كلمة العدد: اللغة العربية إلى أين؟
جميل ناجي
لقد ساد تعريف اللغة بوصفها وعاءً فكرياً ثقافياً ومخزناً للتجربة التاريخية والحضارية للأمم، مما يجعلها واحدةً من أسس تكوين القومية، بل ويعتبرها البعض أهم هذه الأسس على الإطلاق. ومن هنا يمكن اعتبار الاهتمام باللغة ورفعها إلى مستوى حضاري، واحدة من المهمات التاريخية التي تحملها حركة التحرر الوطني على عاتقها. كما أن اللغة كأساس للوحدة القومية جعَلها هدفاً لمحاولات التفكيك وضرب الوحدة القومية. فالأمم الغازية عبر التاريخ كانت تحاول دائما فرض لغتها على الأمم المهزومة.
لقد عمَدت الدولة العثمانية بدايةً إلى تجريد الأمة العربية من المقومات الفكرية والنهضوية على مدى قرون من الاحتلال التركي، وكذلك فعل الأعاجم الذين استولوا على مقاليد الدولة العربية-الإسلامية. ثم لحقهم الاستعمار، راعي التجزئة أيضاً، حتى وصل به الحد إلى مستوى شطب اللغة العربية في بعض الأقاليم كما حصل في الجزائر على أيدي الاستعمار الفرنسي، لنصلَ إلى المحاولات الشرسة التي تقودها الإمبريالية اليوم لإشاعة التفكيك الثقافي، ونشر الفكر الليبرالي لخلق أفراد متغرّبين كلياً وليس لغويا فقط على الصعيد القومي. كلّ ذلك تركَ أثره طبعا على اللغة العربية وشكّل عائقا حقيقيا أمام محاولات تحديث اللغة وتطويرها على أساس برنامج قومي نهضوي.
لا شك أن اللغة العربية مثّلت امتداداً حضاريا للغات العربية فيما قبل الإسلام، حيث أعادت اللغة العربية صياغة الإرث المشترك لهذه اللغات في إطار الوحدة السياسية للدولة الأموية. وقد لعبت اللغة العربية دورا حضاريا وإنسانياً رائدا في العصر الذهبي للأمة العربية، وشكّلت فيه لغة عالمية بامتياز للعلوم والفنون والترجمة وغيرها. فعلى سبيل المثال، ألّف ابن سينا 276 مؤلفا، كلها كُتبت بالعربية باستثناء بضع مؤلفات صغيرة كتبها بلغته الأم الفارسية. على أي حال، تخثّرت العربية مع وصول العثمانيين إلى الحكم، ناهيك عن التخلف العام الذي استعصى في كافة جوانب الحياة الأخرى.
حمل الرواد القوميون الأوائل مع بداية القرن التاسع عشر همّ إعادة إحياء اللغة العربية على كاهلهم، وشكلوا من بذلك منعطفاً نهضوياً للغة العربية آنذاك، وأعادوا اللغة إلى الساحة الثقافية والفكرية عامة من خلال المؤلفات والترجمات والصحف المتعددة، إضافة إلى المدارس والجمعيات الأدبية والفكرية وغيرها، في الوقت الذي كان يتلهى فيه الإسلامويون في تكفيرهم وتخوينهم، وفي إعادة إحياء بِدع الغزالي وابن تيمية. ولقد رفعت تلك الراية الأحزاب والحركات القومية فيما بعد لتنشطَ الحركة الثقافية والفكرية عامة في فترة المد القومي، مع مساهمةٍ حقيقيةٍ للأنظمة القومية عامة بهذا الاتجاه، كجزءٍ من المواجهة العامة للهجمة الغربية على الأمة بعد انحسار الاستعمار المباشر عنها.
لعبت جمهورية مصر العربية دوراً مركزياً قومياً على صعيد نشر وتطوير اللغة العربية والفكر القومي. وفي سورية رَعَت وزارة الثقافة السورية، على سبيل المثال، ترجمة عيون الأدب والفكر العالمي للغة العربية إدراكاً منها لأهمية الترجمة في ميزان تطوير اللغة وقدرتها على استيعاب الفكر العالمي الحديث، إضافةً إلى اعتماد العربية لغةَ للتدريس في الجامعات السورية. وهذا تأكيد على دور الفكر والرؤية القومية والقوميين عامةً في إبراز اللغة العربية وتطويرها، وهو دورٌ لم تتصدى له أي من الحركات الأخرى التي لم تتبنى توجهاً قومياً.
لكن رغم الإدراك التام لحجم المؤامرة التي تُحاك على الأمة، يجب التأكيد على بعض المفاصل الملحّة التي تشكل قاعدةً لتطوير اللغة وجعلها لغة عصرية تستطيع المنافسة في عالم تتفرّد فيه اللغة الإنكليزية اليوم بالهيمنة على كافة القطاعات الأكاديمية والتجارية وغيرها، وفي وقت تعاني فيه كثير من اللغات العالمية من الضمور كالفرنسية والألمانية مثلاً على وقْع العولمة الثقافية. ورغم الإسهامات السابقة للغة العربية، إلا أنها تقف اليوم أمام خطر الانقراض الحقيقي، إذا لم تستطع اللحاق بالركب الحضاري والحداثي في خضم الثورة العلمية-التكنولوجية الجديدة التي شهدها العالم منذ العقود الأخيرة للقرن العشرين.
لا تعبّر اللغة بمضامينها على أي حال إلا عن واقع اقتصادي-اجتماعي، وإنّ تأخّر اللغة العربية بشكل عام مرتبطٌ أساساً بالتخلف العربي نتيجة الهيمنة ومفاعيلها، وغياب المشروع القومي والهزائم التي مرّت بالأمة، منذ مشروع محمد علي باشا، فاسدلت بظلالها على اللغة وتطورها. إن التطور العلمي والصياغة النظرية للفكر الحديث العقلاني نشأت وتبلورت في بيئات مختلفة وبعيدة عن الواقع العياني العربي ومن خلال لغات أخرى، وهذا ما جعل اللغة العربية، بصيغها المستندة إلى حقبة الاقطاع العسكري وتخثره الثقافي، عاجزة نسبياً عن حمل الفكر المتقدم حتى من خلال عملية الترجمة الحثيثة، عندما توضع على المحك الحقيقي في مواجهة اللغات الأخرى. وهي مسألة بحاجة إلى تقييم وجهد حقيقي لإعادة بناء لغة مرنة، واضحة، علمية، عصرية قابلة لإعادة العرب إلى قلب الفعل الثقافي والعلمي والتقني في العالم، وهو ما تمتلك اللغة العربية الأدوات الداخلية لتحقيقه عند توفر الإرادة النهضوية المستقلة.
إن اللغة وسيلة للفهم والتواصل ونقل الأفكار وبلورتها وليست غاية، الغاية هي ترك مفاعيل الأفكار التي تحملها اللغة من وإلى الواقع، من نهضة وتحديث ومواجهة لمشاريع الغرب لتفكيك الأمة. إن اللغة المفروضة اليوم – والتي تحمل في طياتها ثقافة القرون الوسطى أكثر بكثير مما تحمله من العصر الذهبي للأمة كما كان عند المعتزلة وابن رشد – تتمحور حول واقع غريب، بعيد، ماضي انهزامي متردد نوعاً ما، أكثر مما ترنو إلى مستقبل يحمله العقل الحازم الثابت لتحقيق أهداف كبرى.
يشير علم النفس وعلم الألسنيات على سبيل المثال إلى ان النظام اللغوي المرتبط بالتذكير والتأنيث او التغيير في مقام الصوت او ارتفاعه، يلعب دوراً في البناء النفسي والعقلي للشعوب. وهذا يترك أثره على أنماط التفكير أيضا فيما بين تطور الأساطير او تقديس المتوارث من الأسلاف، او أنماط تدفع إلى التفكير والتأمل او حتى الإبداع. لقد أفرط الأصوليون في تقديس اللغة، لدرجة دفعت هذه اللغة إلى التخثر اليوم. وإذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامي في بواكير طلعته، لوجدنا نقلات ضخمة في تطور اللغة العربية حدثت دون ضجيج ضخم فارغ، كما يحدث اليوم.
تبقى المعركة قائمة على أي حال بين ما هو قائم وما يجب ان يكون، وعلى عكس ما يقول ابن خلدون بأن “لغة الأمة الغالبة غالبة ولغة الأمة المغلوبة مغلوبة”، فإن الأمم المهزومة يجب أن تخرج من سباتها وتواجه الإمبريالية وأذنابها، فصراعها من أجل وحدتها ونهضتها هو صراع من أجل لغتها أيضاً.
لغتنا العربية
من خطاب القسم الدستوري الثاني للرئيس بشار الأسد في 17/7/2007
(نقدم أدناه مقتطفاً من خطاب القسم الثاني للرئيس بشار الأسد يتناول مشكلة اللغة العربية وتقهقرها في عصر العولمة، وكيف يؤدي إضعاف اللغة العربية لإضعاف ارتباطنا الوطني والقومي وحتى الديني. وإذا كان الرئيس بشار الأسد، وهو الذي يرتجل بعض أكثر الخطابة العربية المعاصرة صفاءً من الناحية اللغوية، يتحدث بأسىً عن أخطاءٍ ارتكبها في الخطابة، فماذا عسى أن يقول غيره ممن يهشّم العربية بأشد مما يهشم به الأوطان؟! إنما نعيد نشر هذا المقتطف الذي لم ينلْ حقه من التغطية وقتها، إذ مرت عليه وسائل الإعلام لماماً، لنقول: لهذا استُهدفت سورية. فالدفاع عن اللغة العربية عنوان رئيسي للدفاع عن القومية العربية، وأعداء الأمة لا تفوتهم مثل تلك الرسالة، ولو فاتت بعض أبنائها – هيئة التحرير).
هذا الموضوع هام جداً وأول مرة أتحدث عنه… بدأتُ بهذا الموضوع ووضعته في خطاب القسم لأن هناك تراجعاً بالنسبة للغة العربية المرتبطة بالهوية العربية. ويجب إيلاء اللغة العربية التي ترتبط بتاريخنا وثقافتنا وهويتنا كل اهتمامنا ورعايتنا، كي تعيش معنا في مناهجنا وإعلامنا وتعليمنا كائناً حياً ينمو ويتطور ويزدهر، ويكون في المكانة التي يستحقها جوهراً لانتمائنا القومي. وكي تكون قادرة على الاندماج في سياق التطور العلمي والمعرفي في عصر العولمة والمعلومات، ولتصبح أداةً من أدوات التحديث، ودرعاً متيناً في مواجهة محاولات التغريب والتشويش التي تتعرض لها ثقافتنا.
لقد أعطينا في سورية اللغةَ العربيةَ كل الاهتمام، وتبوّأت موقعاً رفيعاً في حياتنا الثقافية منذ وقت مبكر، ومطلوبٌ منا اليوم استكمال جهودنا للنهوض بها، ولاسيما في هذه المرحلة التي يتعرض فيها وجودنا القومي لمحاولات طمس هويته ومكوناته، والذي يشكل التمسك باللغة العربية عنواناً للتمسك بهذا الوجود ذاته.
ويجب أن نتذكر أن دعمنا لتعلّم اللغات الأجنبية للوفاء بمتطلبات التعلّم والتواصل الحضاري مع الآخرين ليس بديلاً من اللغة العربية بل محفزٌ إضافيٌ لتمكينها والارتقاء بها.
وهنا يحصل الخلط، أي أنا مهتم جداً بتطوير نفسي باللغات الأجنبية وأتحدث بعض اللغات بطلاقة ولا يوجد لدي مشكلة، ومتحمس لهذا الشيء، ولكن بنفس الوقت أنا حريص على اللغة العربية. أول سؤال أسأله بعد أي خطاب: ما عدد الأخطاء اللغوية التي قمتُ بها، قبل أن أسأل عن مضمون الخطاب.
علينا أن نركز بشكل مستمر على هذا الموضوع.
في كل خطاب ننسى الكثير من الأفكار ولكن لا أحزن. ولكن إذا عرفت عدداً من الأخطاء اللغوية، وهي دائماً موجودة، فمع كل خطأ أشعر بالخجل. وأنا كلفت نائب رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية الدكتورة نجاح العطار منذ أشهر قليلة، وبدأت بعقد الاجتماعات مع الفعاليات المختلفة في الحكومة وخارج إطار الحكومة، لوضع إطار عام، لأن من الملاحظ تماماً من خلال الإنترنت والفضائيات وكل هذه الأمور، بدأنا نتأثر، ومع الوقت اللغة العربية ستصبح أضعف، وعندما تضعف اللغة العربية من السهل أن يضعف أي ارتباط آخر لنا سواء بالنسبة للوطن، بالنسبة للقومية أو بالنسبة للدين، هذه الأمور ترتبط باللغة.
اللغة في ميزان القومية العربية
إبراهيم حرشاوي
أثار رواد الفكر العربي المعاصر أسئلة عديدة حول دور اللغة العربية كمقوم أساسي من مقومات القومية العربية. وهي في الحقيقة أسئلة مهمة وجوهرية بسبب الدور الوجودي الذي تلعبه اللغة داخل أي مجتمع إنساني. فاللغة تمثل في الحقيقة روح المجتمع والقومية، وبالتالي تعتبر اللغة في جانبها التعبيري من أهم عوامل الشعور الفردي والجماعي بالانتماء لقوم وحضارة معينة.
وبالإشارة الى دور اللغة العربية في ميزان القومية العربية، يعتبر الأديب والناقد اللبناني إبراهيم اليازجي أول شخصية قومية معاصرة نظرت للقومية العربية انطلاقا من قراءة شاملة ودقيقة لدور اللغة في المجتمع. فاللغة حسب اليازجي هي العمود الفقري للبنية القومية لأي أمة (هو صاحب مقولة: اللغة هي الأمة بعينها) كونها أولاً تعد الفصل الفارق بين أمة وأمة، وثانيا لأنها تشكل الرابط الأهم والأكثر متانة بين أفراد الأمة، متجاوزةً بذلك الروابط الدينية والطبقية. هذا الربط بين الأمة واللغة جعلت قناعة اليازجي تصل إلى حد الإيمان بوجود علاقة عميقة وجدلية بين حيوية اللغة وحيوية الأمة.
طوّر لاحقاً المعلم الأول للقومية العربية ساطع الحصري هذا الطرح من خلال تعميق فكرة العلاقة الترابطية بين اللغة العربية والقومية العربية، إذ سلط الحصري في هذا الصدد الضوء على دور اللغة في تكوين قرابة نفسانية ومعنوية يشعر بها الأفراد في الأمم المختلفة، ويرجع هذا حسب الحصري إلى وظيفة اللغة كأداة تواصل بين الأفراد، ثم إلى دورها كأداة للتفكير. كما يعتبرها الحصري همزة الوصل التي تربط الأفراد بسلسلة من الروابط الفكرية والثقافية والقيمية المتوارثة عبر الأجيال، ليصل إلى الخلاصة التي توصّل إليها اليازجي قبله بأن اللغة أقوى رابط يربط الأفراد بالجماعة المعينة.
