الجبهة المتحدة لا بد من العودة لكتابات ماوتسي تونغ وجورجي ديمتروف والأدبيات الماركسية-اللينينية حول الموضوع، لثرائها النظري وارتباطها بتجربة تاريخية حزبية عريقة هي تجربة الأممية الشيوعية الثالثة، التي رئسها ديمتروف البلغاري لفترة طويلة. وكان ديمتروف قد نظّر لفكرة الجبهة المتحدة في مواجهة الفاشية والحرب في أواسط الثلاثينيات من القرن الفائت، وله كتابٌ معروف بهذا العنوان هو مجموعة من المقالات والخطب حول الموضوع منها كلمته أمام المؤتمر السابع للأممية الشيوعية الثالثة في موسكو عام 1935 الذي تبنى رسمياً توجه ديمتروف بإقامة جبهة شعبية ضد الفاشية بالتحالف مع الأحزاب البرجوازية والانتهازية وكل القوى الديموقراطية التي تعارض الفاشية. وكانت مثل تلك الخطوة ضرورية لمواجهة صعود الفاشية في ألمانيا وإيطاليا في الغرب، المتحالفة مع اليابان في الشرق، مما اعتبره الشيوعيون مؤامرة رأسمالية ضد الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية والعمالية العالمية، أي أن الجبهة الشعبية ضد الفاشية، أو الجبهة المتحدة، أصبحت فعلياً حاجة جغرافية-سياسية للدولة السوفييتية، ولم تكن أوروبا الشرقية بعد اشتراكية.
المشكلة غير الملموسة هنا، والتي قد لا يدركها من لم يتشرّب أدبيات لينين، أن التميّز البلشفي قام على جذريته، ومنه على مقارعة الأحزاب الاشتراكية والعمّالية الأخرى، مثل الاحزاب الاشتراكية-الديموقراطية المنتمية للأممية الثانية، وإظهار ضعفها وتصالحها مع البرجوازية، وتأييدها للحرب الإمبريالية، وتركيزها على النضال المطلبي على حساب النضال السياسي لإقامة ديكتاتورية البروليتاريا. فالتراث اللينيني نفسه، نظرياً وعملياً، كان يدفع دفعاً باتجاه إنكار حق الأحزاب الاشتراكية والعمالية الأخرى، غير البلشفية، بالوجود. أما الآن، فقد بات على الشيوعيين أن يدعوا لجبهات متحدة ضد الفاشية، لا مع تلك الأحزاب فحسب، بل مع الأحزاب البرجوازية نفسها التي قد تعارض الفاشية والنازية وتحاربهما.
وكان الخطاب الشيوعي التقليدي يعتبر أن الحزب الشيوعي هو حزب الطبقة العاملة، وأن الاشتراكيين-الديموقراطيين يمثلون الارستقراطية العمالية والشرائح الدنيا من البرجوازية الصغيرة، ولذلك أصبح نفي الأحزاب الأخرى جزءاً من الصراع الطبقي، وقد كان “الكاديت”، أبان الثورة الروسية عام 1917 للإطاحة بالقيصر، حزب البرجوازية الدستورية المناهضة للحكم الملكي، وكان الاشتراكيون-الثوريون حزب الفلاحين عملياً (الذين يشكلون جزءاً من البرجوازية الصغيرة بحكم ملكيتهم لأراضٍ مهما قلّت مساحتها)، وكان المناشفة الجناح الانتهازي في الحركة الاشتراكية، أما البلاشفة، الذين تمخض عنهم الحزب الشيوعي، فكانوا الممثل الشرعي الوحيد للبروليتاريا الثورية الذي لا يقبل بوجود سواه إلا على هيئة نقابات يجب أن تكون بالضرورة تابعة للحزب الشيوعي.
فهل كان الموقف الناكر لحق الأحزاب الاشتراكية والعمالية الأخرى بالوجود هو الموقف الخاطئ، أم أن لكل مرحلة تاريخية قوانينها وشروطها التي لا يجوز سحبها بشكل أوتوماتيكي على المراحل الأخرى؟ وبالمعيار نفسه، هل يجوز لحزب قومي عربي أن ينفي حق الأحزاب القومية الأخرى بالوجود، مهما بلغت شعبيته؟ بغض النظر عن الإجابة، فإن من المؤكد أن حظر الأحزاب الأخرى التي تحمل العقيدة نفسها، ما دامت لم تتجاوز الخطوط الحمر وتتعامل مع أعداء الأمة ومشاريعهم، يتعارض بالضرورة مع فكرة إقامة جبهة متحدة.
بعد اتخاذ المؤتمر السابع للأممية الشيوعية قراراً بتأسيس جبهات متحدة، لعبت تلك الجبهات دوراً مهماً في إسبانيا وفرنسا، وفي الصين، وغيرها. في فرنسا مثلاً عُقد تحالفٌ بين الشيوعيين وعدد من القوى الأخرى على رأسها جماعة الأممية الثانية (الاشتراكيون-الديموقراطيون) والحزب الراديكالي الفرنسي، وتمكّن ذلك التحالف من الوصول للحكم تحت اسم “الجبهة الشعبية” عام 36، ولسنا معنيين بتمجيد تلك التجربة نظراً لاستمرار الجبهة الشعبية “المناهضة للفاشية” بسياسة الاحتفاظ بالمستعمرات الفرنسية، وعلى رأسها المستعمرات الفرنسية في شمال أفريقيا وسورية ولبنان، مع أن اتفاقاً عُقد مع حركة الاستقلال في سورية لم ينفذ منه شيءٌ. وما أبشع الشعارات الاشتراكية (أو الديموقراطية) في الغرب عندما تصبح غطاءً “أزهى” للاستعمار. إذن فلنتذكر جيداً أننا كأمة عربية لا يجوز أن نتحمس كثيراً لـ”مناهضة الفاشية” عندما يكون مناهضو الفاشية هم الذين يستعمروننا! لا بل أن ترجمات هيئة تحرير مجلة “الصوت العربي الحر” لوثائق المؤتمر السابع للأممية الشيوعية الثالثة عام 1935 أظهرت أن الشيوعيين الفرنسيين رفضوا السماح للشيوعيين التوانسة والجزائريين والمغاربة بتمثيلٍ مستقلٍ في المؤتمر السابع للأممية الثالثة، فسُمح لهم أن يحضروه بصفة مراقب فحسب!!! وكان المؤتمر السابع للأممية الشيوعية الثالثة هو المؤتمر الأخير، حيث تمّ حل الأممية (معادل القيادة القومية في الأحزاب القومية العربية) عام 1943 في خضم الحرب العالمية الثانية إرضاءً للحلفاء.
على خلفية قرارات المؤتمر السابع للأممية الشيوعية عام 1935 بتأسيس جبهات متحدة ضد الفاشية، كانت تتكشف في الصين القصة الأكثر إثارة للجبهة المتحدة. وكانت قيادة الكومنترن (الأممية الشيوعية الثالثة) قد أصدرت توجيهاتها للشيوعيين الصينيين بوضع أنفسهم تحت قيادة الكومينتانغ (الحزب الوطني) بقيادة شانغ كاي تشك لصدّ التغلغل الياباني في الصين انطلاقاً من شمال شرق البلاد في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، والذي تحول إلى هجوم ياباني عام لاحتلال الصين عام 1937، مما كان يهدد الاتحاد السوفييتي من الشرق، إضافةً للتهديد النازي والفاشي من الغرب. وكان الكومينتانغ قد ارتكبوا مجازر بشعة بالشيوعيين عام 1927، واستمر النزاع العسكري بشكل متقطع بين الطرفين حتى أواسط الثلاثينيات، لكن موسكو كانت تريد التحالف مع شانغ كاي تشك ضد اليابان.
هنا نشأت في الحزب الشيوعي الصيني ثلاثة اتجاهات: 1) اتجاه يدعو لتنفيذ أوامر موسكو بالالتحاق بالكومينتانغ تحت قيادتهم لمواجهة الغزو الياباني، 2) اتجاه يدعو لرفض التعاون مطلقاً مع الكومينتانغ استناداً للتاريخ الدموي بين الطرفين، و3) اتجاه يدعو لتأسيس جبهة متحدة مع الكومينتانغ، ويستعد للإقرار بالقيادة الصورية لهم ولقائدهم شانغ كاي تشك كما تريد موسكو، ولكن يرفض وضع الجيش الأحمر تحت قيادة الكومينتانغ، أو حلّ الحزب وإضعاف سلطاته. وكان الاتجاهين الأول والثالث هما الأقوى، وكان يقود الاتجاه الأول وانغ مينغ رجل موسكو الأول في الحزب الشيوعي الصيني الذي اختفى ذكره تماماً فيما بعد، وكان يقود الاتجاه الثالث الزعيم التاريخي ماوتسي تونغ. وكان الخلاف حاداً بين وانغ مينغ وماو تسي تونغ، ولم يكن خلافاً يتعلق بعقلية الانصياع لأوامر موسكو من دون أخذ المصالح الصينية بعين الاعتبار فحسب، بل باستراتيجية خوض الحرب ضد اليابان نفسها، وبضرورة عدم تسليم كل الأوراق للكومينتانغ في إطار الجبهة المتحدة، كما كان يتعلق بوقف سياسة الإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي على الفلاحين في المناطق التي يسيطر عليها الحزب الشيوعي الصيني لإرضاء قواعد الكومينتانغ من أغنياء الفلاحين (الكولاك الصيني).
كان وانغ مينغ يرى وضع كل طاقات وإمكانات الحزب والجيش الأحمر خلف الكومينتانغ لمواجهة الغزو الياباني. وكان ماوتسي تونغ، كقائد عسكري فذّ، ناهيك عن قدراته السياسية والنظرية والتنظيمية، يرى أن ميزان القوى بين الجيش الصيني والجيش الياباني يجعل المواجهة المباشرة انتحاراً، ولذلك رأى التغلغل خلف خطوط العدو لممارسة حرب العصابات اعتماداً على مفهوم حرب الشعب طويلة الأمد الذي وضع أسسه النظرية في كراسة منفصلة فيما بعد، والذي تعلّمت الإمبريالية دروسه لتستخدمها بعد عقود ضد الاتحاد السوفييتي نفسه، في أفغانستان، وضد الدول المستقلة في القرن الواحد والعشرين. ولم يكن وانغ مينغ رجلاً جباناً، فقد اشترك بالقتال شخصياً في ووهان مع الكومينتانغ ضد اليابان خلال غزوها للمقاطعات الشمالية، لكن سحْق الجيش الصيني خلال أشهر معدودة أكد للتيار الوسطي في الحزب الشيوعي، الذي كان قد سعى للتوفيق بين ماوتسي تونغ ووانغ مينغ، صحة رؤى ماو تسي تونغ.
انسحب الجيش الصيني الذي يقوده الكومينتانغ تاركاً مناطق شاسعة بينه وبين اليابانيين، ليستفيد من العمق الاستراتيجي للجغرافيا الصينية، فتقدم الجيش الأحمر لملء الفراغ وللتغلغل خلف خطوط اليابانيين، مما عنى أيضاً سيطرة الحزب الشيوعي على مناطق جديدة، وهو ما دفع شان كاي شك لفقدان توازنه السياسي، فتكررت الاشتباكات بين الطرفين، في ظل الجبهة المتحدة ضد اليابان، حتى وقعت حادثة جنوب أنهوي عام 1941 حين انقضّ الكومينتانغ على عشرة آلاف جندي من الجيش الأحمر كانوا متوجهين لمقاتلة اليابانيين، تم الإجهاز على معظمهم بالتعاون مع الطائرات اليابانية. وكان النصر العسكري في تلك المعركة لشان كاي تشك، قائد الكومينتانغ، لكنه نصرٌ سرعان ما انقلب إلى هزيمة سياسية كبيرة عندما تحول الرأي العام الصيني برمته، بسبب ذلك النصر بالذات، ضده بقوة، وهو ما يفترض بالضرورة سيادة الحس الوطني والقومي عند الرأي العام، مما لا يمكن تعميمه دوماً.
مثال الصين يظهر قوة المعادلة التي وضعها ماوتسي تونغ للعلاقة ضمن الجبهة المتحدة: “وحدة-صراع-وحدة”. فلا يجوز إنكار حقيقة وجود تناقضات ضمن الجبهة المتحدة، ولا يستطيع أحد أن يفرض على تلك التناقضات أن لا تنفجر بين الفينة والأخرى، خصوصاً عندما تتألف الجبهة المتحدة من أنداد متكافئين مثل الكومينتانغ والحزب الشيوعي الصيني، وليس مطلوباً أن نذوب في الحليف كما أنه ليس سليماً أن نحوّل نقاط التناقض معه إلى أولوية تفوق في أهميتها أولوية التناقض الرئيسي مع معسكر الأعداء، والعبرة تبقى في طريقة إدارة الخلاف والتعاون ضمن الجبهة المتحدة، وهو ما يخضع لظروف الزمان والمكان والتناقض الراهن وميزان القوى بيننا وبين الحلفاء، وليس فقط بيننا وبين الأعداء.
في الخلاصة، طرحت “لائحة القومي العربي” صيغة “حركة شعبية عربية منظمة” لتحشيد القوى حول الأهداف القومية الكبرى، الوحدة والتحرير والنهضة، وهي جبهة تقوم على أساس التعددية ضمن حدود الثوابت، على أرضية التنوع الأيديولوجي (للتيارات الناصرية والبعثية والقومية اليسارية والقومية الإسلامية)، وعلى أرضية القاسم المشترك بين القوى والشخصيات المكونة لتلك الحركة الذي لا يمكن أن يكون مئة بالمئة، وإلا لانضوى الجميع في حزب أو تنظيم واحد (مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي، دار ورد، عمان 2009، ص: 70-72). إن حركة من هذا النوع، عابرة للحدود القطرية، تضم في صفوفها قوى وشخصيات حزبية ونقابية وشعبية وثقافية، لا يمكن أن تقوم بدون أنوية تنظيمة صلبة تشكل رافعة لها، لكن لا يمكن أيضاً لمثل تلك الأنوية الصلبة أن تحقق المشروع القومي وحدها. وعلى تلك الأنوية أن تعرف أين ومتى يتوجب عليها أن تحافظ على نقائها المبدئي مئة بالمئة، وأين يتوجب عليها أن تتسم بالمرونة الشديدة في التعامل مع الحلفاء والاصدقاء، وهو خيطٌ رفيع لن يمتلكه إلا من خاض ملياً في أوحال التجربة السياسية ليحلق بعدها في سماء النظرية مصححاً ومعدِلاً ومتعلماً الدروس، ليعاود الخوض في التجربة متسلحاً برؤى أكثر وضوحاً وعلمٍ أكثر رسوخاً. ونحن بالمناسبة لسنا ضد التحالفات المصلحية العابرة، غير المتناقضة مع الثوابت واهداف المشروع القومي، رغم محدوديتها وقصر عمرها، غير أن مثل تلك التحالفات ربما تشكل جبهات دفاعية في بعض الظروف، عندما لا تنجح الأطراف الانتهازية والملوثة بتجييرها لأهدافها الضيقة. أما الجبهات الحقيقية التي تستحق أن ينظر إليها، فهي تلك التي تنشأ حول أهداف الوحدة والتحرير والنهضة، وهو ما يمثل قصة مختلفة تماماً.
