طلقة تنوير15: ناجي علوش/ ملف ومذكرات

الصورة الرمزية لـ ramahu




المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 آب 2015

ويضم هذا العدد:

كلمة العدد: ناجي علوش نموذجاً للمناضل القومي الجذري/ جميل ناجي

مذكرات ناجي علوش… الجزء الأول/ حاوره إبراهيم ناجي علوش

كتب ناجي علوش المتوفرة وغير المتوفرة على موقعه… ساعد باستكمالها

ناجي علوش وأكذوبة “الربيع العربي”/ نسرين الصغير

ناجي علوش وثورة عام 1936 في فلسطين المحتلة/ معاوية موسى

عن ضرورة دمج تراثنا الفكري في المشروع القومي العربي: الرشدية نموذجاً/ إبراهيم حرشاوي

موضوعة فلسطين في المسرح العربي (2-2)/ طالب جميل

مدينة عربية: أريحا/ علي بابل

قصيدة العدد: أديب ناصر في غناء ناجي علوش



العدد رقم 15 – 1 آب 2015

لقراءة المجلة عن طريق الـــ PDF




للمشاركة على الفيسبوك


ناجي علوش/ ملف ومذكرات

 

كلمة العدد: ناجي علوش نموذجا للمناضل القومي الجذري

 

جميل ناجي

 

تنقّلت بين ما أملكه من كتب للراحل الكبير ناجي علوش بهدف إعادة مراجعة إحداها من أجل مقال طلقة تنوير لهذا العدد الذي خصصناه للمناضل والمفكر القومي ناجي علوش بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيله.  لكن جلّ ما كان يشغلني أثناء ذلك هو مسألة سيطرة الانتهازيين والمتسلقين وأصحاب الأجندات الخاصة على ساحة العمل السياسي والنضالي على حساب المناضلين الشرفاء الذين يضعون مصلحة الأمة أولاً في كل موقف أو قرار عام أو خاص.  فهل هو قدر الأمة أن تُبلى بابتزازٍ يحمل صفة (ثورية)، هو في الحقيقة لا ثوري، من قِبل الذين تخصصوا بالأمية الفكرية، ليتفننوا فيما بعد في بيع الثورة والأرض، ويقتلوا كل ما هو ثوري فينا وكل ما يحمل نفَسَاً مبدئيا؟؟ هنا كان يقف مناضلنا العزيز ناجي علوش وكل شرفاء هذه الأمة في مواجهةٍ كبرى تكاد تكون أشرس من الوقوف في خطوط القتال.

بعيداً عن العمل الثقافي والفكري، لقد أعطانا ناجي علوش درساً نموذجياً في الكيفية التي يكون فيها  المرء ثورياً ونقياً في ظل هيمنة كل هذه الطغم غير الثورية على العمل النضالي، وفي ظل سيطرة المال السياسي في تكريس “قيادات” هم أشبه بمهرجين للقوى الصهيونية والإمبريالية، ناهيك عن الملاحقات والتصفيات الجسدية، ثم أعطانا درساً مماثلاً في العمل الثقافي والفكري بنفس الروحية والنقاء الثوري في مواجهة كل حملات الترغيب والترهيب.  من هنا جاء هذا العدد من “طلقة تنوير” تأبينا لناجي علوش في هذه اللحظة القاتمة من تاريخ أمتنا  ليؤكد على أن الأمة العربية، والشعب العربي الفلسطيني بالتحديد، قادرٌ على إنتاج مناضلين جذريين يحملون الهمّ القومي على كواهلهم، لا يساومون ولا يكترثون للخطوط الحمراء والخضراء مع العدو، ويرمون كل الاتفاقيات والمعاهدات مع العدو عرض الحائط، حتى في أسوأ اللحظات.

فعندما يُشار مثلا إلى إقرار المجلس الوطني الفلسطيني لبرنامج النقاط العشر، ومرحلية النضال التي تدعو إلى إنشاء سلطة وطنية على أي قطعة محررة من أرض فلسطين وإلى الحل السلمي، أو بالأحرى للتفريط بالأرض والشهداء، يبرزُ ناجي علوش كعلمٍ حقيقي منفرد في مواجهة هذا القرار التسووي بالإضافة إلى شخص يدعى يوسف عبد الرحيم تكاد لا تعرف سوى اسمه من حجم التهميش. وهي صفحة مظلمة في تاريخ الثورة الفلسطينية، وفي التاريخ الثوري عامةً، عندما يتم بالإجماع التمهيد لحل سلميّ مع العدو الغاصب من قبل حركة ثورية كبرى نسبياً، حتى قبل أن يعرض العدو مثل ذلك الحل.  ثم يُكرَس كل هؤلاء الأقزام كقيادات للشعب الفلسطيني، وفي المقابل يُواجَه ناجي علوش تهمة المنشَقّ عن الحركة ويُلاحَق من أجل مواقفه المبدئية في مواجهة العدو، فهل هذه قيادة تمثل الشعب الفلسطيني حقاً؟!! إنها قيادةٌ لا تصلح حتى لتمثيل نفسها.  إن لناجي علوش كثيراً من المواقف التي تدلّ على نضاليته العالية وتفانيه وسعة أفقه التي خدمت وتخدم مصلحة الأمة، في الوقت الذي ثبُتَ فيه التساقط والانتهازية على منافسيه في كل مواقفهم.

لقد كان قوميا حقيقيا وقف مع عبد الناصر مواجِها لموقف حزب البعث آنذاك، ومتجاوِزا لخلافات المناكفة بين الأقطاب القومية على إدارة الصراع القومي.  تأثّرَ بالخطاب الماركسي الذي زاده أصالة وولاء قوميا، واستطاع أن يبنيَ وعيا قومياً تقدمياً متجاوزاً في ذلك كل القوميين والشيوعيين التقليديين، المتخشبين إلى يومنا هذا.  لقد كان قوميا في ظل نزعات “فلسطنة” القضية الفلسطينية والتفرّد بالقرار الفلسطيني التي كانت ترنو إلى إنهاء الثورة الفلسطينية وتوقيع إتفاقية أوسلو . لقد شكّل ناجي علوش مثالا للمناضل العربي الملتزم الذي يجب تكريسه في الحقيقة كأنموذج نضالي في مواجهة كل المتساقطين اليوم على عتبات القوى الإمبريالية والصهيونية.

لم يكن ناجي علوش مناضلاً عاجياً كباقي الجوقة التي حوله، لقد أكلت ساحات الوغى والعمل الجماهيري من جانبيه كما يُقال، إلى جانب المخزون الضخم من الكتب والمقالات والتي تصبّ جميعا في الدفاع عن الخط الجذري في المواجهة أمام المشروع التسووي الذي حمله ياسر عرفات ومن حوله، إضافةً إلى تأكيده الدائم على أهمية الانخراط في المشروع القومي من أجل تحقيق الأهداف القومية الكبرى. لقد أشار في عدة مفاصل بالقول والعمل إلى أن الفكر وحده لا يستطيع أن يغير في مجرى الصراع، إذا لم تلْتف الجماهير الواسعة حوله من خلال حركة شعبية واسعه ومنظمة، فلا يبقى أسيرَ النخب ورفوف المكتبات.

إن لائحة القومي العربي تقف اليوم من خلال هذا العدد أمام هامة عربية نضالية، وواحد من أهم مرجعياتها التاريخية التي لم تهادن ولم تتخلى عن المشروع القومي للحظة وبقيت وفيّة حريصة على مصلحة الأمة إلى أن وافتها المنية.  وإذا كان التاريخ المكتوب لا يفي هذا الإنسان حقه بحكم الطمس المتعمّد من قبل أصحاب مشاريع التسوية والدويلات القزمية والتجزئة، فإننا حاولنا هنا على عجل إعطاء نبذة عامة عن هذا الرمز القومي، الذي يشكل قدوة حقيقية وبوصلة للعمل القومي النضالي، في ظل هذا الخريف الذي يعصف بالأمة.   وهي نبذة لن تفيه حقه، ولا تزعم الإحاطة بكل جوانب هذه الشخصية التاريخية، غير أننا نزعم أننا نسير على نهجه ونتعلم الدروس من تجربته، ولهذا فإنه يطل من ثنايا كل عدد من “طلقة تنوير” عملياً، وما هذا العدد إلا لحظته الخاصة في فناء مدرسة هو مؤسسها وأستاذها الأول.

– لمعرفة المزيد عن ناجي علوش، وحياته ووفاته، شاهد هذا الفيديو:

https://www.youtube.com/watch?v=Psl_3mejep4

 

 

مذكرات ناجي علوش

 

الجزء الأول

حاوره إبراهيم ناجي علوش، وقد تم تفريغ المادة من شرائط مسجلة بصوت الراحل ناجي علوش، وتركز هذه المادة على بدايات ناجي علوش كمفكر ومناضل، الصراع الداخلي الذي عاشه بين البعث والشيوعيين، ومرحلة الطفولة والشباب في قريته بئرزيت، بداياته الفكرية والشعرية والسياسية، ونضالاته الأولى في مرحلة المدّ القومي في الضفة الغربية والأردن، مرحلة الفحيص، ثم سفره للكويت وتحوله للأمين العام القُطري لحزب البعث في الكويت في سن الثالثة والعشرين، والصراعات ضمن حزب البعث، وانتقاله لبيروت وانخراطه الفكري في صفوف اليسار القومي وانخراطه العملي في صفوف حركة فتح.  ويشار أن ثمة ملفات كثيرة في تجربة ناجي علوش لم تتم تغطيتها أدناه، مثل تجربة حرب أيلول في الأردن عام 70، والحرب الأهلية في لبنان عام 75، والصراع مع ياسر عرفات الذي تحول إلى تصفيات دموية، وتجربة العلاقة الدموية أيضاً مع صبري البنا (أبو نضال)، وتجربة حركة التحرير الشعبية العربية، التنظيم الذي أسسه ناجي علوش واستمر بين عامي 1978 و1992، وغيرها من الملفات، وسيتم نشر المتوفر من الملاحظات المكتوبة للوالد في وقت لاحق، ولن ننسى بالتأكيد أوراقه وملفاته التي تحتاج لمعالجة خاصة بدورها.

س: إبي العزيز، أذكر دوماً أن تاريخ ميلادك ليس معروفاً بشكل مؤكد، وهل هو في الرابع والعشرين أم في السادس والعشرين من شهر حزيران؟

ج: ولدت في بئرزيت في السادس والعشرين من حزيران سنة 1935 وسُجل ميلادي في دائرة النفوس في التاسع والعشرين، لأن المختار أو الموظفين تأخروا في التبليغ، لكن أبي كان أشبه بسجل البلد في المواليد والوفيات، وكان يحفظها عن ظهر قلب، وقد أكد لي أن التاريخ هو السادس والعشرين.  وهو يعتبر موسوعة البلد في مثل هذه الأمور.

س: هل لك أن تحدثنا عن طفولتك وعائلتك؟

ج: كانت طفولتي سعيدة، لأن الوالدة والوالد كانا يعطياننا كل اهتمامٍ وحب، ويتعبان ليلاً نهاراً من أجل راحتنا ونمونا.  وكان الوالد يتيماً لأن والديه ماتا وهو صغير، فعاش يتيماً، ولذلك كان يحب الأطفال كثيراً.  وكان لا يوبخنا أو يضربنا، ولكن يهددنا بلطف.  وكان وضع العائلة متردياً من الناحية الاقتصادية لسببين، السبب الأول أن الهجرة وقعت عام 47-48 وانقطعت الموارد، وحدثت بطالة لا حدود لها، حتى أن الوالد الخبير في كل شيء لم يكن يجد عملاً.   وكنت الطفل الثالث، بعد عمتك غزالة رحمها الله، وقد أسميت ناجي لأن أخاً لي أكبر مني قد ولد وسمي ناجي ومات، وعندما مات أعطيت اسمه، وكنت قبل ذلك قد أسميت سلامة، وسجلت كذلك، وقد ذهبت أمي عندما أردت استخراج جواز سفر وحلفت يميناً أن ناجي هو سلامة، وبالتالي أعطيت جواز سفر باسم ناجي.   وما زلت أذكر من الطفولة بيتنا وبستاننا، وكرم العنب، وكروم الزيتون، وصيد العصافير، والمدرسة.  وأذكر بستان “ستي العلوشة” الرائع والبركة الصغيرة التي نشأت من عين الماء فيه حيث حاولنا ونحن صغار أن نتعلم السباحة، لكن ارتفاع الماء في تلك البركة لم يكن أكثر من بضع عشرات من السنتيمترات.   وكان حول البركة بستانٌ أعطي لمريم العلوش، خالة والدي، وزوجة عمه، وهي امرأة مات زوجها واختفى ابنها في الحرب العالمية الأولى في “سفر برلك”، عندما قرر الأتراك أن يجلوا السكان بالقوة إلى تركيا، فأعطتها العائلة قطعة من الأرض لتعيش منها.  فكانت تعيش في ذلك البستان على أطراف البلد، وكانت تسوره الكثير من الأشجار المثمرة وكانت تزرع الكثير من الخضروات فيه.  وكنا نلعب هناك، وكانت هناك شجرة توت تأتي الطيور لتأكل منها فنذهب لاصطياد الطيور، وكان فيها شجرة رمان، نقطف ثمارها الواقعة على الغصون العالية التي لم تكن تراها “ستي العلوشة”.

كان وضعنا كعائلة متردياً والحصول على الحاجات صعباً، وكان الوالد يشتغل ليلاً نهاراً ليؤمن لنا القوت.  وكانت الوالدة تشتغل ليلاً نهاراً أيضاً لتؤمن لنا القوت، لأنها كانت تصنع المربيات من الثمر، العنب والبرقوق والخوخ، وتكبس الجبن من أجل أن نأكل في الشتاء.  وتكبس الزيتون من أجل أن يكون لدينا طعام، زيت وزيتون وزعتر على الأقل.  كانت عائلة فلاحين تعمل في الأرض، في الاهتمام بالعنب والزيتون، وكان للعائلة موسمان ينقذانها كل سنة، موسم العنب الذي يجني 150 جنيه فلسطيني، وكان الجنيه ذا قيمة آنذاك لأن كيس الأرز “أبو الحِز الأحمر” كان ثمنه نصف جنيه، وكان لدينا كرماً ينتج الكثير من العنب، ولكن الذي حدث أن السوق تقلصت بسبب الحرب العربية-“الإسرائيلية”، فتقلص الدخل، وصارت المنتجات لا تباع إلا في نابلس أو الخليل، وهي ليست أسواق واسعة الطاقة.  وكانت لنا كروم زيتون، لا أذكر عدد شجراتها، ولكن أقدر أنها كانت مئة على الأقل.  كما زرع والدي في أرضنا بالعروض عدداً كبيراً من أشجار الزيتون.

س: كيف كانت الحياة في بئرزيت في ذلك الوقت؟

ج: كانت بئرزيت وقتها أشبه بعائلة واحدة، لأنك حيثما ذهبت كنت ترى أرض أقارب لك.  وكنت حيثما ذهبت تجد من يرحب بك ويدعوك للشرب من مائه والأكل من ثمار أشجاره وللجلوس برفقته حتى ونحن صغار، وكانت علاقات الناس علاقات ودية، وكانت حياة الناس متداخلة لأنهم أقارب ولأنهم هاجروا معاً بالأساس من أماكن متعددة وسكنوا معاً، وانتقلوا من بيوت الشعر إلى بيوت الحجر، فهي بيئة فلاحية كانت بالأصل بدوية، وكان كل واحد لديه “رعوة غنم”، يعني بيت جدي يعقوب من أمي كانوا يسمون “دار أبو اللبن” نسبةً لما كان لديهم من شياه ونعاج وبقر، فكانوا يعيشون من عمل مزدوج، رعاية الماشية، واستخراج الثمر من الأرض.

كانت حياتنا المنزلية هادئة وكان والدي يذهب في كل يوم للعمل في كروم العنب أو الزيتون الخاصة بنا، أو للعمل عند الناس في تقليم الأشجار أو زراعتها أو بناء السناسل، أي الجدران الاستنادية، وكان خبيراً في ذلك، وكان يضطر للعمل في أراضي الآخرين بسبب فقره.  وعندما يعود مساءً كان يأخذ كتاباً ويقرأ.  أما الوالدة فكانت تعمل أكثر، لأنها كانت تساعده في الكرم، وعندما تعود كان لديها الغسيل والعجين والذهاب لعيون الماء لملء الجرار والإتيان بها للمنزل، وكانت تأخذ معها أخواتي وهنّ صغيرات، وأحياناً كانت تطلب مني أن أذهب فجراً للعين لأملأ الجرار قبل أن تأتي إليها  النساء، لأن العين كانت ضعيفة وقتها.  وكانت والدتي إنسانة متزنة رصينة عفيفة النفس لكن حازمة لا تعيد الكلمة مرتين.  وكانت تعمل كثيراً ولا تتكلم كثيراً.  وكانت تُعنى بالاهتمام بأولادها، وبالنظافة والتطريز، لكنها لم تهتم بالقراءة والكتابة، ولم تحب فكرة انخراطنا بالشعر والثقافة كثيراً، إنما كان لديها حس وطني قوي.   وكانت إنسانة صلبة، وأذكر مرة حينما أصبحت مطلوباً للاعتقال أول شبابي، أن زوجة قائد مخفر قوات البادية جاءت إليها لتحذرها: أرأيت كيف أصبح ابنك مطلوباً؟  فأجابتها: هو لم يسرق دجاجة، ولم يعتدي على أحد، بل بات مطلوباً من أجل قضية وطنية!  ولذلك لا يهم إن اعتُقل.  ورفضت أن أهرب من المنزل، مع أن اختبائي في الكروم أو أحد المنازل كان سهلاً جداً في ذلك الوقت.  وبعد اعتقالي من المنزل، مشت من بئرزيت إلى رام الله لتأتي لي بالطعام للسجن، فأكلتْ وأطعمتُ المساجين.

س: إذا كان لديكم هذا المقدار من الأراضي، لمَ كانت حياتكم فقيرة؟

ج: لأن معظم أرضنا كانت قد أخذت منا ووالدي صغير، ولأن والدي كان يبيع من أرضنا عندما يمرض أولاده ليعالجنا، وبسبب البيع.  فقد قالت لي والدتي مرة أن علينا أن نجمع الدراق والخوخ والسانتا روزا وغيره من بساتننا قرب المنزل لنرسلها إلى حسبة نابلس، فجمعنا أربعة صناديق، فيها عشرات الكيلوغرامات من الفاكهة، وفي اليوم التالي حصلنا على 45 قرشاً، وقيل لنا أننا كنا محظوظين لأن غيرنا دفع كلفة الشحن بالسيارة!  يعني كانت الأسواق ميتة.  وهذا ما كان يضيق على الفلاح.

س: هل كانت تحدث في بئرزيت وقتها مشاكل عشائرية؟

ج: لم تحدث مشاكل عشائرية في بئرزيت إلا مرة واحدة عام 1860، نتيجة مقتل وجيه عن طريق الخطأ من حمولتنا حاول أن يصلح بين أخوين اقتتلا من عشيرة مختلفة تماماً، كانت علاقته بكليهما وطيدة، مما استجر مشاكل كبيرة.  لكن لم يحدث غيرها بحسب علمي، وكانت الحياة بين الناس حياة مودة واحترام بين العشائر والحمائل المختلفة.  أما المشاكل فكثيراً ما كانت تقع بين الأفراد، حتى ضمن العائلة الواحدة، بين الرجل وابن عمه مثلاً، نتيجة المشاحنات والتحاسد وما شابه، حتى أنني لا أعرف كيف بنى والدي كل هذه الكروم وهو صغير السن، دون أن يكون لديه أب أو أخ أو عم أو خال.  فقد كان وحيداً.  فقد ذهب خاله إلى “سفر برلك” مع والده، وفي الطريق قرر أن يهرب إلى حوران، حيث لنا جذور عائلية، وعاش في حوران سنوات، ثم مات ودُفن هناك، وعاد ابنه يوسف وحده سيراً على الأقدام من حوران إلى نابلس، ومن هناك إلى بئرزيت.

س:  لماذا عدد أفراد عائلة علوش في بئرزيت قليلٌ إلى هذا الحد؟

ج: لأن معظم رجالها ماتوا في الحرب العالمية الأولى، في “سفر برلك” أو من الجوع، مثلاً جدي سالم أبو والدي أخذ في “سفر برلك” ولم يعد، وكان عددها قبل ذلك يحسب له حساب، والدليل أن قطع أرضها التي أعطيت لها في القسمة العشائرية كانت كبيرة، ومعظمه تم الاستيلاء عليه فيما بعد من قبل أغنياء الحمائل القريبة لحمولتنا بذريعة أنّ من رحلوا كانوا يدينون لهم بالمال.  ولو رأيت تلك الأراضي التي أعرفها لأن أبي دلني عليها، مثل تلك التي أخذوها دار سعادة أو دار الكيلة، لوجدتها أكثر مما لدينا بمئة مرة.  وهذا يدل أن عددهم كان كبيراً، لأن حصص الأرض في البلد كانت توزع بحسب عدد الرجال، ولم تكن تُعطى جزافاً.  وكان “سفر برلك” والجوع والمرض هو ما قضى على عائلة علوش في بئرزيت، ولم يعش منهم بعد الحرب العالمية الأولى إلا ثلاثة أحدهم والدي، وعمه الذي كان قد هاجر إلى أمريكا، وخاله الذي ذهب إلى حوران.  فقط هؤلاء ظلوا أحياء بعد الحرب العالمية الأولى.