تجدر الإشارة هنا إلى العلاقة المتشابكة التي نبّه اليها الحصري بين اللغة وكيان الأمة موضّحا إياها من خلال دور اللغة البارز في الحفاظ على كيان الأمة التي تتعرض للاستعمار. فالأمة حسب الحصري لا تفقد كيانها ما دامت تحافظ على اللغة الخاصة بها مما يؤهلها لاسترجاع كيانها السياسي من قبضة المستعمِر عكس الأمة المحتلة التي تتبنى لغة المستعمِر.
لفهم أهمية اللغة العربية في وجود الأمة العربية، لا بد من تسليط الضوء على الحرب التي شنّها الاستعمار الأوروبي وغير الأوروبي ضد اللغة العربية منذ أوائل القرن التاسع عشر.
فقد ركز الاستعمار على النيل من أثر اللغة العربية الوحدوي عبر استبعادها من محيط العلم والثقافة والتعليم. وتجلى طمس الهوية العربية عبر سياسة تتريك الشعوب غير التركية التي انتهجتها دولة الاحتلال العثماني، حيث شملت هذه السياسة الشعب العربي الخاضع لمناطق نفوذها، وذلك من خلال منع التحدث باللغة العربية والاقتصار على استخدام اللغة التركية في الحديث والتواصل في الدوائر الرسمية. إلا أن هذا المخطط باء بالفشل بسبب دور اللغة العربية الفصحى في العبادة وبالأخص دور المساجد وقتها في تعليم قواعد اللغة العربية.
انتهجت فرنسا بالمقابل سياسة استيعابية كاملة للشعب العربي الذي خضع لاحتلالها عن طريق إعادة تشكيل الشخصية العربية وفقا لمقومات الحضارة الغربية، فقد ركّز الاستعمار على النيل من أثر اللغة العربية الوحدوي عبر استبعادها من محيط العلم والثقافة والتعليم. إضافة الى ذلك، بثت الدعوات لإبدال الفصحى بالعامية، ولا شك أن هذه الدعوة تلتقي من حيث الهدف مع الدعوة إلى استعمال لغة المستعمِر. وفي هذا الإطار أقام الاستعمار الأوروبي الدعوات المشبوهة لتطوير اللهجات العربية القطرية بصفتها “لغات حيوية وقائمة بذاتها”، معتبرا أن اللغة العربية الفصحى “لغة جامدة” بسبب ثبات قواعدها النحوية وبنيانها الصرفي وقد نتج عن هذه السياسة الاستعمارية ظهور فئات مناهضة للإنتاج باللغة العربية الفصحى بسبب الربط بينها وبين التخلف، متوّهمين أن ذلك سيرفع فرص ارتقاء المجتمع العربي.
بالمقابل توضح مركزية اللغة العربية لدى الحركات التحررية في الوطن العربي مدى أهمية المعركة اللغوية في تحرير الوطن. فمكانة اللغة العربية على سبيل المثال في أدبيات الأحزاب الوطنية المغاربية لا توازيها إلا مكانة الإسلام، ولذلك فإن الحركات التحررية التي ساهمت في الحكم بعد الاستقلال في أقطار المغرب العربي حرصت بشدة على تنصيص اللغة العربية بأنها اللغة الرسمية، كما أعطت الانتماء العروبي المكانة الأهم ضمن دوائر الانتماء للإنسان المغاربي.
بخصوص ميزة اللغة العربية، ينبغي أن نضيف بأن اللغة العربية، عكس اللغات الأخرى الأحدث عهداً، بقيت متصلة عبر مراحل الزمن المتعاقبة مما يجعلها همزة وصل حقيقية بين الإنسان العربي المعاصر وما بين أسلافه. وهذه خصوصية تمتاز بها الأمة العربية عن باقي الأمم واللغات المرتبطة بها في العالم ككل. ويرجع هذا طبعا إلى العلاقة بين الإسلام واللغة العربية التي يجسدها القرآن الكريم. فاللغة العربية تكتسب بذلك قوة إضافية لأن الدين يجعلها تحتل مكانا مقدسا، فالدين يعززها في جانبها القومي لأنه يحصنها بشكل قوي ضد الانقسام والتشتت اللغوي على غرار اللغة اللاتينية.
تبقى الخلاصة أن اللغة العربية هي العمود الفقري للقومية العربية مما يجعل الاستمرار في مواصلة معركة التعريب ضرورة ملحّة لتزويد الوجود القومي العربي بالطاقة اللازمة للمضي قدما في مسيرته التاريخية. وتقع مسؤولية الدفاع عن اللغة العربية على كاهل كل أفراد هذه الأمة وخصوصا الأطراف التي تتبنى مشروعا مقاوما وتحرريا في الوطن العربي، حيث أن الأمن اللغوي هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي، وحماية الأمة والوطن من التفكك والانهيار يبدأ عبر حماية الموقع الوحدوي للغة القومية.
مراجع:
-د.نازلي معوض أحمد، التعريب والقومية العربية في المغرب العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986م.
-مجموعة من الباحثين، اللغة العربية والوعي القومي-بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية-، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،1986م.
-د.إبراهيم علوش، أسس الفكر القومي العربي، فضاءات للنشر والتوزيع، عمان،2013 م.
-مجموعة من الباحثين، الأحزاب والحركات والتنظيمات القومية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2012م.
-Yasir Suleiman,The Arabic language and national identity,Edinburgh university press,2003
هل المشكلة في اللغة العربية؟
إبراهيم علوش
كيف يمكن للغة نُسِجت من لُبُناتها في القرون الوسطى علومٌ صرفة وتطبيقية في حقول الطب والهندسة والرياضيات والفيزياء والفلك والكيمياء والموسيقى، ناهيك عما صيغ من مفرداتها في مجال الشعر والأدب والفكر والفلسفة والفقه وعلوم الدين، والجغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع، أن تُتهم بإعاقة التقدم الحضاري والعلمي للعرب؟! لغةٌ تأسست في ظلها آلاف المدارس في المدن العربية، أصبحت نموذجاً للتعليم من خُراسان في الشرق إلى صقلية والأندلس وغرب أفريقيا، ونشأت في كنفها أوائل الجامعات ومراكز الأبحاث، ومنها الأزهر في القاهرة عام 969 ميلادي، وجامعة القرويين في المغرب عام 859 ميلادي، وجامعة الزيتونة في تونس عام 737 ميلادي، وبيت الحكمة في بغداد عام 840 ميلادي تقريباً حيث تمت أكبر عملية ترجمة وتعريب في تاريخ الثقافة من اليونانية والفارسية والهندية ومن اللغات العربية القديمة مثل السريانية والكلدانية والقبطية، كيف يمكن للغةٍ تملك مثل تلك السيرة الذاتية أن تصبح قابليتُها للانخراط في عملية التفاعل الحضاري وإغنائه موضع شكٍ أو تشكيك؟!
الحرف العربي، بالمناسبة، ليس المركِب الخطي أو الوعاء الأبجدي للغة العربية فحسب، فهو لا يزال يحمل على متنه كلياً أو جزئياً عشرات اللغات الأخرى، مثل الفارسية والأردية والباشتونية والبلوشية والسندية والكشميرية وبعض اللهجات الكردية وغيرها من اللغات في آسيا الوسطى وجنوب آسيا وأفريقيا؛ ناهيك عن لغات كُتِبت مفرداتها بالعربية فترات طويلة، مثل التركية، التي تخلت عن الأبجدية العربية في عشرينيات القرن العشرين، واللغة السواحيلية في أفريقيا التي انتقلت للحرف اللاتيني في القرن التاسع عشر مع مجيء الاستعمار الأوروبي، وكذلك الأذرية في أذربيجان، والنوبية في أفريقيا، ولهجات الأقليات التترية في بولندا وروسيا البيضاء وشبه جزيرة القرم، ولهجة البوسنيين في شبه جزيرة البلقان، وغيرها كثير. لسنا إذن إزاء أبجدية واهنة أو قاصرة عن ممارسة فعل الانتشار الحضاري بعيداً عن موطنها الأصلي، لأنها سليلة الأبجديات الأولى في التاريخ البشري، الفينيقية-الكنعانية، ولأن العربية تحمل في جيناتها اللغوية عنفوان أربعة آلاف عام من التطور اللغوي، منذ وجدت النقوش الأولى للهجات العربية القديمة، في سيناء أو بيبلوس (ولا يعنينا ذلك النقاش هنا حالياً).
المهم أن العربيةَ لغةٌ عريقةٌ في جذورها، تطورت وعاشت على مدى ألفيات، وانتشرت وتغلغلت عبر قارات العالم القديم كله، وأثرت في لغات كثيرة شرقية وغربية، وتحولت إلى رافعة ثقافية لمشروع حضاري عملاق في ظل الدولة العربية-الإسلامية، بخاصة في الطور العباسي الأول والثاني، عندما كان الغرب لا يزال يتمرغ في أوحال التخلف والانحطاط. وقد اثبتت اللغة العربية قدرتها على: 1) استيعاب أهم منتجات التراث العلمي والأدبي والفلسفي من اللغات الأخرى، وبعضها لغات قديمة جداً، وتعريبه، وقد لعب العرب المسيحيون، مثل يوحنا بن ماسويه، دوراً رئيسياً في ذلك المشروع، 2) تأصيل ذلك التراث وغربلته وتلقيحه بمرجعيات عربية وإسلامية، 3) لإطلاق دينامية إنتاج علمي وفكري وفلسفي أصيلة، باللغة العربية، ظلت تلعب على مدى قرون دوراً طليعياً رائداً في تقدم العلوم والتكنولوجيا والفكر العالمي. ويشار أن اللغة العربية لم تعجز يوماً عن إنتاج مصطلح عربي قادر على تصنيف ووصف كل فتح جديد في مجال الفكر أو العلم أو المخترعات، من ادوات الجراحة للزهراوي، لطرق تحضير الأدوية عند الرازي، للجبر عند الخوارزمي، لأجزاء العين عند ابن الهيثم، للأدوات الفلكية كالإسطرلاب، والمصطلحات المستخدمة لوصف العمليات الكيميائية مثل التقطير والتنقية والتخمير والتبخير، لخرائط الإدريسي، وغيرها كثير.
من البديهي أن اللغة العربية ما كان بمقدورها أن تستمر وترتقي، وأن تنتج علماً وفناً وأدباً يواكب العصر، وأن تفرّخ فيضاً من المصطلحات العلمية والفلسفية المتوائمة مع العقل العربي والواقع المتغير في آنٍ، لولا مرونتها العالية ومنابع الخلق والإبداع المتأصلة فيها لإنتاج عملية التوليد اللفظي والدلالي بشكلٍ متجدد. ولا تزال تلك المرونة وذلك الجوهر حاضرين في خواصها الأساسية عندما تتوفر الإرادة والجهد للاستفادة منها، ومن تلك الخواص الاشتقاق، أي توليد الألفاظ بعضها من بعض، بناءً على قوانين محددة، والرجوع بها لأصلٍ واحد، سواء كان ذلك الأصل فعلاً أو اسماً أو نسبة (مثل قومي/ة أو جذري/ة) وصولاً لتعريب الأسماء الأجنبية (مثل كلمة راديو، التي عُربت “مِذياع”، باعتبار أن اسم الآلة يجري على وزن مِفعال، مثل مِسبار، مِنشار، مِبرَد، مِكنَسة، إلخ… ويمكن أن تعرَّب الكلمات على وزن فاعول، مثل كومبيوتر الذي يصبح “حاسوب”، مثل قاموس، فانوس، ناقوس، صاروخ، إلخ…). ويمكن اعتبار الكلمات الأجنبية المعرّبة قبيلة أخرى من العرب المستعربة دخلتها من باب الثقافة.
كذلك الأمر بالنسبة للنحو والإعراب الذي لا يساعد على تبيان معاني القرآن الكريم فحسب بل على تبين الدلالات اللفظية والمعنوية للأسماء والأفعال عامةً، بناءً على موقع الكلمة في الجملة، مما يساعد على دقة الفهم، وهو ما لا غنى عنه في أي كتابة علمية أو فكرية دقيقة. والإعراب هو الذي يساعدنا على التمييز بين الالفاظ المتكافئة، فهو لا يقتصر على البعد اللفظي في النحو. مثلاً، لو قلنا: لا تتركْ النضال وتحاضرَ فيه (بفتح الراء في تحاضر)، فإن ذلك يفيد النهي عن ترك النضال وإتباع ذلك بإلقاء المحاضرات فيه، ولو قلنا: لا تتركْ النضال وتحاضرْ فيه (بتسكين الراء)، فإن ذلك يفيد النهي عن ترك النضال كما يفيد النهي عن إلقاء المحاضرات فيه، سواء كنت قد تركته أم بقيت تمارسه، فلا تتركه ولا تحاضرْ فيه بأية حال، ولو قلنا: لا تتركْ النضال وتحاضرُ فيه (بضم الراء)، فإن ذلك قد يفيد إباحة المحاضرة فيه، أي لك أن تحاضرَ فيه، مع أنها ثقيلة على السمع (لفظياً ومعنوياً!). والعبرة أن الحركات في آخر الكلام ليست فائضة عن الحاجة وليست للزينة، بل قد تغير المعنى تماماً، وما يهمنا هنا أن إعادة تصريف الكلمات بشكل موجه لاستنباط معاني جديدة، أي لاشتقاق المعاني وصياغة المصطلحات الجديدة، يرتبط بتفعيلتها (حركة كل حرف فيها)، وبإعرابها إن لم تكن مبنية أو ممنوعة من الصرف كما حال الكلمات الأعجمية.
مثل هذه الفروق الدقيقة تقودنا طبعاً للحديث عن خاصية الترادف في اللغة العربية، أي الكلمات التي تفيد المعنى نفسه، من ردف، بمعنى تبِع، أي تبع الكلمة في معناها، وهي خاصية موجودة في الكثير من اللغات العالمية، وربما يوجد سوء فهم شائع حول كثرة المترادفات في اللغة العربية، ورب قائلٍ مثلاً أن ثمة 300 اسم للسيف في اللغة العربية، ولكن ذلك ليس دقيقاً تماماً إذ توجد فروق دقيقة بينها، مثلاً المهند هو السيف المصنوع في الهند، واليماني هو المصنوع في اليمن، والحسام هو القاطع الحاد، والمدجل هو السيف المطلي بماء الذهب، إلخ… وما تحولت تلك الكلمات المختلفة جزئياً في معناها إلى مترادفات متطابقة إلا بسبب الاستخدام الشائع لها كمترادفات متطابقة. وكذلك الأمر بالنسبة لدرجات الحزن أو الحب أو غيرها عند العرب، التي يتم التعامل معها كمترادفات، ولو قلنا مدح وإطراء وثناء وتقريظ لظنناها مترادفة، لكن الإطراء هو المدح في الوجه فقط، والثناء هو تكرار المدح، والتقريظ يكون للحي، والتأبين هو مدح الميت، والمدح هو القاسم المشترك بينها جميعاً. والفكرة هنا أن ثمة ثراء وغنى يفوق التصور في لغتنا، وليس القصد من هذا القول إغداق المديح الإنشائي عليها، إنما الإشارة أن مثل هذه التفاصيل الدقيقة تتيح للغتنا أن تمسك برقبة أي معنى مهما بلغ تعقيده وازدادت تفاصيله، وأن تبيان جماليات هذه اللغة لأهلها من خلال أساليب تعليم أقل جموداً قد يسهم بدفعهم لتعلمها بصورة أفضل.