من قوة الجبهة إلى جبهة القوة
أسامه الصحراوي
في العلوم السياسية تنقسم العلاقات بين الدول والأطراف إلى أربعة أنواع: تحالف، خصومة، عداوة، تبعية. ولا تفلت العلاقات السياسية من هذه الأشكال مهما كانت محاولات التلميع بالحديث عن الصداقة أو حسن الجوار أو الشراكة المتقدمة. فإذا أردنا الحديث عن العمل الجبهوي كالتقاءٍ واسع بين أطياف متعددة ومختلفة تؤجّل خلافتها الثانوية لتركيز مجهوداتها في معركتها ضد عدو مشترك، يمكننا تعريف الجبهة أنها: مجموع الحلفاء والخصوم زائدا توابعهم والذين تجمعهم معركة واحدة ضد عدو مشترك. والجبهة بذلك فرزٌ في العلاقات وفرزٌ في التموقعات، فهي تجمع ثلاثة أصناف من العلاقات السياسية في مقابل علاقة العداوة، وهي أيضا تجمع الأطراف المتموقعة في خنادق متقاربة في مقابل خندق العدو. لكنّ الحديث عن الجبهات لا يبدأ أبدا من الجبهة بحد ذاتها بل من ضرورة قيامها، فهل العمل الجبهوي ضرورة تاريخية في سياقها، أم خيار تنتفي بانتفاء الحاجة إليها؟
طُرحت الجبهات السياسية كإجابة للسؤال حول كيفية تحشيد الطاقات في حدودها القصوى والممكنة لتحقيق أهداف مشتركة معينة، فإذا كنا نتحدث عن إمكانيات الأمة العربية وأهداف مشروعها القومي في التحرير والوحدة والنهضة، فإن طرح الجبهة التي تحمل على عاتقها تحقيق تلك الأهداف هي إجابة للسؤال حول كيفية تحشيد إمكانيات الأمة العربية لتخوض معركتها، إذ أنّ هذا التحشيد هو الشرط الأساسي للنصر. لذا فإن تَحقق هذا الشرط يُسقِط ما دونه، أي أن تمكّن تنظيم قومي من تحشيد إمكانيات الأمة يسقط شرط الجبهة.
لكن هذا التحشيد يصطدم أولا بالاختلاف في الرؤى، وهذا طبيعي، وثانيا بالتمترس الإيديولوجي، وهذا مفهوم، وثالثا بمحاولات التفكيك الخارجي، وهذا جزء من المعركة، ورابعا بالتجاذبات الناتجة عن التفاعل بين كل ما سبق، وهذا حتمي. فإذا زدنا على ذلك كل ظواهر التفكك المجتمعي من نزعات قبلية وطائفية، التي تطفو على السطح كلّما تراجع المشروع القومي، وزدنا على ذلك الأمراض السياسية من طفولية وانتهازية وفردانية، التي تكتسح معظم الأحزاب والتنظيمات الكسيحة أصلا، فإن كل هذا يجعل من إمكانية قيام تنظيم قومي واحد قادر على تحشيد إمكانيات الأمة في حدودها القصوى والممكنة أمرا صعبا جداً ولا نقول مستحيلا. لذا يمكن القول أن قيام جبهة عربية تسعى لتحقيق أهداف المشروع القومي ضرورة لا مناص منها في هذا الواقع، مع أن هذا دليل ضعف وليس دليل قوة، لكن لا يمكن أن نذهب أبعد من هذا في الحديث عن مستقبل هذه الجبهة التي من حق الأجدر والأقدر أن يقودها وحتى أن يعوّضها. هنا لا بد من الإشارة إلى أن “ليس للعلاقات الجبهوية شكل واحد نموذجي أو أشكال محددة معلومة، فقد عرف تاريخ قيام الجبهات أنماطا لا تتكرر ونادرا ما تتشابه”، كما يقول ناجي علوش في كتابه “عودة إلى موضوعات الثورة العربية”، ما يبقي الباب مفتوحا للتطوير والاجتهاد، كما يطرح أيضا عديد الأسئلة منها: كيف تتأسس الجبهة؟ كيف تُدار العلاقات داخلها؟ أين القوميون من جبهة المشروع القومي العربي؟ وما هو مستقبلها؟ كل الإجابات التي سنحاول تقديمها تنطلق من الموقف السابق من لاحتمية الجبهة، لذلك هي إجابات تراوح بين تصور للعمل السياسي عموما وللعمل الجبهوي المحض.
تتأسس الجبهات كاستجابة لحقائق قوة على الأرض وليست إطارا أجوف تتم تعبئته والتحشيد له بعد تكوينه، ما يعني ضرورة وجود طرف واحد على الأقل تكون له القوة والقدرة على الفعل والتأثير، ويسعى لمزيد من الفعل والتأثير من خلال التكتّل، تتجمع معه أو حوله قوى أخرى ليكون بذلك العمل الجبهوي طفرة في العمل لا بداية له. ثم إن تعدد الخنادق وتشتتها يقتضي عملية فرز شاق ومؤلم أشبه بالانسلاخ من واقع إلى آخر: من واقع تعدد الخنادق إلى واقع ثنائية الخنادق. وعملية الفرز تكون أحيانا عملية احتواء ثم توظيف، وأحيانا عملية هضم ثم لفظ إلى سماد تتغذى عليه الجبهة، وأحيانا عملية قسرية زجرية عندما تتوفر شروط ذلك من قوة صلبة رادعة، وقوّة ناعمة مؤثرة، وقوّة سائلة مموّلة. غير أن آلية الفرز تتطلب تمكّنا من قوانين الجبهة للتمييز بين المترددين والمخطئين والمشتبهين والغارقين إلى ذقونهم في الخيانة وتمييزا لآلية التعامل معهم، وتمييزا في معايير فرزهم، وذلك يتطلب تشريحا دقيقا للواقع وفهما وتبّصرا للفويرقات قبل الفوارق.
هنا نميّز بين ثلاثة مفاصل هي: فهم الاختلاف، ورفض المخالف، ثم الالتقاء معه. وكل مرحلة لها خصوصيتها: ففي لحظة الفهم يكون الهدف هو التقييم مع التركيز على أدق التفاصيل والفوارق وحتى الفويرقات داخل العائلات والأطراف السياسية، وحتى بين كوادرها وقادتها. ثم يأتي مفصل رفض الاختلاف والمخالف مهما كان التفصيل ثانويا، ثم مفصل الاستعداد للتواصل معه مهما الخلاف كبيرا-داخل حدود الثوابت-. فأن ترفض بالجملة ما تختلف فيه تفصيلا، من باب فهم المخالف ورفضه وليس من باب شيطنته، فإن مثل هذا الرفض يبقي الباب مفتوحا لالتقاءات أخرى. من هنا فإن رفضنا بالجملة للمناهج البراغماتية أو الإصلاحية مثلا وإنكار حقها وأحقيتها مع التمييز بين القصور في الإدراك والإرتداد تحت ضغوط الواقع والإنتهازية يضمن المراوحة بين صلابة الموقف والقدرة على استقطاب المخالف، لذا فالأولية في لحظة الفهم هي تفكيك منهج المخالف بغض النظر عن موقعه في الصراع، أما في ثنائية الرفض والإلتقاء فإن الأولويّة للموقف من الصراع مهما كانت منطلقاته صادقة أونبيلة. وباب الإلتقاء أيضا له مصرعان واحدة داخلية في علاقة بالقواعد والكوادر، وأخرى خارجية في علاقة بالمخالف:
فأما داخليا فإن التمكن من قوانين الجبهة وفلسفتها يعني سهولة في الحركة ومرونة داخلية. ففهم الفويرقات بين المشتبهين والمترددين مثلا يسهّل عملية استيعابهم داخل الجبهة، ولا يصطدم بقوى معارضة ترفضهم بالجملة. أما رفض المخالف، ولو في تفاصيل ثانوية، يحمي الجبهة من الاختراق والتوظيف تماما كما يحمي كل طرف داخلها. كما يمثّل تثبيتا للجبهة أمام قوى الجذب والطرد الناتجة عن تغير الموقف والعلاقة من طرف ما، لأن الانتقال من موقع الحليف إلى الخصم أو العدو يعني عملية تحريك في عناصر القوة، والحركة بطبيعتها تصطدم بقوى العطالة الداخلية للجبهة، ما يحدث داخلها تصوّرات وتقييمات مختلفة قد تتناقض فيما بينها (وكلها حقيقة في سياقها حقيقة الواقع الإنساني نفسه، وطبيعة عقله وزاوية نظره). غياب ما ذكرنا سابقا يخلق إما الأجنحة -إذا كانت الحالة جماعية- وإما التساقط -إذا كانت الحالات فردية-. فإذا كانت الجبهة في جوهرها إدارة للصراع من خلال الوحدة فإن الانتقال بين أحوال العلاقات السياسية وارد بل ودائم، ما يعني أن العمل الجبهوي محفّز لخلق الأجنحة والتساقط، بنفس القدر الذي يقدمه من إمكانيات جديدة. فلا مجال للاستفادة من إمكانيات الجبهة والحماية من ارتداداتها إلا بالتمكّن من قوانيها الحاكمة.
وأما خارجيا فإن التعامل بمنطق الفهم والرفض والالتقاء مع أطراف ترفض هذا المنطق، يسهل استغلال مانويتها الفكرية التي تمزقها بتكوين أجنحة مختلفة داخلها أو تساقط عناصرها ما يسهل عملية احتوائها وتوظيفها. كما أن التعامل مع أطراف تتقن جوهر العمل الجبهوي وقوانينه يسهّل عليها العودة لجادة العقل والمنطق فالخندق المشترك. كل هذا يكسب الجبهة عناصر قوة إضافية في التأثير، بنفس الدرجة التي يضعف فيها العدو، ويقلل من دقة تقييمه، وفهمه للجبهة، وهو ما يميل موازين القوى لصالح الجبهة باعتبار أن ميزان القوة ليس قيمة محددة بقدر ما هو فارق بين قوة الجبهة والعدو.
فهم المخالف دون رفضه يعني الجمود عن الفعل والبقاء في حيز ردة الفعل، انتظارا لفرج ما لا يأتي أبدا دون مجهود، كما أنه يعرقل عملية الفرز الواعي حسب معادلة صفرية بين المشروع القومي وأعدائه، أما الرفض دون الفهم فيعني القضاء على إمكانية المناورة السياسية مع الأطراف المختلفة وخسارة كل الإمكانيات المتاحة من اللعب على المتناقضات. أما الالتقاء دون فهم أو رفض فإنه يعني دجلا سياسيا يؤدّي إما للذوبان مع الآخر أو الحياد عن الخط العام. التمييز بين هذه المفاصل غير كاف إذا لم نحدد متى نغلّب إحداها على الأخرى: وهنا لا بد من التذكير أن المحدد الدائم في السياسة هو موازين القوى. ونحن لا نتحدث عن القوة بحد ذاتها بل الفارق في القوة، وهنا نميز بين حقائق القوة ووهم القوة؛ فحقائق القوة تعني فرقا واضحا وقدرة على الحسم تقتضي فرض الفرز بالقوة بمنطق المعادلة الصفرية: إما مع المشروع أو ضده، وقدرة الجبهة على فرض هكذا خيار يكون المرحلة الأخيرة من صراعها مع العدو. أما وهم القوة فهو فرق باهت في الموازين، والدخول في صراع في هذه الحال يعني تأبيدا للصراع وهدرا للطاقات والموارد في معارك جانبية. وهنا لا بد من التمييز بين المانوية السياسية والدفع الواعي باتجاه معادلة صفرية مع العدو، أما الأولى فهي النقيض الفعلي لقوانين الجبهة وهي لا ترى من الألوان إلا الأبيض والأسود، ومن البشر إلا الملائكة والشياطين، وأما الثانية فهي دفعٌ واعٍ للقوى لخوض المعركة ضد العدو. فإذا أقررنا بشرعية المعادلة الصفرية خارج الجبهة فهل يكون مقبولا داخلها، إذا ما اعتمدنا معيار الفارق في القوة؟
هنا لا بد من تحديد بعض المفاهيم، أوّلها أننا نعني بالقوة القدرة على المنع والمنح وليس القدرة على القهر، والحديث عن “حق” الطرف الأقوى في إلغاء الآخر هو عودة للسؤال الوجودي عن الحق والقوة. وما نقدمه هنا ليس إسقاطا يُراد تبريره، بل استنتاجا يُراد تفسيره فهو ليس أبدا موقفا مسبقا ننتقي ما يدعمه من التاريخ، بل استنتاجا وخلاصة بحث لحركة التاريخ ذاتها. فالحق -كما أراه- هو الفارق في القوة ضرب عامل الزمن، وأما ما يقال دائما عن حتمية انتصار الحق فليس إلا بما يكتسبه الحق من ميكانزمات قوّة ذاتية، وهو استنتاج يدعمه الوعي الجمعي كأحد حدود المجتمع خلال عملية تشكّله الطويلة. بالعودة لموضوعنا فإن الطرف الأكثر تضحية وانضباطا وقوّة له الحق في قيادة الجبهة، بل وتعويضها. وما تبذله الجبهة من تضحية وانضباط وما تكتسبه من قوة، يعطيها الحق في فرض معادلتها الصفرية النهائية. فإذا كانت البوصلة هي مصلحة الأمة، فإن فرض هكذا معادلة في ظروفها التاريخية أفضل وسيلة لفرز وتحشيد القوة. والحديث هنا عن المعايير يعني الانضباط لها مهما كان الموقع من ميزان القوى.
وقد يذهب البعض إلى ضرورة تحصين الذات من هذه الظواهر والاستفادة منها لدى الأطراف المشاركة في الجبهة. فيكون النمو والتطور على حساب بقية الأطراف، وهذا وارد ومفهوم بل ومشروع لكنه قد يربك الجبهة ويضعفها وإن لم يُضعف الطرف الأقوى داخلها، وأن تكون كطرف سياسي الأقل استفادة في جبهة قوية أفضل من أن تكون الأكثر استفادة في جبهة مشلولة. وعليه فإن فكر الجبهة وأسلوبها يجب أن لا يكون حوارا داخليا (لدى كل طرف) بل حوارا بين كل المشاركين للارتقاء بسوية الجيمع. وهو ما يعني أن من مصلحة الطرف الأقوى أن يتقن الجميع إدارة العلاقات الجبهوية حسب قوانينها وقواعدها والاستفادة والتثمير من مردود الجبهة وإنجازها، فيكون النمو والتطور للأطراف على حساب ما تحققه الجبهة من إنجازات وليس على حساب بعضهم البعض.
