د.إبراهيم علوش
البناء 29/7/2015
يمثل الجيش الوطني، بصفته القوة الأكثر تنظيماً في مجتمعات العالم الثالث التي لم ترتقِ لمستوى المواطنة القومية بعد، إحدى أهم ضمانات الوحدة الوطنية الداخلية، بما يمثله من وزن سياسي أو من وعاءً للانصهار الاجتماعي، وقد برز مثل هذا الدور الاجتماعي-السياسي للجيش منذ نشوء الدول المستقلة غير التابعة للاستعمار، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. وقد شكل الجيش في العديد من تلك الدول رافعة للارتقاء الاجتماعي ولتشييد البنية التحتية للبلاد، ولهذا كان الجيش في تلك الدول قوة ديموقراطية موضوعياً وتاريخياً، رغم طابعه العسكري.
عليه يمكن اعتبار هجوم الليبراليين العرب على الجيوش الوطنية في الدول المستقلة، باسم “الحرية” و”الديموقراطية” دوماً، على “عسكرة المجتمع” و”حكم العسكر” و”دور العسكر في السياسة”، في ظل خطر التفكيك من الداخل، أو الهيمنة من الخارج، أحد أخطر الأدوات الأيديولوجية في يد مشروع “الفوضى الخلاقة”، وقد اكتسب هذا الهجوم على “العسكر” خطورة أكبر في ظل ما يسمى “الربيع العربي” الذي أبرز عدداً من الأسس التي تحكم علاقة الجيوش بالمجتمع العربي المعاصر، ومنها:
أن الجيش الوطني القوي هو الضمانة الأولى لوحدة الدولة واستقرارها، وأن تفكك الدولة ومؤسساتها يبدأ بضرب الجيش أو حله من الخارج، كما حدث بعد قرار الاحتلال الأمريكي حل الجيش العراقي عام 2003، وفي ليبيا بعد عدوان الناتو عام 2011.
أن استهداف الجيش الوطني هو المدخل الاستراتيجي والعملياتي لاستهداف الدولة واستقرارها، كما حدث في سورية منذ عام 2011، وفي مصر منذ عام 2013.
أن القوى التكفيرية تتمدد جغرافياً بالضبط بحجم المساحة التي ينحسر عنها الجيش الوطني، والعكس بالعكس، اليمن نموذجاً.
أن الأثر الاجتماعي للحركات الإسلاموية كان استعداء المجتمع على الجيش الوطني، والعمل على تفسيخ الجيش الوطني من الداخل، تحت عناوين دينية مفتعلة، معظم الدول العربية نموذجاً.
أن الجيش هو الذي يحسم الموقف عندما يحتدم الصراع مع النظام، فإن وقف معه صمد، وإن وقف ضده انهار، مصر نموذجاً عامي 2011 و2013، والجزائر خلال “العشرية السوداء” ما قبل “الربيع العربي”.
أن الجيش لا يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي إزاء محاولات عزله عن بيئته الاجتماعية الحاضنة، لأن قدرته على القتال يحدها سقف أعلى تحددها درجة اندماجه العضوي مع محيطه، معادلة “الشعب والجيش والمقاومة” في لبنان نموذجاً.
أن الجيش يصبح قوة وحدوية موضوعياً في ظل انتشار نزعات الانفصال والنزعات الطائفية والعرقية والعشائرية والجهوية، ويزداد ذلك الأثر الوحدوي قوة بمقدار اندماج مختلف فئات السكان في الجيش، ولذلك يمكن اعتبار إجراءات إزالة الحواجز الطائفية داخل الجيش اللبناني التي اعتمدها العماد إميل لحود مثلاً عاملاً استراتيجياً يصب في خانة تعزيز وحدة لبنان واستقراره.