ثمة خواص عديدة أخرى للغة العربية، ولا أزعم التخصص فيها، إنما أنا أحد محبيها، وهي كائنٌ حي تموت فيه خلايا وتنمو خلايا جديدة كل يوم، فتندثر بعض كلماتها، وتتوالد أخرى، ويكتسب بعضها الآخر مدلولات جديدة مع اختلاف الأزمنة والمراحل، والتساهل في الاستعمال، وهذا أمر طبيعي. لكن اللغة أحوالها من أحوال الأمة التي تنطق بلسانها، فلا يجوز أن نحملها ذنب قصورنا عن إنجاز مشروعنا الحضاري العربي. فعندما كانت الأمة في حالة صعود، وعندما كانت تنتج الأفكار والنظريات والاختراعات، لم تقصر اللغة العربية عن مدنا بجيوشٍ من التعابير والمصطلحات القادرة على حملها والتعبير عنها. والأمة التي تنتج وتحارب وتكتشف وتفكر وتخترع لا تنتج مصطلحاتها الخاصة فحسب، بل تفرض تلك المصطلحات بقوة تقدمها العلمي والفكري في لغات العالم، ولهذا نجد الكثير من الكلمات العربية من العصور الوسطى في اللغات الأوروبية مثلاً، ومنها كلمة “جبر” Algebra، وكلمة “تعرفة” Tariff، بمعنى ضريبة مرور (قبل أن نصبح بلا سيادة)، وكلمة “ديوان” Le divan بالفرنسية، وكلمات مثل قطن وسكر وكيمياء وقلوي وصفر، التي كانت تشكل اختراعات رهيبة بالنسبة للغربيين وقتها، وكلمة “ذروة” بمعنى zenith بالإنكليزية.
لأننا اليوم لا ننتج ونخترع ونتقدم، فإننا نتحول إلى مستهلكين، وتبدأ الكلمات الأجنبية بغزونا، مع المنتجات الأجنبية، من الإبرة للطائرة، ونبدأ بنقد لغتنا بسبب ذلك، فنتهمها بالعجز عن مواكبة العصر! ومن البديهي أن مرحلة سيطرة الأعاجم على العرب، ابتداء من العصر العباسي الثالث وانتهاء بالاحتلال العثماني، كانت نفسها مرحلة الانحطاط الحضاري والسياسي العربي، ومعه الانحطاط اللغوي الذي تجلت أحد أشكاله بتراجع الفاعلية الحضارية للغة العربية في الوطن العربي وفي العالم، كما تجلت بتقوقع اللغة في السفسطة والتكلف المفرط عند أدباء القصور المنفصلين عن عامة الشعب الذي يتم تجهيله على كل المستويات، ومنه لغوياً ودينياً.
باختصار، نحتاج لمشروع محمد علي باشا الكبير في النصف الأول من القرن التاسع عشر ليكون لدينا مشروع رفاعة الطهطاوي ومدرسة الألسن. عندها ستكتسب اللغة حيوية داخلية ستفرض التجديد على قاعدة الأصالة، انطلاقاً من حاجات مجتمعنا نفسها، لا خضوعاً لمقتضيات التبعية للخارج، وسيتم ذلك على هامش المشروع الحضاري العربي، مشروع النهوض الكبير، الذي سيغذيها وتغذيه النهضة اللغوية العربية. أما البحث عن مشروع لـ”تحديث اللغة العربية” بزعم التماشي مع العصر، على ما زعموا، فلا يختلف عن البحث عن مشروع تنموي للاقتصادات العربية في ظل التبعية والتجزئة. كلاهما لعبٌ في الزمن المفوت، وكلاهما تفلت من بين يديه الحلقة المركزية التي يمكن عبر الإمساك بها فقط أن نمسك بباقي الحلقات: المشروع القومي العربي، مشروع الوحدة والتحرير والنهضة. وبالمناسبة، ينطبق هذا أيضاً على القضايا الاجتماعية، فقد كانت المدارس والجامعات العربية المذكورة أعلاه، والتي بدأت في الجوامع، تضم المواطنين العرب من كافة الأعراق والطوائف والأديان والأعمار، وكانت تضم الرجال والنساء، وكانت تُدرِس الدين وكافة العلوم والآداب والتخصصات، حسب مستواها، ويقول هادي العلوي في كتابه “فصول عن المرأة”: وصلت إلينا لوحة للرسام يحيى الواسطي من القرن السابع تصور امرأة وهي تلقي دروسا على الرجال، وهي مكشوفة الوجه محجبة الشعر.
لغتنا العربية ضمان نجاح نهضتنا
صالح بدروشي
قد يتساءل البعض عن الرابط بين اللغة والنهضة، وقد يبدو ان التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي غير منوط باللغة، إلا أنه على مرّ التاريخ لا نعرف أمة حقّقت نهضتها بغير لغتها القومية. ويعلّمنا التاريخ أن كل الأمم التي تقدّمت إنّما نهضت بلغتها الأم ودعّمت نهضتها بمشاريع ترجمة ضخمة لمواكبة التقدّم العلمي والصناعي في العالم فأساس نهضة الأمم والدول دائما ما كان مبنيا على حضارتها وثقافتها الخاصة واللغة هي عماد الحضارة والثقافة.
لمّا كانت اللغة من أهمّ مقوّمات الأمة، فإنّ الاستهداف الذي تعرّضت له أمتنا العربية من قبل القوى الاستعمارية والصهيونية ولا تزال، كان موجّها في جزء كبير منه نحو مسخ وتفكيك الهوية عن طريق ضرب وحدة الوجدان الذي تخلقه وحدة اللغة. فكان أن اشتغل المحتلّون للأقطار العربية على زرع لغة المحتل كلغة تعامل إداري أولى أو ثانية وعملوا على تنمية اللهجات المحلية ومحاولة الارتقاء بها إلى مرتبة اللغة (قيام المحتل البريطاني بإهداء نسخ مجانا من كتاب الإنجيل باللهجة العامية المصرية)، وقاموا بجلب جيوش من المدرّسين الأجانب من الدول المعتدية (رواتبهم بالعملة الصعبة) إلى الدول المحتلّة ثمّ إلى الدول “المستقلّة” لأنها منهكة و”فقيرة” “لمساعدتها” على “النموّ” ممّا أنتج ثقافات مشوّهة تتهم لغتنا العربية بالقصور في المجال العلمي متجاهلة تراثنا العربي الزاخر في المجالات العلمية كالرياضيات والهندسة والطب وعلم الفلك والكيمياء والفيزياء وغيرها، وأن لغتنا نقلت لنا أعمال عمالقة العلم العربي في مختلف الاختصاصات كالخوارزمي وابن الهيثم وابن سينا وابن الجزار وغيرهم. وما صمود لغتنا إلى اليوم رغم كل الأهوال التي مرّت بها حضارتنا العربية عبر الأزمنة (… تتار، مغول، عثمانيين، أوروبيين …) إلّا دليل على مرونتها وعدم انغلاقها على نفسها وقابليتها للأخذ والعطاء، وأنها لغة واكبت حركة التاريخ سواء في العصور العباسية الأولى لنقل العلوم عن طريق الترجمة أو مواكبة مسار الحضارة في مرحلة القرون التي تلت إلى يومنا هذا حيث تدرّس كلّ العلوم، بل كلّ المعارف الحديثة والقديمة بأنواعها، باللغة العربية في كلّ من مصر وسورية والعراق. وكثير من العرب لا يعلمون هذا الواقع ويعتقدون بفعل انتشار الثقافات الغربية بأن لغتنا العربية ليست لغة علم وتكنولوجيا وأنها منحصرة في الفلسفة والأدب والبلاغة!
تمّت إشاعة أفكار مفادها تتفيه مسألة الحفاظ على اللغة الوطنية بدعوى أن المهم أن نتواصل ونفهم بعضنا ولا يهمّ بأي لغة… وأنه علينا أن نحاكي الأمم المتقدمة في تطورها العلمي وأن لا نتشبّث بالقشور على حدّ تعبيرهم. أصحاب هذه الدعاوي والآراء لا ينتبهون أو يتغافلون عن حقيقة أن الدول التي يريدون استعمال لغتها لا تقبل التنازل قيد أنملة عن لغتها .. ففي كلّ الدّول المتقدّمة يحجّر تدريس أي لغة غير اللغة الوطنية في كامل مراحل التعليم الابتدائي. وفي مراحل التعليم الثانوي والإعدادي والجامعي تدرّس كل المواد باللغة الوطنية ولا تدرّس اللغات الأجنبية إلّا كمادة لسويعات في الثانوي أو كاختصاص في الجامعة. وقد حدث أن وقّعت الحكومتان البريطانية والفرنسية اتّفاقاً خلال الستينيات يقضي بتدريس ساعتين في الأسبوع لغة فرنسية في المدارس الابتدائية البريطانية وساعتين في الأسبوع لغة إنجليزية في المدارس الابتدائية الفرنسية، ولكن البرلمان عارض الاتفاقية فلم تنفّذ …
وأورد فيما يلي ثلاثة أمثلة عن تمسّك الدول بلغتها القومية:
– القانون الفرنسي يعاقب أي مسؤول حكومي أو إداري أو إعلامي يستعمل في الأطر الرسمية لغة غير اللغة الفرنسية (انظر قانون توبون 1994 المتعلق بوجوب استخدام اللغة الفرنسية أو قانون فيلي كوتري الذي أبعد اللاتينية والإسبانية والإيطالية من الساحة الفرنسية. كما أبعد هذا القانون مختلف لغات فرنسا ولهجاتها الأصلية التي تعدّ بالعشرات ومن بينها اللغة الباسكية والكاتالانية والبروطانية إلى جانب ما يعتبره اللغويون الفرنسيون لهجات فرنسا كاللهجة الفلامانيكية واللهجة الألزاسية واللهجة الكورسيكية) . كما يُلزِم القانون استخدام اللغة الفرنسية في المطبوعات الحكومية الرسمية، وفي جميع الإعلانات، وفي جميع أماكن العمل، وفي العقود التجارية، وفي جميع المدارس التي تموّلها الحكومة. وفي اجتماع إحدى القمم الأوروبية ببروكسل قام الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك بمغادرة القاعة احتجاجا على تحدث فرنسي بالإنجليزية . وقال أنه شعر بصدمة حقيقية لدى سماعه مواطنه الفرنسي “أنطوان سيلييه” يلقي كلمته بالانجليزية. وقال الرئيس الفرنسي أنه فضّل مغادرة القاعة على الاستماع إلى “سيلييه”، مشيرا إلى أن بلاده حاربت طويلا لضمان التحدث بالفرنسية في المؤسسات والمنظمات الدولية. وأكّد أن ذلك ليس مصلحة قومية فقط لفرنسا ولكنها من مصلحة الثقافة والحوار بين الثقافات، فلا يمكن بناء عالم اعتمادا على لغة واحدة أو ثقافة واحدة.
– قامت الصين بمنع الصحف والناشرين وأصحاب المواقع الإلكترونية من استخدام الكلمات الأجنبية وخصوصا الإنجليزية. وقالت دار النشر الحكومية الصينية إن مثل هذه الكلمات تلطخ نقاوة اللغة الصينية. وأضافت أن اللغة الصينية القياسية يجب أن تكون هي المعيار، وأن على الصحافة أن تتجنب المختصرات الأجنبية، وأن تتجنّب الإنجليزية-الصينية التي هي مزيج من اللغتين الإنجليزية والصينية. ويمتد الأمر الحكومي لمنع الاستخدام هذا ليشمل الراديو والتلفزيون أيضاً.
– مثال فيتنام: فالثورة الفيتنامية، من أجل استكمال النصر وتحرير شعبها وبناء على وصايا قائد فيينتام العظيم (هوشي مينه)، جعلت من أول أولوياتها فرض سيادة اللغة الفيتنامية على الحياة الفيتنامية، وإلغاء اللغة الفرنسية التي سيطرت على فييتنام أربعة عقود. واعتمدت اللغة الإنجليزية كلغة أجنبية للقضاء على الرواسب التي خلّفتها الفرنسية في الذات الفيتنامية. على الرغم من أنّ كلّ قادة الفيتنام يحسنون الفرنسية، وهوشي مينه نفسه عاش بفرنسا سنوات، وكان يحسن الفرنسية وكذلك القائد العسكري الشهير جياب خريج المدارس الفرنسية وأستاذ التاريخ بالفرنسية قبل استقلال فييتنام يتقن الفرنسية، لكنهم جميعهم تخلّوا عنها وثبّتوا لغتهم. وبذلك وصلوا إلى ما وصلوا إليه من نموّ الصادرات الزراعية والصناعية واستقلال اقتصادي. كان هوشي مينه يقول لمواطنيه: “حافظوا على صفاء اللغة الفيتنامية كما تحافظون على صفاء عيونكم”.
وللحفاظ على لغتنا رمز هويتنا علينا نحن العرب أن نصونها كما تفعل الأمم المتحضرة للحفاظ على هويتها. وليتذكّر كلّ واحد منّا أن اللغة العربية التي نجفوها ونهجرها إلى لغات أدنى منها قيمة تاريخية وثراء هي اللغة التي اختارها الله سبحانه وتعالى لآخر الرسالات السماوية القرآن العظيم وشرّفنا بالانتساب إليها.. ليتذكّر الجميع أنّه على الرغم من تدنّي مستوى الاحترام لأمّتنا العربية على المستوى العالمي اليوم بفعل الحكّام الرجعيين ذيول الإستدمار، على الرغم من كل ذلك فإنّ لغتنا العربية هي اليوم إحدى اللغات الست الرسمية في الأمم المتحدة: الإنجليزية والفرنسية والصينية والروسية والأسبانية والعربية٬ فهم يعلمون جيّدا أنها لغة العلم لقرون ممتدة وخبروا عمقها عبر جيوش المستشرقين الذين عاشوا في بلادنا ومن محتويات آلاف أمّهات الكتب التي سرقوها من مكتباتنا العربية على امتداد التاريخ. وبالرغم من موجة التفريط الرسمي العربي في السيادة العربية لم تتردّد المنظّمة الدولية اليونسكو في اعتبار اللغة العربية لغة عالمية وتخصيص اليوم الثامن عشر من شهر ديسمبر/ كانون الأول من كل عام يوما للغة العربية. ولكي نستحقّ نحن اليوم شرف الانتساب إليها وننعم بمنافعها لا بدّ لنا أن نحتفل بها كامل أيّام السنة وفي كل مجالات الحياة والعلم والبحث والإبداع.