في النهاية لا بد من تحديد موقع القوميين في جبهة المشروع القومي. فإذا سلّمنا بأن الجبهة بالأساس هي إدارة للصراع من خلال الوحدة، فإن جبهة تضم أطرافا قومية مختلفة تعني ضمنيا إدارة لصراعات القوميين من خلال العمل المشترك، وهنا لا بد من التفريق بين أثر الصراعات داخل العائلة القومية على جبهة المشروع القومي، وأثر الصراعات بين بقية العائلات فيما بينها، ومع العائلة القومية على تلك الجبهة. ومن الطبيعي أن تكون للخلافات القومية–القومية الأثر الأكبر على أداء الجبهة باعتبار طبيعتها وأهدافها القومية، وهنا لن يدركنا التحليل الرغائبي في حل خلافات وصراعات القوميين، التي تركت إرثا ثقيلا وجرحا غائرا في جسد الأمة نتيجة تمترس الأغلبية وراء مقولات أو كتابات بعينها. لذا فإن تجاوز هذا لا يكون إلا بالاحتواء والإضافة: إحتواء تلك الخلافات وليس إنكارها، والإضافة النوعية بتكوين هيكل تنظيمي يستمد أرضيته الفكرية من الثراء الحاصل في التجارب القومية السابقة ليمثل فيما بعد مختلف التيارات القومية داخل جبهة المشروع القومي. هذه الجبهة التي تمثل ضرورة تاريخية في هذه اللحظة العصيبة من تاريخ أمتنا والتي لا يمكن لها أن تتأسس دون وجود قوّة وازنة تتجمع حولها أو معها بقية القوى المعادية للمعسكر الإمبريالي وأدواته. كما لا يمكن لها أن تتكتسب عناصر قوة في واقع من التشتت والتمزق داخل العائلة القومية. من هنا ضرورة إعادة صياغة المشروع القومي العربي بما يتلائم مع مقتضيات القرن 21. ومن هنا نبدأ رحلة الألف الميل بخطى ثابتة وعزيمة تناطح الجبال.
التحالف الجبهوي ضرورة حيوية في العمل النضالي العربي
لا مفرّ من التحالف الجبهوي في العمل النضالي العربي
التحالفات الجبهوية متلازمة النضال العربي
صالح بدروشي
أين نحن؟ إلى أين نحن سائرون؟ ماذا نريد؟ ماذا يجب أن نفعل؟ لماذا؟ من؟ كيف؟ متى؟ وبماذا؟ هذه بعض الأسئلة التي يجب على كلّ مناضل وطني محترم يستحقّ هذا النعت أن يطرحها وأن لا يهدأ له بال ولا يستريح حتى يحدّد لها أجوبة يهتدي بها في عمله النضالي ويقوم بتعديلها باستمرار وفق النتائج التي تتحقّق على أرض الواقع.
نتناول في هذه المقالة جانباً من هذه الاسئلة: “من”؟ وكيف؟ وبماذا؟
أي من يجب أن يفعل ماذا وكيف وبأيّ أداة؟ في محاولة لتسليط الضوء على حيوية وضرورة التحالف الجبهوي في العملية النضالية في وطننا العربي.
إذا أردنا توصيف حال أمّتنا اليوم بكل بساطة نقول: أننا أمة تعيش في وطن مجزّأ ومتخلّف عن سائر الأمم، كما أن الجزء الأكبر من أراضيه محتلّ والباقي تتكالب عليه القوى الإمبريالية، ولذلك فإنّ وطننا بحاجة إلى مشروع وحدة وتحرير ونهضة .. وإذا وصّفنا الأمر بشكلٍ أكثر دقّة بغية تحديد من يجب أن يفعل ماذا؟ وكيف وبأيّ أداة؟ نخلص إلى القول بأنّ الساعين لتغيير الواقع العربي البائس سيجدون أنفسهم في مواجهة مشكلات عميقة ومتعددة تشكل عراقيل في وجه حَمَلة مشروع النهضة العربية الذي نطمح أن يتحقق. نذكر فيما يلي خلاصة مختصرة لأهمّ هذه المشاكل المعيقة وعناوين الحلول المطروحة لحلّها:
- التخلّف الاقتصادي بمستوى بعيد عن متوسط المستوى العالمي، وافتقاد الحد الأدنى المطلوب من البنية الأساسية والكفاءات والمهارات الضرورية لعملية التنمية الإنتاجية الصناعية والفلاحية، وهذا يتطلّب برنامج عمل طويل المدى (أكثر من عشرين سنة) :
- برنامج إصلاح زراعي شامل لتحقيق الأمن الغذائي والأمن المائي،
- ثورة صناعية بأتمّ معنى الكلمة لتحقيق الاستقلال الوطني في المجالات الإستراتيجية مثل النقل والكهرباء والاتصالات والطاقة والصناعات الطبية والعسكرية،
- تطوير قطاع الخدمات الذي يكاد يكون معدوما في بلادنا العربية في بعض المجالات، وذو مستوى ضعيف جدّا في جوانب أخرى مثل الصحة والتعليم والإعلام،
- مواجهة عملية مسخ الهوية، وتزوير تاريخنا، وإعادة صياغة الوعي العام واستعادة الثقة بالنفس والنخوة، وتجديد إعادة الاعتبار للقيم العربية النبيلة،
- رفع المستوى الثقافي والتعليمي للغالبية العظمى من شعبنا العربي،
- إرساء برنامج إصلاح اجتماعي يغطي كل مجالات التنمية بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية،
- وأخيرا، وليس آخرا، نحن أمّة عاشت كامل فترة القرن الأخير مجزّأة ومسلوبة الإرادة بين الاحتلال المباشر أو بوكالة الملوك والرؤساء، وبين حصار وابتزاز ومحاربة الأجزاء التي تريد التحرّر .. وكلّ هذا يستوجب حتمًا ثورة سياسية، وبناء منظومة مؤسسات وقوانين غير مستوردة وإنما منتَجة محلّيا مائة بالمائة، ومستمدّة من حضارتنا وتاريخنا وقيمنا الأصيلة.
كلّ هذا يتطلّب منّا توفير طاقة كلّ جزء من كلّ القوى السياسية الوطنية الموجودة على امتداد الوطن العربي لأنّ القوى السياسية هي المعنية بإنجاز مهام هذا المشروع القومي، وهي القادرة دون غيرها على تجنيد كلّ الطاقات البشرية لإنجاحه .. وباعتبار خطورة هذه المرحلة في تاريخ أمّتنا، التي تشكّل منعرجا حاسما في مسار تطوّرها، لأنها تهدف إلى نقلها إلى مستوى معيشي وثقافي مغاير تماما لما هي عليه الآن، ولما دأبت عليه منذ فترة طويلة من الزمن، فإن فعملية الانتقال هذه تستوجب إلى جانب التنمية العمل على إزالة منظومة القيم الهدّامة وعقلية الشعور بالدونية وعقدة النقص أمام الأمم المتقدمة، والتي سكنت في العقول والنفوس جرّاء طول مرحلة التخلّف والاحتلال والتجزئة، وهو ما يستوجب إحداث تغييرات عميقة في المجتمع على مستوى السلوك والطبائع والعادات وفرض قواعد جديدة مخالفة للنمط السائد الذي تعوّد عليه الناس إلخ..، إذًن لتوفير كلّ طاقات الوطن باتجاه الهدف المنشود لا بدّ من إبعاد هذه الطاقات عن الاحتراب في ما بينها وإخراج كلّ الداخل العربي من توابع الصراعات الداخلية، الحزبية منها والأيديولوجية، وذلك بتجميعها وتوحيدها في جبهة لفترة طويلة تكون محدّدة بإنجاز مهمّة اللحاق بركب الحضارة العالمية وتوفير عناصر القوة الضرورية لضمان الاستقلال والدفاع عن سيادة القرار الوطني.
ونظرا للمخاض الذي يعيشه وطننا العربي اليوم مع حالة الجهل التي تعمّ مجتمعاتنا العربية، فإنه يتوجّب علينا أن ندرك أنّ البوْن الشاسع بين حالة التخلف التي تعصف بنا ومستوى التطوّر والتقدّم والرّفاه الذي وصل إليه العالم المتقدّم والذي بلغ حدّا قد يفرض علينا مهامًّا استثنائية يجب القيام بها إذا أردنا تدارك هذا التخلّف واللحاق بركب الحضارة، وهذه المهام تستوجب منّا مجهودا خاصّا جدّا ونوعيّا يحتّم علينا تحشيد كلّ القوى الوطنية بدون استثناء في إطار جبهة موحدة قوية شعبية، بعيدا عن لعبة الديمقراطية الغربية، حيث ينجح أحد الأطراف السياسية في الانتخابات ويقود السفينة بينما ينشغل الآخرون بالمعارضة والهدم. إذا أضفنا إلى هذا كلّه حدّة وشراسة العداء الذي يضمره لنا هؤلاء المتفوقون علميا واقتصاديا وعسكريا، فإنّ هذا يجعلنا لا نتردد لحظة في التأكيد على أن عدم التكاتف في إطار جبهة وطنية واتباع أسلوب لعبة الأحزاب الليبرالية إنما هو خيانة للوطن والشعب، لأنّ أيّ طريق نسلكه عدا توحيد القوى الوطنية في جبهة واحدة هو طريق يؤدّي إلى استدامة وضع التخلّف الحالي والتراجع إلى ما هو أسوأ.
إنّ الالتجاء إلى صندوق الاقتراع في العملية الديمقراطية الثورية يجب أن يؤدّي إلى اختيار من يقود الجبهة الوطنية التي يتكاتف فيها الجميع من أجل إنجاز المهام الكبرى، مثل رفع الجهل والأمية عن شعبنا، وتنمية واستثمار الموارد البشرية والطبيعية في عملية التحرير والنهوض والإصلاح الزراعي، وإصلاح التعليم، ووضع الاقتصاد على مسار التقدّم وتعميم الإعمار، والتقدم على كلّ الجبهات لإرساء وتطوير البنى التحتية والفوقية فيها بشكل عادل ومتوازن، والتمكن من ناصية العلوم الحديثة وبناء الدولة المؤسساتية، وفيما عدا ذلك فليتنافس المتنافسون في ترويج رؤاهم السياسية والثقافية وكلّ التفاصيل الفكرية عامة. والقوى الوطنية المعنية بهذا التحالف الجبهوي هي فقط القوى المتبنية لنهج الدفاع عن الاستقلال والسيادة الوطنية والمناهضة للاحتلال والتدخّل الأجنبي والصهيونية والإمبريالية، أي أنّ الرؤى السياسية والثقافية المتنافس حولها لا بد لها من ثوابت يتمّ الاتّفاق عليها بالحد الأدنى.
بالإضافة إلى موضوع التنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية، فإنّ مشروع نهضة الأمّة العربية مرتهن بتحرير الأجزاء المحتلة من الوطن العربي وعلى رأسها كامل فلسطين .. كما أسلفنا في المقال المنشور في العدد الخامس من “طلقة تنوير” تحت عنوان “حول ضرورة الالتقاء الجبهوي في معارك التحرير”(1) فإنّ تحرير الوطن هو واجب الجميع دون استثناء والتخلّف عنه أو عرقلته خيانة وليس وجهة نظر، كما أنّ الجزء الأساسي من عملية التحرير هو عمل عسكري، والعمل العسكري يستوجب خطّة موحّدة وقيادة موحّدة حتما، وهذا لا يكون إلّا بالتحالف الجبهوي الذي لا مفرّ منه إذا أردنا أن ننتصر على أعدائنا ونحقّق آمال شعبنا في التحرر والانعتاق.
إنّ النضال في سبيل تحقيق أهداف المشروع القومي العربي ينقسم إلى مرحلتين أساسيتيْن، مرحلة التحرير في مواجهة التحالف الإمبريالي الصهيوني الرجعي الذي يكبّل وطننا العربي والباسط سلطانه عليه، ثمّ مرحلة البناء والنهضة. ولا يفوتنا التذكير بأنه في كلا المرحلتين، في كثير من الأحيان، تضمّ مساحة المتفق عليه بين مختلف الفرقاء السياسيين 90 بالمائة من المواقف والآراء، وتشكّل مساحة التباين أو الاختلاف فقط 10 بالمائة. وعلى الرغم من اتساع مساحة التوافق إلّا أنّ ما نشهده عند الممارسة هو أنه عوضاً عن أن يقع الاشتغال في مجال التوافق الواسع، واستغلال فرصة الترافق في عمل ميداني مشترك، لعلّها تهدّأ النفوس وتقرّب الآراء وتضيّق مساحات التناقض، يقع التركيز على ما هو داخل مساحة التباين الضيّقة فيزداد، بالخصام، اتّساع هذه المساحة وتنتقل العداوة من الاتجاه صوب المعسكر الإمبريالي الصهيوني الرجعي، العدوّ الأصلي، إلى الاتجاه نحو جزء من أبناء نفس معسكرنا، وهذا علاوة على أنه يشتّت شملنا فإنّه يستنزف قوانا في معارك بينية داخل معسكرنا، وعندها ينطبق علينا المثل القائل “فخّار يكسّر بعضه”. وفي كل الحالات يجب أن لا يغيب عن أذهاننا حجم معركتنا وحجم قوّة أعدائنا وتماسك تحالفهم وما يتطلّبه كلّ ذلك منّا جميعا. ومن دون التحالف الجبهوي يستحيل الانتصار في المعارك الكبرى. ومن أروع الأمثلة في تاريخنا المعاصر نذكر أنّ إعلان تأسيس جبهة تحرير الجزائر وانطلاق الثورة الجزائرية كان من القاهرة، وكان انتصار الثورة الجزائرية في معركة التحرير من أعظم الانتصارات.
نضيف على كلّ ما تقدّم بأنّ تجزئة الوطن العربي هي كذلك عدوان تمّ فرضه بالقوّة، كما تمت محاربة كلّ عمل أو جهد وحدوي حاول توحيد بعض الأقطار العربية. بل إنّ زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي إنّما جاء لمحاربته واستنزافه واستدامة حالة التجزئة. ويعلّمنا التاريخ أنّ الأمم التي وقع تقسيمها إنّما استعادت وحدتها بالقوّة، ولذلك أيضا فإنّ مهمة توحيد الوطن العربي تفرض علينا التحالف الجبهوي كضرورة حيوية حتمية لا مفرّ منها في العملية النضالية، والذي من دونه لن يكون لنا لا نهضة ولا وحدة ولا تحرير ولا هم يحزنون!!