غير أن وزن الجيش الوطني في المجتمع لا يؤخذ بدوره بمعزل عن قوانين الجغرافيا السياسية. فالدول عامة، ودول التجزئة القٌطرية العربية بخاصةً، لا توجد في فراغ، بل لها أوزان إقليمية متفاوتة يحددها حجمها الجغرافي والاقتصادي والسكاني والثقافي والعسكري، ولهذا ثمة دولٌ مركزية ودولٌ ثانوية ودول هامشية، ومن طبيعة سنن الحياة أن السمكة أو السمكتين الكبيرتين في أي إقليم هي التي تحدد إيقاعه لا الأسماك الصغيرة، إلا بمقدار ما تفرض القوى الدولية العظمى نفوذها في ذلك الإقليم عبر الأسماك الصغيرة.
هذا يعني أن الظرف الذي يجعل الجيش الوطني القوة الأهم ضمن أي دولة عربية مركزية هو نفسه الظرف الذي يجعل ذلك الجيش القوة الأهم في الإقليم الذي توجد فيه تلك الدولة، فإذا نظرنا اليوم لأهم الجيوش العربية اليوم، بحسب الجداول الدولية المختلفة لترتيب الجيوش عالمياً، فإننا نجد أنها الجيش المصري والجزائري والسوري. وفي عام 2014، احتل الجيش المصري المرتبة 13 عالمياً، والجيش السوري (بعد 3 سنوات على بدء الأزمة السورية وقت التصنيف) المرتبة 26، والجيش الجزائري المرتبة 31. ويشار أن الجيش الصهيوني يحتل في التصنيف نفسه المرتبة 11، وهناك من يضع الجيش السعودي في المرتبة 25 بفضل موازنته الضخمة أساساً!
العبرة أن الأوزان الدولية للجيوش المصرية والسورية والجزائرية، مقارنة بالولايات المتحدة وروسيا والصين مثلاً، ليست هي المهمة، بل الوزن الإقليمي لكلٍ من تلك الجيوش، وهو وزن يمكن أن يزيد عربياً أكثر من المجموع البسيط لأجزائه لو نشأ تحالف عسكري فيما بينها يمكن أن يبدأ بمعاهدة دفاع مشترك بين تلك الجيوش مثلاً أو ما يراه قادتها مناسباً، وهو تحالف تضمنه قوة أهم ثلاثة جيوش في الوطن العربي تمتلك القدرة الموضوعية على إسقاط تأثيرها السياسي على عموم الوطن العربي مع أو من دون التدخل المباشر خارج مصر وسورية والجزائر.
إذا علّمَنَا “الربيع العربي” شيئاً ذا قيمة، إلى جانب انخراطه في تحقيق برنامج “الفوضى الخلاقة”، فهو أن التأثيرات الإقليمية، من الخطر الإرهابي والتكفيري إلى تدفق اللاجئين إلى مشاريع الانفصال والتفكيك إلى التدخل الخارجي، لا تتقيد بحدود دول التجزئة القُطرية، وأنها تنتقل بديناميكية عبر الحدود المصطنعة للأقطار العربية بشكلٍ بات يهددها جميعاً، حتى الرجعيات النفطية المرتبطة بالاستعمار منها، ولهذا فإن الإمساك بالوضع العربي، ومحاولة وقف التدهور المنفلت من عقاله في بلادنا، مع الحفاظ على حد أدنى من الاستقلالية العربية إزاء قوى الهيمنة الخارجية، بات يتطلب نشوء محور سوري-مصري-جزائري يمكن أن تندرج في صفوفه الكثير من الدول العربية الأخرى. مثل هذا المحور ليس مطلوباً فحسب، بل أصبح ضرورة ماسة لمواجهة الخطر التكفيري في الوطن العربي، ومن ذلك ضبط الوضع في ليبيا بعيداً عن حلف الناتو، كما أنه أصبح ضرورة لموازنة التفرد الخليجي البترودلاري في شؤون الوطن العربي، ولموازنة تأثير الجيش رقم 11 عالمياً: الجيش الصهيوني!
للمشاركة على فيسبوك:
اترك تعليقاً