س: هل تحدثنا عن دخولك للمدرسة وكيف عشت طفولتك؟

ج: دخلت المدرسة متأخراً، في التاسعة من عمري، وكنت متفوقاً في الصفوف الابتدائية الستة الأولى، قبل بدء انشغالي بالشأن الثقافي والسياسي، وقد لعبت دوراً في مسرحية “نكبة البرامكة” في المدرسة، وقد كنت مع هارون الرشيد ضد البرامكة طبعاً، لأنهم كان لديهم برنامجاً تخريبياً كبيراً ضد العرب، لكني لعبت في المسرحية دور يحيي البرمكي، وكنت ألبس ثياباً عربية، وتلقيت الكثير من الثناء على أدائي في تلك المسرحية.  وفي مرة أخرى طلب مني مدير المدرسة أن أقوم بتوزيع مساعدات غذائية كانت قد وصلت للفقراء في البلد، ولا أعرف لماذا اختارني للقيام بذلك الدور، ولكنني قمتُ بما طلبَ مني بإعطاء كل عائلة حصة تساوي “كيلة” واحدة، استخدمتها كمغرفة، لكل فرد فيها، فوفرت بتلك الطريقة عبء تقسيمها إلى أكياس بحسب الميزان، مما كان سيستغرق ساعاتٍ طوال من العمل، فأثارت طريقتي العملية في حل مشكلة توزيع المساعدات إعجاب إدارة المدرسة.

أما الطفولة فكانت مرتبطة بالأرض، وأكثر ما أذكره وقتها أننا كنا “ننطر” (أي نحرس) كروم العنب وننام فيها لكي لا تُسرق.   وكنا نرحب بمن يأتي ليأكل، أما المشكلة فكانت مع من يملأ السلال والصناديق ليبيعها…  وقد ظللت أحرس الكروم حتى تركت بئرزيت عام 1955.  وكان لدينا كرمان للعنب، كرم اسمه العروض، وفيها مِنطار مريح نسميه “القصر”، وكرم آخر هو شِعب اسماعيل، وهو شريط طويل من الأرض في نهايته شريط آخر عريض من الأرض، وكانت فيه عريشة صغيرة بناها والدي فوق سنسلة فيها وكر تتسع لشخص واحد.  وكنا ننام بالكروم.  وكانت لا تزال تمر ضباع أحياناً في المنطقة.  وقد انتبه جارنا في الكرم، عبد الرحمن، لأحدها عندما مرّ بقربي وأنا غافلٌ عنه، لكن الضبع لم يتعرض لي ولم أره أصلاً، أنما فوجئت بعبد الرحمن وابن عمي يأتيان مسرعين لينبهاني للأمر.  وكان أبي يعطيني بندقية عندما ننام بالكروم.   وقد قررت وقتها أن لا أتعرض لمن يأخذ قطفاً من العنب، أما من يحمل صناديق يريد ملئها لبيعها، فذلك شيء آخر… وكان لدينا كلب أبيض صغير اسمه “رِكس” لكنه كان جباناً جداً لا يفيد كثيراً في أعمال الحراسة.

أثرت بي الحياة الأولى في الكروم كثيراً، ولا زلت حتى الآن أحب الأرض والشجر، كما أحبها والدي، وأحب أن أزرع وأن أشهد المزروعات تخضرّ وأن أشهد الثمر يتدلى عناقيد، وكنا أنا وأخي جميل نأخذ المعاجم والكتب ونقرأ في الكرم لأن فيها هدوءاً شاملاً.  وفي الليل كنا نسهر فيها.  وكنا نمشي في الكرم لكي لا يغافلنا أحد فيصلْ، ولا نراه ونحن جالسون في “القصر” أو “العريشة”…  لكن حياة الكروم جميلة.  أن تجلس في النهار وتسمع أزيز الزيزان، وهسيس أوراق الدوالي ورفيفها، فتشعر أنها تكلم بعضها بعضاً، وحولك الهواء والنسيم العليل، والسماء الزرقاء في النهار، والنجوم المتألقة في الليل، كان يضعك في جوٍ رائع.

لم أكن أقضي نهار كل يوم في الكرم، فقد كنت “أسرح” في الصباح الباكر أحياناً على عيون الماء والكروم للبحث عن العصافير والطيور.  ومرةً كان أبي وأمي يجدّان الزيتون في كرمنا بالمشيدية، ونقصَ عليهما الماء، فطلبا مني أن أملأ الإبريق من عين الدلوب، وكان ذلك قبل الظهر بقليل، فظللت أتلكأ حتى يصبح الوقت ظهراً لتأتي العصافير والطيور لتشرب من العين، وعدت ومعي إبريق الماء و15 عصفوراً كنت قد اصطدتها بالنقيفة (المقلاع).  وقد كنت آخذ العصافير عند اصطيادها للمنزل فتنتفها أمي وتشويها لنأكلها، مع أنها كانت نباتية لا تحب أي نوع من اللحوم.  وقد كنت ماهراً في صناعة تلك النقيفات وفي استخدامها.  فقد كنت أذهب للكروم وأقطع المشاعب من شجر الزيتون التي تصلح للاستخدام كنقيفة، وأجردها، وأصنع مغيطات من إطارات السيارات الداخلية بعد قصها إلى شرائط طويلة، وأربطها على المشعب، وأضع فيها ثقبين لربط الحجر فيها عندما نشدها، وأحولها إلى سلاح صغير لاصطياد الطيور، أو للحماية الشخصية عند الضرورة.  وكنت رامياً جيداً للحجارة بدون نقيفة، أصيب الهدف بدقة.  وكذلك كنت أصنع المقاليع، وكنت أتسلى أحياناً في سكون الليل بوضع الحجارة الرفيعة (الشحف) بالعرض في المقليعة واطلقها في الهواء، فتصدر أصواتاً شيطانية في طيرانها كالتهمير والتزمير تُبعد السرّاق المتسربلين بالخرافات عن كروم العنب في الظلام.  وقد بقيتْ تلك الأصوات العجيبة سريَ الخاص الذي حيّر النواطير من حولي.

تكونت لدي فيما بعد هواية صناعة بنادق الدك، وكانت ممتعة بالنسبة لي أكثر من صناعة النقيفات.  فقد كنا نبحث عن ماسورة ونقصّها بمنشار الحديد، ونصنع لها خلفية من الرصاص بعد أن نذيبه على النار، ونملأ الماسورة بالتراب لكي نسكب الرصاص في مؤخرتها ليكون ذلك حاجزاً لحفظ الكحل فيها عندما نضع فيها البارود، ونحولها بذلك إلى بندقية دك، وهي عملية خطرة، لأن الرصاص إذا سقطت فيه نقطة ماء كان يشب فائراً، وكدنا مرة أن نصاب بالعمى خلال إحدى عمليات التصنيع تلك، أنا وأخي جميل وابن خالنا يعقوب ولا أذكر من أيضاً، عندما ذوبنا رصاصاً وصببناه وكان التراب ندياً، ففار على مقربة من وجوهنا، وأنقذنا الله.  وكان سلاحاً فعالاً جداً، وكنا نُحدث ثقباً في الماسورة لتصلَ شرارة الكبسونة التي نصنعها من الفلين عبرها إذا وقع عليها الزناد، وكنا ننظف الماسورة من التراب، ونضع البارود، وقطعة قماش لكي لا يقع البارود، وفوقها قطعة رصاص عليها قطعة من الجلد، وكنا نستخدم المدك، فإذا لم نحسن وضع الرصاص جيداً من دون فراغات كان يمكن أن يرتد الانفجار على حامل البندقية.  وقد حدث هذا مع غيري من قبل.

لم أكن صاحب إشكالات في المدرسة، ولم تحدث معي مشكلة فيها إلا مرة واحدة مع أستاذ شرس كان يدرسنا العلوم، وكانت المشكلة بينه وبين أربعة منا، وقد حُلّت سلمياً في النهاية.  أما خارج المدرسة فقد كنت أشتبك بالحجارة مع طلاب مدرسة المعارف الذين كانوا يهاجمون بستان الأشجار المثمرة بمحاذاة منزلنا على الشارع الرئيسي، وكانوا يصرون على رمي الأشجار بالحجارة ليسقط الخوخ والدراق ويأخذوه، مع أن والدي كان يدعوهم ليأكلوا مما قطفه، لكنهم كانوا يصرون على إلقاء الحجارة على الأشجار، ومرة أصيب أخي جميل في رأسه في إحدى تلك الاشتباكات معهم.

س: الآن نريد أن ندخل على الجو السياسي في بئرزيت، والمرحلة التي بدأت تفتح عيونك على العالم فيها…  كيف بدأ تفتح وعيك في مرحلة المراهقة على الشأن السياسي والثقافي؟

ج: أول تفتح وعيي كان بسبب والدي.  فقد كان، على الرغم من أنه دخل المدرسة ثلاثة أشهر فقط في حياته، يقرأ ويكتب ويُحضِر الكتب، لا أعرف من أين يحضرها، وكان قد صدر كتاب مهم لعبدالله التل، قائد المعركة التي دخلها الجيش الأردني في القدس، وكان ذلك الكتاب ممنوعاً، فأحضره بشكل سري ودعاني لقراءته، وكان بيتنا ملتقى، لأن “الجهاد المقدس” كان له مقر في بئرزيت، وهؤلاء جماعة الحاج أمين الحسيني عام 47-48، وكان جدّك إبراهيم قد شارك في ثورة الـ36 أيضاً، وشارك في عدد من الدوريات وقتها، وقد كان قوي القلب، وكانت لديه دوماً أسلحة وخبرات فيها، وكان يأتي الثوار إلى منزلنا أحياناً، وكانت الثورة قد فرضت على كل قرية عدداً من قطع السلاح، مثلاً ثماني أو عشر بنادق، تشتريها القرية ككل، كما فرضت على كل قرية تقديم عدد معين من المتطوعين، وكذلك إطعام عدد معين من المقاتلين، فكانت تذهب النساء بالبواطي المحملة بالطعام إلى الوديان من أجل إطعام الثوار.   وقد شهدت مرة في الطفولة، قرب بيت خالتي، عملية إعدام أحد الثوار المختبئين في البلد على سطح أحد الدور، بعد نهاية ثورة 36-39، من قِبل رجال غرباء يلبسون قنابيز جديدة، على غير عادة الفلاحين، ويحملون بنادق جديدة… وقد اعتبرتُ ذلك فيما بعد من مآسي ثورة الـ36.  المهم أذكر من أيام “الجهاد المقدس” في حرب الـ48 لقائي بمجاهدين جاءوا من اليمن ومن ليبيا في بئرزيت، وترك ذلك عندي انطباعاً تغلغلت أثاره عميقاً في وعيي السياسي، مثل صناعة البنادق وحراسة الأرض، ومثل ردة فعلي على سيطرة الأقوياء على أراضي الضعفاء وصراع والدي لاسترجاع الأراضي التي أخذها منه أقاربه، وكذلك مشاركته في الحواجز والدوريات في ثورة الـ36، وفي عام 47 صار يأخذني معه.   وقد رفض والدي تسليم أسلحته بعد انتهاء القتال، ولكنه عاد وباعها بعد اشتداد الحاجة الاقتصادية، خصوصاً بعدما عمل غلوب باشا في الأردن على تنظيف الضفة الغربية من السلاح.  لكنه عاد واشترى بندقية فيما بعد لا أعرفها نوعها.   وفي عام 47 كنت ألتقي بالمقاتلين الذاهبين والعائدين من الجبهات، والذين كان والدي يذهب معهم أحياناً، وكنت أتابع معهم أخبار المعارك في باب الواد والقدس ويافا واللد والرملة، واقرأ الجرائد التي كانت تصِلنا في ذلك الحين وهي “فلسطين” و”الدفاع” و”الجهاد”.

س: تقول أن والدك هو أساس اندماجك بالعمل السياسي ووعيك السياسي، ويبدو أن اهتمامه بالكتب كان أساس اهتمامك أنت بها…

ج: كان لدى والدي صندوقٌ من الكتب فيه الكتب التالية: القرآن الكريم، والكتاب المقدس، وديوان عنترة العبسي، وديوان نعمة الحاج المهجري، وكان يحفظ كتاب كليلة ودمنة ويفسر قصصه ويؤولها سياسياً، مثلاً قصة القبرة والفيل كان يقول أنها مثال على ما يجب أن يقوم به الضعاف إذا أرادوا الانتقام من الأقوياء… يجب أن يجمّعوا صفوفهم.  وقد وجهّني أبي بالاتجاه القومي أساساً: العرب والعروبة، والعرب العاربة والعرب المستعربة، والشعر والأدب العربي.  اتجاهه العام كان مع الفقراء، ولذلك التفّ حوله الفقراء الذين كانوا أميَل للشيوعية في بئرزيت، ومنهم عطالله الصايج، وشكلوا مجموعة اتخذت موقفاً أخلاقياً من المرابين وكبار الملّاك في البلد.  وكان إحساسه بمشكلة الفقر والاضطهاد عالٍ جداً وذا بعد اجتماعي، وكان تحالفه الاجتماعي طبقيٌ الطابع، يشمل مسلمين ومسيحيين وأشخاص من أكثر من حمولة، ولعبوا مرة دوراً ككتلة في انتخابات البلدية.  وأذكر أن والد أحد حلفاء الوالد، وكان رجلاً مسناً، قال لي عندما تمت مناقشة الزحف الإنكليزي: لا تخف يا سيدي، ما دام أبو يعقوب موجوداً.  فقلت له: من أبو يعقوب؟؟  فأجابي: جوزيف ستالين!  وكان ابن جيراننا شيوعياً، من الذين لجئوا  إلى بئرزيت، وكان يذهب مع أبيه كل يوم صباحاً لبيع الكاز في الشوارع، وكان عضواً في الحزب الشيوعي، وكان يحضر لي نشرات الحزب الشيوعي، ويقول أنه حزب الفقراء، وكنت أعجب بالحديث، لأنني أرى الفقر والجوع من حولنا، ومرة حاول أن يقنعني بقرار تقسيم فلسطين، قلت له عندما يتحد العرب وتأتي الجيوش من المغرب والجزائر والعراق ستزول “إسرائيل”، فقال لي: “كل هذا الكلام سخيف، وهذه أفكار أيتام هتلر”!  فقلت له: “ومن هؤلاء؟ أيتام هتلر؟؟”، فأجابني: “البعثيون”.  فذهبت للبحث عن البعثيين لأنني أعجبت بهم من كلامه، وأصبح هو بدوره بعثياً فيما بعد!   وكنت ذا ميول شيوعية بالأساس، وقد كتبت قصيدة مطلعها: “ليت الشيوعية الحمراء تدركنا”، لكن الحس القومي الذي زرعه الوالد هو الذي تغلب، دون أن يحل محل نزعتي الاشتراكية اليسارية.  ووجدت بعدها أحد أبناء أخوالي، واسمه سليم العازر، فتبناني وأخذ يثقفني ويبث الأفكار البعثية بي، وقد مات بعثياً عراقياً، رحمه الله.  وقد أثر بي كثيراً.  لكن علاقتي الأقوى كانت مع عوني فرسخ، وكان هو من نظّمني في حزب البعث، وكان يقترح علي الكتب، وأذكر منها على سبيل المفارقة كتاب المادية والمثالية، مع أنه ليس كتاباً بعثياً، وفهمت بعدها أن المقصود بالمادية والمثالية ليس الأخلاق، بل تفسير العالم فلسفياً، ورحت اعتمد على نفسي.   المهم قدمت طلب انتساب لحزب البعث في بئرزيت، لكن الجواب تأخر أشهراً بسبب أحد الأشخاص، وهو قريب لنا، لم يكن يريد أن يراني في الحزب، ولكن في النهاية أصبحت بعثياً بعدما تمت الموافقة على طلبي رسمياً في 9/9/1954، وكنت في ذلك الوقت أخوض العمل الطلابي وأشارك بالمظاهرات مع البعثيين.

كان عملنا الطلابي يسير باتجاهين، الأول هو القيام بنشاطات وندوات، والثاني هو القراءة، وقد قررنا أن نجمع اشتراكاً من كل طالب ونشتري بعض المجلات، فاشتركنا بمجلة “روز اليوسف” التي كانت توزع في رام الله، وكنا نقرأها بانتظام ونتناقش في موضوعاتها، وهنا أخذنا نتعرف على كتّاب سياسيين مثل أحمد بهاء الدين ومحمود أمين العالم، وكانت “روز اليوسف” في ذلك الحين مجلة وطنية وتقدمية ومنبراً مفتوحاً، وكان إحسان عبد القدوس ينشر فيها قصصاً يدور معظمها عن أحداث وطنية، وللأسف تحولت في العهد الناصري إلى مجلة رجعية كرد فعل على الإجراءات التي اتخذها عبد الناصر في مصر وسورية ضد البرجوازية، إذ أخذت موقف مصطفى أمين وهؤلاء، وموقف أصحاب “أخبار اليوم” و”المصور” و”آخر ساعة”، الذين أخذوا موقفاً معادياً لإجراءات عبد الناصر.  فكلف محمود أمين العالم، وهو ماركسي، برئاسة تحرير “أخبار اليوم” و”المصور” ونُقِل إليها صحفيون كبار مثل كامل الزهيري، فصارت “المصور” هي المجلة الأساسية التقدمية.  وأذكر أيضاً كاتباً إسلامياً متنوراً في تلك الفترة اسمه خالد محمد خالد كانت له كتبٌ مهمة مثل “من هنا نبدأ” و”رجال حول الرسول” و”الديموقراطية أبداً”.

كان نشاطنا الطلابي الأساسي هو القيام بمظاهرات ضد سياسة الأحلاف الاستعمارية في المنطقة، وضد توطين اللاجئين، ومن أجل الحريات الديموقراطية، وكانت مظاهراتنا جماهيرية، لدرجة أنني أذكر، عندما زُوِرَت الانتخابات عام 1954، أن الجماهير جاءت من القرى بالحافلات وسيارات الشحن، وكان هذا في معظم الأحيان يقود إلى اشتباكاتٍ شديدة، ومعارك شوارع، وإلى سقوط شهداء وجرحى.  وكانت تلك المظاهرات يقودها تحالف شعبي واسع يقوده أساساً حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي والقوى التقدمية، فكان الاتجاه العام للناس ضد القوى الإمبريالية.

لم يكن طموحي في الحياة أن أكون مفكراً أو سياسياً، بل أن أكون شاعراً أو أديباً، وتستطيع أن ترى مثلاً من أرشيف جريدة “فلسطين” القصائد التي أرسلتها لتلك الجريدة.  وقد قطعت مع هذا الاتجاه لاحقاً بدافع الواجب، وتحولت من القصائد للمقالات السياسية.  اهتمامي بالأدب والشعر بدأ منذ فتحت عيوني على الدنيا لأن والدي كان يسمعنا الشعر كل يوم، ويلقي علينا من شعر عنترة، كما أنه كان قد حفظ مختارات من الشعر الكلاسيكي، كان يلقي علينا الجميلَ منها، والعجيب أنه كان قد حفظ من شعر أبو العلاء المعري، ولا زلت أذكر:

عجبت لكسرى وأشياعه … وغسل الوجوه ببول البقر

وقول النصارى إلهٌ يضام … ويصلب حياً ولا ينتصر

وقوم أتوا من أقاصي البلاد … لرمي الجمار ولثم الحجر

فوا عجباً من ضلالاتهم … أيعمى عن الحق كل البشر؟!

وكذلك قول المعري “اثنان أهل الأرض…” إلخ… مما فتح في ذهني الكثير من الاسئلة، رغم ذلك كان والدي  يقرأ القرآن دائماً، وكان يقول لي: إذا كنت تحب اللغة العربية، وتريد أن تكون عربياً، يجب أن تقرأ القرآن.  الجوّ الاجتماعي المحافظ في بئرزيت كان محافظاً آنذاك، ومن ذلك كراهية الخمر ومن يشربه، لكن ذلك لم يكن بسبب أي دوافع دينية، بل بسبب منظومة قيم اجتماعية محافظة، سواء عند المسلمين أو المسيحيين، وقد ربينا على هذا… ولم يكن المسيحيون يأكلون لحم الخنزير أيضاً، وعندما جاء الإنكليز وحاولوا أن يقنعوهم بتربية “الخنانيص” (الخنازير الصغيرة) لقاء عوائد مجزية، وكان الناس فقراء ومحتاجين، جاء الشاعر الشعبي وعرّض أو شهّر بالاسم بمن قبِلوا بذلك، فتقلّصت تلك الظاهرة كثيراً.