في الختام يجب علينا أن ندرك أن فشل التجارب الجبهوية العربية يعود إلى أسباب عديدة، ليس أقلّها ضعف التكوين، وقلّة الخبرة لدى التنظيمات والقوى السياسية الوطنية، وانتهاجها أسلوب المحاصصة الذي حال دون التوصّل إلى اتفاق على برنامج، وأدى إلى انتكاس العمل الجبهوي وتراجع المشروع القومي العربي برمّته. وعلى الرغم من ذلك فإنّ التاريخ النضالي للشعوب يزخر بعديد الأمثلة التي تؤكّد نجاح التحالفات الجبهوية، ولذلك فإنه يتوجّب علينا أن نتدارس تجاربنا الجبهوية في الوطن العربي، وأن نتمسك بإيجابياتها ونعمل على إصلاح وتلافي مواطن الخلل والنقص التي اعترتها بكل شجاعة ووضوح وصرامة لمحاربة كل النزعات الإستئثارية والشللية والميول الزعاماتية والانفرادية وتغذية المشاحنات والحساسيات المبالغ فيها إلخ… والعمل على صياغة تحالف جبهوي على أسس ديمقراطية في حدود الثوابت، يمكّن من الالتقاء حول برنامج سياسي محدّد وعلى إقناع الجميع بأنه لا تستطيع أيّ قوة سياسية بمفردها أن تنجز سائر مهام المشروع النضالي في حين أن أعداء هذا المشروع موحّدين من كافة أصقاع الدّنيا.
(1) طلقة تنوير عدد 5
العلاقات المصرية-الروسية: الحاصل والمأمول
السيد شبل
لا عجب مطلقًا في أن تضغط النخبة الوطنية المصرية نحو مزيد من الدلائل التي تؤشر إلى الانعتاق من أسر البيت الأبيض الأمريكي، والتي تؤكد أن التفلّت المتواضع الذي اضطرتنا إليه الظروف، بعد الثلاثين من يونيو، في طريقه إلى أن يصير استراتيجية عامة، لا رمادية فيها.
صحيح أن النظام المصرى قد بدا منه في الشهور الماضية سياسات تدل على وعيه النسبي بحقيقة أن العالم يعيد تشكيل نفسه من جديد، وأن النجم الروسي آخذ في السطوع، وأن الفرصة صارت مواتية لاقتناص هذا المغنم، وإقامة علاقات مع محاور جديدة تقوم على أساس الندية والمصلحة، والخروج من تحت عباءة ثقيلة وغليظة فرضها على مصر أنور السادات ومن بعده حسني مبارك، لمدة أربعة عقود متتالية… لكن تبقى الحصيلة النهائية، في ظل الإشارات المتناقضة التي يعطيها النظام من وقت لآخر، رمادية.. مما يجعل المتابع في حيرة وغير قادر على حسم موقفه، وبناءًا عليه يصير من الأليق التعسكر في خندق اليسار الضاغط نحو مزيد من السياسات التي تسير بمصر نحو معسكرها الطبيعي والمنطقي الذي يبدأ من روسيا شماًلأ، والصين وكوريا الشمالية شرقًا، وحتى الأرجنتين وفنزويلا وكوبا وبوليفيا غربًا، وإيران وسوريا (قلب الأمة العربية) في الوسط، والعراق والجزائر وعُمان على أطراف هذا القلب العربي.
ولا جدال في أن مصر، حتى من باب براجماتي صرف، في أمس الحاجة لأن تيمم وجهها شطر معسكر، غير المعسكر الذي حاصرها واستنزفها وسلبها حريتها، بل وجزءًا من ماضيها، طوال الأربعة عقود الماضية، وهي الممتدة من منتصف عصر السادات وحتى إزاحة مبارك عن سدة الحكم في فبراير 2011. ولا نعني بهذا استبدال متبوع جديد بمتبوع قديم، ولكن نعني استقلالية تنسج لنفسها علاقات متعددة مع جبهات مختلفة، تحكمها المصلحة والعائد الإيجابي المشترك.
ليس خافيًا على أحد أن روسيا كانت سباقة في دعمها لمصر بعد الثلاثين من يونيو 2013، مما فتح أبوابًا للتقارب وتعزيز العلاقات بين البلدين، وكان هذا باديًا في تصريحات المسئولين الروس، وتأكد مع الزيارات التي أجراها الرئيس عبدالفتاح السيسي سواء أثناء توليه لمنصبه كوزير للدفاع، أو بعد وصوله لكرسي الرئاسة بعد تغلبه على منافسه حمدين صباحي بنسبة 97 بالمائة، ثم فيما بعد مع اتفاقيات التسليح التي أبرمت بين البلدين وزيارات وزراء الدفاع المتبادلة، وتأكد في أوائل يونيو 2015 مع انطلاق مناورات عسكرية ضخمة بين البلدين في البحر الأبيض المتوسط تحت عنوان “جسر الصداقة”، وهي التي سبقت القرار الروسي بالتدخل المباشر عبر الطيران والبحرية في سورية، لدعم الجيش العربي الأول هناك في حربه ضد حزمة من التنظيمات المتطرفة من بينها تنظيم “داعش”، واعتمدت المناورات بين البلدين على سفن حربية تابعة لبحرية الدولتين، بجانب عمليات من الدعم الجوي لحماية الممرات البحرية من التهديدات التي تحيق بها، وقد دفعت البحرية الروسية فيها بالطراد الصاروخي المُلقب بـ”قاتل حاملات الطائرات”، كما مدّت البحرية الروسية القوات المصرية بسفينة الإنزال الصاروخية ذات الوسادة الهوائية “ساموم”، والتي تعتبر الأسرع على مستوى العالم. وقد اشترك في المناورات عدد من سفن أسطول البحر الأسود من التشكيلة الموجودة بالبحر المتوسط، والتي تعتمد في مهامها على الدعم التقني والمادي الذي تقدمه قاعدة “طرطوس” بسورية، وهي قاعدة إمداد لوجيستية ترجع إلى اتفاقية تم إبرامها عام 1971 بين السوفييت والسوريين.. ويُذكر أن عددًا من المقاتلات البحرية السوفيتية كانت تنفذ مهاما واسعة في البحر الأبيض خلال الحرب الباردة، وكان الأسطول البحري الأمريكي السادس خصما رئيسيا لها، وقد تم حلّ المجموعة الأكبر منها بعد مرور سنة من تفكك الاتحاد السوفيتي، كما يُذكر أن الأسطول السوفيتي كان متواجدًا في عدة مواقع بعيدة عن شواطئه: كام ران (فيتنام)، جزيرة سقطرى (اليمن)، وطرطوس (سورية). وقد تركت القوات البحرية كل هذه المواقع بعد عام 1991، وبقيت طرطوس فقط، بشكل رمزي بحت. وهناك أخبار، صارت اليوم في حكم المؤكدة، تتحدث عن عمليات تطوير تجري بهذا المرفأ؛ وبحسب الرئيس السوري بشار الأسد، فإن تعزيز الحضور الروسي بالمنطقة، أمر مطلوب وضروري لخلق نوع من التوازن الذي فقده العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. وهو ما يسبب قلقًا كبيرًا لدى جنرالات الحرب الصهاينة!
المساندة الروسية لمصر -مابعد 30 يونيو- ترجع لأسباب يلخصها خبراء في نقطتين.. الأولى: تخوّف الإدارة الروسية من جماعة الإخوان بسبب إيمانهم بوجود صلات وثيقة بين قادتها ومنظّريها وبين الحركات الانفصالية المتطرفة في الشيشان وشمال القوقاز، وهو ما يعتبر تهديدًا يتجاوز كل الخطوط الحمراء المتعلقة بالأمن القومي لروسيا، وهذه النقطة تفسّر (إلى جانب قضية خطوط الغاز) الدعم الذي يقدمه الروس على مدار الأعوام الأربعة الماضية ولا يزالون للنظام السوري، أي أن الروس يجابهون المتطرفين الذين يهددون حدودهم الجنوبية في أرض جديدة وهي سورية؛ أما النقطة الثانية فتتعلق بأن انسحاب مصر وتخلّيها عن دورها المحوري في المنطقة شجع دولًا صغيرة تدور في الفلك الأمريكي على المبادرة إلى ملء الفراغ الذي خلّفته مصر خلفها، وهو ما يعيق الطموح الروسي الرامي إلى منافسة اليانكي الأبيض في منطقة “الشرق الأوسط”، وعلى الأغلب فإن روسيا تأمل في أن تعود مصر لدورها القائد في المنطقة، وعودة مصر لن تتحقق إلا بالتحرر من القيود الأمريكية التي حجمت وكبّلت دورها منذ السبعينيات، وبهذا تكتمل المعادلة وترتسم خيوطها.
على أية حال فإن ما يعقّد العلاقات المصرية-الروسية، ويجعلها تبدو كخطوة للأمام وخطوة للخلف، هو في الحقيقة الدور الذي تلعبه المملكة السعودية، التي تقف كجدار صلب لا يسمح للعلاقات بالتطور إلى القدر المأمول، وترسم لها سقفًا وتسعى جاهدة، عبر قنواتها وصحفها (في داخل مصر)، أن لا تتخطاه. فروسيا ليست مجرد دولة محورية في العالم بل هي ضمن تحالف واسع.. قلبه مثلث تقبع (روسيا) عند إحدى زواياه، بينما تقبع (إيران وسورية) عند الزوايتين المتبقيتين، ولا يمكن للسعودية أن تتعاطى مع تحالف بهذا الشكل. وهو ما يجعل التقاتل بين المحورين على القلب المصري حاضرًا في كل مناسبة ومع كل حدث يستجد على الساحة العربية والدولية.. بداية من الموقف من الأزمة السورية والتي تنحاز فيها مصر الرسمية إلى خيار وحدة الدولة ورفض التدخل الخارجي ضد النظام وترك الخيار للشعب، مرورًا بحرب اليمن التي حاولت السعودية مرارًا جذْب مصر للتورط في المجازر التي ترتكبها (السعودية) هناك بطيرانها ومرتزقتها دون فائدة، وليس انتهاءًا بقضية دعم الجيش الليبي في مواجهة التنظيمات المتطرفة غربي البلاد، والتي تخصّ مصر وأمنها القومي في المقام الأول، ولا تحظى بالدعم المطلوب. صحيح أن مصر الرسمية بمواقفها في القضايا الثلاث السابقة، مضافًا إليها تأييد التدخل الروسي الجوي في سورية، ومباركة أية مجهودات تجري في إطار دحر القوى الظلامية والمحافظة على الدولة السورية، تكون قد قطعت أشواطًا في الاتجاه السليم المناويء للبيت الأبيض ومن خلفه داعش، وتصير كمن يوجه الضربة تلو الأخرى في سويداء قلب جنود المشروع الأمريكي في المنطقة وفي مقدمتهم المملكة السعودية؛ لكن تبقى هذه المواقف (على أهميتها) تحت السقف وإن ناضلت لرفعه أمتارًا وأمتار، وعليه فهي (المواقف) تحتاج إلى تدعيم يبعث الثقة في النفوس ويتيح لمصر الرسمية تثوير الأداء وانتزاع زمام المبادرة واختراق هذا السقف على التمام، وهذا لن يتأتّى إلا بانتهاج سياسات أكثر وضوحًا وشفافية، حتى تحظى بالدعم الشعبي والنخبوي المطلوب. وإن كانت سياسة الإشارات المتناقضة ومسك العصاة من المنتصف والتماهي مع النًفًس الدبلوماسي وتدوير الزوايا، صالحة ومطلوبة في الشهور الماضية في ظل احتقان الأوضاع داخليًا، فاليوم الحسم والوضوح هو المطلوب خاصة مع الاستقرار النسبي الذي لحق بالأوضاع في الداخل، وأي تأخر في الحسم سيعتبر دربًا من دروب النفاق وإضاعة الوقت، وسيُفسر (باطمئنان كامل) لصالح القول: باستمرار النهج الساداتي المباركي!.
حيث يجب أن يكون معلومًا أن تحصين البلد داخليًا (ضد المؤامرات..) لن يتم إلا بتمزيق العباءة الأمريكية بالكامل وليس مجرد التفلّت المتواضع منها، بالإضافة إلى التمايز الواضح عن وكلاء المشروع الغربي المحليين (النخبة السياسية الممولة، ورجال الأعمال)، والأقليميين، وعلى رأسهم (السعودية)، وأن الرصيد الذي يمتلكه النظام بعد إقصاء المتأسلمين عن المشهد، بدعم شعبي، وانتشال البلد من سيناريو التقسيم والفوضى (الشرق الأوسط الجديد)، لن يصمد للأبد، وفي حال لم يتم تدعيمه، لن يصير له الاعتبار، والتاريخ يشهد.. (وانتفاضة 77) كافية كعبرة!
عودٌ على بدء.. لعل حادثة الطائرة الروسية المدنية التي سقطت بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ في نهاية أكتوبر أثبتت لهواة الاستغفال أن المؤامرة لها فصول، وأن 30 يونيو، ليست نهاية المطاف، وهناك جولات أخرى، تتطلب وعي ويقظة. وأن القوى الغربية لم تغلق الكتاب بعد، أو تسلم الشفرات، أو ترسل خرائط تفكيك الألغام التي زرعتها في أراضينا، فالعداء لا يزال كما هو.. بل لا يزال كما كان في الحروب “الصليبية” وحتى 1956، واستغلال الحوادث (إن لم يكن صنعها) مستمر على حاله. وهو ما يفرض التحالف مع قوى تستطيع المساندة والدعم عند اشتداد الأزمة. فالتردد في الحسم وفّر لكثير من المتربصين بركة من الماء الآسن اصطادوا منها ما يشاؤون من سمكٍ فاسد طبخوا به طبخة كريهة أرادوا من خلالها القول أن العلاقات المصرية-الروسية قد اهتزت وأن فرص تدعيمها في المستقبل صارت محدودة، وأن الروس مثل غيرهم لا تقاطُع واضح في المصالح بيننا وبينهم، وإن كان الظاهر من كلامهم التدليس وليْ الحقائق والأحكام العمومية، فإنّ باطنه كشف أن للبيت الأبيض “لوبي” قوي داخل الإعلام المصري، له جناحان.. الأول رجال لجنة سياسات جمال مبارك، والثاني رجال محمد البرادعي تلميذ جورج سورس وهنري كسينجر (وهما وجهان لعملة واحدة بالمناسبة)، وهؤلاء يقلقهم جدًا التقارب المصري-الروسي، والخروج من تحت العباءة الأمريكية، وقد وفّرت لهم قرارات الحكومة الروسية بتأجيل رحلات الطيران وعدم وضوح الموقف المصري، المادة الخام التي استطاعوا ليّها وتوظيفها بما يخدم منطقهم الأعور. ولعل الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيسين الروسي والمصري فيما بعد إعلان موسكو عن أن الطائرة قد تم إسقاطها بواسطة قنبلة من داخلها، ثم الإعلان بحضور السيسي شخصيًا وبتركيز إعلامي واضح عن اتفاق إنشاء محطة نووية الضبعة (وهو مشروع على درجة عالية من الأهمية) بجهد مشترك مصري وروسي، متزامنًا مع إعلان الحكومة الروسية أنها لا تمنع مواطنيها من الذهاب إلى شرم الشيخ بل هي إجراءات تحفظية بخصوص الطيران فقط، بدّد كثيرًا من أحلام هذا “اللوبي” الذي يستحق الوصف بأنه صهيوغربي بامتياز.. وفي انتظار مزيد من الإجراءات التي تقتلع هذا “اللوبي” من جذوره وتجفف برك الماء التي يعتاش عليها للأبد!
