د.إبراهيم علوش
البناء 26/8/2015
جاء انخفاض سعر صرف الليرة التركية إلى 3 ليرات مقابل الدولار هذا الأسبوع، قبل أن تعود للارتفاع فوق حاجز الـ3 ليرات بقليل، مقابل 2،63 ليرات مقابل الدولار في 14 تموز الفائت، وهو تدهور بلغ 14 بالمئة خلال أربعين يوماً، نتاجاً مباشراً للأزمة السياسية المحيطة بالبلاد منذ الانتخابات التركية في 7 تموز التي تمخضت عن فقدان حزب العدالة والتنمية الإخواني لأغلبية مريحة في البرلمان تمتع بها طوال ثلاثة عشر عاماً، والتي تفاقمت مع عجزه عن تشكيل حكومة شراكة مع الأحزاب المنافسة، وانفتاح الأفق التركي على المجهول مع استئناف الحرب على الأكراد وانعكاس ذلك على الاستقرار الأمني في الداخل التركي، وازدياد التوترات على الحدود التركية-السورية.
عدم اليقين السياسي واهتزاز الاستقرار الأمني من العوامل الأساسية التي تؤثر سلباً على تدفق الاستثمارات الأجنبية، وبالتالي عرض العملة الأجنبية، وبالتالي الطلب على العملة المحلية، وبالتالي سعر صرفها مقابل العملة الأجنبية. فإذا تفاقم عدم الاستقرار، فإنه يضرب السياحة ويدفع رؤوس الأموال المحلية للهجرة، وبالتالي يضعِف سعر صرف العملة المحلية. ولا يزال الأفق التركي مفتوحاً على المجهول مع الدعوة لانتخابات مبكرة ومع تصاعد الصراع السياسي والمسلح مع حزب العمال الكردستاني وحلفائه المحليين في الداخل التركي.
أضف إلى ذلك صراع النفوذ المستفحل بين البنك المركزي وأردوغان حول تحديد أسعار الفائدة، إذ يفترض أن يكون تحديد سعر الفائدة (وكمية النقد المتداول) من صلاحيات البنك المركزي، وهي صلاحية شديدة الخطورة لما لسعر الفائدة من تأثير على حالة الاقتصاد وسعر صرف العملة. لذا تشيع الصراعات في الدول بين السلطة التنفيذية والبنك المركزي حول السياسات التي يتبعها الأخير، خصوصاً قبيل المواسم الانتخابية، إذ تدفع السلطة التنفيذية الراغبة بالتجديد لنفسها في الحكم إلى تخفيض سعر الفائدة، وهو ما يسمى بسياسة نقدية توسعية، لتحفيز الاقتصاد ودورة الاستهلاك والاستثمار وخلق الوظائف ورفع المداخيل. بالمقابل، تؤدي زيادة عرض النقد أو خفض سعر الفائدة لارتفاع معدلات التضخم، وإضعاف القوة الشرائية للعملة، وانخفاض سعر صرفها إزاء العملات الأخرى، مع بقاء العوامل الأخرى ثابتة.
المشكلة الآن أن أردوغان يضغط على البنك المركزي بشدة لتخفيض معدل الفائدة. لكن مثل ذلك الإجراء، فيما سعر صرف العملة بحالة تدهور، بلغ 20 بالمئة منذ بداية عام 2015، سيؤدي إلى تهاوي سعر صرف العملة المحلية أكثر. وقد خفض البنك المركزي التركي أسعار الفائدة تكراراً على الإيداعات باليورو والدولار، مما يدفعها دفعاً للبحث عن عوائد أعلى في بلدانٍ أخرى، مما يساهم في إضعاف سعر صرف الليرة التركية مع ازدياد التوقعات بأن الفوائد على الليرة والعملات الأجنبية سوف تنخفض أكثر وأكثر بمقدار ما ينجح أردوغان في فرض إرادته على البنك المركزي التركي لأغراض انتخابية أساساً ترتبط بأزمة حزب فقد الكثير من ناخبيه بسبب عواقب سياساته التدميرية في سورية على الداخل التركي.