رحم الله شاعرنا العربي المصري حافظ إبراهيم حين قال متحدّثا عن لساننا العربي:
رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني // عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي
وسِعتُ كِتـــــــابَ اللهِ لَفظاً وغايةً // وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلـــــةٍ // وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعـــاتِ
أنا البحرُ في أحشائه الدرّ كامِنٌ // فهل ساءلوا الغوّاص عن صَدَفَـــاتي
إنّ إحدى تمظهرات حالة التخلف التي تعصف بنا كأمة نلاحظها في اللغة المعتمدة في التواصل اليومي بين أبناء الأمة الواحدة، ومجالاتها متعدّدة وتستوجب أن يفرد لها مقال خاص وربما محاضرات ودورات تدريبية لعلاجها. ونذكر فيما يلي بعضاً منها:
انحرافات لغوية تعيسة لا مبرّر لها كتلك التي في عالم الإشهار والإعلانات مثل كتابة اسم السلع كالطماطم أو مشروبات العصير أو العجين والطحين والصابون الموجّهة للاستهلاك المحلي بلغة غربية فقط أو مرفقة باللغة العربية أو العامية.. أو كتابة يافطة دكّان حلّاق حتى في بعض القرى النائية باللغة الأجنبية.. أو تلك اللوحات الإشهارية التي تملأ الطرقات وهي تروج لمنتوجات للاستهلاك المحلّي مستعملةً الحروف اللاتينية أو الترجمة الحرفية لكلمات أجنبية بأحرف عربية .. إنّ كلّ هذه الممارسات من شأنها تعويد عين المواطن العربي على الاستئناس بالحرف اللاتيني مما يقود إلى تفتت الوجدان والذوق العربي لتصبح العربية إمّا غائبة تماما عن ذهنه ووجدانه أو يترسّخ في أعماق لاوعيه أن هذه اللغة من التراث القديم ولا تصلح للتعبير عن شيء من أدوات الحياة والحضارة الحالية.
بالإضافة إلى فضاء الإشهار المادي والسمعي البصري نشأ اليوم خطر جديد يتمثّل في فضاء الحاسوب والمعلوماتية والفضاء الافتراضي. أريد هنا أن أذكّر ببعض المخاطر التي يجب على القوميين التنبّه إليها ومقاومتها:
– لغة الدردشة والمسماة بالترجمة الحرفية “التشات”، مع عدم توفّر لوحات مفاتيح بالعربية لبعض الحواسيب والهواتف الجوالة وبعض برامج الدردشة، لا تسمح بإدخال نص الحديث باللغة العربية، لذلك تحوّل بعض الشباب الذين لا يجيدون اللغات الغربية إلى كتابة اللغة العربية بالأحرف اللاتينية واستخدموا بعض الأرقام لكتابة الحروف العربية التي ليس لها رديف في اللاتينية مثل حرف الحاء يكتب برقم سبعة وأصبحت عبارة كيف حالك تكتب keef 7alak … وفي خضمّ هذه الثقافة الهجينة أصبح حتى من تتوفّر له إمكانية الكتابة بالحرف العربي يستسهل استعمال عبارات تختلط فيها اللغة الأجنبية باللغة العربية مثل “الميساج” و”اعملي برتاج” “اعملي لايك”… ويعبّر البعض عن هذا بأنه لغة “العربيزي” أو “الفرانكو – أراب”، وهذه الازدواجية اللغوية، كما وجود لغة رسمية ثانية (دون وجود كتلة أصيلة تتكلمها من المواطنين)، لا توجد إلّا في البلدان المتخلّفة.
– خطر التيسير المغلوط الذي تقدّمه بعض المواقع بتوفير لوحة مفاتيح افتراضية بالأحرف اللاتينية تقوم بتحويل آلي لما تكتبه أنت بالعربية مستعملا الأحرف اللاتينية، تحوّله لك إلى العربية.. وهذا يجعلك تعطّل مخيّلتك ووجدانك العربي وأن لا يشتغل دماغك بمفرداته العربية ويشتغل الحاسوب نيابة عنك إلى أن يصاب وجدانك العربي بالشلل بالضبط مثل اليد أو الرجل التي لا تستعملها لمدّة طويلة فتضمر ثمّ تشلّ تماما وتصبح العقول تشتغل وتفكّر باللاتينية، وهذه من أخطر الوسائل الهجومية على هويتنا ولغتنا العربية.
أمّا اقتصار كتابة عناوين البريد الالكتروني وعناوين الشبكة العنكبوتية على استخدام الأحرف اللاتينية فهي إشكالية لا تحلّ إلّا بامتلاك منظومة معلوماتية عربية تنجزها الدولة العربية المستقلّة بقرارها.
تجدر الإشارة إلى أنّ كلّ هذا متناغم مع مخطط الغزو الثقافي التي تقوده الأمم الغربية ضد الأمة العربية والإسلامية، والتي من بينها التدريس باللغات الأجنبية، والدعوة إلى الكتابة باللهجة العامية، وقد دعا أحد المشاريع الأميركية صراحة إلى “تغيير شكل حروف اللغة العربية واستبدال اللّغة اللاتينية بها”، وذلك بحجة التقريب بين الشعوب العربية والشعوب الغربية.
ليعلم مدعو التيسير المزعوم أنه وبشهادة علماء اللغة الغربيين أنفسهم (مثل أستاذ اللغات الشرقية في جامعة اسطنبول المستشرق ريتر)، فإن الكتابة بالحرف العربي أسرع منها بالحرف اللاتيني الذي لا يسمح بالاختزال مثل كلمة حجرٌ بثلاثة أحرف تصبح بسبعة أحرف Hajaron، يضاف إلى ذلك أن اكثر من عشرة حروف من لغتنا العربية ليس لها مقابل في الأحرف اللاتينية، كالثاء والجيم والحاء والدال والذال والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والغين.
فهل نتّعظ بالتاريخ ونستعدّ للنهوض بلغتنا الأم كما فعلت كثير من الأمم مثل اليابان وكوريا وماليزيا والصين ونمور آسيا، وكما تفعل الأمم المتربّعة على قمّة التقدّم الاقتصادي مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والسويد والولايات المتحدة، حيث اعتمدت هذه الدول على لغتها الأم بشكل مطلق في تعليمها وفي أعمالها وتمكنت من النهوض والانتقال إلى مصاف الدول المتقدمة، في حين أننا كعرب ندرّس العلوم والتّقنيات في جامعاتنا باللغة الأجنببية: بالإنجليزية مشرقا والفرنسية مغربا، فبقينا متخلفين ومقلدين ناقلين ومستوردين تقريبا لكلّ شيء، بخاصة منذ تخلّينا عن خطة محمد علي التنموية حين كانت العلوم تدرّس باللغة العربية.
إن النهوض باللغة القومية هو من واجب كل الذين يعلنون بأنهم قوميون ويرفعون شعار القومية العربية والوحدة العربية، وعليهم قبل غيرهم أن يرفضوا التمسّك بالهوية العربية كعنوان أجوف دون التشبّث باللغة العربية في الممارسة كلامًا وكتابة وفي المراسلات والإرساليات على الهاتف الجوال والبريد الالكتروني وتعمير الصكوك البريدية والبنكية إلخ… وهذا الالتزام في الممارسة الذاتية يجعلنا متناسقين مع الأهداف القومية التي تحتّم علينا أن نعرّب تعليمنا واقتصادنا بشكل كامل وكل نواحي حياتنا الاجتماعية والثقافية حتى نتمكن من النهوض.
أذكر عندما كنت شابا أنني كنت أستمع وأستمتع عبر إذاعة صوت العرب من القاهرة إلى برنامج بعنوان : “أبجد هوّز”، وكانت تعجبني وتشدّني المقدّمة وهي بصوت الأديب طه حسين إذ يقول: “لغتنا العربية يسر لا عسر.. ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه في عصرنا من ألفاظ لم تكن مستعملة في العصر القديم”، وكنت أكرّرها بمتعة عن ظهر قلب منذ ذلك الوقت حتى اليوم.
تعريفات:
العلاقة بين: 1) اللغة والفكر (من منظور ماركسي)،
2) اللغة والقومية (من منظور قومي)،
3) اللغة العربية والعروبة والإسلام (من منظور علماء العرب في العصر العباسي).
- اللغة والفكر من منظور ماركسي
– مقتطف من كتاب بوليتزر “أصول الفلسفة الماركسية”، الجزء الأول، الفصل العاشر، ونورد هذا المقتطف للتأكيد أن اللغة ومفرداتها هي الصيغة التي يتخذها الفكر، فلا فكر مجرد بمعزل عن اللغة، وبما أن اللغة تتخذ طابعاً قومياً بالتعريف، فإن الفكر المتكون من مفرداتها يتخذ بدوره طابعاً قومياً، فالفكر بهذا المعنى، هو في آنٍ معاً، أحد مدخلات ومخرجات البيئة بمعناها الاجتماعي والطبيعي التي تنتج لغةً قوميةً وثقافة قومية. فإلى المقتطف من “أصول الفلسفة الماركسية لبوليتزر الذي يركز على العلاقة العضوية بين الفكر واللغة:
يقولون أن الأفكار تأتي إلى ذهن الإنسان قبل أن يعبر عنها في حديثه وأنها تولد بدون واسطة اللغة عارية من غطاء اللغة. ولكن مهما كانت الأفكار التي ترد على ذهن الإنسان فهي لا يمكن أن تولد وتوجد إلا معتمدةً على اللغة وألفاظها وجملها. فليس هناك أفكار خالية من وسائل اللغة ومن “مادتها الطبيعية”.
“لأن اللغة هي واقع الفكر المباشر” (ماركس) ويظهر واقع الفكر في اللغة. والمثاليون وحدهم يمكنهم التحدث عن فكر منفصل عن “المادة الطبيعية” وهي اللغة، أو عن فكرة بدون لغة (من كتاب ستالين “حول الماركسية في علم اللغة”).
لقد اثبتت العلوم الطبيعية صحة هذه النظريات التي قالت بها النزعة المادية الجدلية، كما تنبأ لينين، وذلك في أعمال العالم الفيزيولوجي الكبير بافلوف.
فلقد اكتشف بافلوف أن عمليات النشاط الذهني الأساسية إنما هي انعكاسات مشروطة تثيرها الأحاسيس الداخلية والخارجية، وهي تحدث في ظروفٍ معينة، كما أنه دلل على أن هذه الأحاسيس تستخدم كإشارات لكل نشاط الجسم الحي.
كما اكتشف أن الكلمات ومضمونها معانيها يمكن أن تحل محل الأحاسيس التي تبعثها الأشياء التي تدل عليها فتثير بدورها انعكاسات مشروطة وردود فعل فعلٍ عضوية أو لفظية، فتكون بذلك إشارات للإشارات، أي نظاماً ثانياً للإشارات يقوم على أساس النظام الاول وهو خاص بالإنسان. اللغة إذن هي الشرط لنشاط الإنسان الأسمى، وعمله الاجتماعي، وهي تحمل الفكر المجرد الذي يتجاوز الإحساس الحالي. اللغة هي التي تتيح للإنسان أن يعكس الواقع بقدر أكبر من الدقة.
لقد برهن بافلوف في الوقت ذاته على أن ما يحدد وعي الإنسان في الأساس ليس هو جسده ولا الظروف الحيوية كما يعتقد الماديون السذج والمحللون النفسيون، بل المجتمع الذي يعيش فيه ومعرفته لهذا المجتمع، وهكذا تتعلق الناحية البيولوجية في الإنسان بالناحية الاجتماعية، لأن الظروف الاجتماعية للحياة هي التي تحدد الحياة العضوية والحياة الذهنية، فالفكر بطبيعته ظاهرة اجتماعية.
(انتهى المقتطف من بوليتزر: انظر نقد أسامة الصحراوي في هذا العدد لمقولات بوليتزر المقتطفة هنا حول اللغة)
- اللغة والحس القومي عند المفكر القومي ساطع الحصري
– مقتطف من محاضرة “عوامل القومية” المنشورة في كتاب “أبحاث مختارة في القومية العربية” الصادر عن دار المعارف في القاهرة عام 1964. ونشير أن الاستاذ ساطع الحصري همش عنصر الترابط العرقي كأحد عوامل القومية، وهو الخط العام للمفكرين القوميين العرب، لكنه اعتبر اللغة والتاريخ المشترك العاملين الرئيسيين في تكوين الأمة، مهمشاً عنصر الأرض والجغرافيا المشتركة، وهو ما يختلف فيه عن عدد من المفكرين القوميين العرب الذين اعطوا الأرض والبقعة الجغرافية المشتركة أهمية مساوية لعوامل القومية الأخرى مثل اللغة والتكوين المشتركة، وفي النهاية ليست الأمة سوى نتاج تفاعل مجموعة من الناس على مدى زمني طويل على رقعة جغرافية مشتركة، كما أشار الاستاذ عصمت سيف الدولة… رغم ذلك، لا يمكن إغفال أهمية ما جاء به الاستاذ ساطع الحصري حول أهمية اللغة كعنصر أساسي في التكوين القومي. ومن هنا المقتطف أدناه:
“إن أهم العوامل التي تؤدي إلى تكوين القرابة المعنوية التي يشعر بها الأفراد في الأمم المختلفة، هي اللغة والتاريخ، فإن الاعتقاد بوحدة الأصل إنما يكون في الدرجة الأولى من الوحدة في اللغة والاشتراك في التاريخ.
فلندرس تأثير كل واحد من هذين العاملين الهامين بشيء من التفصيل:
اللغة: هي أهم الروابط المعنوية التي تربط الفرد البشري بغيره من الناس، لأنها أولاً، واسطة التفاهم بين الأفراد، ثم هي فضلاً عن ذلك، آلة التفكير. لأن التفكير – حسب تعبير أحد الحكماء – ما هو إلا تكلم باطني، والتكلم إنما هو نوعٌ من التفكير الجهري. وأخيراً، إن اللغة هي واسطة لنقل الأفكار والمكتسبات من الآباء إلى الأبناء، ومن الأجداد إلى الأحفاد، ومن الأسلاف إلى الأخلاف.
هذا، واللغة التي ينشأ عليها الإنسان، تكيف تفكيره بكيفيات خاصة، كما أنها تؤثر في عواطفه أيضاً تأثيراً عميقاً؛ فإن اللغة التي يسمعها المرء منذ صغره، اللغة التي تخاطبه بها أمه منذ أوائل حياته الواعية، لغة التنويمات والأغاني التي تهز مشاعره منذ طفولته، تؤثر بطبيعة الحال تأثيراً عميقاً في تكوينه العاطفي. ولذلك تجد أن وحدة اللغة توجد نوعاً من الوحدة في التفكير وفي الشعور، وتربط الأفراد بسلسلة طويلة ومعقدة من الروابط الفكرية والعاطفية. ونستطيع أن نقول لذلك: إنها تكوِّن أقوى الروابط التي تربط الأفراد بالجماعات.
وبما أن اللغات تختلف بين قومٍ وقوم، فمن الطبيعي أن نجد مجموع الأفراد الذين يشتركون في اللغة، يتقاربون أكثر من غيرهم، ويتماثلون ويتعاطفون أكثر من سواهم، ويتميزون عمَّن عداهم، فيؤلفون بذلك أمةً متميزة من الأمم الأخرى.
لذلك نستطيع أن نقول: إن الأمم يتميز بعضها من بعض – في الدرجة الأولى – بلغتها، وإن حياة الأمم تقوم، قبل كل شيء، على لغاتها.
وإذا أضاعت أمة من الأمم لغتها، وصارت تتكلم بلغةٍ أخرى، تكون قد فقدت الحياة واندمجت في الأمة التي اقتبست عنها لغتها الجديدة.