إذن فرغم حساسية المرحلة، وحاجة النظام المصري لتأمين الجبهة الداخلية قبل الإقدام على أي محاولة انقلاب استراتيجي في العلاقات الخارجية، فإنه مطالَب بتقديم أوراق أكثر جدية لاعتماده كنظام يسعى لتأسيس دولة مستقلة قادرة على طمأنة أصدقائها وحلفائها، وبالتالي استثمار الحالة العالمية الجديدة متعددة الأقطاب، وإلا تسرّبت الفرصة من بين أيدينا وأهدرنا كل هذا الكمّ من الأمطار دون أن نغرس البذور، فحصدنا العدم، جزاء التردد والتحفّظ المبالغ فيه!
كل ما سبق وغيره نوظفه في سياق ما نردده دومًا بأنه لا مستقبل ناهض لمصر إلا بالسير بالممحاة على السياسات الخارجية التي حكمتها في الأربعين عامًا الماضية، وهذا يتطلب أول ما يتطلب التحرر من القيد الأمريكي، وتعزيز سبل الاستفادة من التوتر القائم والمتنامي بين المحاور العالمية. فليس هناك كبير مساحة للجدل في أن مساعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأن تستعيد دولته، ذات الـ 143 مليون نسمة وصاحبة المساحة الجغرافية الأكبر بين دول العالم، مكانتها، تزعج خصومه الغربيين، خاصة عندما يبادر بوتين مثلًا لإقامة الاتحاد الأوراسي، الذي يضم “كازاخستان” و”بيلاروسيا” وفي الطريق “أرمينيا”، هذا إلى جانب ما تقوم به روسيا من دور في نسج علاقات التحالف مع دول (الصين، والبرازيل، وجنوب إفريقيا، والهند) من خلال “البريكس”، وهو تحالف على ما فيه من تمايز في الأيدولوجيات والطموحات.. إلا أنه، ولو من وجهة نظر ضيقة، يمثل جزءًا من الكابوس الذي يطارد صانعي السياسة في البيت الأبيض هذه الأيام.
نعم، روسيا اليوم، ليست سوفيت الأمس، التي تهدد وتصارع صراحة على مناطق النفوذ، أو التي لا تخشى للتصعيد أن يصل مداه، لكن هذا بالأساس راجعٌ لتغيّر الزمن وتغيّر المناخ العام الذي يحكم سياسات الدول. العالم صار أكثر انفتاحًا من ذي قبل، والتماس بين الدول، ما عاد يسمح بلمحة التعصب التي كانت تخيم على قرارات الزعماء كما الماضي؛ إذن فالروس هم الروس من حيث الجوهر، وإن اختلفت الصورة أو طريقة الأداء، ونحن في غنى أن نعدد حجم ما أنجزه التحالف المصري السوفيتي في الخمسينات والستينات، وإن اضطررنا فحسبنا أن نشير إلى المساهمة الجليلة التي قدمها الروس بمعداتهم وخبرائهم وقروضهم في بناء سد مصر العالي الذي تم اختياره كأعظم مشروع بنية أساسية في القرن العشرين، وكذلك دعم بناء القاعدة الصناعية الجبارة من شركة الغلايات البخارية وأوعية الضغط (المغدورة) بمنيل شيحة، إلى مجمع الألمومنيوم بنجح حمادي، مرورًا بصناعات الحديد والصلب بحلوان، وحتى مصانع الكيماويات والأسمدة، وقبل كل هذا المصانع الحربية. وكذلك فيُحسب للروس مساندتهم لمصر في خطتها لإعاداة بناء وتسليح الجيش بعد يونيو 1967، وبناء حائط الصواريخ الذي حمى السماء المصرية من هجمات الطيران الصهيوني، وتحملوا عبء حمايته حتى إعداده بطيرانهم. ورغم قيام السادات في أوائل حكمه بطرد الخبراء العسكريين الروس، إلا أنه بمجرد انطلاق الشرارة الأولى لحرب التحرير في أكتوبر 1973 لم تتخلَ روسيا عن مصر وأقامت جسرا جويا لإمدادها بالأسلحة. وكما كان الحال في مصر كان الحال في سورية، لدرجة أن الطيارين السوفيت تحملوا كمًا معتبرًا من المصاعب والمخاطر لتوصيل السلاح للدول العربية التي تخوض الحرب ضد الكيان الصهيوني. فوق ذلك شاركت دول ككوريا الشمالية ويوغوسلافيا، وهي دول شاركتنا هذه التحالف الكبير المناوئ للغرب حينها، في الحرب بطياريها ومعداتها ضد الكيان الصهيوني؛ ومن اللائق هنا أن نلفت الأنظار إلى واقعة عزّ من يشير إليها، وهي الضريبة الثقيلة التي دفعها الروس على الصعيد الداخلي، حيث صارت المدن الروسية مستهدفة بشكل صريح ومباشر من جانب صهاينة متطرفين، فنفذوا بها عددًا من الأعمال التخريبية، كمحاولة لمعاقبة الروس وبالتالي ثنيهم عن دعم العرب!
نعرف أن كثيرين يهوّنون من مسألة الصراع بين أمريكا وروسيا، ويتذرعون بغياب التخاصم الأيدولوجي الذي مثّل وقود الصراع في الماضي، ولكننا في المقابل نؤكد وجوده، بل على العكس نتوقع تزايده (أي الصراع) حتى أكثر مما مضى، فقط الصورة هي التي تختلف. وما يدفعنا للقول بأن صراع اليوم أشدّ من صراع الأمس، هو أن روسيا اليوم في صراعها مع أمريكا تناضل من أجل بقائها لا من أجل نشر أيديولوجية فكرية بعينها، وإن كان نضالها اليوم لا يخلو من تصدير نموذج للإدارة والحكم أيضًا. فقد أدرك الروس أنهم مهما تماهوا مع الغرب و”ليبراليته”، ستظل القوى الغربية تنظر إليهم نظرة الوحش إلى فريسته، ولا نجاة لهم إلا بالتصدى والمواجهة والردع، وهذا لن يتأتى بدوره إلا بالتآزر وفتح علاقات مع دول أخرى تنطلق إلى ذات الأهداف، وهذا يفسر العلاقات الحميمية مع إيران، على سبيل المثال.
ختامًا، نؤكد أننا، كغيرنا، نضع في الحسبان التوازنات الدقيقة التي يدير بها النظام المصري سياسته، لكننا بحاجة لأن نرى سياسات أكثر تمايزًا عن السياسات التي قزّمت مصر وعزلتها وجعلتها تابعًا يدور في فلك السياسة الأمريكية، وهو ما انعكس على الصعيد الداخلي بالسلب في أكثر من مجال. وما دام النظام يواجه في الداخل حربًا شرسة تستهدف مؤسسات الدولة وكيانها ذاته، فلا بد له أن يلضم خيوط مواجهته في الداخل بتحالف قوي في الخارج يضمن له الدعم الحقيقي والمساندة الجادة ولا يفرض عليه سقفًا للعمل أسفله كما هو الحال مع (التحالف الخليجي-الأمريكي)! ونقول بكل ثقة، أن الحظ على الصعيد الخارجي في صفّ مصر، شريطة أن يُحسن قادتها التعامل مع المستجدات الدولية، وأن يجيدوا استثمار التناقضات بين المعسكرات وتوظيفها لصالح الوطن، ولصالح قضاياه الداخلية.
دوائر البرجين (بين برج البراجنة وبرج إيفل)
خاص لطلقة تنوير – محمد العملة
قبل نحو ثلاثة أسابيع قامت داعش بتفجيرين كبيرين؛ الأول في ضاحية المقاومة، الضاحية الجنوبية في بيروت، والثاني في باريس، إحدى الأقطاب السلبية في ما تمر به منطقتنا العربية تحت مسمى “الربيع العربي”؛ ربيعٌ تنسّمت عاصمة العطور عبيره للمرة الثانية هذا العام. ومع أن المنفِّذ واحد، إلا أن الزاوية التي نستشرف منها أبعاد الهجمتين مختلفة، فمعركتنا مع التنظيمات الإرهابية التكفيرية في بلادنا ضمن الدائرة القومية لا تندرج تحت بند مكافحة الإرهاب فقط –كحال الدول الأخرى-، بل تتعلق بمعركة أكثر أهمية وهي الحفاظ على البنية الجيوسياسية للدولة من مشاريع التجزئة والتقسيم، وعليه الحفاظ على البنيتين الاقتصادية والعسكرية من الانهيار.
الأهم من ذلك كله هو الوعي العام بضرورة الالتفات للنقاط المجملة أعلاه وفهم الأحداث في دوائر متداخلة مع الدائرة القومية– إنسانية وقُطريّة وحتى طائفية ومناطقية – منعا لتحويل الفعل الإرهابي إلى قاعدة تُبنى عليها جملة من المواقف والأحداث السلبية.
هذا الوعي الذي أتحدث عنه منوط بجملة من التساؤلات التي لا تحتمل إشكالا منطقيا مفتوحا للتأوّلات مثل: هل أنت مع التدخل الخارجي؟ هل أنت مع النظام أم الفوضى؟ الأمن أم الإرهاب؟ في مصلحة من يصب هذا الفعل الإرهابي؟
والإجابة على هذه الأسئلة بشكلها المنفصل سهلة، لكن من المهم إيجاد رابط نظري بينها هو نفسه إطار الجبهة التي تمثّل المصلحة العامة للأمة على اختلاف دوائر تحليل الحدث.
في الدائرة الإنسانية – التي لا تنطلق من زاوية الليبرالية المتجاوزة للثوابت- نحن معنيون بنقطة واحدة فقط هي إنكار هذا الفعل باختلاف مكان حدوثه؛ إذ ليس من المنطقي محاربة الإرهاب وهو ما نقوم به منذ سنين طوال ثم إبداء الشماتة حين وقوعه في نطاق جغرافي بعيد عنا، كما أن داعش وغيرها من منظمات التكفير والإرهاب لا تقوم بذلك لمصلحتنا أو لإحقاقِ حق، وأستشهد هنا بما قاله الأسد الغالب علي بن أبي طالب: “الغالب بالشّر مغلوب”، والمعنى من هذا الكلام محاولة توجيه خطاب لشعوب الدول التي تدعم الإرهاب بالضغط على حكوماتها للتوقف عن تمويل هذا الإرهاب ودعمه. ولنطمئن أكثر؛ لن يقوم التكفيريون بقتل إخوانهم الصهاينة، كما أنهم لن يستهدفوا هولاند أو برنار ليفي أو أية قواعد عسكرية تخص الناتو، فكلهم في الإرهاب سواء!
الإرهاب واحد في كل مكان وينطلق من ذات البئر المظلمة؛ التكفيريون، الصهاينة، الاحتلال والرأسمالية، كلها عنوان لنفس الظلم اللاحق بنا وبغيرنا، والمعيار ليس في “الموت” بل في مؤدّى هذا الفِعل ونتيجتِه، فمن يقتل عدوّه دفاعا عن بلاده عدلاً ليس كمن يقتل بغيا وظلماً لاحتلال وتدمير بلاد غيره، وفرنسا التي احتلت وقتلت ومولّت الإرهاب في بلادنا، -كحال أخواتها في الناتو- تذوق من نفس الكأس هذه المرة؛ أي أنها تقتل نفسها بعبارة أخرى، والظلم الواقع عليها صنعته سياسة حكامها لأهلها، فتعسا للفئة التي تظلم نفسها!
أثناء حرب العراق قال جندي أمريكي يدعى مايك برسنر: “قيل لنا أننا نحارب الإرهابيين لكني كنت أنا ذاك الإرهابي، والإرهاب الفعلي هو احتلالنا.” وعلى مثل هذا القول كانت تفجيرات فرنسا، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله!
لكن من المهم أن لا يدخل الموقف التبريري المنافق أو المتزلف في هذه الدائرة، فلسنا بحاجة لإعلان براءتنا من جماعات تتحدث لغتنا ولا تنتمي إلينا، بل هي من صنيعة دول كفرنسا وتتدثر بنسخة صهيونية من إسلام يبيد جيرانه في العراق وسورية واليمن ولبنان وغيرها، وأزيد على ذلك أن لا تدخل عقدة “الرجل الأبيض” لدائرة الإنسانية، فلسنا ملزمين أيضا برفع رايات لا تمثلنا أو إبداء حزن مبالغ لأن الضحية من غير قومنا.. الأقربون أولى بالحزن على أية حال، لكن أصحاب الموقف التبريري المصابين بفصام جلد الذات واستحقارها يتناسون إخوانهم ويهرولون نحو صانع الإرهاب في بلادهم.
الدوائر القطرية والمناطقية والإقليمية تتقاطع مع الدائرة الإنسانية، وهنا نقف أمام مشهدين مختلفين، مشهد منفتح على الدائرة الإنسانية الأوسع بما لا يتعارض مع المصلحة العامة التي تمثلها الدائرة القومية، ومشهد يتمثل في سلوك القبيلة الشوفيني المنغلق على الدائرة الإنسانية والمتعارض بطبيعة الحال مع المصلحة القومية، فالفعل الإرهابي ليس اعتباطيا وإنما ينطلق من تحقيق مجموعة أهداف، وفهمها “الأهداف” يشكل جزءا من مقاومة الإرهاب وموقفا داعما للصدام المسلح المباشر مع هذه التنظيمات ومن يقف وراءَها.