لقد كان لوالدي التأثير الأول علي شعرياً وسياسياً، وقد كان يردد:

إذا مرّ بي يوم ولم اصطنع يداً… ولم أستفِد علماً فما ذاك من عمري

وقد حاولت أن أعمل بذلك المبدأ في حياتي.   وقد بدأت أتذوق الشعر من سماعي لوالدي يومياً يردد الأشعار،  أما بعد دخولي المدرسة، فقد تتلمذت في الشعر على يد الأستاذ جميل الفاخوري بعد أن أصبحت مهيأ، وكنت قد بدأت أكتب القصائد.  وكنت قد قرأت خليل مطران وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإبراهيم ناجي والمجددين من آل المعلوف، مثل رياض وفوزي المعلوف.

سياسياً، حاول أنيس الربيع، أحد أبناء جيراننا، وكان قومياً سورياً، أن يقنعني بالفكر القومي السوري، ودعاني إلى منزله وأعطاني أدبياتهم وقرأ لي بعضاً من شعر أدونيس، وفيها شيء عن البعث، وأوضح لي أن هذا غير حزب البعث العربي، لكنني لم أقتنع لأن والدي كان قد عبّأني باتجاه قومي عربي.  لكنّ الشيوعية أثّرت بي، فصرتُ أقرأ كتباً شيوعية، وأبحث عن الصحف الشيوعية وأفهم الطبقات… ومن هناك بدأ وعيي السياسي يتطور باتجاهين، اتجاه قومي عربي واتجاه ماركسي في الآن عينه، فصرت أقرأ الكتب الماركسية، وقد قرأت ماركس وإنجلز ولينين قراءة متعمقة، بدأت في سنوات المراهقة، وأكملتها فيما بعد.  ولكنني لم أقرأ رأس المال.

كانت وظيفتي أنا وأخي جميل أن نبحثَ عمن يهتم بالكتب في البلد وأن نسألهم عما لديهم من كتب وأن نستعيرها.  فبدأنا أولاً بقراءة المعاجم العربية وكتب اللغة، ثم انتقلنا إلى أي كتب أخرى.. وكان في بئرزيت شاعر اسمه فتح الله السلوداي، كان مدرساً في مدرسة المعارف، وكان رجلاً لغوياً مهماً، وكان يلبس جبّة وعمامة، وكنت أتمنى عندما أكبر أن ألبس مثلهما.  وكانت الصحف ترسل إليه قصائد القراء ليحكم ما يجب أن يُنشر منها وما لا يُنشر، وصرتُ أرسل إليه قصائدي، فينشر الأبيات الأولى منها، ثم أعيد إرسال المزيد، فينشر شذرات منها، مما كان يفرحني، لكن كان لدينا في محيط العائلة عامةً مقاومة للاتجاه الشعري، وكان يوجد في ذلك المحيط وجيه في البلد اسمه أبو محفوظ كانت لديه عقدة اسمها العرب، وأعتقد أنه كان مرتبطاً بالبريطانيين، وكان يقرأ الصحيفة من ألفها إلى يائها، فلاحظ اسمي على إحدى القصائد، فسأل عني، وتمّ إحضاري وقال لي: “يا جدي، عرِّب عُراب ما بتطعم خبز”.   وقد جرت مثلاً للأسف، وحفظتها والدتي، وصارت تقولها لي.  وبينما كان والدي يشجعني، كانت والدتي تعتقد أن الشاعر يموت جائعاً، ومن يومها قررتُ أن أعيش جائعاً وأن أموت جائعاً.

س: إذن مع مرور السنوات، تراكم لديك مخزون ثقافي وفكري، وتراكمت خبرة سياسية، فهل كانت علاقتك بحزب البعث في بئرزيت علاقة تأييد لفكره فحسب، أم أنك انخرطت في صفوفه تنظيمياً؟

ج: انخرطت في صفوف الحزب طبعاً.  وأول مهمة كُلفت بها كانت أن خلية الحزب في بئرزيت أرادت أن ترسل للفرقة المسؤولة عنها فلوس (اشتراكات) وتقرير.  فكلِفنا أنا وعضوٌ آخر في الحزب بالذهاب إلى رام الله لإيصال الأمانة، فاستأجرنا دراجتين هوائيتين وذهبنا في عتم الليل على الطريق العمياء غير المضاءة بالكهرباء عبر الوديان والجبال، وعدنا بعد أن نفّذنا المهمة، فسُرّوا منا.   وكنت شاباً صغيراً وقتها.

شاركت في عدد من الفعاليات الاحتجاجية في بئرزيت ورام الله في تلك الفترة، أذكر منها مظاهرة في رام الله عام 1952 عندما أتى مبعوث أمريكي للأردن اسمه جونستون يريد أن ينفذ مشاريع مياه مشتركة مع العدو الصهيوني، فطلعنا بمظاهرات في رام الله، لا أذكر إذا كانت عفوية أم بناءً على قرار حزبي، وذهبنا إلى المدارس وأغلقناها ليخرج طلابها في المظاهرة، فوجدنا الكلية الوطنية قد سبقتنا، وذهبنا إلى كلية الفرندز فوجدتُ أحدهم على وشك أن يلقي بطوبة على المظاهرة، فقلت له: إذا ألقيتها سوف تُحرق المدرسة، فألقاها فهجمنا عليها، فهجم الجيش علينا بسرايا من الخيالة، ولم أكن أعلم أن الفرَس تتدغدغ لهذه الدرجة، فكانت عندما يصيبها حجر من المتظاهرين الصغار من أولاد الفلاحين الذين لاحقوها تقفز وتوقع فارسها أرضاً وتهرب.  ثم جاءتنا سيارات عسكرية لها لوحات زجاجية في مقدمتها، فكسّر المتظاهرون لوحاتها بالحجارة، أما ناقلات الجنود فكانت الحجارة تنصبّ على مراياها التي تستخدمها للرؤيا، ولم تعد تستطيع حتى أن تنسحب.

في ذلك اليوم كنا نسير في الشارع فجاء أحدهم وقال لنا: إلى أين تذهبون؟  إذ يوجد مكتب استعلامات أمريكية هنا… وأشار بيده لمكان يحرسه جنود.. فهاجمناه، وكنت أنا وعبد العزيز أبو غوش نراشق المكان بالحجارة، وبدأ الجنود يطلقون النار علينا، وقتلوا أول زميل لنا، واسمه نيقولا وهو من بلدة جفنا، وحاولت إيجاد منفذ في اتجاه آخر، ومن ثم وقفتُ على “سنسلة” (حائط استنادي من الحجارة المرصوصة) لأتابع ما يجري، وكان يطلّ على الشارع، وخلفي مهوار (هاوية) يبلغ حوالي 25 متراً، وكنت أقف على حافة السنسلة فوق حجر عندما أطلق جندي طلقة أصابت الحجر الذي كنت أقف عليه، فتكسّر تحت قدمي، فانقلبتُ رأساً على عقب حتى ارتطمت بالأرض من جهة الشارع، واعتقد الجميع أنني قُتلت أيضاً، وهرعوا باتجاهي وهم يصيحون: مات! مات!  ولكنني نهضت ولم يكن قد أصابني سوى بعض الرضوض، وتقديري أن الجندي الذي أطلق النار لم يكن يريد قتلي.  وكانت الصعوبة في العودة من رام الله لبئرزيت والمخابرات والجيش يملأون الشوارع.  ولكنني عدت.  واعتُقلنا أنا وعبد العزيز من بيوتنا فيما بعد.

اعتُقلت مرةً لأنني نظّمت تظاهرة في بئرزيت عام 1954 على ما أعتقد، وكانت التظاهرات تعمّ البلاد، أابلغَ المخفر القيادة، فصدر قرارٌ باعتقالنا، واعتُقلت أنا وعدد من المنظّمين وأخذونا للسجن في رام الله، ووضعونا في غرفة كان فيها الشيوعيون من رام الله مثل طلعت حرب وحرب حرب وغسان حرب وغيرهم، وقد كانوا قدوةً في السلوك، وقد أعجِبتُ بسلوكهم جداً مع أن وعيهم السياسي لم يُبهرني.  وبقينا في السجن أسبوعاً، وكان ابن رئيس بلدية رام الله معتقلاً معنا، اسمه الأول عصام ولا أذكر اسمه الأخير، وكان هناك شخص مسؤول عن منطقة القدس ورام الله كلها اسمه حسن الكاشف على ما أعتقد، فذهب إليه رئيس بلدية رام الله وقال له: هؤلاء الأولاد المحبوسون أولاد مدارس، فكيف تتركونهم في السجن؟!   فسلمه قراراً بالإفراج عنا.  فجاء بالقرار للسجن وأفرجوا عنا.  ولم نبقَ طويلاً، أسبوعاً واحداً فحسب، ولكن بعضنا تعرّض لضرب مبرح خلال تلك الفترة، ولم أكن أنا من هؤلاء، ولكن كان هناك شاب أصغر مني وقتها صار الجنود يرقصون على بطنه، وصرنا نحن من داخل الغرفة المغلقة نصيح بهم ونشتمهم لكي يتركوه لكنهم لم يلتفتوا لنا.

س: وبعد بئرزيت؟

ج: قبل أن أذهب للكويت عام 56، تم تعييني أستاذ مدرسة في الفحيص، فحملت ورقة انتقال من رام الله إلى عمان، ومن هناك ذهبت للفحيص، وكان يوجد بالفحيص وقتها أستاذٌ اسمه شلاش الريماوي، وكان البعثي الوحيد هناك، والبقية شيوعيين، وكنتُ قد حملت رسالة من فرع البعث في رام الله إلى فرع البعث في عمان، من خلال أحد المحامين المعروفين وهو سليمان الحديدي من زملاء عبدالله الريماوي، لكن يبدو أن فرع الحزب في عمان كان مختَرقاً للمخابرات، فاكتشفت المخابرات فوراً أنني بعثي، فأبلغوا مدير التعليم وحذروه مني.  وكانوا في الفحيص قد طلبوا من الكلية الأهلية التي تخرجتُ منها أن يرشّحوا لهم أستاذاً للغة العربية وأستاذ رياضيات فاقترحوني عليهم للغة العربية، واقترحوا زميل لي من قرية الطيبة اسمه نبيل للرياضيات، فقبلونا.  وكان راتبي 12 ديناراً في الشهر، وكان المدير قد استأجر لي غرفة جميلة ومريحة بدينار واحد في الشهر في بيت أبو الحارث السميرات، وكان جيراني لطفاء ووديين.  كنت آكل من ذلك الراتب (وكان الغداء المفضل عندي علبة سردين مع بصل)،  وأرسل الباقي لوالدي.  وكان ما يتبقّى مبلغاً ينعش العائلة.   وكان إنفاقي الإضافي الوحيد هو تكلفة المواصلات إلى عمان للمشاركة بالمظاهرات.  المهم لم تكن هناك صِلة رسمية بالحزب في الفحيص، بل مع بعثي واحد هو الأستاذ شلاش فقط، ولم تكن توجد اجتماعات أو تثقيف أو مهمات حزبية خلال تلك الفترة.  وكنتُ على اتصال دائم بالشيوعيين لأنّ عدداً منهم كان يدرِّس في مدارسها، حيث لم يكن يُسمح لهم أن يدرِّسوا خارجها بسهولة.  وقد علمت بعدها مباشرة من المدير العام عن تحذير المخابرات له بشأني.  لكنني كنت قد لاحظت أمراً مريباً قبل ذلك وهو استنفار مدير المدرسة المطوّل أمام باب القاعة التي أدرِس فيها ليصغي لما سأقوله على ما أعتقد، ولم أكن أتحدث مع الطلاب في الشأن السياسي بجميع الأحوال، فقد كنت أعلِّم العربية وأشدد عليها أكثر لأنني مهتمٌ بأن يعرفوا العربية أكثر من اهتمامي بأن يصبحوا بعثيين!  وقد اكتشفوا في المدرسة أنني أنظم الشعر، وذلك أنني كنت أكتب على مسودة كربون، وبعد الانتهاء منها كنت أرميها في القمامة، فسألني أحد الطلاب يوماً: أستاذ، هل أنت شاعر؟  فقلت له: لماذا تسأل؟  فأجابني: لأنني كنت أبحث عما تلقيه في سلة المهملات بناءً على تعليمات المدير فوجدتُ قصيدة!!

مرّت الأمور على خير في التعليم، وبقيتُ في الفحيص من أيلول إلى نيسان من العام الدراسي 55/56، درَّست خلالها اللغة العربية وعلم الأحياء والرياضة البدنية من مرحلة الصف السابع حتى الثاني ثانوي، ولم أكن قد بلغت الواحد والعشرين من عمري بعد، وكانت بلادنا تموج بالحراك الجماهيري الذي يقوده القوميون والناصريون والبعثيون والشيوعيون، وعندما بدأت التظاهرات الجماهيرية الكبرى ضد حلف بغداد ومشروع تمبلر وزيارة المبعوث الأمريكي للأردن، تركتُ الفحيص وذهبت إلى عمان وشاركت فيها.  وقد قتل بعض المتظاهرين في تلك الاحتجاجات كما هو معروف.   وقد حاولنا بالتعاون مع الشيوعيين أن ننشئ نقابة للمعلمين وقتها في المدارس الأهلية، لكننا لم ننجح، واحتفظتُ بعلاقات جيدة مع بعض الاصدقاء الشيوعيين من الفحيص لفترة طويلة بعدها.

كان أجمل ما في مرحلة الفحيص هو تعامل الناس، طيبتهم وكرمهم وحبهم للضيافة، حتى أنني في طريقي للمدرسة صباحاً كنت أجد مثلاً امرأة عجوز ثمانينية جالسةً على باب منزلها، فأقول لها: صباح الخير!  فتقول لي: صباح الخير يا معلم، تفضل اتقهون (أي اشرب القهوة)… وكان أهل الفحيص يدعوني على أي عرس يتم في البلد، وكثيراً ما كان أصحاب العرس يقدمون لي العرق، وأنا لا أشرب الكحول، فيعتبون عليّ.  وكنتُ قد تعلمت من والدي منذ نعومة الأظفار حب الشعر والتماهي مع الكادحين والحس القومي العربي والامتناع عن شرب الكحول، وبقيتُ على هذا طوال حياتي.  وخلال تلك الفترة لاحظت درجة انشغال الشباب بعد انتهاء العمل بورق الشدة وألعابها، ومنه المقامرة بالقروش، فكرهت ذلك ولم انخرط فيه ابداً.  وكنت سعيداً بالفحيص، خصوصاً أنها كانت المرحلة التي اكتشفت فيها الكتب الفلسفية الغربية والعربية في مكتبة المدرسة التي أدرِّس فيها، فرحت استعيرها، وكان معظمها من أعمال الفلسفة الغربية، وكانت فاتحة مرحلة جديدة في قراءاتي.  وخلال وجودي بالفحيص، كان عوني فرسخ وإخوته قد عملوا لي تأشيرة للكويت حيث هم، ودعوني للقدوم وقالوا لي أنهم سينتظرونني في المطار.  فاقتنعت واقتنع والدي أكثر.

س: هل نشرت أي شيء غير القصائد التي كنت ترسلها للصحف؟  هل كنت تكتب المقالات؟  وماذا كان نشاطك الفكري أو الثقافي وقتها؟؟

ج: كتبت مرةً مقالة وطنية قومية، نسيت عنوانها الآن، وأرسلتها لمجلة في بيت لحم اسمها “المهد”، عن طريق صديق عزيز اسمه إبراهيم خوري، فوصلت وتمّ نشرها على حلقتين، وكان ذلك في أواسط الخمسينيات، وبدأت بذلك رحلة الكتابة السياسية.  وكنت أكتب المقالات والقصائد، وقد نشرت مقالة عن الأدب الأردني الحديث في مجلة “الآداب”، كما نشرت قصيدة عن الجزائر في “الآداب”، وكان رئيس تحريرها سهيل إدريس وقتها، وكان ينشر كل ما أرسله له، والقصيدة التي وضعتها عن الجزائر موجودة في مجموعتي الشعرية الكاملة… وقد كتبت كتابين في تلك الفترة، أحدهما في الصرف والنحو، والآخر في البلاغة والبيان، ولا أعرف أين ذهبا الآن لأن الأهل أخفوهما في الكرم خوفاً من حملات التفتيش التي كانت تصادر كل شيء مكتوب أو مطبوع، ولم يظهرا بعد ذلك.  ولم أنشر كثيراً في تلك الفترة، مع أنني كنت أكتب شعراً كل يوم، خصوصاً في حصة الهندسة أو الفيزياء أو الكيمياء، وبعد الصفوف الابتدائية، انشغلت عن الدراسة بالقراءة الحرة، مما أثّر على علاماتي.  وكان أخي جميل مهتماً بالمعاجم واللغة أيضاً، وأقل اهتماماً بالسياسة، وأكثر جديةً بالدراسة مني.

س: هذا يعني أن البريد في ذلك الوقت كان موثوقاً…

ج: جداً.  وكنت أرسل الرسائل والشيكات من الكويت للوالد وكانت تصل بانتظام، ولكن رسائلي لسميرة في القدس في بداية الستينيات كانت تُفتح وتُراقب، وكان يختم عليها: فتح بمعرفة الرقيب فلان الفلاني..

س: ماذا كان موقفك من جمال عبد الناصر في ذلك الوقت؟

ج: كنت معجباً به كثيراً، ولكنني كنتُ أخشاه في الآن عينه بسبب خلفيته كعسكري.  ولم يكن موقف البعثيين منه سلبياً في البداية، ثم أصبح سلبياً، فاختلفت معهم عليه، ولذلك حسبوني على عبدالله الريماوي.  لأن عبدالله كان ناصرياً، ولم أكن قد اتفقت مع عبدالله على أن نكون ناصريين، وكان شريكي خالد خلف في جريدة الشعب التي كنت أشرف عليها في الكويت ناصرياً.  المهم كنت معجباً بعبد الناصر وإجراءاته ومواقفه، وكان أهل بئرزيت معجبين به عامةً، لدرجة أن مسيحييهم أقاموا قدّاساً في الكنيسة على روحه عندما مات.  ومع أنني لم أكون موجوداً في بئرزيت عام 1970، رأيت صوراً للحاضرين في ذلك القداس في كتاب وضعه أخي موسى.  ولا بد أن أذكر أنني كتبت قصيدة ضدّ عبد الناصر عندما وافق على الاتفاق مع بريطانيا عام 1954، حيث وقفت الأحزاب والقوى السياسية من البعثيين للشيوعيين للإخوان المسلمين ضد ذلك.  لكنني عدتُ وتخلصت منها، ولذلك لا تجدها في أي ديوان من دواويني الشعرية.  لكن كان لي موقفاً مبدئيا من التعاون مع الاستعمار.

الكويت:

كانت القصائد التي أكتبها عامودية، وفي الكويت بدأت أتعمّق في الشعر غير العامودي.  صادقتُ بدر شاكر السياب من خلال ما كان ينشره في مجلة “الآداب” في البداية، قبل أن التقيه شخصياً، وإذا عدت لأعداد تلك المجلة ستجد رسائل منه لي ومني له.   وكان تأثير مجلة “الآداب” هو ما دفعنا لاكتشاف الشعر غير العامودي والمدرسة العراقية، حتى قبل ذهابي للكويت.  وقد كانت بداية تحولي عن الشعر العامودي في قصيدة عن الحرب والسلام نشرتها في مجلة تقدمية اسمها “الحوادث” كانت تصدر في عمّان ويرأسها مسلم بسيسو على ما اعتقد.

س: منذ كنت صغيراً، أقل من عشر سنوات، أذكرك تردد قصيدة شعبية للشاعر خالد أبو خالد، باللهجة الفلاحية، حيث يلفظ حرف الكاف، شيناً ثقيلة:

يا راكباً خضرا تراكض بها الغزلان         سلم على بلادي ومن فيها

قلهم ابنكم في أرض الكويتش تعبان       ياكل حرها ويشرب لياليها

(يا راشباً خضرا تراشِد بها الغزلان      سلم على بلادي ومن فيها

قلهم إبنشِم في أرض الكويتش تعبان      ياشل حرها ويشرب لياليها)

ج: خالد، منذ ما قبل معرفتي به، تمتع دوماً بحس شعبي وكان يتقن الفولكلور، وكان ينظم قصائد بدوية كان يتسلى بها مع السواق البدو الذين كانوا يحملونه من الكويت للأحمدي حيث كان يعمل.  وكانت تلك إحدى قصائده التي تطرب السائقين على طريق الكويت-الأحمدي…

لقد ذهبت للكويت وأنا لا أعرف لماذا أنا ذاهب، ولا أعرف شيئاً عن الكويت.  وقد سافرت إليها من مطار قلندية.  وقبل سفري طلبت مني والدتي أن أذهب لتوديع خالي (نعوم بربار) حيث يعمل، فذهبت وصبّحت عليه، فسلّم علي وأعطاني خمسة دنانير، وكان ذلك مبلغاً كبيراً بالنسبة لنا في ذلك الوقت.  وكان خالي نعوم صاحب قوة بدنية هائلة، وكان فناناً في نحت الحرف العربي على الحجارة.