كثيراً ما يرينا التاريخ، أن بعض الأمم تستولي على أمةٍ أخرى، وتخضعها لإرادتها، وتسير شؤونها كما تشاء. إن هذا الاستيلاء يفقد الأمة المغلوبة استقلالها، ولكنه لا يمس كيانها، ما دامت الأمة المذكورة محافظة على لغتها الخاصة بها، وما دامت متميزة من الأمة المستولية عليها بهذه اللغة الخاصة. وقد قال أحد المفكرين: “إن الأمة المحكومة التي تحافظ على لغتها، تشبه السجين الذي يمسك بيده مفتاح سجنه”. إنها تستطيع أن تفلت من سجنها هذا، فتسترد حريتها واستقلالها في يومٍ من الأيام، لأنها تبقى حية بحياة لغتها، وتظل محافظةً على كيانها كأمة، برغم أنها تكون قد فقدت شخصيتها كدولة. ولكن الأمة المذكورة إذا فقدت – بمرور الزمان – لغتها الخاصة واقتبست وتبنت لغة الدولة المستولية عليها، تكون قد فقدت الحياة بتاتاً، واندمجت في كيان الأمة التي أعطتها لغتها الجديدة، فلا يبقى ثمة أمل لعودتها إلى الحرية والاستقلال.
يتبين من ذلك كله: أن اللغة هي روح الأمة وحياتها، إنها بمثابة محور القومية وعمودها الفقري، وهي من أهم مقوماتها ومشخصاتها.
أما التاريخ فهو بمثابة شعور الأمة وذاكرتها. فإن كل أمة من الأمم، إنما تشعر بذاتها وتكون شخصيتها بواسطة تاريخها الخاص.
عندما أقول التاريخ، لا أقصد بذلك التاريخ المدون في الكتب – التاريخ المدون بين صحائف المطبوعات والمخطوطات – بل أقصد بذلك التاريخ الحي في النفوس، الشائع في الأذهان، المستولي على التقاليد.
إن وحدة هذا التاريخ تولد تقارباً في العواطف والنزعات، إنها تؤدي إلى تماثل في ذكريات المفاخر السالفة وفي ذكريات المصائب الماضية، وإلى تشابه أماني النهوض وآمال المستقبل.
ولذلك نستطيع أن نقول: إن الذكريات التاريخية تقرب النفوس، وتكوِّن بينها نوعاً من القرابة المعنوية. وتكون هذه القرابة المعنوية أشد تأثيراً من القرابة المادية بدرجات.
والأمة المحكومة التي تنسى تاريخها، تكون قد فقدت شعورها ووعيها. وهذا الشعور والوعي، لا يعودان إليها إلا عندما تتذكر ذلك التاريخ وتعود إليه.
ولهذا السبب، نجد أن الأمم المستولية والحاكمة، تعمد قبل كل شيء إلى مكافحة تاريخ الأمة المحكومة، وتبذل ما استطاعت من الجهود لأجل إقصاء ذلك التاريخ عن الأذهان. إنها تسعى – من جهة – إلى تشويه هذا التاريخ لأجل تجريده من قوة الجذب والتأثير، كما تعمل – من جهة أخرى – على إلهاء الأذهان بوقائع تاريخها هي وبهر الأنظار بشعشعة التاريخ المذكور.
وأما اليقظات القومية، بعد عهود الحكم الأجنبي، فتبدأ عادة – بعكس ذلك – بتذكر التاريخ القومي وبالاهتمام به اهتماماً خاصاً.
يتبين من كل ما تقدم، أن اللغة والتاريخ هما العاملان الأصليان اللذان يؤثران أشد التأثير في تكوين القوميات. والأمة التي تنسى تاريخها تكون قد فقدت شعورها، وأصبحت في حالة من السبات، وإن لم تفقد الحياة. وتستطيع هذه الأمة أن تستعيد وعيها وشعورها بالعودة إلى تاريخها القومي والاهتمام به اهتماماً فعلياً، ولكنها إذا ما فقدت لغتها، تكون عندئذ قد فقدت الحياة ودخلت في عداد الأموات، فلا يبقى سبيل إلى عودتها إلى الحياة، فضلاً عن استعادتها الوعي والشعور”.
(نهاية المقتطف من ساطع الحصري)
- اللغة العربية والعروبة والإسلام من منظور علماء العرب في العصر العباسي
– مقتطف من كتاب د. عبد العزيز الدوري “التكوين التاريخي للأمة العربية، دراسة في الهوية والوعي”:
ننظر إلى اللغة التي تعرضت بدورها للنقد ولمحاولة الغض من شأنها. كان العرب يعتزون بالعربية ويفخرون بالفصاحة والبيان، فأخذوا الآن يؤكدون على روعتها بجمالها وتصاريف كلامها وغنى مفرداتها وسعتها، وقد شرفت بالقرآن المعجز بفصاحته وبيانه. وهي بعد لغة الثقافة الحيّة إضافة إلى آدابها الرائعة، وإذا كان هناك هجوم أو تعرض لها فإنه ناشئ عن العجمة والحقد. وجرهم التحدي إلى التوسع في مزايا العربية وإلى التأكيد على أنها أجمل اللغات وأنصعها وأغناها (يقول التوحيدي: فما وجدنا لشيء من هذه اللغات نصوع العربية .. ويتحدث عن “سعة لغتها وتصاريف كلامها في أسمائها وأفعالها وحروفها، وجولانها في اشتقاقها، ومآخذها في استعاراتها وغرائب تصرفها في اختصاراتها ولطف كنياتها في مقابلة تصريحاتها..”(التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ج1، ص 76-77). وذهبوا إلى أن العناية الإلهية باركتها، إذ اختارها الله للتنزيل وشرفها، فاقترنت بالإسلام كما ارتبطت بالعرب، والناقدون هم أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب كما يقول الأنباري. ولذا فإنَّ من أحب العرب “أحب اللغة العربية التي نزل بها أفضل الكتب”، وإنَّ “من هداه الله للإسلام.. اعتقد أن … العربية خير اللغات والإقبال على تفهمها من الديانة” كما يقول الثعالبي.
واللغة العربية بعد هذا هي لغة العلوم العربية الإسلامية، وفي وعائها وضعت كافة المعارف، وخاصة وأنَّ الكلام في معظم أبواب الفقه وأصوله يستند إلى إعرابها، كما أن التفسير لا يفهم إلا بالرجوع إليها. يقول الزمخشري الذي أنكر هجمات الشعوبية عليها متعجباً من قلة إنصافهم: “وذلك أنهم لا يجدون علماً من العلوم الإسلامية، فقهها، وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها إلا وافتقاره إلى العربية بين لا يدفع … ويرون الكلام في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنياً على علم الإعراب، والتفاسير مشحونة بالروايات عن سيبويه والأخفش والكسائي والفراء وغيرهم من النحويين … والاستظهار في مآخذ النصوص بأقاويلهم والتشبث بأهداب تفسيرهم وتأويلهم، وبهذا اللسان مناقلتهم وتأويلهم، وبهذا اللسان مناقلتهم في العلم، ومحاورتهم وتدريسهم ومناظرتهم(الزمخشري، المفضل في صنعة الإعراب).
واتخذ الاعتزاز بالعربية عند العرب معنى اجتماعياً ودلالة تشعر بتأصل الوعي العربي. فقد رأوا في اللغة العربية رمز وحدتهم ورابطة أمتهم وقاعدة ثقافتهم. نعم كان العرب يفخرون بالأنساب، فكتبوا الكثير فيها وجهدوا في الحفاظ عليها (والرد على هجمات الشعوبية)، واستند تصرفهم بشكل واضح ولفترة طويلة إلى دلالة هذه الأنساب، ولكن هذا لن يغفلنا عن بعض النقاط. فالنظرة القبلية الضيقة للأنساب كانت مصدر فرقة وجمود، وركون العرب إلى الحياة الحضرية، والتطورات الاجتماعية والاقتصادية، واستمرار التعريب، كلها حدت من دور الأنساب، فقد كان الديوان السجل الرسمي للأنساب العربية، فلما انتهى ذلك اقتصر الاهتمام على الأفراد والأسر، ولذا نجد كتب الأنساب التي وصلتنا تقف عند أواخر العصر العباسي الأول. وقد يكون هذا متأثراً أيضاً بتراجع أثر الانتساب في الحياة العامة.
لعل ما ذكر ييسر فهم ظهور الاتجاه الذي يجعل اللغة العربية الرابطة الأساسية بين العرب ليتدرج هذا الاتجاه فيجعل اللغة أساس العروبة.
ويبدو هذا الاتجاه واضحاً في الكتابات العربية منذ النصف الأول للقرن الثالث الهجري. فالجاحظ يوضح عروبة إسماعيل بقوله ((وقد جعلوا إسماعيل- وهو ابن أعجمين – عربياً، لأنَّ الله (تع) فتق لهاته بالعربية المبينة على غير التلقين والترتيب، ثم فطره على الفصاحة العجيبة على غير النشوء والتمرين، وسلخ طباعه من طبائع العجم … ثم حباه من طبائعهم (أي العرب)، ومنحه أخلاقهم وشمائلهم، وطبعه من كرمهم وأنفتهم وهممهم على أكرمها .. وأشرفها وأعلاها … فكان أحق بذلك النسب .. )) (الجاحظ: رسائل الجاحظ، ج1، ص31) .
وهكذا يعتبر اللغة العربية لا النسب أساس عروبته، مضيفاً إليها الطبائع والأخلاق والشمائل. وبضوء هذا نفهم كيف اعتبر الجاحظ المولى عربياً فيقول (( وإذا كان المولى منقولاً إلى العرب في أكثر المعاني ومجعولاً منهم في عامة الأسباب، لم يكن ذلك بأعجب ممن جعل الخال والداً والحليف من الصميم وابن الأخت من القوم)). ويستطرد في التوضيح ويقول: ((إنَّ المولى أقرب إلى العرب في كثير من المعاني لأنهم في المدعى وفي العاقلة وفي الوراثة، وهذا تأويل قوله (ص) .. مولى القوم منهم، ومولى القوم من أنفسهم، والولاء لحمة كلحمة نسب. وعلى شبه ذلك صار حليف القوم منهم وحكمه حكمهم، وبذلك النسب حرمت الصدقة على موالي بني هاشم، فإنَّ النبي (ص) أجراهم في باب التنزيه والتطهير مجرى مواليهم)) (الجاحظ: رسائل الجاحظ، ج1) .
وهكذا، وبهذا التحليل، يجعل الجاحظ العربية الرابطة الأولى للعرب، والأساس الأول للعروبة، بل ويحلها محل رابطة النسب في المفاهيم القبلية. وهو بذلك يعبر عن التطورات العامة (اجتماعية واقتصادية وسياسية) والتي أدت إلى هذا التحول في النظرة، وكان لانتشار العربية وللتعريب الدور الأول فيه.
اللغة: من نقد البناء الفوقي إلى تأكيد البناء القومي
نقد لكراس ستالين “الماركسية في علم اللغة”
أسامه الصحراوي
حديثنا عن اللغة ليس حديثاً عن مجموعة الأصوات والحروف التي تتشكل منها كلمات وجملٌ ونصوص، بل هو حديث عن كيفية نشأة اللغة (والأصح اللغات) وسبب اختلافها ودلالات الاختلاف وتبعاتها وهو تمييز أساسي بين مجموع الدال والمدلول، ليس فقط من الناحية الترميزية (السيميائية) البحتة، بل وكذلك الفلسفية الكامنة خلفها. ثم إن المسارَعة لتبني تفسير معين لنشأة اللغة استنادا إلى استنتاجات بعض المناهج قد يضعنا أمام ضرورة التعاطي مع تلك المناهج نقدا وتحويرا. وحديثنا اليوم عن اللغة هو استمرار لحديث سابق انتقدت فيه تبنّي المناهج الكلية المطلقة. فهو انطلاق من نفي ستالين لربط اللغة بالبناء الفوقي، على عكس ما ذهب إليه بعض الماركسيين، ومواصلة عليه للتأكيد أن اللغة لبنة أساسية في صرح البناء القومي لكل الأمم. ولا نحتاج هنا للتذكير أنّ الاستنتاجات والأدبيات الماركسية المستعملة لا تلزمنا بل ننطلق منها للوصول إلى الغاية.
في مقالته التي نشرتها مجلة البرافدا في عددها الصادر في 20 حزيران 1950، ينطلق يوسف ستالين بأسلوبه المباشر من خلال سؤال وجواب فيقول: “سؤال: صحيح أن اللغة هي بناء فوقي قائم على بناء تحتي؟ جواب: لا. هذا غير صحيح”، ونتفق مع ستالين كل الاتفاق في نفي ارتباط اللغة بالبناء الفوقي، بل ونذهب بعيدا في هذا الاتفاق إلى الموافقة على كثير من الحجج التي قدمها:
1) فتغيرّ اللغة -على عكس تغير البناء الفوقي- غير مرتبط بتغير البناء التحتي، وقد تغير البناء التحتي الروسي مثلا ثلاثة مرّات: من نظام إقطاعي إلى رأسمالي إلى اشتراكي، فرأسمالي مرّة أخرى دون أن تتغير اللغة الروسية. وهذا ما عرفته بقية الأمم التي مرّت من نظم رأسمالية إلى اشتراكية، وربّما رأسمالية مرّة أخرى كالصين وغيرها… فإذا كانت اللغة أدوم وأسبق وأبقى من النظم التحتية فكيف وُجدت اللغة؟؟ الإجابة عندنا ليست ماركسية فلنواصل.
2) البناء الفوقي من ثقافة وشعر وأدب وفلسفة تعود دائما لتعمق البناء التحتي، وترسّخ بنيانه على عكس اللغة التي لم تخدم النظم الاقتصادية إلا بالقدر الذي هددتها به، ولم تخدم المستعمِر إلا بالقدر الذي حرّضت ضده به، ولم يصحّ في التاريخ وجود لغات طبقية إلا في أذهان الذين لا يميّزون بين اللغة واللهجة بل “اللغة هي في عداد الأحداث الاجتماعية التي تظهر طوال مدة وجود المجتمع. وهي تولد وتتطور مع ولادة المجتمع وتطوره”، فإذا كانت اللغة كذلك، ثم يقف تمددها على حدود المجتمع، فأين تقف حدود المجتمع نفسه؟ ولماذا؟ فلنواصل.
3) العلاقة بين البناء القومي والتحتي -على عكس اللغة- علاقة غير مباشرة وتنضج كلّما أنتج البناء التحتي أدواته وثقافته وفلسفته التي تركّز بناءه عبر الزمن، فلا تكون الاستجابة مباشرة. أما اللغة كما يقول ستالين فـ“مرتبطة مباشرة، بنشاط الإنسان الإنتاجي، وليس بنشاطه الإنتاجي فحسب بل بكل نشاط آخر للإنسان في جميع ميادين عمله، من الإنتاج حتى البناء التحتي، ومن البناء التحتي حتى البناء الفوقي. ولهذا تعكس اللغة التبدلات في الإنتاج بصورة فورية ومباشرة”، فإذا كنا نقرّ أن اللغة مرتبطة بنشاط الإنسان في جميع ميادين عمله، فعن أي إنسان نتحدث؟؟ عن الإنسان في المطلق أم الإنسان في مجتمعه؟ الأكيد أنه الإنسان في مجتمعه (وغير ذلك لا يرقى لمستوى الردّ)، فأين تقف حدود المجتمع الذي “تعكس اللغة تبدلاته في الإنتاج”؟ فلنواصل.