في خطابه الأخير بتاريخ 14 تشرين الثاني 2015، أثنى الأمين العام لحزب الله –سماحة السيد حسن نصرالله- على الجهود التي بذلتها الدولة اللبنانية وأجهزتها في التعرف على منفذي هجمات برج البراجنة، وعلى تعاونها مع قوى المقاومة، وفي نفس الخطاب حذر سماحته من مغبّة الانقياد إلى فتنة لا تُحمد عقباها مستحضرا مثال الحرب الأهلية اللبنانية، ويمكنني هنا أن أقف على بضع نقاط يمكن فهمها من هذا التحذير:
- أن التفجير الذي حصل ثمن تدفعه قوى المقاومة لانحيازها إلى مشروع وحدة لبنان والحفاظ على أمنه، فذهابها للقتال في سورية ينطلق من وعيها بأن الدائرة القُطريّة للبنان تتقاطع مع مصلحة الجار السوري، وأن الاستقرار في الجمهورية العربية السورية هو استقرار للبنان، كما أن ذلك يشكل خطوة استباقية وخط دفاع أول للتخفيف من حدة الهجمات الإرهابية في الداخل اللبناني.
- أن التفجير محاولة لإحداث شرخ بين المقاومة وجمهورها في عقر دارها، لكن أهل الضاحية الجنوبية يعون ذلك جيدا خلال كل الحروب التي خاضتها المقاومة ضد الصهاينة أو التكفيريين.
- أن التفجير يهدف إلى زرع فتنة مناطقية بين اللبنانيين وجيرانهم الفلسطينيين في مخميات الشتات، وهو ما يفسر الدعاية التي سارعت بعض الأبواق لنشرها بحديثها أن منفذي التفجيرين من الفلسطينيين، وهو ما نفاه سماحة السيد حسن نصرالله بكشفه أن منفذي الهجمات يحملان الجنسية السورية.
- أن التفجير يهدف إلى إحداث رد فعل سلبي يؤخذ بجريرته السوريون المقيمون في لبنان هربا من نفس الإرهاب، وهذه النقطة بالذات عُرضة للاستثمار في أروقة السياسة تحديدا من أطراف داخلية مرتبطة بآل سعود –صانعي الإرهاب في بلادنا.
- أن التفجير تمثيل للسلوك الطائفي الذي يفهم به البعض هذه الأحداث، بالإشارة إلى أن منفذي الهجمات سنّة والضحايا من الشيعة، وهو الوتر الذي استثمرته الأذرع الصهيونية وأبواقها في بلادنا لاحتلال العراق وتبرير الحرب الهمجية على سوريا واليمن والانتقاص من قدر المقاومة في لبنان، وبعض فصائل المقاومة في فلسطين المحتلة.
مثل هذه التفجيرات تتقاطع مع الهدف الصهيوني في تدمير الأوطان وجيوشها ودفع الناس بعضهم ببعض عبر تضخيم النزعات المناطقية والطائفية والإقليمية بعيدا عن المصلحة القومية العامة، والحل يبدأ من نبذ نزعات التفكيك ممارسة وخطابا ورفض الفعل الإرهابي في كل وقت ومكان، ودعم كل من يحاربه منذ البداية، ثم إيجاد قطيعة مع دوائر السلوك القبَلي، وعليه نؤسس لجبهة واحدة تصب في دائرة ترى التناقض الرئيس مع الإرهاب بكافة وجوهه من زاوية صحيحة .. أعني دائرة المقاومة.
مجابهة الإرهاب
بشار شخاترة
المرجعية في السلوك القومي في بناء التحالفات والجبهات العريضة في الفرز في مواجهة ضروب الأزمات مرتبطة دائما بمصلحة الأمة، وسواء كانت الدولة القومية أم الحركة القومية التي تتصدى لمهام قومية في حال غياب الدولة القومية كحال الأمة العربية، والمصلحة القومية لا تتجاوز التكوين النفسي والأخلاقي.
فكما أنه واجب على الحركة القومية التي تتصدى للمشروع القومي أن تراعي ثوابت الأمة العربية، فإنه واجب عليها أن تسلك في سبيل ذلك السلوك المنسجم مع الطبيعة القومية للأمة العربية السابق ذكرها، فلا يمكن تخيل بناء التحالف مع الحركات الطائفية أو ذات الطابع القبَلي أو القطري أو الانتهازي أو الليبرالي في معركة الوحدة وذلك لأن الهدف الأعلى لا ينسجم البتة مع أهداف هذه الحركات وطبيعتها، ولأن مرجعياتها متناقضة بحكم تكوينها مع الهدف القومي، والسبب أن الهدف من بناء جبهة في إطار الهدف القومي الوحدوي أنه ذو طابع اجتماعي اقتصادي يجد المواطن العربي له مكانا فيه .
فعلى سبيل المثال لو أخذنا مسألة محاربة الإرهاب التي تملأ الدنيا الآن لوجدنا أن المنظومة الدولية تنقسم في إطارها إلى طرف ينتج هذا الإرهاب وطرف آخر يقاومه، ففي مواجهة بناء الجبهة الدولية أو التي تنضم إليها تنظيمات لمواجهة خطر الإرهاب الدولي، ستجد الحركة القومية العربية الجذرية نفسها في مواجهة إعلان الموقف والإعلان عن خيارها الذي يجب أن تنتمي إليه كون الإرهاب يستهدف بنية الأمة ويفجّر مع كل عملية له النسيج القومي الذي يُفترَض بالحركة القومية العربية الجذرية أنها تتصدى له، ومهمتها الملقاة على عاتقها تمتين النسيج القومي وتوثيق عُراه، و”لائحة القومي العربي” إذ تعد نفسها لمثل هذا المشروع وتتوسل من الوسائل بما يتفق ومرجعيتها القومية وتعتبر نفسها في الطليعة من بين من يحملون عبء الأمة العربية، وعليه فإن اللائحة وفي إطار سوْق الأمثلة في عملية بناء التحالفات والجبهات العريضة في إطار محاربة الإرهاب سنجد الخيار القومي يفرض بناء الجبهة مع القوى الدولية التي تشاطر الأمة العربية في معاناتها من الإرهاب والتي تشاطرها النزعة الأخلاقية في التعاطي مع الآخر دون أن يعني ذلك إطلاقا تقمّص دور الحليف أو التبعية له أو العكس، تبعا لقوة الحليف أو ضعفه، فبناء جبهة من هذا القبيل تفهمه اللائحة في سياق أن كل طرف في التحالف له دور مهم، كبر أم صغر، فإنه يبقى مهمّا كونه يسد ثغرة ويبني لبنة في جدار مواجهة الإرهاب القائم حاليا، الإسلامي الاسم والإمبريالي النشأة.
بالنتيجة لا يمكن أن نجد أنفسنا في موقع واحد مع الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا بالمعنى مع الإمبريالية العالمية، وذلك لأنهم هم الطرف الآخر في المعركة حتى لو طالتهم نيران الإرهاب الذي صنعوه، فهذا لا يغير من الواقع شيئا، ومثال ذلك الحالة الفرنسية التي ضربها الإرهاب “الداعشي” علما أنّ فرنسا من أشد الدول التي قاتلت على خط بناء الجبهة الدولية التي ترعى الإرهاب بقيادة الصهيوني الفرنسي “برنار ليفي”، والإجراءات التي تلت تفجيرات باريس من قبل المعسكر الدولي الراعي للإرهاب تثبت أنهم يزيدونه قوة.
هنا يحضرنا جنون النزعة الإنسانية التي ضربت العالم عقب هجمات باريس “الداعشية” في سياق موضوع هذا العدد من “طلقة تنوير” حول التحالفات، فكما لأمتنا مُثل وقيم تتمثلها مرتبطة بموروثها فإنه وعلى الجانب الآخر نجيب على ذات السؤال لماذا لا نجد ذاتنا مع المعسكر الإمبريالي الغربي في معسكر واحد والإرهاب يضربهم كما يضرب في بلادنا، طبعا مع الفارق، ففي الأمم الغربية لم تهبط النزعة الإمبريالية الاستعمارية المستغلة والمتعالية على شعوب العالم من المريخ بل أنها نتاج تجربة تلك الأمم التاريخية المصاحبة لنشوئها القومي ونزوعها القومي الذي صاحب الثورة الصناعية وارتبط بشكل وثيق بها، وبالتالي أورث النزعة الاستعمارية التي نهبت العالم على مدى قرون، ولا تزال حتى اليوم تمارس سلوكها العدواني الذي لا حاجة لتعداده، وأن استمرار إنتاج الحكومات الغربية التي مارست الإجرام بحق شعوب العالم هو نتيجة طبيعية للعقلية الغربية التي لا ترى العالم إلا من خلال حسابات البنوك، وأن هذه الحكومات نتاج الديمقراطية الغربية التي هي حجة عليها، فالحكومة والمعارضة وجهان لعملة إمبريالية واحدة وهي انعكاس للناخب الذي لم يغير من قناعته تغييرا جذريا في إنتاج حكومات تتطلع إلى العالم بغير العين الإمبريالية، كل هذا ولا زال النفاق للعالم الغربي من قبل البعض في بلادنا يطمح لإقناع الرأي العام الغربي، وتجد في نفس الوقت أن هناك من جرحه الألم من هجمات باريس والمؤسف في هذا المحاولات البائسة في خلق قاسم مشترك بيننا وبينهم يتمثل في الإرهاب وخصوصا بعد هجمات الضاحية الجنوبية وباريس، الحقيقة أنها اجتراء وخيانة لدماء الشهداء الذين قضوا في بلادنا في سوريا ولبنان واليمن وليبيا والعراق والجزائر وغيرها من بلاد الدنيا المنكوبة بالإمبريالية الغربية، وفيها مساواة ظالمة بين الجاني والضحية لأن ارتداد العدوان على من قام به مثله، مثل أن تتقاتل فرنسا وبريطانيا ويذهب جراء ذلك ضحايا، فلو اندلعت الحرب على سبيل المثال بين هاتين الدولتين هل علينا أن نتعاطف مع دمائهم التي أراقت دماء الدنيا ولم يرتجف لهم جفن؟! ضحايا باريس كانوا شهودا على جرائم بلادهم في بقاع الدنيا ولم يغيروا من الواقع شيئاً، وهم ليسوا في بلاد العالم الثالث لنقول أنها الدكتاتورية فهذه الحجة مردودة، لذلك لن تجدنا في حلف مع الناتو وذيوله في أي مواجهة، لأن الفرز واقع من حيث وجدنا وأصبحنا أمما نتمايز بانتمائنا نحن وهم.
وفي غمرة الجنون الإنساني الذي ضرب العالم إثر هجمات باريس، بقي القول أن حقوق الإنسان، البضاعة الغربية الرائجة، والتي سوقت لاحتلال شعوب العالم ولا تزال باسمها يمارسون إرهابهم في سورية وغيرها، وبنفس الأداة الإنسانية “داعش” و”النصرة ” وغيرهما، فكيف نتقاطع معهم حتى في الإنسانية؟!
بناء الجبهة أو التحالف ليست بالعملية السهلة، وإنما هي عملية تبنى بميزان الذهب وترتبط بالهدف وبنفس الوقت بالمرجعية العقائدية ودون التماهي بالحليف.
سلسلة قواعد المسلكية الثورية
الجزء الثالث: الانتماء
عبد الناصر بدروشي
ان الهدف من وضع قواعد المسلكية الثورية هو وضع أساسات عميقة ومتينة تسمح ببناء تنظيم ثوري قادر على تحمل مسؤولياته وانجاز مهماته وتحقيق أهدافه، وتُعنى هذه القواعد بوضع أسس العمل الجماعي المنظم وبمحاربة كل ما من شأنه أن يقوضها.
اذا ما عرفنا التنظيم على أنه = (مجموعة أفراد) + (روابط تنظيمية)، فان كلمة السر هنا هي “الروابط”، وتقييم فعالية وقوة الحركة لا يتوقف على عدد أعضائها وانما على درجة التنظيم والترابط بينهم أولا.
فمن السهل تجميع عدد من الأفراد في اطار ما، الا أن تحويل هذا التجمع البشري إلى “تنظيم” يستوجب نسج روابط تنظيمية بين المنتسبين اليه تصهرهم وتجعلهم يتوقفون عن النظر لأنفسهم كأفراد وانما ككتلة واحدة متماسكة ومنظمة، وهذا أحد المقاصد من وراء وضع قواعد المسلكية الثورية، أي تقوية التنظيم ورفع فعاليته الى أعلى المستويات عن طريق تقوية تلك الروابط التنظيمية.
إن دور التنظيم الثوري هو خلق روابط جديدة توثق العلاقات بين الافراد وتجعلهم يشعرون بان انتماءهم للحركة الثورية يشكل المبرر الاساسي لوجودهم، أي خلق روابط تفوق أي رابطة أخرى بما فيها رابطة الدم والقرابة.
فما هو الانتماء وما أهميته؟ وما هي مقوماته؟ وكيف يمكن تعزيز الشعور بالانتماء لدى المنتسبين للتنظيم الثوري؟
– قيمة الانتماء وأهميته:
الانتماء للشيء اي الانتساب له، والانتماء أيضا يعني الارتفاع بالشيء والنمو به والاعتزاز والفخر به. وكثيرا ما نتداول مفهوم الانتماء فيما بيننا عند حديثنا عن تعلق الإنسان بموطنه وانتسابه اليه أو بأسرته أو بمجتمعه. وما نقصده بالانتماء عند تناولنا لقواعد المسلكية الثورية هو الانتماء التنظيمي أي انتماء الفرد للتنظيم الثوري.
يعتبر الانتماء أحد الأهداف التي تسعى جميع التنظيمات بمختلف توجهاتها إلى غرسه لدى منسبيها لما له من آثار إيجابية على تماسك التنظيم تقوية فاعليته ورفع جهوزيته للقيام بمهامه، حيث أنه يساعد على استقرار العمل فضلاً عن تنمية الدوافع الايجابية لدى المناضلين.
فكلما قوي انتماء الفرد للتنظيم كلما ازداد استعداده للتضحية في سبيله، وكلما زادت فاعليته وتفانيه في القيام بواجباته، وكلما كان ولاؤه للتنظيم ولأهدافه مطلقا، وهنا يفوق عطاء المناضل ما هو متوقع منه، حيث تكون لدى الفرد رغبة مشتعلة في بذل كل ما يمتلك من وقته وجهده وماله من أجل الإسهام في نجاح التنظيم واستمراره والاستعداد لبذل مجهود أكبر وتحمل مسؤوليات إضافية.