المهم أنّ من أولجني في موضوع الكويت كان أصدقائي أبناء الشيخ عبد المحسن فرسخ، عوني وهاشم وعز الدين.  فقد قرروا أن يأخذوني إلى الكويت، فأرسلوا لي فيزا إلى الفحيص، فأخبرت أهلي ووافقوا، فذهبت.  وكان ذلك عام 1956، فذهبت إلى بئرزيت وبتّ ليلة، ثم حجزت بطاقة سفر وغادرت.  وقد استقبلوني في المطار، فأخذوني وأسكنوني في منزلهم، وأنا لا أحمل إلا خمسة دنانير في جيبي من خالي نعوم.  ثم بدأت البحث عن عمل.  وقبل ذلك كان هناك مهرجان شعري ألقيت فيه قصيدة سياسية فأُخذت عني فكرة أنني مسيّس وأعاق ذلك فرصة حصولي على عمل، وبقيت أبحث ثلاثة أشهر عن عمل في وقت كانت فيه الوظائف متوفرة بكثرة.  وكان أخو عوني فرسخ يملك دكاناً في حارة بالكويت اسمها الشرق، فوجد لي عن طريقها عائلة لديها ولد يعاني مشاكل في الدراسة وصرت أعطيه دروساً خصوصية لكي لا أبقى عاطلاً عن العمل.  وفي هذه الفترة اكتشفت، بفضل أولاد فرسخ أيضاً، أن هناك نادياً اسمه النادي الثقافي القومي في الكويت، وكان يرأسه الدكتور أحمد الخطيب، وهو زميل الدكتور جورج حبش في الجامعة الأمريكية، وكانت فيه نشاطات سياسية وثقافية، فاشتركت فيه، ولكن بعد ثلاثة أشهر طردنا النادي من عضويته لأننا بعثيون (بحكم الصراع بين حركة القوميين العرب وحزب البعث في ذلك الوقت)، إذ أدى دخولنا ونشاطنا إلى نشوء حالة استقطاب في العضوية بين البعثيين والقوميين العرب.

س: كيف تطورت علاقتك بحزب البعث في الكويت؟

ج:  ذهبت من عمان حاملاً رسالة أنني عضو في الحزب، فاستقبلت في الكويت وسلموني خلية وبدأت اشتغل.  وتحولت الخلية إلى خمس، فرقة فشعبة، وازداد الحزب تمدداً في الكويت، وتوسعت عملية الاستقطاب، وصرت أترقى في صفوف الحزب مع هذا التوسع حتى صرت الأمين العام القُطري لحزب البعث العربي الاشتراكي في الكويت.

س: كم كان عمرك عندما حدث هذا؟  وماذا عن البعثيين القدامى الذين كانوا في الكويت من قبلك؟

ج: كان ذلك عام 1958، وكنت في الثالثة والعشرين من عمري.  وقد كانت تلك مرحلة نمو الحزب التاريخية، وكنتُ دماً جديداً، وقد قبِلني الأعضاء، وصاروا ينتخبونني، واكتسبت لياقات في العمل، وتمكنت من قصة الاستقطاب والتنظيم، فتطورت الحالة من وضع حزبي بالحد الأدنى إلى وضع حزبي بالحد الأعلى، وهو المؤتمر القُطري.  وتأسست قيادة قُطرية في الكويت، وكان ذلك تطوراً مهماً.  وكانت تأتينا من القطر الكويتي كمية كبيرة من الاشتراكات (الاشتراكات المالية المفروضة على كل عضو حزبي)، إذ أن الجميع كان يعمل، ولم يكونوا يبخلون بالمال أبداً.   حتى أن ميشيل عفلق أرسل لي مرة: أرجو أن تحول مبلغ 250 جنيه استرليني في الشهر كمصروفات للأمانة العامة، ففعلت.

س: ومن كان الأمين العام وقتها؟

ج: ميشيل عفلق.

س: كم استمر هذا؟

ج: استمر حوالي السنة، من شهر شباط حتى شهر كانون الأول.

س: ماذا حدث بعد ذلك؟

ج: طردوني من الحزب.

س: لماذا؟

ج: كان هناك خلاف حول العلاقة مع عبد الناصر.  وكان عبدالله الريماوي أمْيَل لعبد الناصر، وكذلك كنت أنا أمْيَل لعبد الناصر.  وكانوا قد أرسلوا لي رسالة مفادها أن هناك مؤتمراً قومياً للحزب وأن علي حضوره، فلم أذهب، ولم أتمكن من الذهاب لأن جواز سفري كان يحتاج إلى تجديد، وقد أرسلته لباكستان ليُجدد وقد تأخر، وكانت الكويت محمية تابعة لبريطانيا، ومن هنا إرسال الجواز لباكستان، وأرسلت مندوباً عني للمؤتمر اصطف مع  جماعة عبدالله الريماوي، فاعتقدوا أنني فعلت ذلك متعمداً.  وكان ذلك عام 1959.

وكان ميشيل عفلق قد أرسل لي شخصاً من البحرين أو قطر للكويت يحمل رسالة مفادها: هيئ أذهان الحزبيين لفصل عبدالله الريماوي!  فسألت حامل الرسالة: هل كان عبدالله الريماوي حاضراً في الاجتماع القيادي الذي اتخذ فيه القرار؟  فقال لي: نعم.  فقلت له: هل بُحِث الموضوع معه أو أمامه؟  فقال: كلا، لم يبحث أمامه.  فقلت له: إذن، لن أقوم بتهيئة أذهان الحزبيين لفصل عبدالله الريماوي.  فجاءتني رسالة الفصل من القيادة القومية في دمشق.  وكانت القيادة تعمل لفصل الريماوي وتقوم بتحريض الأعضاء عليه وكانت ترميه بالانتهازية، فأرسلت رسالة لهم قلت فيها: عندما تبحث قضية انتهازية عبدالله الريماوي يجب أن تبحث أولاً قضية الانتهازية في الحزب، لأن هناك رؤوساً كبيرة قد أينعت وحان قطافها.

س: ماذا حدث بعد ذلك؟

ج: عادوا واعتذروا لي، وطلبوا مني العودة، وطلبوا مني أن أكتب دراسة عن الانتهازية في الحزب.  ولكنني لم أفعل.

س: هل بقيت في الحزب بعدها؟

ج: بقيت حتى عام 1963/1964 تقريباً، وخرجت وحدي من دون انشقاق أو صراع، فقد وجدت الحزب خارجي قبل أن أصبح خارجه، وحدث ذلك تدريجياً قبل أن استقيل رسمياً.  وظلوا يعتبروني في سورية والعراق جزءاً من الحزب فترة طويلة بعدها، ودُعيت عدة مرات للعودة للحزب واستعادة مناصبي فيه.  ولكنني لم أفعل.  وقلت لهم بعد استلام البعث السلطة في العراق وسورية: فيما مضى، كنا ننتخب انتخاباً من قواعد الحزب، أما الآن، في ظل لغة الانقلابات، فإن صاحب الرأي الأفضل سوف يُقتل!  وقد استهجنوا كلامي وقتها، وعاد بعضهم وأيده.  وفي النهاية لم اتخذ موقفاً مع أو ضد أي طرف في الصراعات الدائرة في حزب البعث آنذاك، وحافظتُ على علاقات ودية مع الجميع.

اتخذت في الكويت نهج التعاون مع النادي الثقافي القومي (حركة القوميين العرب في الكويت)، وفي ذكرى الوحدة بين مصر وسورية عام 1959، أخرجنا مظاهرة جماهيرية مشتركة نحن وحركة القوميين العرب بلغ تعداد المشاركين فيها أكثر من مئة ألف شخص.  وبعد محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم عام 1959، كتبت قصيدة في الرفاق البعثيين في العراق ونضالاتهم ومعاناتهم، وكان ذلك في سياق الصراع مع الشيوعيين وموقفهم من الوحدة العربية. ودعني أوضح أن معظم النمو الكبير في حزب البعث في الكويت كان بين المواطنين العرب غير الكويتيين، وكان معنا في الحزب كويتيون كثر طبعاً، مثل المرحوم حمد الشيخ يوسف الذي كان مواطناً كويتياً، ومنهم من كان ينتمي للعشائر البدوية.

س: كيف كانت الكويت وقتها؟

ج: كانت ميزة الكويت في ذلك الوقت جوّها الثقافي المفتوح، وجوها السياسي الذي لم يكن يتّسم بالقمع والضرب والهراوات وما شابه، وقد كونتُ الكثير من الصداقات القوية مع مواطنين كويتيين، ولم يكن هناك تضييق أو حواجز في التعامل الرسمي أو الشعبي مع المواطنين العرب وقتها.  وللعلم لم نكن وحدنا من يعمل وينشط سياسياً في تلك الفترة، فقد كان القوميون العرب ينشطون أكثر منا، وكانت تنشط في الكويت كل الأحزاب السياسية العربية تقريباً، لكنها لم تكن تتمتع بجمهور مثل الذي يتمتع به القوميون العرب أو حزب البعث.  وكانت الفلوس موجودة، فلم يكن المرء يشعر بحاجة، وكانت الكتب والمجلات موجودة.  وكانت الكويت مستودعاً للجرائد والكتب التي تصدر في الوطن العربي، وكان بإمكانك أن تحصل على أي مجلة أو كتاب، ولم تكن تُمنع الكلمة المطبوعة قط.  وكان هنالك قرّاء.  وكانت هناك مكتبات للمعارف فيها كل الموسوعات والأشياء الأدبية.  وكتابي الأول “الثوري العربي المعاصر” بقيت ستة أشهر أقلّب المجلدات والجرائد في إحدى تلك المكتبات لكي استخرج مادته، ثم ضاعت المسودة للأسف في تاكسي كنتُ استقله نسيتُها فيه من شدة التعب، فاضطررت لإعادة كتابته من الذاكرة.  وأذكر أن من الأشياء التي فعلتها خلال فترة وجودي بالكويت كتابة تقرير عن اقتصاد الكويت وتحوله من اللؤلؤ إلى النفط، كنتُ قد أرسلته للقيادة القومية، ولكن للأسف لم تبقَ عندي نسخةً منه.

كوّنت على المستوى الشخصي مجموعة من العلاقات التاريخية في الكويت، كانت منها العلاقة مع الشاعر خالد أبو خالد، وكان واحداً من مجموعة من الشباب الذين يعملون مع شركة النفط الإنكليزية في الأحمدي، وكنت أدير وقتها صحيفة اسمها “الشعب” مع صديقي الكويتي خالد خلف، وكان يرسلون لي همساتهم وقصائدهم، فتوطّدت العلاقة مع العديد من هؤلاء الشباب، ولكن من بينهم استمرت العلاقة مع خالد.  وكان خالد مضطهداً في شركة النفط، وكان يهرّب لنا أخباراً استراتيجية تهز البلد عندما ننشرها.  فقد كان يعمل على السنترال (مقسم الهاتف)، وكان يزورني في الصحيفة، وصرنا أصحاباً.  وصرتُ اقترح عليه كتباً ودواوين، وتحوّل من الشعر الشعبي إلى الفصحى، وانطلقت العلاقة واستمرت.  وكان هناك أصدقاء آخرون أعزاء مثل عصام البيبي، انضم معنا في الحزب، ممن انقطعت عنهم بعدما تركت الكويت.

كنا بقيادة النادي الثقافي القومي نخرِج في كل مناسبة مظاهرة ضخمة تطوف البلد، وتطوف على الدوائر، ولكن في ذكرى الوحدة عام 1959، كما سبق الذكر، خرجت مظاهرة لم أكن قد رأيتُ بعد أكبر منها، وقد ذُهل الشيوخ لأن قائد المظاهرة، واسمه جاسم القطامي، وقف يخطب قائلاً: فليفهم آل الصباح إن لم يفهموا بعد أن العهد الذي كانوا يسوسون فيه الناس بالعصا قد مضى وولى، وأن العصر عصر الجماهير، وعليهم أن يخضعوا لإرادة الجماهير… بعد تلك المظاهرة اتُخذت قرارات في المساء باعتقال اثني عشر شخصاً، وإبعاد عدد آخر خارج الكويت، وكان الـ12 من الناشطين الكويتيين، أما الذين تقرر إبعادهم فقد كنتُ منهم، لكن في اليوم التالي، اتصل الشخص الذي كان قد أبلغني بأن علي المغادرة خلال ثلاثة أيام وقال لي: أخ ناجي، أهلاً وسهلاً بك، لقد تم إلغاء القرار.  وقد كان سكرتير الدولة، واسمه عبد العزيز حسين.  والغريب أن الكويتيين اعتقلوا، من القوميين والبعثيين، أما نحن العرب المقيمين في الكويت، فلم يقربنا أحد.

على كل حال، علّمتني تجربة الكويت كيف أقيم علاقات مع أوسع الناس، وكيف أعيش في ظروف صعبة.  ولم نشترِ المكيف حتى ولدتَ أنتْ، ولم نكن نحن من اشتراه، وقد تحملنا الحر أنا وأخي جميل على مدى سنوات قبلها.  وفي الكويت تعلمت الصحافة، وقد أصبحتُ مدير تحرير صحيفة “الشعب” التي أنشأها صديقي خالد خلف، وكانت صحيفة قومية أغلقت عام 1958، ولم تجدِ أية محاولات لإعادة إصدارها.  أضيف أن الكويت فيها روحٌ عربية أصيلة لا يجوز أن تُنسينا إياها الأحداث المتعلقة بالعلاقة العراقية-الكويتية وتطوراتها، وأنا لا تنسيني إياها لأنني أعرف هذه الروح وقد جرّبتها.

س: في تلك الفترة كانت هناك صراعات حادة بين الشيوعيين والبعثيين، فهل اشتركتَ أو لعبتَ دوراً فيها؟

ج: الصراعات الحادة بين الشيوعيين والبعثيين عشناها بالكويت، لأنّ الصراع بينهم في تلك الفترة كان شديداً، وكانت الحكومة الكويتية مشتركة في تلك الحملة، وقد تعاون البعثيون معها فيها.  وأذكر عندما قام الشيوعيون بمذابحهم الهمجية ضد القوميين في العراق، في الموصل والبصرة، بأن شعوراً تبلور لدينا في الكويت بأن علينا أن نقوم بشيء ما، فجاءني أحد الرفاق البعثيين، واسمه الأول أحمد، ولا أذكر اسمه الأخير، وقال لي: ما رأيك لو جمعنا أسماء الشيوعيين وقدمناها للسلطات؟  فرفضت ذلك بشكل قاطع، ووبخته، وهددته باتخاذ عقوبات بحقه إذا فعلها.  ولم أقبل أن نقدّم أي اسم أو أن نتعاون مع السلطة.  لكن أُبعدَ بسبب تلك الوشايات عددٌ كبيرٌ من الشيوعيين.  ولا أخفي، في الوقت نفسه، أنني كنت مع البعث والناصرية في ذلك الصراع، رغم نزعتي اليسارية، وقد نظَمت عن المجازر التي تعرض لها القوميون في العراق قصيدة لا تزال موجودة في أحد دواويني الشعرية.   وقد اتّبع الشيوعيون العراقيون سياسات ألّبت الناس عليهم في تلك الفترة، فشنّوا حملات شعواء تارةً باسم محاربة البرجوازية، وتارة باسم محاربة القوميين البعثيين والناصريين، كما أنهم وشوا بأسماء الضباط القوميين لعبد الكريم قاسم فأعدمهم، ثم شنوا حملة ضد الحجاب… ولم يكن عبد الكريم قاسم شيوعياً، واعتقد أنه استخدم الشيوعيين واستغلهم، ولكنه لم يكن شخصاً متوازناً، وكانت لديه هبات جنونية، خصوصاً إذا ما قارنا شخصيته بشخصية متوازنة متكاملة مثل شخصية جمال عبد الناصر.   ولم يقلل ذلك من اهتمامي بالماركسية وتجربتها، ومرة أتيت لدمشق وملأت شنطة بمطبوعات دار دمشق وذهبت بها للكويت، وكنت أتردد على دمشق ومكتباتها من الكويت منذ عام 1957، ولم يكونوا يسألون في الكويت عن الكتب، ولذلك مرت بسهولة، لأن تركيزهم في التفتيش كان على منع تهريب الكحوليات، وهذا لا شأن لي به.

س: ما الذي دفعك لقراءة كتب ماركسية في ظل الصراع الحاد بين الشيوعيين والقوميين؟

ج: لأنني كنت أريد أن أعمق مفاهيمي، وهذه اختلفتُ فيها مع حزب البعث، فقد كان يصدر صحيفة في بيروت اسمها “الصحافة”، فذهبت عند رئيس التحرير هناك لا أذكر في أي سنة بالضبط بصراحة، واسمه عبد الوهاب شميطلي، من طرابلس، وسلمته مقالين، الأول يناقش ما جاء في دستور حزب البعث حول تمسكه بنظام تمثيلي برلماني، وقد حاولت أن أبين أن مثل ذلك النظام هو نظام برجوازي وُضعَ ليخدم مصالحها، وأن الحزب ليكون اشتراكياً عليه أن يعمّق مفاهيمه حول فكرة التمثيل السياسي، أما النقطة الأخرى فكانت أن الحزب يجب أن يدافع عن “الخبز والحرية”، لا عن الحرية فحسب، كما كان يفعل، فلم يقبل أفكاري، ولم ينشر المقالين.  كان فكري قد بدأ ينضج وقتها، مع أنني كنت في مرحلة انتقال، وكنت لا أزال أبني نفسي.

– إلى سميرة:

غيري يمنّي من يحب بالنجوم

أما أنا، فليس عندي غيرُ بعض الشعر

حصادُ رحلتي وغربتي

عزيزتي، هذا الذي لديَ

فهل تراه يستحق الذكر؟

س: كيف تعرفت على والدتي سميرة شفيق عسل وأنتَ في الكويت؟

ج: كنت أرسل الرسائل من الكويت لأختي مي التي كانت زميلتها في التدريس في مدرسة ببيت جالا، وكانت أختي تطلعها عليها، فأعجِبَت بها، ومن ثم التقينا في دمشق حيث ذهَبَت هي للدراسة في جامعة دمشق، وكان والدي واختي مي وبعض الأهل قد أتوا ليروني هناك، حيث أنني كنت مطلوباً للاعتقال في الأردن وقتها، ومع أنني كنت قد اتخذتُ قراراً بعدم الزواج، فوجئت بثقافتها السياسية العميقة، وكانت سميرة عضواً في الحزب الشيوعي الأردني وقتها، مثل أخيها منير شفيق الذي كان يقبع بالسجن بتهمة الانتساب للحزب الشيوعي في تلك الفترة، وقد فوجئتُ بموقفها الصلب من قضايا السجن والاعتقال والمطاردة، وقد كانت تدافع عن السجناء وتتحمل عبء ملاحقة المخابرات، وأخيراً فوجئت أنها تحفظ شعراً جميلاً وقرآناً يبدو أنها تعلمته صغيرةً من والدها المحامي شفيق عسل، وكانت قصة حب ساحتها دمشق، مع أنني كنت بعثياً وكانت شيوعية، وقد عرّفتها بالطواقم السياسية في جامعة دمشق لأنها كانت حديثة العهد بالجامعة، وكنت اتردد على دمشق في العطلات على مدى سنوات، للتزوّد بالكتب وللّقاء مع المثقفين والرفاق البعثيين، وكنتُ منذ نهاية الخمسينيات قد بدأت أفتَن بتجربة الصين وماوتسي تونغ ثم فيتنام وكوبا، وراح يتشكل في وعيي توجّه قومي يساري واضح المعالم بما يتجاوز البعث والشيوعيين العرب، هو في أساس تكويني منذ البداية، ولذلك لم يشكل اختلاف التوجه الحزبي مشكلة بيننا، مع أنني خفت أن يعطل أخوها منير ارتباطنا.  المهم اتفقنا على الارتباط وأرسلت لوالدها رسالة طلبت منه فيها يد ابنته سميرة، وكانت الرسالة مرفقة بكتابي “الثوري العربي المعاصر” الذي نُشر عن دار الطليعة في بيروت عام 1960، فقضى أبو منير الليل في قراءته، وكان قارئاً نهماً يمتلك مكتبة كبيرة، وفي الصباح قال لسميرة:  مبروك، هذا ألعن من أخيكِ منير!  وعندما علمت بموافقته المبدئية أرسلت رسالة لوالدي فذهب وطلبها من أبي منير رسمياً.   وقد تزوجنا في دمشق في آب عام 1962.  وبقينا في الكويت حتى عام 1965 انتقلنا بعدها إلى بيروت.