ثم يواصل شرح الرابط القائم بين المجتمع واللغة، ويتواصل اتفاقنا معه حول أن اللغة من دعائم المجتمع، لا يقوم إلا بها، فيستحيل بذلك “هدم اللغة الموجودة وبناء لغة جديدة مكانها، دون إدخال الفوضى في الحياة الاجتماعية، ودون تهديد المجتمع بالتفكك والتفسّخ”. ثم يعرّف اللغة بأنها “تولد وتتطور مع ولادة المجتمع وتطوره، وتموت في نفس الوقت الذي يموت فيه المجتمع. وليست ثمة لغة خارج المجتمع. ولهذا لا يمكن فهم اللغة وقوانين تطورها، إلا إذا دُرست اللغة بالاتصال الوثيق بتاريخ المجتمع”. لكن إجابة ستالين عن كيفية وجود اللغة لم يكن بنفس الدقة التي عرّفها بها، مستعيضا عن ذلك بالحديث عن تطوّر وتفاعل اللغات القائمة دون أين يحدد حدود المجتمع الذي يتحدث عنه، ومع ذلك نتفق معه حين يقول أن “الانتقال من كيفية اللغة إلى كيفية أخرى، لم يحدث عن طريق الانفجارات، ولا عن طريق هدم البالي دفعة واحدة، وإقامة الجديد، بل عن طريق تراكم عناصر الكيفية الجديدة، عناصر البناء الجديد للغة، تراكماً تدريجياً خلال مرحلة من الزمن طويلة، وعن طريق تلاشي عناصر الكيفية القديمة تلاشياً تدريجياً”.
إلى هنا يصل ستالين في شرحه لعلاقة اللغة بالمجتمع وتفاعل اللغات مع بعضها البعض، ونصل معه إلى نهاية التوافق في ما قال. ثم يدخل في سلسلة من الاستنتاجات التي نقول عنها بلطف أنها اجتهادات خاطئة في الفكر الماركسي، وليس أكثر من أن يقول ماركسي مخضرم أن “الانتقال من كيفية اللغة إلى كيفية أخرى، لم يحدث عن طريق الانفجارات…”. وقد يعتبر هذا اجتهادا لو كان تعليله تأصيلا نظريا ماركسيا، لكن التعليل الذي قدمه كان استشهادا بالوقائع والممارسة التي تحتاج هي الأخرى إلى تأصيل، فأن يقول ستالين أن التغيير التدريجي ممكن في اللغة لأن “قانون الانتقال من الكيفية القديمة إلى كيفية جديدة عن طريق الانفجار غير قابل للتطبيق على حوادث اجتماعية أخرى”، كأن يقول أن الطيران على الأرض ممكن لانعدام الجاذبية على القمر، فهو إذ يستشهد بالتجربة الروسية في الأرياف -التي لم تعرف يوما فرزا طبقيا مرتبطا بالمنظومة الرأسمالية – يستشهد أوّلا بتجربة لا بتأصيل نظري، وثانيا بتجربة يختلف الماركسيون أنفسهم كثيرا حول مدى ارتباطها بالنظرية. ولا يعنينا الخوض في حوار المنتصرين لنظرية خالفت الواقع، ومع المتنصرين لواقع خالف النظرية، وهو ما يحيلنا إلى مربّع آخر من النقاش داخل العائلة الماركسية، هو مرّبع من الرمال المتحركة الفكرية.
إلى هنا نصل مع محاولته التي وقفت دون الإجابة عن كيفية نشأة اللغة. ثم قد تكون الإجابة لدى جورج بوليتزر عن هذا السؤال استنادا إلى أبحاث بافلوف فيقول:”اكتشف (بافلوف) أنّ الكلمات ومضمونها ومعانيها يمكن أن تحلّ محل الأحاسيس التي تبعثها الأشياء التي تدل عليها، فتثير بدورها انعكاسات مشروطة وردود فعلٍ عضوية أو لفظية، فتكوّن بذلك إشارات للإشارات، أي نظاماً ثانياً للإشارات يقوم على أساس النظام الأول وهو خاص بالإنسان“، غير أن الاستناد إلى قوانين بافلوف المطبقة على الحيوان في بداية القرن الماضي غير دقيق بالمقارنة مع الاكتشافات العلمية الحديثة المطبقة على الإنسان، والتي أثبتت أن الإنسان يتميز عن غيره من الموجودات بالتخصص المخي، ويعنينا هنا في هذا التخصص تميزّه بالقدرة على الكف والتوقف عن الاستجابة للمؤثرات بطريقة واعية، لكن الكفّ عند المجتمع مسألة أخرى سنتطرق لها لاحقا، والأكيد أنّ اللغة لا تسيل على ألسن البشر كما يسيل اللعاب على لسان كلب بافلوف، تماما كما أن الفكر ليس من إنتاج الدماغ بنفس الطريقة التي تنتج بها المعثكلة (البنكرياس) أنزيماتها. وغير هذا لا يوجد -على ما أعلم- تفسير ماركسي لنشأة اللغة غير ذلك الربط المباشر بين اللغة والفكر في قول ماركس “اللغة هي واقع الفكر المباشر” وحديثهم بعد هذا عن اللغة ونشأتها، وهو حديثهم المعروف عن الفكر والمادة…..
تنتج كل أمة في مسار تكوينها الحضاري حدودا تمثّل حلاّ للصراع الجدلي بين وحدة الانتماء وتعدد الأفراد والجماعات، وما تلبث تلك الحدود أن تصبح “تابوهات” (taboo) ونقصد بها المعنى الذي يدمج بين المقدّس والمحرّم. ثم تستحيل تلك التابوهات إلى معالم للمجتمع من عادات وتقاليد وثقافة مشتركة. واللغة على اختلاف مضامينها (أصواتا وأشكالا وحركات وإيماءات وصورا…) لا تتعدى كونها حدّا من حدود المجتمع يحفظ وجوده ويسِمه ما بقي المجتمع، ونقصد بذلك المجتمع منذ وُجد كرابط بين شخصين على الأقل، فلا يمكن له (المجتمع) إلا أن يلتزم بحدود هي نتاج تراكب زوايا النظر لما يعرف في الإبستيمولوجيا بالعارفين المتموضعين (situated knowers)، وحيث أن الخروج عن نطاق التراكب لزوايا النظر هو بالضرورة مفارقة تنتج رأيين مختلفين على الأقل، لكنّهما صحيحان كلّ في سياقه، فيكون الصراع وينفجر المجتمع (إن وجد) وبذلك تكون اللغة أحد شروط وجود المجتمع وبقائه – باعتبارها أحد تابوهاته- تمتد على امتداده من فردين إلى أمة. ولا بد من الإشارة إلى أن اللغة ليست وحدها ما يكوّن الأمم لذا نقول أنها تمتد على امتداد المجتمع، ولا تحدد الامتداد ولا تخلق المجتمع. وعملية امتداد المجتمع من فردين إلى أمة عملية معقّدة تدخل فيها بقية عوامل التكوين القومي الأخرى…
ثم إن عملية التراكب تتواصل، وتتواصل الوحدة داخلها ويتواصل الصراع خارجها، وتتعمّق الوحدة داخلها كلّما اشتد الصراع خارجها فيكون الفرز بين مجتمع وآخر، وبين أمة وأخرى، وبين لغة وأخرى. ويكون المجتمع الذي نتحدث عنه بوتقة تصهر كل ما في داخلها من أفراد ومجموعات، لا يُشترط فيها وحدة الدم، بل وحدة التراكب. و”القانون” -إذا جاز التعبير- الذي يوجِد اللغة لا يوجِدها إلاّ ليخلقَ معها شعور الوحدة والانتماء لأمة تتفاعل مع بيئتها لتنتج حدودها الجغرافية ثم السياسية. ثم لا يوجِدها إلّا ليوجِد معها عوائق وسواتر ترتفع بمرور الزمن، لتحدد طبيعة الصراع مع الآخر. بذلك كانت اللغة من بين الظواهر الأكثر ثباتا عبر التاريخ، كما أنها تبدي مقاومة غريبة لكل أنواع التطويع أو الإلغاء، والحال أنّ المجتمعات لا تدافع ضد تطويع لغاتها فقط، إنما هي تدافع عن وجودها القومي، وقد ثبتت اللغة العربية مثلا أمام كل أشكال التغريب والفرنسة في المغرب العربي لا دفاعا عن اللغة العربية بل عن الانتماء القومي للمغرب العربي في وجه الاستعمار الاستيطاني. فلا تكف المجتمعات والأمم إراديا عن لغتها إلا إذا كفّت بذلك عن أن تكون.
لذا يصحّ اعتماد اللغة كمسبار لكشف أحوال الأمم والتغيرات التي تطرأ عليها، ذلك أن التغيير الحاصل في قاموس الأمة (جملة الكلمات والمفردات) لا يعكس تغييرا لغويا فقط، إنما يعكس في جوهره تغيّرا ما في حال الأمم، وهذا أيضا ينطبق على اللهجات باعتبارها امتدادا للغة الأم. ويمكن القول أن الأزمة “اللغوية” التي نعانيها في الوطن العربي وكل النشاز الذي نسمعه هنا وهناك يعكس أزمة حقيقة تهدد البناء القومي ذاته، كما أن استهداف اللغة العربية يعكس أيضا استهدافا للوجود القومي ذاته. ويجب التذكير في النهاية أن اللغة ليست القاموس اللغوي فحسب، بل هي قبل ذلك جملة القواعد والقوانين الناظمة له، فيكون التغيير في القاموس أمرا طارئا قد يثري القاموس ولا يهدد اللغة، أما التغيير في قوانين اللغة فهو تغيير جذري وهذا أخطر بكثير.
الفرانكفونية كبديل للهوية العربية
معاوية موسى
تعتبر الفرانكفونية ظاهرة ثقافية سياسية مركّبة تتجذر في سياق تاريخ فرنسا الاستعماري وإفرازاته كافة. وفي إطار مفهومها تندرج مسائل اللغة والسياسة والثقافة والترجمة والتعليم، وأيضاً مشكلات الهجرة والمنفى والاغتراب والانتماء والهوية. وقد سعَت فرنسا في الفترة الماضية إلى ابتكار إطار لاستقطاب المعنيين باللغة والثقافة الفرنسيتين، والمشتغلين بها من أبناء المستعمرات القديمة، لا سيّما في مجال الأدب والفنون الإبداعية، وهذا الإطار أُطلق عليه تسمية الفرانكفونية.
إذا كان الشكل الأول من الاستعمار واضحا وقابلا للمقاومة المسلحة، وهذا ما تمّ حتى اندحر، فإن الشكل الثاني من الاستعمار يعتمد قفازا حريريا، ولذلك يتمكن من التسلل خفية، ويحقق أهدافه الاستراتيجية بكل أمان، بل وبمساعدةٍ من المستعمَر.
لعل المعنى الحقيقي للفرانكفونية، هو ما يحمله الشكل الثاني، لأنّ ظهور الكلمة وتحوّلها فيما بعد إلى مصطلح دقيق، ارتبط بفترة انسحاب فرنسا من مستعمراتها السابقة، تحت ضربات المقاومة المسلحة وخصوصا في المغرب العربي، ولذلك تبلور المصطلح بهدف تحويل الخطّة من استعمار عسكري إلى استعمار ثقافي يمر عبر الاختراق اللغوي. لكنّ الاستراتيجية ظلّت هي نفسها، الخروج من الباب والدخول من النافذة.
لقد ادركت فرنسا تماماً بأنّ تحقيق الاستمرارية في بسط الهيمنة على مستعمراتها، لا يمر بالضرورة عبر التواجد العسكري المباشر، ولكن قد يكون الأمر أقل كلفة وأكثر ربحا، من منظور الاستعمار الثقافي. وما دامت اللغة هي المدخل الرئيسي في أي استعمار بهذا الشكل، فإن الأمر كان يتطلب التفكير في الوسائل اللازمة لفرض اللغة الفرنسية على المستعمرات، ولعل أهم تلك المستعمرات كما ذكرنا سابقا هي أقطار المغرب العربي، إضافة لسورية ولبنان، إلا أنّ سورية لم يتم اختراقها بالشكل المطلوب والمخطَط له كما في بقية الأقطار.
وإذا كان التحكم في الأجساد يمر عبر التحكم في العقول والأرواح كما كان يروّج دهاقنة الاستعمار، فإن أسهل وسيلة لتحقيق هذا الهدف هي الاختراق اللغوي، ويمر ذلك عبر تقديم اللغة الفرنسية “بشتى الطرق والأشكال” على طبق من ذهب للمستعمرات القريبة العهد “باستقلالها الشكلي”، باعتبار اللغة الفرنسية لغة الحضارة ولغة الإنسان الأبيض المتحضّر.
إنّ المشروع الفرانكفوني كان دائما حاضرا خلال المرحلة الاستعمارية، أي أنه لم يكن بديلاً عنها بل متمماً لها، فمثلا الاستثمار الاستعماري في أفريقيا كان يتخذ طابعا ثقافيا، من خلال محوِ المكونات الثقافية للبلدان المُستعمَرة وتعويضها بالمكوّن الثقافي الاستعماري، وذلك ما تحقق في الكثير من البلدان الأفريقية التي عاشت طوال المرحلة الاستعمارية على وقع “تطهير ثقافي” لا يختلف كثيرا عن التطهير العرقي الذي مُورسَ على الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية. إذن النتيجة تبقى هنا أن الفرانكفونية، باعتبارها استعمارا ثقافيا، لم تتأسس من فراغ، بدليل حضورها إبان الحقبة الاستعمارية ذاتها كمشروع اختراق ثقافي طويل الأمد، يتمّ عبره خلْقُ تصوّر لغوي بديل تحتلّ فيه اللغة الفرنسية مكانة محورية كبديل عن اللغة الأم .
في دراسة استقرائية لحضور اللغة الفرنسية (أداة الفرانكفونية) في الوطن العربي تَخلُص أستاذة الأدب المعاصر بجامعة القديس يوسف (كاتيا حداد) إلى خلاصات كبيرة الأهمية:
تقول الأستاذة كاتيا حداد: ” لقد أتاحت لنا الدراسة الاستقرائية التي قمنا بها إبراز حقيقة أن الفرانكفونية المدرسية تقدمت خلال العقد الأخير ولم تتأخر. وكان من أسباب هذا التطور انحسار تيار التعريب من المناهج الدراسية. فقد شهد العقد الأخير إعادة إدراج اللغة الفرنسية أو تقويتها في البرامج الدراسية بدرجات متفاوتة، وذلك في البلدان الآتية: تونس والمغرب وسوريا ومصر. وفي لبنان، تمّ اعتماد مبدأ الازدواجية اللغوية المبكرة على مستوى الدولة، وهو مبدأ جاء ليزكّي اختيارات السكان اللغوية ويضفي طابعاً رسمياً على مكانة اللغات الأجنبية، وبخاصة مكانة اللغة الفرنسية، وكان هذا الإجراء أول سابقة من نوعها في هذا البلد”(1)
إنّ ما يفسر هذا الحضور القوي للغة الفرنسية ضمن مناهج التدريس في مجموعة من الأقطار العربية، يرتبط في العمق بأبعاد إيديولوجية ومصلحية؛ ترتبط بالهيمنة التي أصبحت تمارسها الفرانكفونية على مستعمرات فرنسا السابقة، من خلال الحضور القوي للوبي الفرانكفوني، الذي يتشكل من نخب ثقافية وسياسية واقتصادية، لا يهمها سوى الحفاظ على مصالحها الخاصة في علاقتها بالمستعمر السابق الذي نسجت معه شبكة من المصالح، الأمر الذي يحوّل اللغة لديها إلى إيديولوجيا تتجاوز كل حدود المنطق، وهذا حقيقةً ما يفضح الخلفية الإيديولوجية المتحكمة في اللوبي الفرانكفوني في سياق هذه الحملة الفرانكفونية الشرسة، التي تسعى إلى تحقيق الترسيم الواقعي للغة الفرنسية، وإفراغ الطابع الرسمي الحضاري الهوياتي للغة العربية.