إن شعور الفرد بالانتماء لتنظيمه سيعزز اندماجه فيه وتقبل أهدافه وقيمه مما ستنتج عنه رغبة في عدم ترك التنظيم، وهو ما سيعزز هذا الشعور نفسه بالضرورة لدى رفاقه، الشيء الذي سيزيد من تماسك التنظيم وصلابته، فكما أن القيم السلبية معدية داخل التنظيم متى لم يتم التصدي لها بحزم كذلك القيم الايجابية تنتشر عن طريق العدوى الايجابية.
إن الانتماء يمتن الروابط بين الاعضاء بعضهم بعضا، الشيء الذي يرتفع بالعلاقات التنظيمية لكي تحل محل العلاقات الاجتماعية أو علاقات القرابة الاخرى. ففي الحركة الثورية يلتقي الافراد على طريق الثورة، يجمعهم منطلق واحد.. وهدف واحد، ويمارسون اسلوبا محددا للكفاح يخلط بين امانيهم ودمائهم وعرقهم وجهدهم.. إن هذه الروابط المتينة، التي يؤكدها الانتماء الثوري للحركة، تجعل العضو يشعر بانه جزء من كل. وانه شريك في الثورة.. شريك في الهدف الجماعي، الذي لا يتحقق الا بالنضال المشترك لكافة الاعضاء.
إن شعور الانسان بالضياع، وباللاانتماء، يجعله هامشيا لا يدرك طبيعة الدور الانساني الذي يتوجب عليه القيام به. وفي الحركات الثورية لا يجوز مطلقا ان يصل أي عضو من اعضائها الى درجة فقدان الشعور بالانتماء للتنظيم وللثورة. فهذا الشعور بالانتماء هو الذي يخلق عند المناضل روحا معطاءة تجعله يؤمن ان معنى وجود الفرد يكمن في خدمة ومصلحة القضية.
إن السر وراء البطولات الانتصارات التي حققها الثوار في مشارق الارض ومغاربها في مواجهة قوى الهيمنة الخارجية وعملائهم هو الانتماء. فالانتماء يعطي المناضل حافزا لا حدود له للتضحية بالنفس والنفيس ووضع كل طاقاته في خدمة التنظيم كما أنه يقوي التزام المناضل بأهداف التنظيم وبرنامجه.
– مقومات الانتماء:
كي يتعزز شعور أعضاء التنظيم بانتمائهم اليه لا بد من تحقق شرطين أساسيين لا غنى عنهما ألا وهما:
1) وحدة الهدف، و2) وحدة الأسلوب،
كي يشعر المناضل بانتمائه للتنظيم لا بد من أن تكون أهدافه هي نفسها أهداف التنظيم فلا يمكن أن ينتمي شخص لمؤسسة لا تحمل أهدافه، في حال كانت أهداف الفرد ليست نفسها أهداف التنظيم فسيدخله هذا في غربة تجعل من استمراريته في صفوف التنظيم أمرا صعبا كما أن ذلك سيؤثر على التزامه بقرارات التنظيم وكذلك على مستوى انضباطه.
كما أن وحدة الهدف وحدها ليست كافية، فاذا ما كانت أهداف أحد المنتسبين الى التنظيم متطابقة مع أهداف التنظيم، وكانت رؤيته لطريقة تحقيق تلك الأهداف مختلفة عن رؤية التنظيم فان ذلك أيضا سيدخله في صراع مع رفاقه ولن يكون منضبطا للقرارات والمواقف التنظيمية.
ومن هنا يأتي دور الكادر المشرف في التنظيم فاذا كان الانتماء للحركة الثورية يتم باختيار الافراد، فانه أيضا يتم بشروط الحركة الثورية. فالحركة الطليعية لا يجوز ان يكون اعضاؤها وكوادرها غير طليعيين.. غير انقياء.. فلكي يحمل العضو شرف الانتماء للحركة الثورية، يجب ان يتمتع بالمواصفات التي تفرضها هذه الحركة، وكلما ازداد اهتمام الحركة الثورية بنقاء صفوفها وبجدارة اعضائها وكفاءتهم وفعاليتهم ووعيهم، كلما ازدادت اهمية الحركة الثورية وقدرتها على تحمل مسؤوليتها كطليعة للجماهير. اما اذا اصبحت الحركة متسيبة التنظيم منفلشة البناء، فان الانتماء لها يصبح امراً سهلاً، والخروج منها يصبح اسهل، فتميع فيها الروابط التنظيمية، وتموت فيها الدوافع الثورية لانجاز المهمات. ولهذا، فان أولى قواعد التنظيم في الحركة الثورية، هو تعزيز ورفع اهمية الانتماء والانتساب للحركة، وذلك بالاختيار السليم دائما لانصار الحركة، والتأكد من مطابقتهم للشروط قبل ان يصبحوا اعضاء. وذلك برفع روح المسؤولية لديهم وجعلهم يشعرون باهمية الوصول الى درجة العضوية في الحركة الثورية.
إن شرف الانتماء للحركة الثورية، يتطلب من العضو ممارسة كل واجباته، حتى يصبح من حقه ان يطالب بحقوقه كعضو. وبما ان واجباته العضوية الثورية ليست سهلة وتتطلب جهدا وتضحية، فإنه ليس كل افراد المجتمع قادرين على تحمل مسؤولية الانتماء للحركة الثورية. فالافراد يتعاونون في قدراتهم الذاتية على تحمل المصاعب واستعدادهم للتضحية في سبيل تحقيق اهداف الجماهير. ولهذا، فان الحركة الثورية تنمي عند اعضائها الشعور القوي بالاستعداد لتحمل كل الصعوبات، بما فيها الموت في سبيل الحصول على شرف الانتماء للحركة الثورية، طليعة الجماهير .. طليعة الثورة.
إن سر قوة أي تنظيم وتماسكه يكمن في مدى شعور أعضائه بالانتماء اليه.
شخصية العدد:
الثائرة الجميلة … جميلة بوحيرد
نسرين الصغير
هي الجميلة التي ولدت عام 1935 لأم تونسية وأب جزائري حين أبصرت النور ووطنها الصغير الجزائر يغرق في عتمة الاستعمار مذ ما يزيد على القرن، فحين تولد الفتاة في وطننا يرسم أهلها في مخيلتهم لها صورة تقليدية محافظة، وترسم لنفسها مملكة في خيالها لا تجاوز ذاتها، ومن هنا تبرز عبقرية جميلة التي تمرّدت على الموروث، فمنذ نعومة أظفارها كانت مشروعا نضاليا أينع باكرا.
جميلة المثل، جميلة الأيقونة، التي عزفت لحنها المئات، لا بل الآلاف، من فتيات أمتنا، عزفنّه على إيقاع القنابل وأزيز الرصاص، جميلة لم تكن متفردة بين جيلها ولكنها كانت في الطليعة، حين تحترفُ الفتاة زرعَ القنابل في طريق جنود فرنسا، وحين تقضي فراغها في معسكر للتدريب على السلاح لا ارتياد محلات تصفيف الشعر أو الجري وراء الموضة وأصناف العطور الباريسية. عندما أتقنت جميلة فن المقاومة، وانضمت إلى صفوف حبهة التحرير الوطني الجزائري، تقدّمت بالمرأة إلى صدارة الحدث، فالعدوان والاستعمار لا تكفي لرده سواعد الرجال، فمعركة الوطن يخوضها جميع أبناء الوطن رجالا ونساء.
جميلة، الأخت لسبع إخوة ذكور، والوحيدة لوالديها من الفتيات، زرع فيها والداها حب الوطن وكره العدو الفرنسي، فرضعت الحرية وحب الوطن من أمها. بدأت نضالها عندما كان المحتل الفرنسي يجبر الطلاب أن ينشدوا في الطابور الصباحي في المدارس “أُمنا فرنسا”، فكان يعلو صوتها فوق الجميع وتقول “لا بل أُمنا الجزائر”، وواجهت وهي بالمدرسة مدير المدرسة الفرنسي الذي وجّه لها عقوبة شديدة “للجرم” الذي اقترفته من وجهة نظره، ولكن لم يزدها ذلك إلا إصرارا أن الفرنسي ليس إلا محتل ويجب إخراجه من الجزائر وتحريرها مهما كلّف الأمر ولو كانت الكلفة حياتها. انضمت جميلة لصفوف الفدائيين في جبهة التحرير الوطني الجزائرية عام 1954- حين لم تتجاوز العشرين من عمرها – لتقوم بمهامها وهي زرع القنابل في طريق الجنود الفرنسيين. فالقنابل كانت في نظرها ما يجب أن يقدم للمستعمرين لتزرع الجزائر بعدها بالزهور. كانت جميلة ورفاقها ممن ابتكروا شكلاً جديداً من أشكال النضال لمواجهة المحتل، فبدأوا بزرع القنابل ليس فقط في الطرقات، بل بدأوا بزرعها في المقاهي والملاهي ليذيقوا المحتلّ العذاب، ولنقل الخوف والرعب، لصفوف جنوده. قامت بدور بطولي حيث كانت جميلة بوحيرد حلقة وصل بين قائد الجبل ومندوب القيادة في المدينة (ياسيف السعدي) الذي دفع المحتل الفرنسي مقابل رأسه مئة ألف فرنك.
في إحدى المرات، وهي في طريقها لإرسال رسالة جديدة له، شعرت بأن هناك من يراقبها ولم تستطع الهروب ولكنّها حاولت، وقام الجنود الفرنسيون بإطلاق العيارات النارية عليها، فأصيبت الجميلة، واستقرت الطلقة في كتفها الأيسر. لم ترضخ ولم تستسلم، وبقيت تحاول بكل ما تملك من قوة أن تهرب، لكن جسدها الرقيق لم يحتمل النزيف وسقطت أرضاً مغشيا عليها ولم تفق إلا وهي بالمستشفى العسكري الفرنسي في الجزائر، وكان ذلك في عام 1957. بعد اعتقالها بدأت رحلة العذاب، لكنها لم ترضخ فبقي جسدها ولسانها صامتين في وجه التعذيب الذي استمر سبعة عشر يوماً تعرضت خلالها للصعق الكهربائي، ليشهد جسدها على وحشية ما ذاقته، لكنها صمدت في وجه المحتل. كانت جلسات التعذيب تستمر لأكثر من ثماني عشرة ساعة في اليوم، عندما كان يتناوب المحققون وطواقم التعذيب عليها بمحقق ومعذب تلو آخر، لتبقى الجميلة الصامتة التي لم تنطق إلا “أمنا الجزائر”، فعجزوا عن كسر إرادتها وحولوها لمحكمة عسكرية بعد نقلها لمعتقل في فرنسا فجاء ليدافع عنها المحامي الفرنسي (مسيو قرجيه) الذي كان يقول للجميلة (لست وحدك فكل شرفاء العالم معك). كان يشعرها بالأمان لتزداد صلابة. راح يضغط القاضي الفرنسي على المحامي فلم يعطِه الوقت الكافي للجلوس مع موكلته، لكن المحامي هدد ولوح بالانسحاب للضغط على المحكمة، وكانت جميلة تهدد بالتزام الصمت إن لم يكن محاميها معها وبدأت محاكمتها في 11 تموز 1957، وبعد أن حجبت المحكمة الفرنسية المعلومات عن أكثر من محامي، قاموا بالانسحاب من هيئة الدفاع عن بوحيرد، فتقدم المحامي (جاك فيرجيس) للدفاع عنها.
كانت جميلة معتقلة مع ثلاثة من زملائها هم جميلة بوعزة وطالب وحافيد. وبعد بضع جلسات أصدرت محكمة المحتل حكماً بإعدام بوحيرد فلم يكن من الجميلة بعد إعلان القرار إلا أن تضحك بصوتٍ عالٍ في المحكمة مما استفزّ القاضي وقال لها: (لا تضحكي في موقف الجد)، وبعدها قالت مقولتها المشهورة: (أيها السادة، إنني أعلم أنكم ستحكمون علي بالإعدام، لأن أولئك الذين تخدمونهم يتشوقون لرؤية الدماء، ومع ذلك فأنا بريئة، ولقد استندتم في محاولتكم إدانتي إلى أقوال فتاة مريضة رفضتم عرضها على طبيب الأمراض العقلية لسبب مفهوم، وإلى محضر تحقيق وضعه البوليس ورجال المظلات أخفيتم أصله الحقيقي حتى اليوم، والحقيقة أنني أحب بلدي وأريد له الحرية، ولهذا أؤيد كفاح جبهة التحرير الوطني. إنكم ستحكمون علي بالإعدام لهذا السبب وحده بعد أن عذبتموني ولهذا السبب قتلتم إخوتي بن مهيري وبو منجل وزضور ………………. ولا تنسوا أنكم لن تنجحوا أبداً في منع الجزائر من الحصول على استقلالها(.
بعد حملة قام بها محاميها لتخفيف حكم الإعدام الذي صدر بحق جميلة من قبل المحكمة الفرنسية، وبعد أن قام بإثارة قضية جميلة عالمياً، مما أجبر المحكمة الفرنسية على تخفيف حكم الإعدام عنها إلى حكم المؤبد، نالت الجزائر حريتها عام 1962 من الاحتلال الفرنسي بالحديد والنار، وتم تحرير جميلة بوحيرد وانتهت رحلة عذابها بعد أن تم نقل الأسرى الجزائريين من فرنسا وعادوا للجزائر أبطالا منتصرين بثباتهم ومبدأيتهم في صراعهم مع المحتل في ساحات المعركة أو في قبضة المحتل، وبعد عودتها تقدم لها محاميها وطلب يدها للزواج ووافقت على طلبه وتزوجا.
كان بإمكان جميلة أن تعيش حياة بدون ملاحقات واعتقالات، وحياة ككل فتاة، لكنها اختارت أن تكون ملاحقة، وكان من المحتمل أن يتم إعدامها بعدما تم تعذيبها بكل الأشكال من الدولة التي تتغنى اليوم باسم الديمقراطية وتعتبر نفسها هي المصدرة الأولى للديمقراطية العالمية! فلم ولن ننسى أن فرنسا هي التي وهبت تركيا لواء الإسكندرون من القطر السوري، وولّت نفسها على سورية، لبنان، المغرب، تونس، الجزائر وجيبوتي. فرنسا التي أعطت نفسها الحق في احتلال وإذلال بعض الأقطار العربية لا تزال مستمرة في دورها الاستعماري في ليبيا وسورية، وكان لها الدور الرئيسي في قصف حلف الناتو لليبيا وتدميرها وسرقة نفطها وثرواتها وتقسيم المكاسب بينها وبين شركائها من البريطان والأمريكان وغيرهم. وفي سورية قامت بتصدير الإرهابيين وتمويلهم وتدريبهم وإرسالهم لتدمير سورية، فلفرنسا ثأر في سورية، ولذلك ظنّت أن بإمكانها استكمال دورها الاستعماري، ولم تتخيل أن جيشاً عقائدياً صلباً كالجيش العربي السوري سيكون لها في المرصاد، وبعد خمس سنوات من هذه المؤامرة بدأ السحر ينقلب على الساحر، فمن درّب ومول وسلح بدأ يذوق العذاب والنار والتفجيرات في عقر داره من الإرهابيين أنفسهم الذين دربهم وسلحهم ومولهم.