س: لماذا تركت الكويت؟

ج: لأن المرحوم بشير الداعوق أقنعني أن الأفضل أن أكون في دار الطليعة في بيروت.  وكان بشير يعمل في الكويت مستشاراً اقتصادياً، وكنت قد نشرت كتبي الأربعة الأولى في دار الطليعة، ويبدو أن كتاباتي أعجبته.  فاتصل بي في الكويت وزارني، وعرض علي أن يأخذني إلى بيروت.    وانتقلنا إلى بيروت في شباط عام 1965 براتب أقل مما كنت أحصل عليه في الكويت، وهو 735 ليرة لبنانية شهرياً بقيت هكذا حتى تركت دار الطليعة.  لكن سميرة لم تعارض، خصوصاً أن خالين لها كانا يسكنان مع عائلتيهما فيها.  وقد عشت في بيروت أجواء دار الطليعة، والمكتبات، وخصوصاً مكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت.  والغريب أنني شعرت بالرطوبة في بيروت أكثر من الكويت، مع أن الكويت يفترض أنها أكثر حراً ورطوبةً.

س: كيف تطور نشاطك السياسي والتنظيمي في بيروت؟

ج: كنت قد استقلت من حزب البعث في الكويت، كما سبق الذكر، وبعد فصلي على خلفية قصة عبدالله الريماوي عادوا وشكلوا لجنة تحقيق أعادت لي اعتباري، ولكن علاقتي بالحزب لم تعد كالسابق، وعندما وجدت أن من تآمروا عليّ جاؤوا بعدها ليتآمروا معي على القيادة، قررت أن الوقت قد حان لأغادر الحزب تماماً.   لكنني لم افتعل مشكلة، وحافظت على علاقة ودية مع أجنحة الحزب في العراق وسورية، وفي سورية قبل وبعد عام 1970.

في بيروت، وفي دار الطليعة تحديداً، حدثت عملية التبلور في فكري ونهجي، وقد استلمت مجلة “دراسات عربية” منذ اليوم الأول في الوظيفة كمدير للتحرير، للكتب، ولمجلة “دراسات عربية” التي كانت تخضع لرقابة الأمن العام وقتها، ولم يكفّ الأمن العام عن مراقبتها إلا عندما استلمها جورج طرابيشي.  وكانت المرحلة الذهبية فكرياً بالنسبة لي بعد عامين من العمل في “دار الطليعة”.

استأجرنا منزلاً في منطقة “عين الرمانة” بمبلغ 286 ليرة لبنانية في الشهر، وكان أثاثنا قد وصل من الكويت، ولكننا واجهنا مشكلة في تخليصه، فقال لي ضابط في الجمارك: أحضر بطاقة هوية سورية وسيتم الإفراج عن الأثاث فوراً.  فذهبت إلى دمشق وأحضرت هوية سورية وأخذت الأثاث.  وكانت القيادة القومية في سورية قد أعطتني صلاحية إصدار أي عدد من الجوازات والهويات السورية لأي عدد من الأشخاص، حيث أنني كنت اتمتع بثقتهم، خصوصاً أنهم كانوا يميلون لليسار.  وعندما سُمح لهم بعدها بسنوات طويلة أن يذهبوا من السجن لاستراحة (منزل يمكن فيه للسجناء استقبال الضيوف)، أرسل لي الرئيس حافظ الأسد مع أحد الأشخاص: اذهب لزيارة أصحابك!

في تلك المرحلة كنت أركز على جانبين أساسيين في تثقيف نفسي: القومية والماركسية.  ولم نكن نشعر بوجود تيارات إسلامية وقتها بالمناسبة، إذ لم يكن لها شأنٌ شعبي أو جماهيري يذكر.  وكدت انتسب للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عن طريق الاحتكاك مع الشهيد غسان كنفاني، الذي كان يتردد على دار الطليعة، لكن لم يحدث اتفاق بيننا على المستوى الشخصي، وسياسياً لم استوعب خطاب أن فتح كذبة وغير موجودة، فلم يرق لي ذلك، وفي النهاية انتسبت لفتح بعد زيارة مفاجئة من أبي جهاد (خليل الوزير) لمنزلي بعد حرب عام 1967.   وكان هو من عرض عليّ الانتساب لحركة فتح.  وقد قال لي: ها قد ثبت أن الحرب النظامية لا تنفع، وقد تابعنا كتاباتك ولمسنا أن لديك تبنياً لمفهوم حرب الشعب، وهو ما نؤمن به، ولذلك قررنا أن نتصل بك وأن نطلب منك الانضمام لحركة فتح.

(أشير استطراداً أن علاقتي بالحكيم جورج حبش توطدت بقوة فيما بعد، على صعيد سياسي وعائلي، وبعد تأسيس حركة التحرير الشعبية العربية بسنوات، وخلال إقامتي في دمشق في الثمانينيات، حاولت بقوة أن أنتج مشروع جبهة قومية يضم عشرات التنظيمات والمجموعات الصغيرة والشخصيات القومية، من بلاد الشام في البداية، على أن يكون برئاسة الدكتور جورج حبش، ومضينا في مشروع تأسيس تلك الجبهة التي أسميناها “التنظيم الموحد”، وفي تأسيس فرع مقاوم لها في جنوب لبنان، لكن ذلك المشروع فشل لسببين، أولاً لأن الشخصيات القومية التي حاولنا دمجها في الإطار لم تنسجم مع بعضها للأسف، وكانت لديها تحفظات مسبقة كبيرة بعضها على بعض، وثانياً لأن الجناح اليميني في الجبهة الشعبية، بدفعٍ من ياسر عرفات ودعمه المالي والسياسي، عمل على تخريب ذلك المشروع لأن بعض أعضاء القيادة في الجبهة الشعبية كانوا أمْيَل للاقتراب من قيادة منظمة التحرير منهم لعمل جبهوي قومي، وفي النهاية ابتعد الحكيم تدريجياً عن ذلك المشروع نتيجةً للإشكالات التي كان يعانيها داخل الجبهة الشعبية، وأقولها بكل صراحة: كان يحدث تآمر داخلي عليه.   وبالنهاية فشلنا في محاولة جعل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قائدة تيار ثوري جديد.  وكانت الثقة الشخصية عالية بيني وبين جورج حبش، وكان يناقشني بكل شيء، وكنت بدوري أقوم بالمثل.  وكنا نعقد لقاءً سياسياً بيننا كل أسبوع في الشام، ناهيك على اللقاءات العائلية.  واعتقد أن إنشاء مثل ذلك التيار بقيادة جورج حبش، لو نجح، بشقيه السياسي والعسكري، كان يمكن أن يعطي الكثير من الهيبة لليسار العربي.)

س: بالعودة إلى مرحلة بيروت في الستينيات والدخول في فتح، لماذا تعتقد أن حركة فتح اتصلت بك؟

ج: لأنهم كانوا بحاجة لمثقفين في صفوفهم، وكان لديهم نقصاً في هذا المجال.  وكانت أول مهمة تكلفتُ بها هي تمثيل الحركة في مؤتمر عالمي للثقافة في كوبا.

س: ماذا كانت انطباعاتك عن كوبا؟

ج: وجدت بلداً نضالياً، وشعباً يعمل كالساعة، وقيادة تعمل كالحاسوب.  وهناك زادت قناعتي بالاشتراكية وبكفاءة التنظيم الاشتراكي.  وبعدها نشأت علاقة بيني وبينهم، وعندما استشهد أرنستو تشي غيفارا، أرسلوا وفداً من كوبا يحمل المذكرات لكي أطبعها في دار الطليعة.

س: ألم تشعر بمشكلة، أو بعدم انسجام، كقومي يساري، بعضويتك آنذاك في حركة فتح؟

ج: شعرت طبعاً، ولذلك صعّدت من نقدي ومواجهاتي لأحافظ على سويتي.

س: وكيف استوعبوك؟

ج: لأن فتح لم تعتبر الخلاف الأيديولوجي مشكلة، ولأن القيادة لم تشعر بمشكلة مع انتقاداتي وخطي إذ لم يأخذوها بجدية إلا بعدما أصبحت عضواً متمكناً في فتح، وعضواً في المجلس الثوري، وعندها برز التناقض بقوة أكبر بكثير بيننا.

س: ما هو الطابع الذي أخذه وجودك في حركة فتح في البداية؟

ح: كان طابع وجودي في فتح تنظيمياً في البداية، لأنني عُينت عضواً في لجنة إقليم فتح في لبنان.  ولم تكن مهماتي عسكرية في البداية، وكانت مهماتي تنظيمية، ومنها الاستقطاب لتنظيم الحركة في لبنان.  لكن لجنة الإقليم هيْمنَ عليها الأخ حمدان والحج طلال.  غير أن العلاقة معهما ظلّت علاقة ود واحترام، حتى أن حمدان عمل مشكلة كبيرة عندما اعتقلني أبو عمار فيما بعد عام 1974، واحتج لدى القيادة بشدة على ذلك الإجراء، واستنفر التنظيم في صبرا وشاتيلا، رغم وجود خلافات بيننا ورغم تحفظاتي على النمط الفتحاوي عامةً،  ومنه سوء الإدارة وانتقاد ياسر عرفات في غيابه ومداهنته في حضوره.

كانت تجربة السنوات الأولى في فتح فاشلة، لأن لجنة الإقليم التي انضممت إليها لم تكن فعالة، وأقول ذلك رغم وجود أشخاص محترمين فيها مثل د. حسن الشريف والسيدة جيهان الحلو.

س: ثمة فقرة مهمة قفزت عنها… تنظيم “طلائع الثورة العربية”، الذي اسستموه في الفترة الفاصلة ما بين خروجك من حزب البعث في الكويت وذهابك إلى لبنان، فما هي قصة ذلك التنظيم؟

ج: في سنة 1964 كان حزب البعث يعيش أزمةً، هي نتاج أزمة الحركة القومية عامةً بعد انفصال مصر وسورية عام 1961، فقرر الحزب أن يعقد مؤتمراً لمناقشة الوضع، ودعا ممثلين من كل الفروع، بما فيهم أنا، للحضور.  وكان يُفترض أن يُعقد ذلك المؤتمر في بيروت، لكنه لم يعقد، وكانت التحضيرات جارية.  وشعرتُ بفراغ كبير لأنني لم أعد أجد نفسي في الحزب، ولا أستطيع التفكير بعمل سياسي من دون تنظيم سياسي، وكانت مجموعة منّا قد راحت تتبلور باتجاه قومي يساري، وكانت لدينا مجموعة من العلاقات التنظيمية السائرة بذلك الاتجاه موضوعياً، فكتبنا برنامجاً قومياً ديموقراطياً أكد على نقطتين: 1) قضية الحرية والديموقراطية، و2) قضية المرأة.  كذلك أكدنا على مسألة حقوق الأكراد وطريقة التعامل الصحيح مع تلك المسألة.  والحقيقة أنني اكتشفت أن تلك القضايا لم تكن محسومة في صفوفنا أيضاً، لأن طرح البرنامج في دائرتنا تسبب باستقالة عناصر رئيسية فيه.  وأود الإيضاح أننا كنا نربط تلك النقاط ببرنامج التحرر القومي، بالوحدة والتحرير، على عكس ما يفعله جماعة “الربيع العربي” اليوم.   كان تأسيس “طلائع الثورة العربية” ثمرةً لشعور عدد منا أننا لم نعد نجد ما نريده في الحزب، وكان يفترض أن يضم جناحاً اسمه “طلائع تحرير فلسطين”.  وكان من الأعضاء المؤسسين لتلك المجموعة محمد عمران، الذي استقال فيما بعد من صفوف المجموعة، وجورج عازارا، وخالد أبو خالد، وكان معنا حنا مقبل وجبرا دغباج رحمهما الله، وغيرهم.  ولم يكن كل المؤسسين من البعثيين السابقين.  وكانت من إنجازات تلك المجموعة البرنامج السياسي الذي اعتبر أنه كان على قدر من الرقي، والقيام بعدد من الاستقطابات على أساسه، والبدء بتكريس هوية ذلك التنظيم، إذ بدأنا نؤكد على عنوانه، لا على عنوان حزب البعث.  وقد أثمرت “طلائع الثورة العربية” عن حوالي عشرة كوادر في الكويت، أما محاولة الامتداد خارج الكويت فلم تثمر كثيراً.

س: ماذا حدث لذلك التنظيم بعد ذلك؟

ج: عندما ذهبت إلى لبنان، كان ذلك في الواقع جزءاً من مشروع “طلائع الثورة العربية” للتمدد للمخيمات الفلسطينية هناك لتأسيس “طلائع تحرير فلسطين”، وكان الأعضاء متحمسون لتلك الفكرة.  لكننا بكل صراحة لم ننجح، كما كان قد بدأ تشكيل جبهات وتنظيمات تحرير فلسطين المختلفة، وكان بعضها مدعوماً من دول وكانت تتمتع بإمكانيات كبيرة، ومنذ ذلك الوقت بدأ تستشري ظاهرة الفساد والإفساد تحت عناوين العمل الفلسطيني، على المستوى الاجتماعي، وليس فقط المالي، أي أن إشهار تنظيم فلسطيني جديد فيه عضوان أو ثلاثة أعضاء فحسب صار أسرع طريقة للحصول على منزلة اجتماعية أو سياسية، ولذلك قررنا أن لا ننخرط في مثل تلك الممارسات.  بصراحة افتقدنا للخبرات اللازمة للتعامل مع جو من هذا النوع.  وقد فكرنا بالتعاون مع حركة القوميين العرب، التي كانت قد أسست جناحاً عسكرياً يعنى بالعمل الفلسطيني قبل فتح أو معها، لكن المدخل الذي طرقته لمثل ذلك التعاون، وهو الشهيد غسان كنفاني، لم يثمر كما سبق الذكر.   وقد رحبت بنا القيادة القومية بسورية آنذاك، وعرضت علينا الدعم والمعسكرات وكل ما نحتاجه، لكنني اكتشفت أن بنيتنا وكادرنا لم يكونا مؤهلين بعد لتلقي مثل ذلك الدعم إذا أردنا أن نعمل بجدية وأن لا نصبح عنواناً كبيراً بلا مضمون ومرتعاً للفساد، وأن لا نستقطب من هب ودب، فعددنا وقتها كان يمكن أن يكفيه مكتبٌ واحد، ولذلك رأينا أن علينا أن نعمل أكثر لتوسيع بنيتنا التنظيمية وبلورتها وجعلها أكثر صلابةً قبل الدخول من ذلك الباب، لكن الزمن سبقنا.  كما أنني استغرقت في العمل الفكري والثقافي، وفي نشاطات حركة فتح، وكان أن تخلينا عن الفكرة بعد الدخول في الحركة.  دخلنا فتح، وبقي الأعضاء المؤسسون في “طلائع الثورة العربية” قريبين شخصياً وسياسياً إلى اليوم.

س: كيف نشأت علاقة بينك وبين التيار القومي اليساري الذي مثله الياس مرقص وياسين الحافظ؟

ج: كانت العلاقة مع الياس مرقص هي الأقوى، وكان يكتب نقداً لتاريخ الحزب الشيوعي ومواقفه في إحدى الصحف ، أعجبت به جداً، وقد تفاعلت بشدة مع تحليلهما للأسباب التي جعلت الشيوعيين العرب يأخذون اتجاهاً غير قومي، وصرت أتصل بهما في الشام، وقد تعمّقت العلاقة عبر دار الطليعة التي كانا ينشران كتبهما عبرها.  وقد قمتُ فيما بعد بتكريم الياس مرقص بإقامة ندوة له في اللاذقية من خلال المجلس القومي للثقافة العربية.   وقد توطدت العلاقة بعد دار الطليعة بسبب خالك أبو خالد جورج الذي كان يدرس الحقوق في سورية، وكان قد أنشأ علاقة مع حزب العمال الثوري العربي الذي أسساه، ولم أكن متأكداً إن كان عضواً أم صديقاً لحزب العمال، وقد كان يدفع باتجاه تعميق العلاقة معهما.  وقد كانت العلاقة معهما علاقة خاصة بجميع الأحوال، وتأثرت باتجاههما بقوة.

س: قلت أنك انتسبت لحركة فتح بعد حرب الـ67، وأنك تسلمت مهام سياسية وتنظيمية فيها، فمتى بدأ نشاطك العسكري في صفوفها؟

ج: الحقيقة أن ذلك بدأ بعد انتقالي من لبنان إلى عمان.  ففي عمان فقط شعرت أنني دخلت فعلاً إلى صفوف الحركة.

س: هل ننتقل لمرحلة عمان إذن، أم أن هناك ما تود إضافته حول لبنان؟

ج: لقد وجدت في لبنان في ذلك الحين، على صعيد العمل الفلسطيني، مشاريع منظمات فاشلة، ونزعات فردية لاكتساب مواقع ولأخذ صفات قيادية من دون امتلاك قدرات تنظيمية أو فكرية.  وربما يكون ذلك أحد الأسباب التي دفعتني للانتقال للأردن.  وكانت هناك عوامل أخرى منها أن المكتب الثاني (المخابرات) اللبناني طردني عام 1969، وقد التجأت للشهيد كمال جنبلاط الذي حل المشكلة فيما بعد.  وكان أن عرض علي ياسر عرفات الانتقال من لبنان إلى القاهرة أو عمان، فاخترت عمان.  ولم أناقش القرار مع رفاقي السابقين ومع سميرة، لأنني خفت أن تكون حال العمل كما هي في لبنان، فقررت أن أذهب فترة لأستكشف الوضع في الأردن أولاً قبل اتخاذ أي قرار، فذهبت وغرقت في العمل هناك.  لقد كانت هناك جماهير ثائرة في الأردن وقتها.  وكانت الظروف ناضجة لعمل حقيقي.  وقد لمستُ ذلك منذ اليوم الأول، وكان هناك بحث حول تشكيل لجنة إقليم لحركة فتح في الأردن، فعُينت عضواً فيها.  وانتخبتني لجنة الإقليم مسؤولاً للتنظيم في الساحة الأردنية.   بصراحة وجدتُ في الأردن منذ البداية تمسكاً بي وتقديراً غير عاديين لم يعد بإمكاني أن أخذلهما بترك الأردن لساحة أخرى بعدها.