- أنظر: كاتيا حداد : حصيلة دراسة واقع الفرانكفونية في “العالم العربي”- أعمال ندوة الفرانكفونية و “العالم العربي” 31-30 مايو / أيار 2000 – إصدار الإيسيسكو .
لماذا سكتنا عن عروبة البربر؟
سعيد بن عبدالله الدارودي ـ صلالة ـ ظفار
ظهرت (النزعة البربرية) بشمال إفريقيا منذ عقود خلت على يد ما بات يُعرف بالحركة الأمازيغية، وهي نزعة عرقية شرعت تعمل منذ ظهورها على تأسيس هوية جديدة لبلدان المغرب العربي، أطلقت عليها هذه الحركة اسم الهوية الأمازيغية. ولم تكن هذه النزعة وليدة الاستعمار الغربي وحده ـ الذي أراد أن يصنع هويتين متعارضتيَن في أوطاننا من أجل ضرب الوحدة الوطنية وإضعاف الوفاق الوطني، وجعْل لغة المستعمر وثقافته في مكانة عالية مصونة ـ بل كان ظهور هذه النزعة أيضاً هو نتيجة إعراضنا عن ترسيخ عروبة المغرب الكبير من خلال مشروع علمي مؤسساتي جاد تسخر له كل الإمكانات التي يحتاجها لتحقيق أهدافه، مشروع يقوم على البحث في عروبة التراث البربري والمقارنات الواسعة المستفيضة ما بين التراثين، التراث البربري والتراث الشعبي بالمشرق العربي.
كان النسَّابة والإخباريون العرب هم من أسس لعروبة البربر. ورغم التحفّظ على أجزاء مما أورده هؤلاء من قصص وحكايات وأنساب، إلّا أننا لا يمكننا أن نُدخل ما جاءوا به في خانة الأساطير والخرافات، وذلك لأن للأسطورة نصيب من التاريخ، ناهيكم عن أن الحقائق العلمية المعاصرة تؤكد ما قاله أولئك الإخباريون القدامى عن أصول البربر، وهذا هو مربط الفرس.
فماذا فعلنا نحن في هذا الأمر المهم الذي أخبرنا به القدماء، ثم أكدَّه البحث العلمي بعد ذلك بزمن طويل؟
إنَّ مواقفنا مما يفعله أبناء الحركة الأمازيغية ومن يقف معهم من خارج الوطن من أجل سلخ المغرب العربي عن هويته العربية هي مواقف مخجلة، ومستفزة لكل مستشعر بالخطر المحيط ببلدان المغرب العربي.
لقد أدَّت هذه المواقف إلى جهل العرب عامَّة والبربر خاصَّة بعروبة المغرب العربي السابقة للفتح الإسلامي. وتظهر هذه المواقف السلبية من خلال:
* بقاء التعريف بحقيقة عروبة البربر داخل إطار نخبوي ثقافي ضيّق. فقد ظلَّت هذه الحقيقة محصورة بين رهط من الباحثين والمثقفين، بسبب تجاهل النخب السياسية ووسائل الإعلام لها، مع سبق الإصرار والترصد لتهميش وتغييب الحقائق التي تدعم الوحدة العربية وترأب الصدع القُطْري.
* عدم استثمار العلماء والدعاة وأئمة المساجد والمنابر الدينية في إشاعة حقيقة إن البربر هم عربُ الهجرات القديمة لشمال أفريقية قبل الفتح الإسلامي بقرون طويلة. فلو كان يقوم هؤلاء بما قام به العالم الجليل الشيخ أحمد الخليلي مفتي عام السلطنة في ليبيا منذ سنوات خلَت عندما زار منطقة الجبل العربي هناك، والتقى بجماهير من البربر، وأخبرهم في ثنايا محاضراته الدينية بحقيقة أصولهم المشرقية العربية؛ لأرشدوا الناس إلى الوقائع المجهولة والحقائق المغيَّبة والدراسات العلمية المقارنة التي تثبت عروبة هذا الشعب العريق، ولكانت المحصلة ـ حينها ـ عظيمة والأثر كبيراً، والنتيجة حميدة مستحسنة.
* ترك البحث العلمي فيما يخص التاريخ والتراث البربريين، خاصة التراث اللغوي، للحركة الأمازيغية وللأجانب الغربيين، ونظرة واحدة لببلوغرافيا المعاجم اللغوية الخاصة باللهجات البربرية التي أنجزت منذ زمن ليس بالقصير وإلى الآن تؤكد هذه الحقيقة. وكأن الأمر لا يعني أحداً سوى أبناء الحركة الأمازيغية الشعوبيين المتعصبين. فإذا كانت السلطات الرسمية في المغرب قد أنشأت المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، والسلطات الرسمية في الجزائر أسست المحافظة السامية للثقافة الأمازيغية، والحركيون البربر أقاموا الكثير من الجمعيات الأهلية التي تتفق مع هاتين المؤسستين الرسميتين في إنكار عروبة المغرب الكبير، فلماذا لا تقوم جهة أو شخص ما، في المشرق أو المغرب بتأسيس مركز علمي أو ما شابه ذلك يدافع عن العروبة المستهدفة في مغرب الوطن العربي ؟
* إظهار القضية البربرية بتداعياتها على أنها قضية مغاربية بحتة لا علاقة للمشرق العربي بها. والواقع إنَّ الحال السيئة التي وصلت إليها الأمة العربية والتي جعلت كل قطر ينكفئ على نفسه منشغلاً بمشاكله الداخلية ليست عذراً لأن يعزل المشارقة نفوسهم عمّا يجري في المغرب العربي، خاصة أن الغرب وعلى رأسه فرنسا انحاز إلى الحركيين المغاربيين المعادين للعروبة.
* التهوين من نشاط وأهداف الحركة الأمازيغية ومن يساندها في الغرب. وفي هذا المقام أرى من واجبي أن أسرد لكم قصتي عام 2010 ميلادي، فقد كنت مدعوَّاً للغداء في منزل طبيب ليبي، وبعد تناول الطعام وشروع الضيوف بارتشاف الشاي، كان الحديث بينهم ذو شجون، حيث تحول في منتصفه إلى القضية الأمازيغية، فقال الطبيب المضيف: لقد حذرَّنا معمرُ القذافي قبل عشرين عاما من خطورة الحركة الأمازيغية الليبية على ليبيا، فقمنا نضحك منه ونتهمه بالجنون والمبالغة، والآن بعد أن اتضح مخطط هؤلاء وقويت شوكتهم اكتشفنا أننا نحن المجانين والقذافي هو العاقل اليقظ الذي أدرك مبكراً ما يُحاك لهذا الوطن.
* الإرهاب الفكري ـ وأحياناً يكون إرهاباً جسدياً ـ الذي تمارسه الحركة الأمازيغية على من يؤمن بعروبة البربر ويجاهر بها، أدّى إلى إعراض الغالبية من الكتّاب والباحثين وغيرهم عن البحث عن الأصول المشرقية للبربر. ولهذا يحتاج هذا العمل المقدس إلى رجال ونساء يمتلكون شجاعة أحمد بن نعمان ومحمد سعيد القشاط وأنيسة بن تريدي وعثمان سعدي ومحمد المختار العرباوي ومحمد علي مادون الذين يؤمنون بعروبة البربر ويجاهرون بها.
عروبة البربر هذه الحقيقة المسكوت عنها، والتي يعاديها في أوطاننا الشعوبيون الجدد عداءً مريراً، ويقف إلى جانبها القلة القليلة باستماتة، ويجهلها الغالبية العظمى، أما آن لها أن تخرج من سجن التجاهل والجهل، إلى فضاء التعريف والعِلْم والإعلام ؟
شخصية العدد:
مهندس الدبلوماسية العراقية: طارق عزيز
نسرين الصغير
هو ميخائيل يوحنّا، وُلد في 28 نيسان 1936 في نفس يوم ميلاد الشهيد صدام حسين، مع اختلاف السنوات، في مدينة الموصل لأسرة كلدانية كاثوليكية. درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب في جامعة بغداد، وعمل كصحفي قبل انضمامه لحزب البعث العربي الاشتراكي، حيث حمل راية القومية العربية حتى مماته. وافتْه المنية وهو في المعتقل، كان من الرجال المقربين للشهيد صدام حسين، وكان يُعتبر أحد أهم مستشاريه لأن عروبته وانتماءه لمبادئ البعث الحقيقية جعلت صدام يثق به حتى آخر يوم من حكم حزب البعث للجمهورية العربية العراقية.
بدأت علاقة طارق عزيز بصدام حسين منذ أن كان حزب البعث محظوراً في العراق، أي في الخمسينيات، حاملاً روحه على كفه، وبعد أن تأسس نظام الحكم البعثي الاشتراكي في العراق، تسلم مواقع مختتلفة، حتى اصبح نائباً لرئيس مجلس الوزراء في الأعوام 1979 – 2003. تعرّض لمحاولة اغتيال عام 1980، عندما كان في زيارة للجامعة المستنصرية في العاصمة بغداد، عندما قام أحدهم بإلقاء قنبلة يدوية على موكبه، لكنه نجا من تلك المحاولة على حياته، وبعد الحادث حضر الرئيس صدام حسين إلى الجامعة، وألقى كلمة بالطلاب قال فيها: “نحن نرقص على أكتاف الموت”.
كان طارق عزيز الممثل الدبلوماسي للحكومة العراقية في معظم المؤتمرات والقمم العربية والعالمية. ولم يكن دبلوماسيا عاديا، بل كان ماهرا متمرسا في مقارعة أعداء العراق، وكان من أوائل الذين اكتشفوا أنّ الحرب على العراق قادمة لا محالة، حيث كان يقول دائماً أن موقع العراق وثروته النفطية لن يتنازل عنهما الغرب، وأنّ مشكلة الولايات المتحدة لم تكن في النظام العراقي، بل أنها تريد تغيير بيئة المنطقة بأكملها، والعراق كان مستهدفاً بسبب مواقفه من الكيان الصهيوني ونزعته الاستقلالية.
وقف طارق عزيز صلباً في وجه الاحتلال الأمريكي، وعندما تم استدعاءه للشهادة ضد رفاق دربه صدام حسين والبرزاني وطه ياسين رمضان لم ينقلب على رفاقه، بل وقف صامداً مدافعاً عن تجربة النظام الوطني في العراق، ورفض مرارا أوامر التحقيق معه، بخاصة في قضية الدجيل والأنفال وإعدام التجار العراقيين إبّان الحصار الاقتصادي على العراق، وقال في أحداث الأنفال: “كنتُ أعمل كوزير خارجية، ولا أعمل إلا كوزير خارجية، وأي قرار يصدر من الرئيس علينا تنفيذه”. وعندما طالب محامي طارق عزيز بنقله للمحاكمة في دولة محايدة لأن العراق محتل واقترح هولندا أو السويد، قال طارق عزيز في مكالمة هاتفية لمحاميه أنه لن يشهد أبداً ضد صدام حسين.
كان النظام العراقي الوطني بكل وزرائه ورجاله البعثيين مطلوبين للمحتل الأمريكي بحجة محاكمتهم، ولم تكن تلك المحاكمة إلا مسرحية كيدية واستخفافاً بعقول البشر .. في بداية غزو العراق روجت وسائل الإعلام الصفراء أن طارق عزيز تم اغتياله ثم أنه انشق وأنه في طريقه لكردستان! فما كان منه إلا أن عقد مؤتمراً نفى فيه تلك الشائعات. أما بعد احتلال العراق فاصبحت رأسه من الرؤوس الأولى المطلوبة للاحتلال الأمريكي، وهو من الرموز القيادية المعروفة في النظام العراقي، وكان يحمل الرقم 12، وكان معروفاً جداً كشخصية دبلوماسية وحزبية بارزة، فقام بتسليم نفسه، وكان ذلك في تاريخ 24 نيسان 2003. تعرّض طارق عزيز للتعذيب في المعتقل الأمريكي، وعاش مع بقية المعتقلين في ظروفٍ بائسة في المعتقل، وقام بالإضراب عن الطعام، وحين حضر للشهادة في محكمة الدجيل كان هزيلاً يرتدي البيجامة، وكان يعيش على المغذّيات بسبب إضرابه عن الطعام.
توفي طارق عزيز في مستشفى الحسين التعليمي أثر ذبحة صدرية ألمّت به، حيث كان معتقلا في سجن الناصرية في محافظة ذي قار جنوب العراق، يوم 5 حزيران 2015 عن عمر يناهز 79 عاماً، بعد اثني عشر عاماً في السجن، وتم دفنه في الأردن بناءاً على طلبه، لأنه يريد أن يُدفن بالقرب من أبنائه الذين يعيشون في الأردن منذ احتلال العراق عام 2003 وهم زياد و صدام وزينب.
رسخت صورة طارق عزيز في أذهان محبيه وهو بالشعر الأبيض والزي العسكري. كان طارق قريبا من أبناء حزبه، معروفا في مواقفه الصلبة في وجه كل من يحاول المساس بأي قطر عربي. أما في القمم والمؤتمرات فكان يتحدث بلسان قومي عربي، ودائما كانت بوصلته فلسطين.
مدينة عربية: تدمر
علــي بابـــل
مملكة تدمر العربية آخر ممالك العرب “البائدة” في سورية الكبرى، وقد اشتهرت بأنها مدينة التجارة بسبب موقعها الوسطي في سورية الكبرى والرابط بين بلاد ما وراء النهرين وسواحل المتوسط وموانئ الخليج العربي ومدينة أنطاكيا العربية من جهة أخرى.
ترزح هذه المدينة اليوم، التي كانت عاصمة آخر ممالك العرب، تحت ظلال الحكم الوهابي السعودي “داعش” لا مغيث لها سوى دمشق جارتها الأقدم والأقوى. تدمر التي تحدثت اللغة الآرامية بلهجة تدمرية صحراوية، لم يبقَ من سبيلٍ إلا خاضته للتخلص من السيطرة الرومانية عليها، وإن كان السبيل الأخير هو الرحيل بشموخ كما نخلها الذي بقي شامخاً إلى الآن في بادية الشام الأموية.