جميلة لا تزال شاهدة على عصر تساوت فيه المرأة مع الرجل وأكرم بها من مساواة، مساواة تحت سقف الوطن وفي سبيل الوطن. جميلة مثالها يتجلى في فلسطين اليوم في فتيات يواجهن الصهيوني بالسكين ومثالها في سورية في صفوف حماة الديار يحملن السلاح حين هرب الجبناء وتسلل اللصوص، جميلة هي العربية المثال من حفيدات الخنساء.
الصفحة الثقافية:
قراءة في أعمال غونتر غراس
معاوية موسى
يعد الكاتب والروائي والمسرحي غونترغراس أشهر أدباء المانيا المعاصرين. ولد غراس عام 1927 في مدينة دانتسك الألمانية، التي تقع اليوم ضمن الأراضي البولندية بعد أن جرى فصلها عن ألمانيا إثر خسارتها في الحرب العالمية الثانية. استُدعيَ للانخراط في القوات المسلحة في السابعة عشرة من عمره، وتحرر من معسكر الاعتقال الامريكي في التاسعة عشرة. وقد ترك نزوح الالمان عن هذه المدينة (اي دانتسك)، بصمات واضحة على غراس، وهو ما حاول التعبير عنه في أعماله، وعلى الأخص روايته الشهيرة “طبل من صفيح” التي تُعتبر واحدة من الإنجازات الأدبية المهمة في النصف الثاني من القرن العشرين، وأفضل ما كتبه هذا الروائي على الإطلاق.(1)
ومن أعماله الأخرى “المتخبّط”، “حقل واسع”، “مخدر موضعيا” و”مذكرات حلزون”، ولقد حاول التعرض فيها للواقع السياسي في ألمانيا الاتحادية، إضافة إلى كتابه “الألمان ينقرضون”.
كذلك كتب غونترغراس عدة مسرحيات بالإضافة إلى ثلاث مجموعات شعرية.
أما آخر أعماله فكتاب بعنوان “مئويتي” 1999 يحكي فيه عن أهم الأحداث التي ميّزت هذا القرن وطبعته بالألم والحروب والمجاعات والمآسي الكبرى، وهو نوع من السيرة شبه الروائية التي يطمح فيها الكاتب إلى تمثّل المذهب التاريخي في الرواية.
يقول غراس الحاصل على جائزة نوبل في الآداب لعام 1999 أن “الجائزة لم تنتزع مني الروح القتالية، فالجائزة لم تكن اعترافا بأعمالي الأدبية فحسب، بل هي اعتراف بتقليد أدبي له التزامه السياسي والقومي” (2) ، وفي هذا السياق نقول إننا كقوميين عرب غير معنيين جدا أو كثيرا بانتماء غراس وميوله القومية “النازية” ، ولا حتى بنوبل كجائزة تتقدم الاعتبارات السياسية في منحها على الاعتبارات الأدبية، باستثناءات قليلة لها علاقة بالظرف الزمني الراهن التي تُعطى فيه، حيث تلعب المصالح والتحولات السياسية دورا هنا، ناهيك عن الانتماء القّاري أو الجغرافي إن صحّ التعبير.
تعرّض في نيسان 2012 إلى موجة انتقادات شديدة بعد نشره قصيدة “ما ينبغي أن يُقال” بالألمانية، قال فيها أن “إسرائيل”، من خلال تحضيراتها لضرب المنشآت النووية في إيران، تمثل تهديدا للسلام العالمي، ولدرء مثل هذا التهديد يجب التكلم الآن، وأنه سئم من نفاق الغرب فيما يتعلق بِ “إسرائيل”، وشنت حينها وسائل إعلام ألمانية مثل دي فيلت وديرشبيغل، حملة عليه تتهمه بمعاداة السامية.(3)
في رواية “عصري”، التي تنطوي على القليل من الوجدانية والرعوية، بل هي بانوراما مرعبة تثير اليأس وتحمل بين طياتها المرارة، ويتحدث شخوصها عن الأحداث الكبيرة للعصر، عن التفاهات البادية والجلية، عن الاكتشافات العلمية والتقنية، عن أحداث ثقافية، عن الاضطهاد والقتل والحرب، وعن مآس كبيرة مروعة، تسير الحكايات لتنسج شبكة من الأحداث التي يصنعها الخيال، وتحظى في جوانب منها بالقليل من الأهمية غير أنها بالتالي تنتهي كي تكوّن لوحة من ألوان مختلفة تعصف بها المآسي الكبيرة التي جرت في هذه الحقبة: تطورات، ثورات، قتال، أحلام وكوابيس طواها القرن العشرين.
إنها تمرين يشي بمهارة أدبية لن يتمكن من اجتراحها سوى غراس نفسه، فهو قادر على أن يتولى أمر مئات الكيانات التي يختلف كل واحد فيها عن الآخر ويدافع عن أكثر قضاياها نبلا وإهمالا في آن معا.
إنها رواية تحتج على المواثيق الرسمية التي تقابل الجرائم بالصمت، إنها مواجهة للرأسمالية التي تسعى إلى تهميش الفقراء.
“طبل من صفيح” روايته الأشهر، التي تحولت لاحقا إلى فيلم سينمائي نال جائزة الأوسكار عن أحسن فيلم أجنبي حينها، هي رواية تعتمد على السيرة الذاتية تصف لنا حياة المؤلف المبكرة في دانتيسك، وتصف لنا أيضا تطوره كفنان، ولأن غراس يتمتع بقدرة استثنائية حقا على نقل شعور التجربة ولونها ورائحتها، فإن الحيوية البحتة لهذه الرواية وكثافتها هما اللتان يستجيب لهما المرء في الحال.
إنّ الكثافة الفيزيائية لعالم غراس، هي أكثر ما يعلق بذاكرة المرء: البلوك السكني في دانتيسك، وقاطنوه الاعتياديون، “مع أنهم غريبوا الأطوار”، السراديب والمحال التجارية، طوبغرافية المدينة وما يحيط بها، أسراب النمل التي تزحف على الأرض بينما يبتلع أب اوسكار الألماني شارة الحزب النازي، ودفاع الأب البولوني عن مكتب البريد، ذلك الدفاع الذي كان كارها له.
…إلى غير ذلك من المشاهد المروعة والرهيبة التي بوسعنا أن نضيف أحداثا وصورا وأجواء أخرى إليها. ففي هذه الرواية المليئة بالتفاصيل والأحداث، سيجد القارىء نفسه مستغرقا جدا في القراءة بحيث أنه يسأل نفسه عن أي شيء تدور الرواية او أحداثها، ففي الأجزاء المبكرة منها يطير بنا خيال المؤلف من حادثة إلى حادثة بحيوية بالغة ولكنها مثقلة أو ثقيلة، فالقراءة لغونتر غراس متعبة، فخلاف أن الرواية تتمدد في نسختها العربية على 687 صفحة، تندر فيها الحوارات، وهذا يعني بنيان متراص يرويه لنا بأسلوبين (أوسكار ماتسرات) بطل الرواية وصاحب الطبول الصفيحية – لم يكن طبلا ً واحدا ً كما سنرى. الأسلوب الأول هو السرد بضمير المتكلم أو الشخص الأول، وفي وسط الجملة ستتفاجئ بأن السرد انتقل إلى الحديث بضمير الغائب أو الشخص الثالث – ولكنه ليس ثالثاً، فهو ككثبان رملية، سرعان ما يتحرك ببراعة فنية فائقة وغير اعتيادية من الوصف السردي الممل بعض الشيء إلى فقرات من الفيض الشفوي أو الفنتازيا الغنائية الساحرة.
الرواية سياسية بطبيعتها، على الرغم من أنها أكثر من مجرد رواية سياسية في تعدد أسلوب الكتابة. ثمة عناصر من علم الأساطير والتمثيل، ما يضعها ضمن فئة الواقعية السحرية.
غراس هو كاتب صميمي بثقافته ولغته، تلك اللغة الكلاسيكية ذات النحو المعقد والممتدة إلى أزمان بعيدة، إنها لغته المفعمة بالموسيقى، وهو كاتب رهيب أجاد رسم صورة حقيقية لعصره، وأبدع عوالم لا تقل جمالا ودقة عن عوالم فونتانا.
إذا كنت قد تعبت من قراءة هذا، فتخيل أن تعيد قراءته على امتداد 687 صفحة مدججة!!!
(1) ويكيبيديا، الموسوعة الحرة ، بتصرف.
(2) مجلة الثقافة الأجنبية، مجلة فصلية العدد الأول لسنة 2000م، ص 72.
(3) ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
مدينة عربية: مأرب
علي بابل
مأرب، العاصمة التاريخية والأولى لمملكة سبأ، تقع جنوب الجزيرة العربية، أي في اليمن. هذه المملكة، التي تشكّلت إثر تشكل ما يمكن اعتباره وحدة “فيدرالية” وحدة بين أغلب قبائل اليمن، استطاعت أن تصبح واحدة من أقوى ممالك العرب في تلك الحقبة من الزمن. ويعود تاريخ مأرب إلى نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد مع بداية تشكّل مملكة سبأ سياسياً. أما تسميتها فتعود بحسب المؤرخين إلى “ماء الرب” لكثرة المياه فيها، وهناك رأي يقول أنها تعود إلى “مأرَب” بفتح الراء أي الغاية أو المكان الذي ستجد فيه كل ما تريد وتتمنى!!!
ازدهرت عاصمة السبئيين خلال القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، لعدة أسباب كان أهمها وقوعها على طريق “اللبان والبخور”، هذه الطريق التي كانت تمتد من ميناء “قنا” على ساحل البحر العربي إلى غزة في فلسطين على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والتي كانت تمر بمدينة ـ شبوة القديمة ـ عاصمة مملكة حضرموت آنذاك، ثم مدينة مأرب ومنها شمالاً إلى مدن معين في وادي الجوف ومنها إلى نجران لتصل بعدها إلى شمال الجزيرة العربية.
إضافة للازدهار التجاري لمدينة مأرب، كانت الزراعة تعد رافداً أساسيا لها بالنظر إلى وجود سدّ مأرب الذي بُني حوالي 800 ق.م. ونذكر هنا كثرة السدود في مدينة مأرب القديمة ومنها سدّ الجفينة غرب محافظة مأرب الحالية الذي نستطيع وصفه بأنه سد تابع للسد الأساس أو سد مأرب التاريخي الذي امتدّ على طول أكثر من 700م كاملة، ووصل ارتفاعه لأكثر من خمسة عشر متراً بعرض ستين متراً تقريباً عند القاعدة، وهذا يُعتبر من أضخم الأبنية الهندسية في ذلك الزمان. وما يميز سد مأرب هو أنه لم يشيد فقط لخزن الماء، بل لرفع مستويات الماء على ضفاف السد اليمنى واليسرى لكي تخضرّ هذه المناطق وتصبح صالحةً للزراعة، ولذلك سُميت ضفافه ب”الجنّتين” اليمنى واليسرى.
الكثير من الباحثيين يركزون على سد مأرب لدوره في إعطاء المملكة ومدينة مأرب الاستقرار الذي كان ينشده اليمانيون، وذلك بخلقه مناخاً زراعياً مستقراً يستطيع من خلاله السكان والدولة السبئية تأمين احتياجات السكان من المحاصيل الزراعية.
السدّ أحد شواهد المدينة لكنه ليس الوحيد، بالرغم من دمار أغلبها وإندثارها بفعل الزمن والإهمال، وأهمها هو معبد “برآن” أو ما يطلق عليه الآن اسم “عرش بلقيس”، وهو معبد الآلهة “المقة”، وهي الآلهة الرئيسية لمملكة سبأ، ويعتبر هذا المعبد المكان الذي كان يقدم فيه الولاء والطاعة للمملكة وحاكميها.
المعبد عبارة عن مساحة مربعة الشكل أقرب إلى الهيكل بأعمدته الستة التي لا تزال صامدة إلى الآن بالرغم من قصف التحالف الوهابي في شهر نيسان الماضي بشكل مباشر، وفيه عدة درجات تؤدي الى قدس الأقداس كما يُسمى، وهو عبارة عن المكان الأكثر قدسية في المعبد تحت الأعمدة الستة.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ أغلب العمارة الموجودة في مدينة مأرب تعود للقرن الثامن قبل الميلاد تقريباً، وتذكر المصادر التاريخية اسم الملك “كرب- إيل” على أنه أحد أقوى ملوك سبأً والذي تسجّل له عدة حملات عسكرية ضد الممالك المجاورة، من أهمها مملكة أوسان التي أشرفت على عدة معابر بحرية في ذلك الوقت.
عاصمة سبأ كانت محجاً لكل أهل الجنوب العربي، وعند انهيار سدّ مآرب في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، بسبب الاهمال الذي حصل وذلك لفقدان الحكومة المركزية القوة والهيبة وتدخلات الفرس في تلك الفترة، تشتت أهل جنوب الجزيرة العربية إلى الأراضي المجاورة في الجزيرة العربية من “يثرب” إلى حران وصولاً إلى بلاد الشام وباديتها، وشكلوا عدة ممالك أهمها مملكة “كندة” في نجد وسط الجزيرة العربية.
مأرب التي تكلّم أهلها اللهجة العربية “السبئية” اندثر تاريخهم حتى أصبح الباحث لا يجد عنه سوى ما كُتب عنهم من قبل البعثة الألمانية في ثمانينات القرن الماضي، وما تبقى هو تاريخ إسلامي معروف للجميع، أما التاريخ القديم فلا تجد الكثير عنه للأسف. هذا الواقع المؤلم يجبرنا على ذكر المدينة كرمز تاريخي لوحدة اليمن التاريخية، التي يحاول الآن التحالف الرجعي الوهابي ضرْبها بالقوة وتمزيق أرض اليمن ونشر الإرهابيين لتدمير معابدها التاريخية وقلاعها الشامخة فوق الجبال، كما دمر معابدنا في تدمر ونينوى.
قصيدة العدد: من ديوان الحماسة لإبي تمام
الشر يبدؤه في الأصل أصغره … وليس يصلى بجل الحرب جانيها
والحرب يلحق فيها الكارهون كما … تدنو الصحاح إلى الجربى فتعديها
إني رأيتك تقضي الدين طالبه … وقطرة الدم مكروه تقاضيها
ترى الرجال قعودا يأنحون لها… دأب المعضّل إذ ضاقت ملاقيها
اترك تعليقاً