س: متى كان لقاؤك الأول مع محمد داوود عودة (أبو داوود)؟

ج: في لجنة الإقليم في الأردن، وكان انسجاماً فورياً، وفي الفترة نفسها تعرفت على مناضل آخر هو صلاح خليل عيسى (أبو الرائد) وكان عضواً في لجنة منطقة عمان في الحركة، وكان له دورٌ رئيسي.  وبدأنا أنا وأبو داوود نعد لما أصبح فيما بعد معارك أيلول 1970.  وقد بدأت الصراعات مع القيادة منذ تلك الفترة، وكانت باكورتها خلافاً تنظيمياً بيني وبين صلاح خلف (أبو إياد)، وبدأ بث الإشاعات حولي ومنها بيان وُزّعَ في عمان ادعى أنني عضو في جماعة الإخوان المسلمين وهي إشاعة أطلقها أبو نضال (صبري البنا) الذي كان موجوداً في عمان وقتها، وكان يعاديني بشدة في تلك المرحلة، كما وصلتني تهديدات على لسان أبي إياد، إلخ…

س: ثمة فصل مهم هنا وهو مشاركتك في معركة العرقوب الأولى في لبنان في أيار عام 1970.  هل كنت في عمان وقتها أم في لبنان؟

ج: كنت في عمان.  وكنت عائداً في زيارة إلى لبنان، وسمعت في السيارة على الراديو في الطريق أن هناك هجوماً على العرقوب.  ولم أكن أعرف شيئاً عن مواقعنا في تلك المنطقة، ولا كيفية الوصول إليها.  فاتصلت بعد وصولي لبيروت بمكتب لفتح ورد علي أحد المسؤولين الفتحاويين واسمه لمعي القمبرجي، فسألته: هل بإمكانك أن تعطيني دليلاً يوصلني لمواقعنا في العرقوب؟  فقال لي: لا، لكن بإمكاني أن أعطيك سيارة وأن أدلك كيف تصل إليها؟  فذهبت في الصباح الباكر بسيارته ومعي أخ من عائلة الدجاني كان مديراً لفندق تملكه حركة فتح قرب الكومودور في بيروت، فأتى ببندقيته وذهبنا معاً، ولم يكن يعرف الطريق مثلي.  ثم ذهبنا باتجاه المصنع (الحدود السورية-اللبنانية) ودرنا يميناً قبل المصنع عند طريق توصلنا للرفيد ومن ثم نحو العرقوب.   استمرينا بقيادة السيارة حتى لاقتنا قوة للجيش اللبناني، فسألني الضابط إن كنت أريد ياسر عرفات، فقلت له: لا، لماذا؟  فقال لي: لأنني يمكن أن أدلك على مكانه فهو مختبئ في مكان قريب من هنا.  استمرينا بالمسير ونزلنا بوادٍ عميق بين الشجر والدلب، حتى تحولت الطريق من اسفلتية إلى ترابية، وكان “الإسرائيليون” قد احتلوا أعلى الطريق ووضعوا فيها كميناً، وكان دخولنا خطأً على الجهة اليمنى هو ما انقذنا من الوقوع في ذلك الكمين.  وكانت على مبعدة منا سيارة للجبهة العربية (البعث العراقي) وكانت تحلّق فوقنا طائرة صهيونية، فضربت السيارة صاروخاً وقتلت الاثنين اللذين يجلسان فيها.  وكانت تلك أول مشاهد معركة العرقوب، وكان الوقت نهاراً، قبل الظهر.  وبدأنا نبحث عن كيفية الوصول إلى مواقعنا.  فتسللنا ووجدنا مستوصفاً فيه متفرجين من فتح وغيرها والجمهور اللبناني، فدخلنا نستفسر، وعرفنا التفاصيل، وبقي الأخ الذي قدم معي من بيروت في المستوصف.  سرت وحدي على قدمي حتى وصلت خط القتال الأول، وكان “الإسرائيليون” يندفعون من الجبل إلى الوادي، ويحاولون دفع ميمنة قوات المقاومة وميسرتها للتجمع في الوسط من المنطقة الدنيا من أجل تطويقها وإبادتها.  ووجدت مقاتلين يحاولون الإفلات من التطويق، وكانت المسافة بيننا وبين الجنود “الإسرائيليين” لا تبعد عن عشرات الأمتار.   شاركت بإدارة المعركة، وفشلت محاولة التطويق، فانسحب الجيش “الإسرائيلي” ولحقناه، وظل الاشتباك دائراً.  وانتهت المعركة بعد تراجعهم.  وقد اشتكى لي المقاتلون كثيراً من نقص التموين والذخيرة وحاجاتهم الأساسية وعدم وجود أي قيادات في مواقع القتال.  فوعدتهم بحل تلك المشاكل، وذهبت أبحث عن قيادات ذلك القطاع، وبعد جهد جهيد وجدت ثلاثة منهم يختبئون بعيداً، وقد أصبح اثنان منهم قيادات فتحاوية كبيرة فيما بعد تبين أنهما يعملان مع المخابرات الأردنية.  وكان هؤلاء في نفس الوقت يرسلون برقيات للقيادة على الجهاز: نحن هنا، والمعركة أمامنا تحتدم، وتملأ الوديان والشُعَب، الله أكبر!  وكان هناك رجل لبناني له منزل قربهم، فكانوا كل هنيهة يطلبون منه قهوة أو شاياً… فأخبرتهم عن حاجة المقاتلين الماسة للتموين والعلاج، فقالوا لي: لا تقلق، كل شيء هناك من هو مكلف بمعالجته!  ولم يكن ذلك صحيحاً طبعاً.  بالمقابل، لا بد أن أذكر أن القيادات الميدانية كانت على النقيض من ذلك، وقد ظللت أتابع تحركات القوات “الإسرائيلية” مع بعض المقاتلين من فتح، وأذكر منهم نقيباً في القوات المحمولة اسمه موسى العراقي، وهو رجل شجاع بشكل غير معقول.

س: ماذا حدث بعد ذلك؟

ج: عندما عادت القوات “الإسرائيلية” أدراجها إلى فلسطين المحتلة قررت أن أعود إلى بيروت، لكنني لم أجد من يوصلني هناك.   فمشيت ومشيت حتى وجدتُ أحدهم يقود سيارته على الطريق، فأوقفته وسألته إلى أين هو ذاهب، فأجابني أنه ذاهبٌ إلى صور، فقلت له خذني معك.  فذهبنا، وقبل الوصول لصور، وجدت على الجسر حاجزاً للجيش اللبناني، ووجدت طوني الحاج، وكان جندياً في الجيش اللبناني، يقف هناك، وكان ابن عائلة صديقة لعائلتنا.  وكان يبحث عن سيارة تقله لبيروت بعد الحصول على إجازة من وحدته العسكرية، فنزلت ورحنا نبحث عن سيارة أنا وهو وبقينا معاً حتى وصلنا إلى بيروت.  وكان رجلاً شجاعاً وإنساناً رائعاً رحمه الله.   وقد وجدت في أفراد تلك العائلة دوماً شيئاً مميزاً، بدءاً من الأب والأم.

المهم أنني تعلمت من معركة العرقوب درساً عسكرياً ميدانياً حول طريقة “الإسرائيليين” في الهجوم وفي تحقيق أهدافهم.  فقد قاموا باختراق في صفوف قواتنا، ثم بدأوا يدفعون الجهة اليمنى من جهة، واليسرى من جهة أخرى، للتجمع في الوسط، ويحاولون تطويقها في آنٍ، تمهيداً لإبادتها.  لكنهم لم ينجحوا في تحقيق ذلك، فانسحبوا.  وقد اكتشفت في تلك المعركة أن الجنود “الإسرائيليين” ليسوا أسطوريين كما يُشاع، وأنهم يمشون ويهربون ويخافون ويخطئون، لكن سويّة قواتنا كانت متدنية بصراحة، فثقافتهم كانت متواضعة، وكان الأداء يعتمد على حالات فردية في أكثر الأحيان.  وعندما عدت إلى بيروت أخذت حماماً وجلست على الكرسي وفتحت التلفزيون اللبناني لأجده ينقل: ياسر عرفات يتابع القوات “الإسرائيلية” المنسحبة!  أنا شخصياً لم أره هناك، إذ يبدو أنه حضر لاحقاً.

س: كيف تطورت علاقتك بحركة فتح بعدها؟

ج: كان يفترض أن يذهب وفد فتحاوي لكوبا في حزيران عام 1970، وكان يفترض أن أرأسه أنا.  وكانت تلك زيارتي الثانية لكوبا.  لكن أبو إياد اتصل بأبي داوود في عمان وقال له: فلينتظرني أبو إبراهيم في القاهرة.  فذهبت للقاهرة وجددت جواز سفري من السفارة الأردنية هناك، ومن ثم فوجئت أن أبا إياد عيّن نفسه رئيساً للوفد الذاهب إلى كوبا.  لكن ذلك لم يؤثر بالنسبة لي، جزئياً لأن علاقتي مع الكوبيين كانت قد أصبحت قوية، وبالتالي كنت الشخص الذي ينسقون معه في كوبا لتنظيم اللقاءات ووضع برنامج الرحلة.  وتجد قصيدة في ديواني عن تلك الرحلة لكوبا بعنوان “تشلا”.

أذكر من معالم تلك الرحلة أن الكوبيين أخذونا للكلية العسكرية، حيث أجروا لنا امتحان رماية.  وسأل مدير الكلية أبي إياد: سمعت أنكم خضتم معركة مهمة الشهر الماضي، فهل تحدثونا عنها؟  فلم يعرف أبو إياد ماذا يقول، وتوليت شرح مسرح العمليات، فظنّ الضباط الكوبيون أنني جنرال، وأنا لم أكن حتى ملازماً، وسألني أبو إياد: من أين أتيت بمثل هذه المعلومات؟  فقلت له: لقد كنت هناك.

في الكلية العسكرية أحضر لنا الكوبيون مجموعة من الضباط ليناقشونا في عدد من القضايا، وراح أحد الضباط يشرح كيف يقوم الكوبيون باستقطاب العناصر المخترقة للمخابرات المركزية الأمريكية، فسأله أبو إياد: هل تستخدمون وسائل مادية لاستمالتهم؟  فأجاب الضابط: نحن لا نستخدم وسائل مادية، فلو دفعنا لأحدهم مئة دولار، سيدفع الأمريكيون له عشرة آلاف، ولذلك نلجأ للوسائل المعنوية.  فاكتشف أبو إياد أن هناك وسائل معنوية للاستقطاب!!!  وقد حاول معي أبو إياد كثيراً أن أقنع الكوبيين بترتيب لقاء له مع فيديل كاسترو، فلم أقبل، ولم أطلب مثل ذلك اللقاء، لأنني خفت أن يطرح مثل تلك الملاحظات على مسامعه  فنتعرض للإحراج أمام الكوبيين.   وكنتُ قد التقيت مع كاسترو لقاءً سريعاً في زيارتي الأولى استمر لمدة دقائق فقط لأن العشرات من مندوبي دول العالم الثالث كانوا ينتظرون دورهم لرؤيته على الباب وقوفاً، ولم أشعر أن بالإمكان فتح مواضيع معمقة في مثل تلك المدة القصيرة، كما أن المندوبين كان يتم اعطاؤهم وقتاً يتناسب مع موقعهم في بلادهم، ولم تكن حركة فتح التي أمثلها معروفةً لتلك الدرجة بعد.

س: هل صحيح بأن أبو إياد كان يسارياً كما يُشاع؟

ج: لم يكن يسارياً ولا يمينياً ولا ليبرالياً، ولم يكن له أي توجه عقائدي من أي نوع.  كان بالأساس شخصاً براغماتياً.  وكانت مهارته الأساسية تتلخص بالتكتيكات المتعلقة بالصراعات الداخلية في فتح.

س: كأنكم كنتم في دورة عسكرية في كوبا… ماذا حدث بعدها؟

ج: حدثت معنا مشكلة بطريق العودة من كوبا، إذ كنا قد أُهدينا في كوبا خمسة مسدسات، وصعدنا بها على متن الطائرة من كوبا، ونزل أبو إياد في الجزائر، وتابع بقية الوفد إلى جنيف، وظلّت المسدسات معنا حتى وصلنا بيروت فأخذها الأمن العام اللبناني منا في المطار، ومعلوماتي أن راسم الغول (عزمي الصغير) عاد واسترجعها، ولم يعطنا إياها.  وفي الزيارة الأولى حدثت معي مشكلة أيضاً لأن الفرنسيين رفضوا أن يعترفوا بالبطاقة التي حجزها الكوبيون، فاضطررت للحصول على بطاقة أخرى على الخطوط الجوية السورية من باريس وذهبت بها إلى دمشق، ومن هناك بالسيارة إلى بيروت، وقد حصّلت تلك البطاقة بالدين، ودفعتُ ثمنها لاحقاً، لأنني لم أكن أحمل مالاً، لكن العبرة أن السفارة السورية في كوبا أوعزت في اتصال هاتفي للخطوط الجوية السورية في باريس بإقراضي ثمن البطاقة، وهكذا كان.  المهم عدتُ من الزيارة الثانية عام 1970 من كوبا إلى بيروت ومن هناك إلى عمان، بسيارة الـHillman البيضاء التي تعرفها…

س: كنت تصفها أمام الملحمة المقابلة لمنزلنا في عين الرمانة… وكانت تظل تتعطل، وكان يصلحها لك زوج عمتي رحمه الله موسى الكيلة…

ج: ملحمة أبو علي الحموي، وكان زوج عمتك أبو عودة هو من أقنعني بشرائها بالتقسيط… وقد انتقلت العائلة بها من بيروت إلى عمان، وكان معنا في الطريق سهى شومان.

س: عودة إلى عمان عام 1970…

ج: كانت توجد في عمان جماهير غفيرة تغلي، على درجة عالية من الحماسة لم أرَ لها مثيلاً من قبل.  وكان تنظيم فتح كبيراً، ولكنه كان يتألف من كمٍ أساساً، يتألف معظمه من أعداد هائلة من الشباب في العشرينات من أعمارهم، وكان معظمهم من الكادحين، وكانوا مستعدين للموت بأي طريقة، ولكنهم كانوا يفتقدون للبنية والتثقيف والقيادة التنظيمية.  وقبل أن أستلم التنظيم، سلمني الشهيد كمال عدوان الجانب الفكري، فصرت أكتب تعميماً أسبوعياً للتنظيم في كل الساحات الفتحاوية.  وفي عمان أصدرت جريدة يومية اسمها “فتح”، وكان معي فيها الشهيد حنا مقبل.   ولكني كنت أيضاً عضواً في لجنة الإقليم، ومسؤولاً عن لجنة التنظيم، فوضعنا مخططاً لهيكيلية تنظيمية، تتألف من خلايا وفرق وشعب وما شابه، ووضعنا له برامج تنظيمية وثقافية وعسكرية، ولم يعترض أحد من القيادة على تلك الإجراءات.  وبعد ذلك تم تشكيل لجنة ميليشيا مركزية من كل المنظمات في الأردن، وكان أبو داوود قائد الميليشيا، واختارتني تلك اللجنة نائباً لقائد الميليشيا، وكان ذلك بداية دوري العسكري رسمياً.

س: هل كنت لا تزال متمسكاً بفكرة اليسار وقتها؟

ج: لا أزال حتى الآن متمسكاً بفكرة اليسار.

س: بالرغم من ذلك تم انتخابك بعد أحداث أيلول في الأردن عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح…

ج: تم انتخابي أنا وأبو داوود أعضاء في المجلس الثوري لحركة فتح في المؤتمر العام الثالث للحركة في غوطة دمشق في صيف عام 1971 على خلفية دورنا في أحداث أيلول عام 70، لكن عملية التهميش كانت قد بدأت بقوة في نفس الوقت، وقبل ذلك كنت قد غادرت الأردن في خريف عام 1970، ولم تسألني القيادة إلى أين أنا ذاهب ولم تسلمني أية مهمات أو مواقع، وقد عدت إلى بيروت على عاتقي، ورجعت إلى عملي في دار الطليعة، وكانت تلك واحدة من أخصب المراحل الفكرية بالنسبة لي، حيث أنتجت مجموعة من الكتب حول الثورة الفلسطينية وتاريخ القضية الفلسطينية، وفي نفس الوقت، رحنا نعدّ العدة لتأسيس الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، الذي أُشهرَ عام 1972، والذي انتُخبت أميناً عاماً له منذ ذلك الوقت، ثم انتُخبت أميناً عاماً له مجدداً حتى عام 1980.

س: الغريب أنك لم تحصل على شهادة جامعية، وفي نفس الوقت أنجزتَ عشرات الكتب والمؤلفات وعدد من الترجمات وآلاف المقالات وكمّاً هائلاً من النشاطات الفكرية والثقافية…

ج: لقد بدأت مسيرتي الفكرية بالسعي الحثيث لتملك اللغة العربية أولاً وقراءة المعاجم منذ المرحلة الابتدائية، وقد قرأت “المصباح المنير” للفيومي وأنا في السادس ابتدائي، ثم قرأت “عبارة الصحاح”، ثم تابعت هذا النهج وأنا في الثانوي، فاكتشفت معجم العين، وقرأته مراراً ولا أزال أقرأه، وغير اللغة والثقافة العربية اللغوية، اهتممت بالثقافة العربية الإسلامية، فقرأت الغزالي مثلاً، وقد كنتُ مرة في بغداد في أوائل السبعينات فوجدت كتباً للغزالي وقرأتها، وقد كوّنتُ مكتبة في بغداد أهديتها فيما بعد لدار الحكمة.  وقد اتّبعت عامةً سياسة قراءة كل ما يمكن أن أقرأه.  لكنني حاولت خلال ذلك أن أطور معرفتي بالإنكليزية وأن أدرس لغة أجنبية ثانية كالفرنسية أو الألمانية، وقد نجحت نسبياً في المهمة الأولى، ولدي سبعة كتب مترجمة عن الإنكليزية، ساعدتْ بتأمين دخل إضافي لعائلتنا، وكان منها كتب مهمة وقتها ومنها “القوة السوداء” لستوكلي كارمايكل وتشارلز هاملتون، وكتاب “حرب المقاومة الشعبية” للجنرال جياب، وكلاهما صدر عن دار الآداب، ولم تسمح ظروفي بتعلم لغة أجنبية أخرى.  وما زلتُ حزيناً لأنني لم أتمكن من تطوير معرفتي باللغات الأجنبية أكثر، لأنني أعتقد أن لغةً واحدةً لا تكفي في العصر الحديث.

ذهبتُ إلى جامعة بيروت العربية لمدة عامين لدراسة الفلسفة وعلم الاجتماع، ونجحت، لكن لم أستطع الاستمرار بسبب كثرة المشاغل والمسؤوليات السياسية والثقافية..

كتب ناجي علوش المتوفرة وغير المتوفرة على موقعه

ساعدنا باستكمال المؤلفات غير المتوفرة لدينا على موقع ناجي علوش ليستفيد منها الجميع.  إذا كان لديك أي من الكتب التي توجد أمامها علامات استفهام أدناه، فالرجاء التواصل معنا لنرتب طريقة الحصول على نسخة منك.  ولك جزيل الشكر مسبقاً.

عنوان موقع ناجي علوش هو:

http://najialloush.org/

بإمكانكم التواصل معنا على الإيميل التالي:

alloush2020@gmail.com

  • المؤلفات
  1. الثوري العربي المعاصر – دار الطليعة، 1960.
  2. الثورة والجماهير – مراحل النضال العربي ودور الحركة الثورية (1948-1961) – دار الطليعة، ط/ أولى 1962، ط/ ثانية 1963، ط/ ثالثة 1973.
  3. في سبيل الحركة العربية الثورية الشاملة – دار الطليعة، 1963.
  4. المسيرة إلى فلسطين – دار الطليعة، 1964. ؟؟؟؟
  5. المقاومة العربية في فلسطين – مركز الأبحاث، ط/ أولى، ط/ ثانية عن دار الطليعة، ط/ ثالثة 1967، ط/ رابعة عن لجنة تراث بيرزيت ، فلسطين المحتلة.
  6. الماركسية والمسألة اليهودية – دار الطليعة، ط/ أولى 1969، ط/ ثالثة 1980.
  7. الثورة الفلسطينية أبعادها وقضاياها – دار الطليعة، ط/ أولى 1970، ط/ ثانية 1978.
  8. مناقشات حول الثورة الفلسطينية – دار الطليعة، 1970.
  9. نحو ثورة فلسطينية جديدة – دار الطليعة، 1972. ؟؟؟؟
  10. حرب الشعب وحرب الشعب العربية – دار الطليعة، 1973. ؟؟؟؟
  11. التجربة الفيتنامية – دروسها السياسية والعسكرية – دار الطليعة، 1973.
  12. الحركة الوطنية الفلسطينية – أمام اليهود والصهاينة – مركز الأبحاث 1974، ودار الطليعة، ط/أولى 1977، ط/ ثانية 1982.
  13. حول الخط الاستراتيجي العام لحركتنا وثورتنا – دار الطليعة، 1974. ؟؟؟؟
  14. الحركة القومية العربية – دار الطليعة، 1975. ؟؟؟؟
  15. خط النضال والقتال وخط التسوية والتصفية – دار الطليعة، 1976.
  16. الخط العلمي الثوري والثورة القومية الديمقراطية – سلسلة الثقافة العربية، 1976. ؟؟؟؟
  17. حول الحرب الأهلية في لبنان – دار الكاتب، 1976. ؟؟؟؟
  18. عودة إلى موضوعات الثورة العربية – دار الكاتب، 1979.
  19. حوار حول قضايا الثورة العربية – دار الكاتب، 1979.
  20. حوار حول الأمة والقومية والوحدة – دار الطليعة، 1980. ؟؟؟؟
  21. الوطن العربي: الجغرافية الطبيعية والبشرية – مركز دراسات الوحدة العربية، 1986.
  22. الوحدة العربية: المشكلات والعوائق – المجلس القومي للثقافة العربية، 1991.
  23. المشروع القومي من الدفاع إلى الهجوم – الدار العربية للكتاب، 1991.
  24. الديمقراطية المفاهيم والإشكاليات – المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994.
  25. فكر المقاومة الفلسطينية (1948-1987) – لجنة تراث بيرزيت، 1993. ؟؟؟؟
  26. أوسلو وآفاق الصراع العربي الصهيوني – دار الكنوز الأدبية، 1996.
  27. الأساطير والوقائع: الصهيونية والقومية العربية – دار الشروق، عمان 1998.

  • جمع وتقديم
  1. أعمال بدر شاكر السياب الشعرية – دار العودة:
  • أ‌. المجلد الأول: مع تقديم في دراسة أدبه.
  • ب‌. المجلد الثاني: مع تقديم في دراسة شخصيته وحياته (سيرته).

                وقد صدرت في كتاب مستقل. ؟؟؟؟

  1. إيغال آلون: إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي – دار العودة، 1971.
  2. بندلي صليبا الجوزي: دراسات في اللغة والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي عند العرب – بالاشتراك مع جلال السيد – دار الطليعة واتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، 1975. ؟؟؟؟؟
  3. أديب اسحق: الكتابات السياسية والاجتماعية – دار الطليعة، ط/ 1978، ط/ ثانية 1982.
  4. محمد عزة دروزة: مختارات قومية – مركز دراسات الوحدة العربية، 1989.
  5. مدخل إلى قراءة عبد الحميد الزهراوي – وزارة الثقافة، دمشق 1995، مع تقديم مجلدين من أعمال الزهراوي الرائد القومي والمجدد الإسلامي.
  6. ناجي علوش ” إشراف وتحرير”: الحركة العربية القومية في مائة عام ، دار الشروق، عمان 1997.