تعتبر تدمر مدينة تجارية بالدرجة الأولى، خصوصاً بعد دمار جارتها العربية مدينة البتراء النبطية في الجنوب السوري على يد الرومان. فلقد كانت تدمر حلقة وصل كما ذكرنا سابقاً بين أكثر من بلد ومدينة، وبالرغم من ذلك فقد تمتعت هذه المدينة بتحصينات عسكرية متطورة خصوصاً بعد التمدد السلوقي ومن ثم الروماني في المنطقة العربية. بقيت تدمر وحيدة هي وبعض الممالك العربية بعد غروب شمس الحضارات العربية القديمة في بلاد الرافدين وسورية الكبرى وسقوط قرطاجة الجميلة في غرب المتوسط بعد موت طائر الفينيق على سواحل المتوسط.
بقيت تدمر وحيدة تقاوم التاريخ فلا مصر تنجدها ولا عراق ينصرها ولا دمشق تسمعها. لقد كبر الشرق وكهل بعد آلاف السنيين من الحياة والإنجاز الحضاري لكل البشرية، ورغم كل العوامل السلبية التي كانت تواجه مملكة تدمر إلا أنها قدمت مثالاً في التضحية والعطاء والمقاومة في ظرف تاريخي صعب لا حياة فيه إلا للقوي الجبار الظالم “روما وفارس”.
بزغت شمس تدمر في نهاية القرن الرابع ق.م في مواجهة الإمبراطورية السلوقية، وبالرغم من الظرف التاريخ الصعب الذي نشأت فيه المملكة، إلا أن تدمر استطاعت الحصول على حكم ذاتي نوعاً ما تحت ظل السيطرة السلوقية، واستطاعت الصمود في وجه الأطماع السلوقية والفارسية من خلال استغلال الصراع بينهما.
كما غيرها من المدن العربية حافظت تدمر على ثقافتها العربية ولغتها الآرامية وبقي الدين الشرقي هو المسيطر، وكانت تدمر مثالاً للحرية الدينية فلقد انتشرت المسيحية إلى جانب الديانات القديمة، فلقد بقيت الكنائس والمعابد شاهداً عملياً إلى الآن.
سيجد الباحث عن المدينة الكثير من المعلومات، سياسياً واقتصادياً، وحتى عسكرياً، لقد تحالفت تدمر مع السلوقيين ضد البطالمة في مصر، وقاتلت ثأراً لكرامتها ضد الفرس في فترة من الفترات، إلى أن حاربت ملكتها “الزباء” الرومان إلى الرمق الأخير وسطرت أسمى معاني الصمود والكرامة.
بقيت تدمر تقاوم التاريخ حتى عام سقوطها بيد الرومان 272 م على يد الإمبراطور الروماني “أورليان” فأسر الملكة زنوبيا التي سطرت قصة أسرها الكثير من الأساطير والملاحم، وما يسعنا ذكره أن هذه المدينة الصغيرة استطاعت التمدد إلى خارج سورية وصولاً إلى مصر والأناضول وترسيخ حكمها رغم وجود إمبرطوريات صاعدة: “الرومانية” غرباً والساسانية شرقاً.
حافظت تدمر على أهميتها في ظل الحكم الروماني من خلال تحويل المعابد الوثنية إلى كنائس، وقد كانت من أهم مراكز الغساسنة في بادية الشام إلى أن دخلها القائد العربي خالد بن الوليد محرراً، واستمرّت تدمر أحد أهم المراكز التجارية في المنطقة حتى إنتهاء الحكم الأموي العربي وقدوم العرب العباسيين.
كثيرة هي الكتابات التي تقدم تدمر أثرياً كأحد أهم المدن في المنطقة التي لا تزال أثارها شاهدة على تاريخها المجيد، إلا أن قدوم الوهابية إلى المنطقة، تحديداً عند دخولهم عدة مدن تاريخية منها تدمر ونينوى، يضعنا أمام واقع مر يجبرنا على ذكر هذه المدن بشكل مستمر وإلقاء الضوء على أهميتها التاريخية لنا نحن العرب كقومية تتعرض لكل أنواع التشويه ومحاولات الطمس من التاريخ البشري، لكي لا يقال أن العرب هم المساهم الأساسي في بناء الحضارة البشرية بل والمؤسس الرئيس للحضارة البشرية انطلاقاً من بلاد ما بين الرافدين “الهلال الخصيب”.
تدمر بتاريخها الاجتماعي اللامادي أثبتت أن المقاومة أحد أهم صفات العنصر العربي منذ القدم، فأبت تدمر وملكتها زنوبياً إلا المقاومة والصمود.
لم نشأ أن يكون المقال تكراراً لمعلومات أثرية وأكاديمية بحتة، لكي نقول للوهابية وأنصارها أن تدمر مثال للحياة والحب والتقدم لن تنسى ولو هدمت حجراً حجر.
الصفحة الثقافية:
موضوعة فلسطين في المسرح العربي (1-2)
طالب جميل
بقدر ما يرتبط الأدب والفن بقضية تحرير فلسطين، بالوحدة العربية، بالكفاح ضد المستعمر، بقدر ما يكون أدباً ثورياً مخلصاً لقضايا الأمة نظراً لما يحمله من مضامينَ ثورية. ولأنّ فلسطين قضية العرب الأولى وبوصلتهم الحقيقية، فقد كانت دائماً حاضرةً في كل الفنون والآداب من السينما والدراما إلى القصيدة والرواية والفن التشكيلي. كذلك هو المسرح العربي أيضاً، فقد كانت فلسطين حاضرة في تلك العروض التي تم تقدّيمها عبر أكثر من ستة عقود، خصوصاً بعد الصحوة القومية التي سادت الحياة الثقافية العربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، حيث حاول المسرحيون العرب كسر هيمنة الشكل المسرحي الأوروبي السائد والخروج بشكل مسرحي عربي يرتكز على الموروث الشعبي ويؤكد الهوية القومية الإنسانية التي تميز العرب عن سواهم من الأمم، وهذا الشكل من المسرح من شأنه أن يكشفَ عن روح الأصالة في أمتنا من أجل متابعة مسار التقدم الذي تحتّمه حركة التاريخ.
تصدرت القضية الفلسطينية نتاجات المسرحين العرب في جميع أنحاء الأقطار العربية، لذلك بدأ المسرح العربي المعاصر يعبّر عن آلام الأمة العربية كلها بعد الشعور الذي انتاب كثير من المثقفين العرب بهشاشة الواقع العربي ووطأة الهزيمة، وفي ضوء ذلك مارس المسرح دوره في منح الإنسان العربي الفلسطيني دفعة أمل قوية ارتبطت بالنضال السياسي الذي أسهم في إبراز الشخصية النضالية للإنسان الفلسطيني المقاوِم.
لقد ألقت التنظيرات العالمية حول المسرح السياسي لا سيما تنظيرات كل من (ايرفين بيسكاتور، برتولد بريخت وبيتر فايس)، الذين وضعوا مسرحهم السياسي في خدمة الحركات الثورية السياسية التي تبحث عن حقوق المجتمع في ظل عمليات القهر والاستعباد التي فرضها واقع الحروب، بظلالها على المسرح العربي نصاً وإخراجاً، حيث تبنّى الفنان والمثقف العربي قضايا الأمة العربية المصيرية ابتداء من القمع والاحتلال العثماني، إلى تكالب الاستعمار على أقطارها وحالة التجزئة التي فُرضت عليها، وانتهاءً باحتلال فلسطين وإقامة دولة الكيان الصهيوني على ترابها.
لقد كان للقضية الفلسطينية أثرها الكبير في بلورة طروحات المسرح السياسي العربي، حيث ظهر ذلك في كتابات (ألفريد فرج، يوسف إدريس، سعد الله ونوس، معين بسيسو) وغيرهم من الكتَاب، وفي التجارب والتيارات المعاصرة التي ظهرت في المسرح العربي كتجربة (مسرح القهوة) التي خاضها الفنان (ناجي جورج) في مصر، و(مسرح الشوك) الذي تأسس على يد الفنان المسرحي السوري (عمر حجو)، وتجربة (مسرح الحكواتي اللبناني) التي خاضها (روجيه عساف)، وتجارب المسرح السياسي في المغرب العربي والعراق وأقطار الخليج العربي. وقد أسست هذه التجارب بناء شخصياتها الدرامية على التحريض والإثارة ومسرحة الأفكار السياسية والاقتصادية، وذلك في سبيل إثارة المتلقّي من خلال نقد العيوب السياسية، مركّزةً على الواقع العربي بعد حزيران 1967. وقد كانت الصورة التي برزت عليها صورة المناضل الفلسطيني، هي صورة الفدائي الذي يولد مع الشعب بكل معاناته وآلامه وبكل خبرته ووعيه، فغدَت صورة الفدائي أقرب إلى الرجل العادي الذي نشأ وسط أكواخ المخيمات في مجتمع يسوده البؤس والفقر، فلم يكن بطلاً أسطورياً وتمثالاً جامداً، بل إنساناً صاحب قضية يعِي أبعادها وقد اكتشف الطريق الذي يوصله إلى تحقيق أهدافه لاسترجاع حقه.
أخذ المسرح السوري طابعاً ريادياً في مسرحنا العربي، لا سيما بما حواه من منطلقاتٍ قومية ومضامينَ طليعية، وكان طبيعياً أن يرتبط هذا المسرح بالواقع العربي متمثلاُ بأحداثه السياسية والاجتماعية التي أثّرت على المجتمع العربي بخاصة بعد احتلال فلسطين. وقد ركّز المسرح السوري المعاصر على عرض الهمّ القومي للإنسان، وعلى سبيل المثال قدم (محمد الماغوط) عدة مسرحيات مثل (العصفور الأحدب، المهرج، ضيعة تشرين، غربة، كاسك يا وطن)، وفي مسرحه أبدع عالماً شاسعاً بأسلوب كوميدي نقدي، حيث لامس الواقع العربي بكل آلامه وسلبياته، وكانت فلسطين حاضرة في أعماله سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
أما سعد الله ونّوس فقد كان صاحب مدرسة خاصة به، وكان يسعى إلى تسييس الخطاب المسرحي وتكريس هذا الجوهر في الممارسة المسرحية العربية، وكان ملتزما بتقديم موضوعات سياسية ذات نفس تنويري ومحرّض لوعي الجماهير على الفعل والتغيير، وكان معنياً بالبحث عن أشكال فنية جديدة تستوعب مضامينه الثورية، فقدم عدة أعمال مسرحية لامست قضية العرب الأولى بخطاب سياسي متقدم، ومن أبرز أعماله المسرحية المتصلة بالقضية الفلسطينية (فصد الدم) و(مغامرة رأس المملوك جابر) و(حفلة سمر من أجل خمسة حزيران) و(الاغتصاب).
في مسرحية (فصد الدم) عرض ونّوس صورة لمولد المقاومة التي لا يمكن لها أن تتم إلا إذا بتَر كل فلسطيني بخاصة وكل عربي بعامة نصفه المعطوب المشلول العاجز نتيجةً للأوهام والأكاذيب والخوف، وقد جاءت المسرحية في الوقت الذي كان فيه الوطن العربي ممزقاً وأنظمته الوطنية في صدام مع بعضها البعض أشدّ من صدامها مع أعدائها، بينما كانت الإذاعات تطلق الشتائم وتتسابق على تقديم الأغاني الحماسية؛ و(فصد الدم) طبّ شعبي موروث يعرف باسم (الحجامة) وهو يفيد في تنقية الجسم مما يحمله من فساد وتخثر لتخفيف بعض الآلام، وقد جاء اختيار هذا العنوان للمسرحية في إشارة لضرورة تخلص الإنسان العربي والفلسطيني من السلبيات التي من شأنها أن تعيق قيام مقاومة حقيقية للمحتل، وفي هذه المسرحية يستخدم ونّوس تقنية الاسترجاع، حيث يجسّد لنا واقع الإنسان الفلسطيني الذي فرضه الاحتلال الصهيوني ويثبّت في الذاكرة مرارة الهزيمة ومأساة استلاب الوطن الفلسطيني من أهله، ويؤكد أن ضياع فلسطين كان نتيجة لهزيمة الداخل وتمزّق الأنظمة العربية.
أما في مسرحية (مغامرة رأس المملوك جابر) فقد قدم ونّوس فرجة مسرحية ممتعة ومفيدة وجريئة تدفع المتفرِج إلى تأمل مصيره، وتنتهي المسرحية بخطاب مسرحيّ يلخّص لنا مرارة واقعنا، هذا الواقع الذى حدث ببغداد فى زمن الخليفة، هو ما حدث فى الزمن المعاصر عندما اجتاح الأعداء بغداد، وهو نفس ما حدث في غزة عندما اجتاحها الصهاينة.
وفي مسرحية (حفلة سمر من أجل خمسة حزيران) يتناول ونّوس حدثاُ تاريخياً ذا طابع قومي عرض من خلاله تداعيات هزيمة حزيران عام 1967، حيث بحث وراء الأسباب والآثار المترتبة على ذلك، ولجأ ونّوس في حفلة سمر إلى استخدام صيغة المسرح المرتجل المصحوب بأسلوب المسرح داخل المسرح، والتوجّه إلی قضية مهمة تشكّل محوراً لهموم الجماهير، فالارتجالية ظلّت سمة طاغية علی هذه المسرحية، والمتلقّي سواء القارئ أو المتفرّج يلاحظ وجود مسرح ينفي المسرحية؛ مسرح رسمي انتهازي، يزيّف الحقائق، ويقدم صورة كاذبة لما يجري، وهذا المسرح متمثل في كلام المخرج والأحداث التي تصوَرها المخرج من خلال حديثه مع المؤلف، ومسرح آخر حقيقي واقعي وشعبي يكشف ويعرّي الأنظمة وبُناها الفاسدة، ويقدم الصورة الحقيقية للوطن المهزوم.
أما مسرحية (الاغتصاب) فقد وجّه ونّوس من خلالها النقد نحو سلطة الجلاد والمحتل المتمثلة بالعدو الصهيوني، وأراد تصوير الممارسات الإرهابية والعنصرية لدولة الاحتلال الصهيوني. ويؤخذ على ونوس في هذه المسرحية أنه حاول إظهار أن بعض اليهود ليس لهم علاقة بالحركة الصهيونية ولا يضمرون العداء للعرب، وهي مداخلة غير مبررة خاصة عند طرح قضية احتلال فلسطين، فلا يستدعي المقام عند تناول مثل هذه القضية الترويج لإنسانية بعض اليهود وفصلهم عن الكيان الصهيوني، كذلك لم يثبت حتى يومنا هذا بشكل قاطع صحة هذا الطرح.
المراجع:-
- بهاء بن نوار: سعد الله ونوس ومسرح القضية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012.
- د. يحيى البشتاوي: دراسات في الأدب المسرحي 2009.
- د. يحيى البشتاوي: فلسطين في المسرح العربي، وزارة الثقافة، الأردن 2008.
قصيدة العدد/ لا تلمني في هواها، للشاعر حليم دموس (1888-1957)
لا تلمني في هواها … ليس يرضيني سواها
لست وحدي أفتديها … كلنا اليوم فداها
نزلت في كل نفس … وتمشّت في دماها
فبِها الأم تغنّت … وبها الوالد فاها
وبها الفن تجلى … وبها العلمُ تباهى
كلما مرّ زمان … زادها مجدا وجاها
لغة الأجداد هذي … رفع الله لواها
فأعيدوا يا بنيها … نهضة تحيي رجاها
لم يمت شعب تفانى … في هواها واصطفاها
اترك تعليقاً