لكن العوامل السياسية الخارجية والداخلية، على أهميتها، ليست بديلاً عن قراءة العوامل الاقتصادية والمالية البنيوية التي تتحكم بأسعار العملات (أو النفط أو الأسهم أو غيرها). ومشكلة بعض المحللين تكمن بإحالة تذبذب الأسعار إلى عوامل اقتصادية فحسب، دون السياسية، أو العكس، مما يمثل قصوراً في الحالتين، فيما المطلوب الإحاطة بكل العوامل، الاقتصادية وغير الاقتصادية، التي تؤثر في الأسعار، ومنها أسعار صرف الليرة التركية مؤخراً.
في عام 2011 أشرت لبعض عوامل الضعف البنيوي في الاقتصاد التركي تحت عنوان “الاقتصاد التركي لا معجزة ولا لغزاً”، ومنها أن:
1) العجز في الحساب الجاري التركي لم يبلغ قبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم أكثر من عشرة مليارات من الدولارات سنوياً، فأصبح 47 مليار دولار عام 2010 (و65 ملياراً عام 2013، ومن ثم حوالي 46 مليار عام 2014 بسبب انخفاض أسعار النفط أساساً)، ومثل هذا العجز يشكل ضغطاً بنيوياً رهيباً على سعر صرف الليرة،
2) السبب الرئيسي لذلك العجز في الحساب الجاري هو العجز في الميزان التجاري التركي، أي زيادة الواردات على الصادرات (إلا مع بعض الدول العربية)، الذي نما بشكل انفجاري في ظل العدالة والتنمية، ليبلغ 56 مليار دولار عام 2010، (وحوالي 80 مليار عام 2013، وحوالي 64 مليار عام 2014)،
3) ما يعوض ذلك بنيوياً هو تحويلات الأتراك العاملين في الخارج، والسياحة في تركيا، والأهم، تدفقات رأس المال الأجنبي (الأوروبي أساساً) إلى تركيا. وقد انهمرت رؤوس الأموال الأوروبية على تركيا منذ مجيء حزب العدالة والتنمية للحكم، لترتفع الاستثمارات الأجنبية المباشرة من 10 مليار دولار عام 2005 إلى 22 مليار عام 2007 إلى حوالي عشرين مليار عام 2008، لتنخفض بشدة بعدها بسبب الأزمة المالية الدولية، وقد بلغت 9 مليار عام 2010 (وحوالي 12 مليار ونصف في كلٍ من العامين 2013 و2014). أي أن تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى تركيا تقلص بحدة بسبب الأزمة المالية الدولية، مما مهد لضرب الليرة التركية بنيوياً. وكان السبب المتداول في الإعلام الاقتصادي لانخفاض الاستثمارات الأجنبية في الأعوام الثلاثة الأخيرة بالذات، وهروب رأس المال التركي للخارج، هو التوترات السياسية في المنطقة، وجفاف الفرص الاستثمارية مع انخفاض معدلات النمو الاقتصادي التركي منذ الأزمة السورية إلى 2،1 بالمئة عام 2012، و4،2 بالمئة عام 2013، و2،9 عام 2014، نزولاً من حوالي 9 بالمئة عام 2011 وأكثر من 9 بالمئة عام 2010، بحسب أرقام البنك الدولي.
إذن أدخلت مغامرات أردوغان تركيا في النفق الاقتصادي المظلم، ويريد الآن أن يعالج ذلك بسياسات ستؤدي إلى تخفيض سعر صرف الليرة التركية والقوة الشرائية للمواطن التركي. فأهلاً وسهلاً باش عثملي. سورية ستنتصر، وتركيا ستندحر!
للمشاركة على فيسبوك:
اترك تعليقاً