  • المجموعات الشعرية
  1. هدية صغيرة – دار الكاتب العربي، القاهرة 1967.
  2. النوافذ التي تفتحها القنابل – دار الطليعة، 1970.
  3. المجموعة الشعرية الكاملة – وزارة الثقافة، بغداد 1979.
  4. عن الزهر والنار – المجلس القومي للثقافة العربية، 1991.

  • دراسات أدبية
  1. بدر شاكر السيـّاب: سيرة شخصية – دار العودة، 1974. ؟؟؟؟
  2. بعض مظاهر التجديد والالتزام في الأدب العربي – الدار العربية للكتاب، ليبيا – تونس 1978. ؟؟؟؟
  3. أبو الطيّب المتنبي: دراسة في هويته وشعره – دار الرواد، بيروت 1993.

  • الترجمات كلها غير موجودة
  1. دراسة عن الوضع الثوري في العالم، غيفارا – دار الطليعة، 1967.
  2. القوة السوداء، ستوكلي كارمايكل وتشارلز هاملتون – دار الآداب، 1968.
  3. حرب المقاومة الشعبية، الجنرال جياب – دار الآداب، 1967.
  4. نصر كبير ومهمة عظيمة، الجنرال جياب – دار الطليعة، 1968.
  5. من الذي سينتصر في فيتنام، فونجرين جياب – بالاشتراك مع منير شفيق والعفيف الأخضر،1971.
  6. الإصلاح الزراعي في الصين الشعبية – دار دمشق، 1966.
  7. الميزان العسكري في العالم 1972 – 1973، معهد الدراسات الاستراتيجية / لندن – المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973.

  • دراسة للموسوعات كلها غير متوفرة
  1. القومية، الموسوعة الفلسفية – معهد الإنماء العربي، 1988.
  2. الإصلاحية، الموسوعة الفلسفية – معهد الإنماء العربي، 1988.
  3. فكر المقاومة الفلسطينية – مؤسسة الموسوعة الفلسطينية، 1990.

ناجي علوش و أكذوبة “الربيع العربي”  

نسرين الصغير

سبق أن تناولنا سيرة المناضل القومي العربي ناجي علوش في العدد الرابع من طلقة تنوير، واليوم في العدد الخامس عشر، وهو العدد المخصص للمناضل ناجي علوش في ذكراه السنوية الثالثة، سنتناول موقفه من أكذوبة “الربيع العربي”، وسنتحدث عن شهادة ناجي علوش في مجزرة تل الزعتر.

عندما بدأ “الربيع العربي” أطلق ناجي علوش طلقة تنوير مصوّرة قال فيها ناجي أن هذا الربيع هو استمرار لسياسة الإمبريالية العالمية التي جزّأت الوطن العربي بعد الحرب العالمية الأولى، وأن الحرب ضد الأمة العربية هي نفس تلك الحرب باختلاف الوسائل، ولكن النتيجة أن الهدف والعمل واحد من العراق لليبيا وسورية، وكان ناجي علوش يضع مسافة في تاريخه بينه وبين الأنظمة العربية، لأنّ هذه الأنظمة قامت على الخرائط الاستعمارية وكوّنتها الدوائر الاستعمارية لكي تكون منسجمة مع واقع التجزئة.   أما بعد “الربيع العربي” فقد اختلف الأمر بالنسبة له، ففي ظل معركة صعبة ومعقدة ضد الأمة والقوى الممانعة يجب أن نقف مع القوى الممانعة وضد تفكيك البلدان العربية، وخص بالذكر سورية لمواقفها الممانعة والداعمة للمقاومة الفلسطينية واللبنانية ضد العدو الصهيوني، وهو ما لعب دوراً رئيسياً في تمكين المقاومة اللبنانية من إخراج  العدو الصهيوني من جنوب لبنان.  وبالنسبة لليبيا قال أنه يعترض على من ثاروا ضد العقيد معمر القذافي لأنهم ليسوا ثواراً لأن سقفهم هو حلف الناتو، واتهم الأنظمة العربية المتخاذلة أنها هي التي روجت ودعمت هذه الأكذوبة المسماة “ثوار”، و أكد أن الحرية للوطن العربي لا تأتي من الغرب والقوى الإمبريالية الإستعمارية لأنهم أعداء الأمة ولديهم برنامج لنهب ثروات الوطن العربي وتفكيكه، ويجب أن يكون موقفنا من حلف الناتو عدائياً و قتالياً وليس موقفاً استسلامياً وليس هناك مبرر أبداً للتحالف مع حلف الناتو حتى ولو كان ذلك من أجل تحرير القدس وإسترجاعها.

وفي العام الأخير من حياته كتب ناجي علوش عدة مقالات أوضح فيها موقفه مما يسمى “الربيع العربي”، فقال أن الموقف الرسمي للنظامين القطري والسعودي لا يعني اتخاذ موقف من الشعب العربي في قطر والسعودية، وأكّد أنّ أسلوب المعارضة السورية لم يكن تقليدياً ولم يكن سياسياً، بل كان أسلوباً عصابياً دموياً، وهو ما يثير الاستفزاز والنقمة.

كان ناجي علوش رافضاً لفكرة “الربيع العربي” التي قامت على التطبيع مع الكيان الصهيوني، والتعامل مع برنار هنري ليفي، والتعاون مع الغرب المحتلّ والدعوة للتدخل الخارجي في الوطن العربي، وأكّد أنّ من يتعاون مع الكيان الصهيوني ومن يعمل للسلام معه ليس عربياً، فالعربي الحقيقي هو الذي لا يتعاون مع الغرب لاحتلال وطنه أو يدعوه للتدخل في وطنه فيه.

– لمشاهدة ناجي علوش يتحدث عن “الربيع العربي”، انقر على الرابط التالي:

https://www.youtube.com/watch?v=w-W6-V_2rAQ

أما بالنسبة لمجزرة تل الزعتر التي حاول البعض أن ينسبها للنظام السوري، فقد خرج ناجي علوش وأطلق طلقة تنوير مصورة أخرى ليوضّح فيها حقيقة مجزرة تل الزعتر، حيث كان ناجي علوش نائب قائد منطقة بيروت الأولى خلال الحرب الأهلية في لبنان، ومنها منطقة الفنادق والأسواق في بيروت، التي كان قائدها محمد داوود عودة “أبو داوود”، وكانت في معركة الفنادق قوتان، الأولى من فتح يقودها أبو داوود، وهو نائبه، والثانية من الجبهة الشعبية-القيادة العامة ويقودها أحمد جبريل وأبو العباس.  وكان للتيار الذي يقوده أبو داوود وأبو إبراهيم في حركة فتح قوة أساسية في مخيم تل الزعتر بقيادة أبو عماد محمود دعيبس وأبو أحمد عماد سالم، وكانوا من قادة الصمود في مخيم تل الزعتر الذين قام ياسر عرفات بإعدامهما لاحقاً.  وقد كان واضحاً من التقارير التي كان يقدمها أبو أحمد وأبو عماد أن من يحاول إسقاط مخيم تل الزعتر هو القوات اللبنانية وحزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار وجبهة حراس الأرز، وكانوا هم الأساس حيث كانوا قد استنفروا كل قواتهم والقوى المسيحية المتعصبة للقتال معهم.  وأكد ناجي علوش أنه تحقق بنفسه من هوية الذين قاموا بمجزرة تل الزعتر، وقال أن النظام السوري لم تكن له يد في مجزرة تل الزعتر، وأن رميه بتلك المجزرة غير صحيح، ولو كان صحيحاً لذهب لدمشق ليتحدث مع المسؤولين في الموضوع، لكنها كانت إشاعات أطلقها طرف فلسطيني، وذكر بالاسم أبو إياد، لأنه كان يناور مع سورية لتقدمَ تنازلات ويحاول التبرير لاصطناع العداء لسورية، وأن القيادة الفلسطينية كانت دائماً تحاول إسقط مخيم تل الزعتر وذلك لأن أبو موسى مراغة قائد قوات فتح قرر بحس وطني وعسكري اقتحام مواقع القوات اللبنانية في الدامور وفي السعديات، وقام بالاقتحام ونجح، ولم يكن قد أخبر القيادة، وهو ما أغضب ياسر عرفات لأنه كان قد مدّ الحبال مع الكتائب والقوات اللبنانية، وقام بتعيين مسؤول الأمن القومي عنده أبو حسن سلامة مندوباً عندهم على أمل أن يفتح أبواب أوروبا وأمريكا لاقتحام “إسرائيل” ولهذا لم يسعى عرفات للحفاظ على تل الزعتر، بل دعم سقوطه للتسوية مع الكتائب والقوات اللبنانية، وعندما اشتد الحصار والهجوم على مخيم تل الزعتر اجتمع ناجي علوش وأبو داوود ووضعوا خطة لإنقاذ المخيم، وقالوا أنهم لو استشهدوا سيكونون قد فتحوا الطريق لتل الزعتر، وقرروا أن يقوموا بالعملية على مسؤوليتهم، لكن القيادة لم تقبل وعينوا مجلساً عسكرياً واستدعوا ناجي علوش لعرض خطة فتح الطريق للمخيم، وكان فيه محمد جهاد قائد الوحدات الخاصة عضو المجلس المركزي الآن والعقيد نصر يوسف الذي أصبح لواء فيما بعد، وأكد أنهم لم يقوموا بإنقاذ المخيم، وخرج أكثر من خمسمائة مقاتل من المخيم بأسلحتهم وأثبتوا أن الدخول للمخيم ممكن مثل الخروج منه، وهو ما أدى لإعدام أبي أحمد و أبي عماد لاحقاً.

– لمشاهدة ناجي علوش يتحدث عن معركة تل الزعتر، انقر على الرابط التالي:

https://www.youtube.com/watch?v=ekOHUNENGkI

وبعد أربعين يوماً من وفاته، وفي أول تأبين له كانت قد نظمته لائحة القومي العربي، ذكر ابنه د. إبراهيم ناجي علوش أن قومية ناجي علوش كانت أكبر من كل الحدود، وأنه عندما احتُلّ العراق كان والده عراقياً، وفي العدوان على لبنان كان لبنانياً، ولكنه مات سورياً.

بقومية ناجي علوش اجتمع المخلصون للوطن وللأرض وللقضية الفلسطينية، فأرسل عبد الحكيم جمال عبد الناصر برقية في ذكراه السنوية الأولى كتب فيها:

من صميم جرح مصر النازف، ومن صميم إصرار الوطنية المصرية على التغير الوطني الحقيقي واستعادة أمجاد مصر العظيمة، أوجّه أصدق وأحر التحايا لجمعكم الكريم ولراحلنا الأكرم، راحل كل الأمّة  المقاوم الفلسطيني البطل والشاعر العربي الكبير ناجي علوش.

لقد فقدنا ظاهرةَ وطنيةَ فلسطينيةَ وقوميةَ عربيةَ فذّة. عاش شريفاَ ومبدئياً، ورحل شريفاَ لا يعرف المساومة.  لقدغادرنا ونحن في حاجة ماسّةِ لحضوره بيننا، وعزاؤنا أنه ترك وراءه رصيداَ عالياَ من المبادئ في زمن لا يفوّت فيه الرجعيون وأعداء أمتنا أي فرصة لتشويه ما يمثلّه ناجي علوش من مبادئ قوميةِ سامية ـ ولا يساورني شك بأنهم لن يتمكنوا طالما  أنّ أمثال الراحل قد أقسموا على حماية مشروعنا القومي المجيد وسيحميه حتماَ كل شرفاء الأمة ممن يسيرون على خطى ونهج ناجي علوش.

و اليوم بعد ثلاث سنوات نقول: رحل المقاوم المناضل ناجي علوش لكن مبادئه وثوابته القومية العربية باقية فينا، ومواقفه حتى آخر لحظه في حياته اليوم نستشهد بها عندما كان المعظم يلبس نظارات سوداء لكي لا يرى أكذوبة الربيع العربي، وخلعها بعد دمار سورية واحتلال ليبيا وسيطرة الإخوان على مصر، والآن محاولة إلحاقها بتوأمها سورية في محاولة إعادة نفس المشهد من التفجير والتدمير وإستهداف الجيش العربي المصري.

ناجي علوش وثورة عام 1936 في فلسطين المحتلة    

 

معاوية موسى

 

إذا كان الموت المادي الذي يلحق بالكائن البشري يغيّبه، كفرد، عن الأنظار، فإن ما يتركه هذا الكائن، بخاصةً في إطار الفكر والأدب، يبقى وينتقل إلى الأجيال اللاحقة، ليساهمَ في تكوين الذاكرة الجمعية وفي تعزيزها، والأهم أدلجتها وصقلها وتأطيرها فكريا. من هنا تقتضي الضرورة – على الأقل للتحريض على القراءة- أن نساهم في إعادة قراءة إرث ينتمي الى حلم العروبة الصادقة، والإنسان المقاوم والجميل، إنه إرث المفكر القومي العربي الراحل ناجي علوش.

تعدّ الثورة الفلسطينية الكبرى ( التي انطلقت في 20 نيسان 1936 ) من أضخم الثورات الشعبية التي قام بها الشعب العربي الفلسطيني ضد المستعمرين الإنجليز واليهود المهاجرين إلى فلسطين في زمن الاحتلال البريطاني لفلسطين، وقد استمرت ثلاث سنين متواصلة ابتداءً من عام 1936 – 1939، حيث توافرت لها شروط الثورة هدفاً وأداةً وأسلوباً، وكانت الأطول عمراً قياساً بالثورات والانتفاضات التي سبقتها حيث وقعت معارك ضارية وعنيفة بين مقاتلي الثورة والجيش البريطاني والعصابات اليهودية.

وهي تمثّل محطة بارزة في حركة النضال العربي الفلسطيني ضد الصهيونية والاستعمار البريطاني منذ أواخر القرن التاسع عشر، حيث مرّت الثورة بمراحل عدة ابتداءً بإعلان الإضراب العام الكبير، والذي استمر ستة أشهر.

يقدم ناجي علوش وفي أكثر من كتاب وكرّاس، استعراضاً لأهم أسباب الثورة، ويستعرِض أحوال المجتمع الفلسطيني قبل وخلال الثورة، مع تحليل عميق للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويقدّم أيضا تحليلاً لأسباب نهاية الثورة وعدم تحقيقها لأهدافها.

في كراسه “ ثورة 1936 والانتفاضة المعاصرة” يقدم ناجي بحثاً هاماً عن ثورة الـ36 حيث يسود اعتقاد خاطيء وكسول أن التاريخ يبدأ من ال48، وإذا كان الكراس يقدم مقارنة لثورتين مختلفتين في زمنين مختلفين، إلا أنك تجد في الوقت نفسه أنك أمام حالة واحدة قاسمها المشترك الأكبر هو القضية الواحدة والعدو الواحد، وأن الظروف والقوى العربية والدولية المؤثرة في الصراع واحدة، والتفريط واحد، وأزمة الحركة الشعبية العربية واحدة، وإن اختلفت التسميات، فالواقع العربي عند بدء انتفاضة عام 1987 كان متماثلا مع الوضع في العام 1936، فعلى صعيد الأنظمة العربية فإنها كانت في العام 1936 تتسم بالارتباط بالإمبريالية العالمية والخضوع لمخططاتها وأجندتها كما في العام 1987، فهي تتبنّى تصفية القضية الفلسطينية باسم الحلّ السلمي أو الحل السياسي، وهو ما أرادَ ناجي أن يصل إليه فعلا من خلال طرحه لتلك المقاربة.

 

هذا الكراس الذي بين أيدينا يقدم دراسة جادة وشاملة لثورة عام 1936 في فلسطين، وفي أقل عدد من الصفحات نجد كراساً مهماً وبسيطاً ومباشراً، يحصر ناجي من خلاله العدو في مثلث أضلاعه هي الإقطاع العربي الذي استغل الوجود الصهيوني الرأسمالي لزيادة ثرواته ورئاسة الحركة الوطنية لتفعيل مصالحه لا مصالح الأمة، أما الضلع الثاني فهم الحكام العرب الذين كان لهم عظيم الأثر في ضياع فلسطين، ثم يأتي الضلع الثالث ممثلا في الاستعمار البريطاني لفلسطين والحلف الإمبريالي-الصهيوني. غير أننا نجد في كتاب “المقاومة العربية في فلسطين” أن هذا “العدو” المثلث سوف يترك بصماته على تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية منذ 1936 بصورة أوضح مما كانت عليه في أي وقت مضى، وحتى الهزيمة الثالثة التي تلحق الجماهير الفلسطينية والعربية في 1967، وبصورة خاصة على هذه النقاط الثلاث وعلى الجدلية المتضمنة في كل منها على حدة والقائمة فيما بينها جميعاً.

بعيداً عن أحاديث الخيانة والعمالة، هنالك أيضا جانب آخر يتطرق إليه الكتاب هو طبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية في فلسطين آنذاك، وهو جانب مهم، حيث تتوضّح للقارئ كل العوامل التي دفعت بريطانيا  للاستعاضة بالحركة الصهيونية عن الطبقة البرجوازية التي استفادت من الاستعمار في البلدان العربية الأخرى. وهو مدخل ممتاز لفهم تعقيدات القضية الفلسطينية في فترة ما قبل احتلال فلسطين عام 48 وتبيان مسار تطور النضال الفلسطيني ومدى تعقد أوجهه، ما أفرز الثورة الكبرى التي انهزمت، ومهّدت بهزيمتها طريق احتلال فلسطين.

أما في كتابه الموسوم “الحركة الوطنية الفلسطينية أمام اليهود والصهيونية” والذي يلقي أضواء كاشفة على جوانب أخرى، كما جاء في مقدمة الطبعة الثالثة له، إلا أنه يشكل تتمة للكتاب السابق، لأنه تناول الفترة ذاتها تقريبا.  حيث يوضح علوش بالنسب والأرقام رؤوس الأموال اليهودية وكافة جوانب النشاط الاقتصادي المرتبطة بالوجود والنفوذ الصهيوني أبان وحتى قبيل بدء الإضراب العام وإعلان ثورة الـ36، الأمر الذي يجعله توثيقا مهماً لتلك الفترة، فيوضح كيف أثّر رأس المال اليهودي القادم مع تسهيلات المستعمر البريطاني في تحويل إنتاج فلسطين من زراعي إلى صناعي، وكيفية تأثير ذلك على الفلاح والعامل الفلسطيني. كما أنه عرض أسباب تفكك الكتلة الوطنية والحركة الوطنية الفلسطينية، وفشلها في إدارة الأمور، وعشوائيتها وتشرذم قياداتها.

الميزة العظيمة في هذا العمل هي تناوله لبداية الصدام في الصراع العربي-الصهيوني ويوثق تضحيات الفلسطينيين من أجل حماية الوطن، حيث يفنّد منطق أن العرب هم من باعوا فلسطين بتراب الأموال.

يعرض ناجي علوش أيضاً في ذلك الكتاب مسببات الثورة، وبدء تكوّن الوعي الفلسطيني تجاه الحركات الصهيونية، وأطماع الحكومة البريطانية وأسباب تحقيقها هذه الأطماع عن طريق استغلال الصراع الطبقي المتواجد في فلسطين في فترتها.

علوش يقدم في كتابه الوضع الفلسطيني منذ البدء، فلسطين لم تبدأ قضيتها منذ الـ48 فقد كان هناك قبلها كفاحٌ كبيرٌ للشعب الفلسطيني بشعرائه وكتّابه، بفلاحيه وعماله، بمُسلميْه ومسيحييه، فنظرتنا للتاريخ الحديث لفلسطين مختزلة بـ”النكبة”، وهي حدثٌ على أهميته الكبرى مجرد نتيجة لأحداث تراكمية عديدة أبرزها إجهاض ثورة عام 1936 بعد ضغوط من أنظمة عربية عميلة ساهمت بشكل مباشر في القضاء عليها، بالإضافة إلى عوامل أخرى كدعم بريطانيا العسكري لليهود في فلسطين.

 

عن ضرورة  دمج  تراثنا الفكري في المشروع القومي العربي: الرشدية نموذجا

إبراهيم حرشاوي

تتّسم الأدبيات القومية العربية بعزوفها عن التطرّق للتراث المعرفي العربي – الإسلامي، وبالأخص الجانب الفكري والفلسفي منه، بشكلٍ يليق بمتطلبات المشروع القومي العربي النهضوي.  فالتراث غائبٌ تماما سواء كمرجعية للتنظير للمستقبل أو كموضوع لمراجعته مراجعة  تشريحية – نقدية، إلا إذا استثنينا بعض النصوص اليتيمة هنا وهناك.  فالفكر القومي العربي يؤسس للقومية العربية كمشروع سياسي وحضاري متكامل خارج إطار التراث، أي من خلال التجربة الأوروبية على مستوى أفكارها وإشكالياتها، وهذا ما يجعل الدعوى إلى إعادة إحياء تراثنا الفكري في إطار تطوير المشروع  القومي العربي ضرورةً ملحةً  لتاصيل عدد كبير من مفاهيمنا وطرح إشكالياتنا الذاتية المتراكمة تاريخيا على مائدة الفكر، وأحسن مثال على ذلك هي إشكالية العلاقة بين الوحي والعقل، وبين الدين والدولة والمجتمع.

وبما أن الصراع الفكري في الوطن العربي يحتدم بين الطرح الظلامي وبين ما تبقّى من الطرح التنويري-الحداثي التي تمثّله النخبة الوطنية واليسارية العربية، ينبغي إعادة النظر في موروثنا الفكري وتوظيفه في هذه المعركة الثقافية بهدف تغذية الطرح العقلاني وإعادة إحيائه كبديل يحمل بين طياته الأصالة والمعاصرة.  وفي مضمار كلامنا هذا، يتوجب علينا النظر إلى إنصاف مكانة العقلنة لدى أحد أكبر فلاسفة الحضارة العربية – الإسلامية ألا وهو ابن رشد، قاضي قضاة قرطبة في عهد حكم الموحّدين في الأندلس، الذي فرض نفسه على مستوى الفكر العربي -الإسلامي عبر كتبه النقدية الثلاثة: فصل المقال، وكشف عن مناهج الأدلة، وتهافت التهافت.  يتميز ابن رشد عن باقي فلاسفة الحضارة العربية – الإسلامية في كونه دافع عن العقلنة بصفته قاضياُ شرعياً.  فقد واجه الغزالي وأمثاله ممن نهوا عن النظر في كتب الفلسفة  أو كفّروا الفلاسفة داخل إطار الشرع وأصوله.  تتجلّى هذه المقاربة الفقهية الإسلامية الداعمة للعقلنة والمنطق في عنوان كتابه: “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”.  فالكتاب عبارة عن فتوى دينية تؤسس للخطوط العامة للعلاقة بين الدين والفلسفة انطلاقا من مبدأ ” الحق لا يضاد الحق”، مفنِداً من خلالها  الطرح السائد  لدى فقهاء الأندلس الذين عارضوا كل ما له علاقة بالفلسفة جملة وتفصيلا.

لقد رتّب ابن رشد  العلاقة بين الوحي والعقل بناءً على الفصل الكلي بين علوم الغيب وعلوم الشهادة حيث يعتبر أنّ لكل منهما طبيعتها الخاصّة التي تختلف جوهريا على الأخرى، مبررا ذلك بعدم إمكانية دمج مبادئ الفلسفة في الدين أو العكس من دون التضحية بكليهما. كان مُراد ابن رشد من الدعوى إلى هذا الانفصال منع إفساد الفلسفة وتحويلها إلى غنوص عرفاني.  فالرشدية شكّلت لهذا السبب قطيعة معرفية مع الفلسفة الإسلامية المشرقية، مما جعل الرشدية بوابة لثورة ثقافية تنويرية حقيقية بحيث أن الرشدية، عكس الفلسلفة المشرقية السينوية (نسبة إلى ابن سينا) الباطنية، تقوم على عقلانية صارمة ومنفتحة. وفي هذا الخصوص كان ابن رشد مدركا تماما لعالمية المعرفة، مما جعله يسلك مسلكا موضوعيا في التعامل مع “علوم الأوائل”، أي العلوم التي كانت تشكل علوم الآخر ساعتها. ولهذه الصفة بالذات يرى بعض المفكرين العرب أمثال الدكتور محمد المصباحي والدكتور محمد عابد الجابري ضرورة إعادة إحياء مبادئ الفكر الرشدي بهدف صد المدّ الأصولي الظلامي والتغريبي الليبرالي، وخلْق بديل حداثي يحمل بذور التراث. فالجابري يرى أن على الرشدية أنّ تتجسد في عصرنا هذا عبر قطع العلاقة مع الموروث “السينوي” أي اللاعقلانية الدينية المتمثلة حاليا في التصوّف والدروشة على المستوى الفلسفي- الفكري.  كذلك ينبغي -حسب قوله- بثّ الروح الرشدية عبر ” تجنب تأويل الدين بالعلم وربطه به، لأن العلم  يتغير ويتناقض ويلغي نفسه باستمرار. يُضاف إلى ذلك، عدم حاجة العلم لقيود تأتيه من خارجه (الدين مثلا) لأنه يصنع قيوده بنفسه. وانطلاقا من الفصل التام الذي دعى إليه ابن رشد بين منهجي الفلسفة والدين، يرى الجابري الحاجة إلى التعامل مع التراث على أساس فهمه من داخله، كما يرى ضرورة التعاطي مع علوم وأفكار الآخر على الأساس نفسه أيضا.

إنّ هذه المقاربة الرشدية ملهمة حقا لتحفيز الثقافة العربية المعاصرة لتبني الطرح العلمي والعقلي بدون عقد وحساسيات إزاء أطروحات غربية أو غير غربية طالما أنها توافق السياق والمصلحة العربية ولا تخضع لمنطق التبعية.  فالحركة التنويرية الأوروبية تجاوزت “حاجز الآخر” مع ترجمة الفلسفة الرشدية إلى اللاتينية وقراءتها وتوظيف بوصلتها العقلية على ما كان يُمليه الوضع الأوروبي منذ القرن الثالث عشر حتى مشارف القرن التاسع عشر.  ومن الأرجح أن نظرية ابن الرشد فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والفلسفة قد تكون أسهمت بطريقة أو بأخرى في بلورة فكرة العلمانية في أوروبا.  ويرجع ذلك طبعا إلى إمكانية اعتبار فصل الدين عن الدولة امتدادا طبيعيا للنظرية الرشدية، لأنهما كفكرة عمليتان متكاملتان، خصوصا إذا أخذنا هيمنة الكنيسة على المجتمع الأوروبي لمدة طويلة بعين الاعتبار.

فمشروع العقلنة ظاهرة تاريخية في الحضارة العربية – الإسلامية، حيث عرفت ذروتها مع دولة العقل العباسية التي قادها الخليفة المأمون في المشرق ودولة الخليفة أبي يعقوب الموحّدي في المغرب والأندلس.  ومن المعروف أن التجربتان تفاعلتا مع سياقهما الفكري بشكل إصلاحي، مستمدتان من المخزون المعرفي الذاتي والأجنبي (اليناني-الأرسطي) بدون أن يؤدي ذلك إلى الانصهار في ثقافة الآخر طبعا، بل أدى ذلك إلى خدمة المصلحة الذاتية والتطور العلمي والحضاري بالدرجة الاولى. فالمشروع القومي العربي بصفته مشروعا للأمة  يحتاج إلى الروح الرشدية كما يحتاج لإغناء أدبياته بكل ما هو تنويري وعقلاني في تراث العربي- الإسلامي بصيغة تنسجم مع روح العصر ونهجه العلمي-العقلاني من جهة  وقضايا الأمة الفكرية والدينية والمذهبية من جهة أخرى.

المراجع:

-الدكتور محمد المصباحي، فلسفة ان رشد، مركز دراسات الوجدة العربية، بيروت 2011م.

-الدكتور محمد عابد الجابري، نحن والتراث:قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1993م.

-الدكتور محمد عابد الجابري، ابن رشد: سيرة و فكر-دراسة ونصوص-،مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2001م.

-عزيز العرباوي، تجليات التراث في الفكر العربي والإسلامي: الجابري وأركون نموذجا، نادي تراث الإمراث، أبو ظبي 2013م

 

موضوعة فلسطين في المسرح العربي (2-2)

طالب جميل

في المسرح الفلسطيني كانت فلسطين حاضرة دائماً، فقد كتب غسان كنفاني ثلاثة نصوص مسرحية هي (الباب) و(القبعة والنبي) و(جسر إلى الأبد)، حيث لم تكن هذه المسرحيات في معزلٍ عن تناول الواقع الفلسطيني، وعبرت بشكل رمزي عن مأساة الإنسان وصراعه اليومي المتواصل مع الاحتلال، فقد حملت مسرحية (القبعة والنبي) التي ظهرت عام 1967 رؤية فكرية متطورة لحقيقة الصراع العربي مع الكيان الصهيوني.

أما المخرج الفلسطيني (وليد عبد السلام) وهو بالمناسبة مغنٍ وملحن ومؤلف وممثل مسرحي، فقد قدم عدة أعمال مسرحية تنطلق من منطلقات فكرية واجتماعية فرضتها طبيعة الواقع السياسي الذي يعيشه الإنسان الفلسطيني في ظل الاحتلال، إذ أن توجهه للشكل المسرحي الممكن اتباعه ينبع من إيمانه بأن الفن وسيلة كفاحية وشكلٌ من أشكال النضال ضد العدو حيث يظهر دوره المهم في تعرية الواقع أمام الجماهير وفي التوعية والتحريض والتعبئة السياسية ضد المحتل، لذلك جاءت عملية اختياره للنصوص متوافقةً مع مغزاه النضالي، فأخرج مسرحيات (مغامرة رأس المملوك جابر) و(العتمة) و(الفيل يا ملك الزمان)، مقرباً أحداثها من حقيقة الواقع الفلسطيني في ظل الاحتلال الصهيوني في محاولة منه لخلق مسرح يزيد من خلاله القلق لدى المتلقي ويدفعه إلى المبادرة لتغيير الواقع من خلال الثورة والمواجهة.

في العراق تعد تجارب المسرح السياسي في العراق من التجارب الريادية والهامة في المسرح العربي، وذلك لما لها من مستوى متقدم في الطرح وقدرة عالية في التعامل مع القضايا المصيرية الملحة.  وتأخذ تجارب المسرح السياسي في العراق – حول قضية فلسطين- مساحة واسعة على مستوى النصّ والعرض المسرحيين، لا سيما أنّ هذه القضية قد شكّلت القضية المركزية الأولى بعد أن استلم حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة في العراق عام 1968، فقد قدمت مسرحية (أنا ضمير المتكلم ) إعداد وإخراج (قاسم محمد) حيث ارتكز في هذا العرض على عرض أحداث القضية ضمن مسارها التاريخي فتناولت هذه المسرحية قضية الشهيد كقضية عطاء إبداعي.

قُدمت مسرحية (حفلة سمر من أجل خمسة حزيران) لسعد الله ونوس على المسرح العراقي، حيث نوقشت في هذا العرض، وضمن أجواء من التساؤلات، الأسباب التي لا تجعل الفلسطينيين خاصة والعرب عامة يقاتلون الصهاينة بعد حرب 1967 مثلما فعل الفيتناميون في قتالهم العادل ضد المستعمر الأمريكي.

وقدّم جواد الأسدي عام 1988 مسرحية (رقصة العلم) حيث حاول الأسدي في كل تجاربه المسرحية أن يتّخذ من الفلسطيني بعداً لكل إنسان مستلَب من وطنه.

عُرضَت مسرحيات أخرى في العراق محورها القضية الفلسطينية منها على سبيل المثال لا الحصر مسرحية (بطاقة دخول الى الخيمة) لعبد الأمير معلة من العراق، حيث كانت تحمل كشف وإدانة للاتجاهات الاستسلامية التي ظهرت على الساحة العربية بعد حرب تشرين 1973، ومسرحية (محاكمة الرجل الذي لم يحارب) لممدوح عدوان من سورية، وهي نقد ساخر للأجواء السياسية السلبية التي كانت سائدة في الوطن العربي قبل عام 1967، ومسرحية (باب الفتوح) لمحمود ذياب من مصر التي كانت نقداً جريئاً للأوضاع السياسية الشاذة التي سببت هزيمة 1967، ولكن بصيغة أكثر عمقاً وخيال أكثر خصوبة.

أما في مصر فقد كتب عبد الرحمن الشرقاوي مسرحية (وطني عكا) ويسري الجندي مسرحية (اليهودي التائه)، ولعل الفريد فرج من أبرز كتّاب المسرح الذين قاربوا هذا الموضوع وقد أشار في كثير من أعماله إلى أن المخطط الصهيوني لا يستهدف الأرض الفلسطينية فحسب بل تمتد أطماعه إلى كافة الأراضي العربية، وأن الفلسطيني صاحب ذاكرة لا تموت، فمهما سافر أو اغترب وابتعد فإن أرضه تبقى في قلبه يعاهد نفسه على العودة إليها.

بخصوص المسرح الجزائري الذي هو جزء من المسرح المغربي فقد تفاعل مع القضية الفلسطينية بشكل كبير، منذ البدايات مع”مسرح الهواة”، حيث كانت القضية حاضرة ولا تزال في الأرشيف المسرحي هناك الذي لا يخلو من معالجة القضايا العادلة للأمة العربية، وعليه فإن حضور القضية الفلسطينية كبير على الخشبة الجزائرية، رغم أن شكل الخطاب المسرحي اليوم قد تغير من الخطاب الحماسي المباشر إلى خطاب رمزي إيحائي يوازي بين خطي الجمالية الفنية والرمزية الفكرية، ومن جهة أخرى وعلى مستوى الاقتباس والترجمة، التزم المسرح الجزائري بتجسيد نصوص عالمية لكتاب ثوريين تبنوا القضايا التحررية؛ أما القضية الفلسطينية فقد كانت دائما في صميم اهتمامات الخشبة الجزائرية من خلال عديد الأعمال على غرار أعمال كاتب ياسين ومسرحية “فلسطين المخدوعة”.

أما المسرح المغربي سواء هاويا أم احترافيا، فقد اهتمّ بالقضية الفلسطينية وكان جزء كبيرا من المسرحيات المغربية محمَلا بالهم القومي، يجسّد أبطالها وشخوصها القضايا العربية وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية، وهي مسرحيات لاقت تجاوبا كبيرا وتعاطفا شعبيا عفويا وصادقا في كل عروضها، هكذا نجِد أن مسرحيات “مسرح الهواة” في الستينيات كانت بمثابة مرآة لما يجري في المشرق العربي كحرب فلسطين48

والعدوان الثلاثي على مصر 1956 وحرب حزيران 1967 وحريق المسجد الأقصى عام 1968، وهي مسرحيات أبقت على تلك الروح مشتعلة توّاقة داخل النفس المغربية المعروفة بانخراطها الكلي وتعاطفها الكبير مع القضايا القومية، بل إن أسماء بعض المجموعات المسرحية في المغرب كانت تحمل أسماء وعناوين قومية واضحة مثل فرقة الوحدة العربية بالدار البيضاء، ومن المسرحيات الحديثة التي واصلت حمل الهم القومي والتعريف به والتذكير به لدى مختلف الأجيال نذكر من بينها مسرحية: “البحث عن رجل يحمل عينين فقط” و”الخروج من معرة النعمان” للمسكيني الصغير.

أما في بقية الأقطار العربية الأخرى كالأردن وبعض دول الخليج العربي فقد قُدمَت بعض التجارب المسرحية التي حمّلت الهم الفلسطيني، وكانت فلسطين حاضرة بشكل مستمر في كثير من العروض المسرحية، لكنها لم ترتقِ إلى المستوى المأمول على مستوى الأداء والإخراج ولم تطرح القضية الفلسطينية من منظور قومي حقيقي مبني على الإيمان بحتمية الوحدة العربية.

المراجع:-

  • بهاء بن نوار : سعد الله ونوس ومسرح القضية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
  • د. يحيى البشتاوي: دراسات في الأدب المسرحي 2009.
  • د. يحيى البشتاوي: فلسطين في المسرح العربي، وزارة الثقافة، الأردن 2008.
  • د. فائق مصطفى: في ذاكرة المسرح العربي، وزارة الثقافة – العراق 1990.
  • ياسين سليماني: تجليات موضوعة فلسطين في مسرح ألفريد فرج، مجلة أفكار العدد (312).
  • المسرحي العراقي ثائر القيسي : حوار مع جريدة المقام الجزائرية 24/5/2013.

مدينة عربية: أريحا

علي بابل

ربما كان معنى اسمها القمر، من الفعل يرحو الكنعاني، وربما هي الاستراحة، ولكن المؤكد أنها لا تزال ترزح تحت ظلّ الاحتلال الصهيوني. أريحا مدينة عربية فلسطينية كاد الزمان أن يتوّجها أميرة المدن لولا أنها رفضت أن تكون أميرة بلا إمارة، ففارسها العربي لا يزال بعيداً عنها منذ أكثر من ستة عقود خلت.

أريحا أقدم المدن المسوّرة، وإحدى أهم المدن الزراعية قبل أكثر من 10 آلاف عام.  وفي 8000 ق.م، كانت في فترة المشاع، أو ما يسمى العصر الحجري الحديث ” Neolithic”، مكاناً استقر فيه أكبر عدد من السكان في ذلك الوقت، وعلى أرضها تأسست أولى المستوطنات الزراعية الكبيرة في العالم القديم. أريحا التي تميزت بمساكنها الدائرية الشكل في عصور ما قبل التاريخ، مرّ عليها الفراعنة العرب وقبائل الهكسوس العرب وكانت مقراً للعمونيين في فترة من الفترات وطريقاً لإمداد جيوش الشام تحت حكم الأيوبيين، فطريق تحرير بيت المقدس مرّ من أريحا كما سيمر قريباً من دمشق بني أمية.

هي أخفضُ مدن الأرض عن سطح البحر، تحتضن قصر هشام الذي بُني في فترة الحكم الأموي، هذه الفترة التي ازدهرت فيها المدينة كما كل مدن بلاد الشام، والتي أعادت لأريحا قمرها من خلال ازدهار الزراعة وطرق التجارة، فقد كانت أريحا تعتمد على زراعة قصب السكر والنخيل والموز ولم تزل إلى الآن، رغم صعوبة الحياة تحت سنابك خيول الصهاينة.

حال أريحا من حال دمشق وبغداد في فترة الاحتلال التركي العثماني، أهمِلت المدينة وأصبحت قريةً تكاد تكون منسية، حتى عندما ضربها زلزال دمّر أغلب المدينة في الفترة الأموية عادت المدينة إلى الحياة بسرعة ونشاط، فقد كان للعرب الحكم والسلطان، فلا تركي ولا بويهي يحكم ليدفع العرب خارج التاريخ.

دير يوحنّا المعمدان قام على أرضها في بداية القرن على يد “السراق” أو المستشرقين كما يقال لهم!!!

بُنيت الأديرة وسُرق التاريخ ولم يبقَ لأريحا سوى ذكرى وأمل أن تعود الحياة منيرةً كما القمر، لنذكر أن أريحا انتفضت في العام 2001 مع بقية المدن العربية في فلسطين، ومن أرضها خُطف الأسرى من معتقل العملاء إلى معتقل الأعداء.

مدينة أريحا أقدم المدن المأهولة إلى الآن، وأقدم المدن الزراعية في التاريخ، بقيت صغيرة بعدد سكانها الذين لا يتجاوزون عشرين ألفاً صامدين رغم أنف الاحتلال، تزيّن غور الأردن بزهورها الربيعية وقصبها السكري وسمرة شبابها وبناتها.

 

قصيدة العدد/ أديب ناصر في غناء ناجي علوش

(الشاعر أديب ناصر ولد في بير زيت في العام 1939، وهي أيضاً البلدة التي ولد فيها ناجي علوش، وقد عمل في الصحافة والإذاعات العربية في دمشق وعمان وبيروت وبغداد، وله مسرحية بعنوان “انتفاضة داعية”، ومن دواوينه الشعرية: واحة الأشواق الحزينة وخطوات على طريق الآلام. )

حياً رحل

بحشود حُجته

وأجنحة الكلام

وبصخرةٍ

كان قد خبأها

لكي تلد الجبل..

حياً رحل

بخطاه تسبقه إلى أمرٍ

جلل

وبدمعةٍ

شهقت بأعلى الشوق

للوطن الحزين

مدنٌ مدماةٌ

وأقداسٌ تداسُ

وخيمةٌ

بغبارها العربي

أدمن الطلل

ووسادةٌ ما زال زعترها

يهشمُ

فوق تل

هل ليلةٌ أخرى؟؟

ومذبحةٌ..؟

وأيتامٌ بلا سندٍ..؟

وأفواهٌ بلا أودٍ..؟

وهل..؟

ماذا لديك لظهرهِ

وجراح أمته الثقل؟

يا ليلةً أخرى

ألا يكفي البسالة ما احتمل؟

يا كم جفلت..

وكم كمنت سراديبُ الظلامِ

وما جفل

يمشي ورايته الشقيف

يمشي وفي يده الرغيف

وحفيف ما اقتلعوا من الشجر العتيق

هو الحفيف

ونزيفه قبل النزيف

كوني إذن جهةً

ومن جهةٍ إلى جهةٍ

إلى سفرٍ طويل

كم فيه من شوقٍ إلى سفرٍ طويل

ليحط في حدق الرفاق المولعين

بطلعة النجم البهيةِ

والرفاق الساهرين

على السبيل

هل قلتُ كان النجمُ

صار النجمَ

وارتفع الدليل

يكفيه فخراً أنه

لما تخيره الآجل

ما سلَّم اللحظات

زفرته الأخيرة بالعويل

قد كان قبّرةً

تسابق ريحها مرحاً

بل كان مُهراً

من دمٍ حرٍ بطل

مهراً.. بلهفته صهل

 

 

 

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..