د.إبراهيم علوش
البناء 4/3/2015
ظل تربع اليمين الصهيوني المتطرف على سدة الحكم في “تل أبيب”، من منظور أوباما والأوروبيين، ثغرةً كبرى في جدار “الربيع العربي”. فالخطوات الاستفزازية إزاء الأقصى، وبرنامج الاستيطان في الضفة الغربية، والشروط المذلة للتفاوض مع حلفاء امريكا العرب، حتى أكثرهم استسلاماً، كالسلطة الفلسطينية، وكل الخطاب اليميني المتشدد، ظل يجفّل المواطن العربي ويعيده لحلبة الصراع مع الكيان، كلما انساق خلف “الربيع” المزعوم.
برنامج “الفوضى الخلاقة” الأمريكي اقتضى حرف الصراع إلى الداخل، مما تطلب “تسكين” العلاقة مع الكيان، لا تأجيجها باستفزازات اليمين المتطرف… لذلك كتبت في اوائل ذلك “الربيع”، في 16 حزيران 2011، تحت عنوان “سياسة الطاقة والصراع على قلب العالم”: “ربما يكون الكيان الصهيوني مقبلاً على تغييرات باتجاه عودة سياسيين صهاينة للحكم أكثر استعداداً للانخراط في عملية التسوية، بدلاً من عنجهية فريق ليبرمان-نتنياهو المتعالية التي باتت تشكل مشكلة حقيقية للسياسة الخارجية الأمريكية”.
مذاك تفاقمت مشكلة الإدارة الأمريكية مع اليمين الصهيوني وازدادت حاجتها للإطاحة بحكمه في الكيان، لكن الجمهور الصهيوني ازداد يمينيةً وتشدداً، فيما اقتضت الاستراتيجية الأمريكية عربياً عودة حزب العمل وأمثاله للحكم، فبذلت الإدارة الأمريكية قصارى جهدها في انتخابات الكنيست عام 2013 للإطاحة باليمين الصهيوني، خاصة بعد أداء كتلة كاديما المتميز بقيادة تسيبي ليفني في انتخابات عام 2009 التي حصلت فيها على أغلبية نسبية، لم تمكنها من رئاسة الوزارة.
سارت رياح الكنيست على عكس اتجاه سفن أوباما عام 2013، إذ تمكن تحالف نتنياهو-ليبرمان من احتلال المرتبة الأولى، فيما تراجعت ليفني، التي خاضت الانتخابات خارج كاديما، للمرتبة السابعة، وتمكن اليمين الصهيوني من تحقيق أغلبية غير مستقرة، جزئياً بسبب تدخلات أوباما في لعبة الانتخابات الصهيونية، وكان من ذلك السعي لتجنيد الأصوات العربية في المعركة الانتخابية، حيث اندفعت شخصيات وقوى “يسارية إسرائيلية” بقوة لاستقطاب الصوت العربي قبيل انتخابات الكنيست التاسع عشر في 22 كانون الثاني 2013، مما دفعني للتعليق على “فيسبوك”: “أوباما يريد أن يرد على دعم نتنياهو لرومني في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة بإسقاط تحالفه الانتخابي… والساسة العرب (و”اليساريون الإسرائيليون”) أصبحوا هنا جنود الولايات المتحدة في معركة ليست في الواقع معركتنا، باعتبار أن الصوت العربي يمكن أن يذهب لما يسمى “اليسار”، أكثر مما يمكن أن يذهب لليمين الصهيوني، والمطلوب هو حرمان تحالف نتنياهو اليميني من الحصول على أغلبية برلمانية تمكنه من تشكيل الحكومة من جديد”.
…ناهيك عن الموقف المبدئي الصرف طبعاً من المشاركة بانتخابات الكنيست باعتبارها تطبيعاً مع الكيان الصهيوني يجمّل وجه “ديموقراطية إسرائيل”، ويؤمن مسارب آمنة صهيونياً للحراك السياسي العربي الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 48، ويخلق شريحة من نواب الخدمات العرب المرتبطين بالاحتلال يمثلون نوعاً من الكمبرادور السياسي: الجمهور العربي مقابل بعض الخدمات ووهم تغيير الكيان الصهيوني من الداخل عبر “النضال البرلماني”.
أما وقد بات هناك من يصور نيل “حق” الترشح للكنيست كـ”بطولة” وطنية، فلنلاحظ، عشية انتخابات الكنيست العشرين، في 17 آذار 2015، البيان المهم لحركة “كفاح” في الأرض المحتلة عام 48 الذي يعدد اسماء جمعيات أمريكية و”يسارية إسرائيلية” تضخ المال السياسي بكثافة لدفع العرب للمشاركة في الانتخابات “الإسرائيلية”، على أمل حرمان اليمين من الأغلبية البرلمانية! فمرة أخرى، نجد المشاركة العربية في انتخابات الكنيست تحقيقاً لكل مصلحة إلا المصلحة العربية، وفي هذه اللحظة السياسية نجدها تصويتاً لمصلحة الإدارة الأمريكية، أي لمشروع التفكيك في الإقليم و”الربيع العربي”.
المهم، لا تقتصر المشكلة بين نتنياهو وأوباما على “المستعمرات” أو “تجميد الاستيطان” وما شابه، ولا هي مشكلة تضارب شخصيات، وكنت قد أشرت في “البناء” في 12 تشرين الثاني 2014 أن النزوع الأوروبي لفرض عقوبات على مستعمرات الضفة وللاعتراف بـ”الدولة الفلسطينية” الوهمية المفتقدة للسيادة، و”عربدة” السلطة الفلسطينية دبلوماسياً، إن هي إلا خطوات محسوبة تهدف للضغط على حكومة نتنياهو وعلى الجمهور الصهيوني للتخلي عن اليمين، أي أنها خطوات تخدم الإدارة الأمريكية ومشروعها في المنطقة العربية (بمعنى أنها ليست مشروعاً لتحرير فلسطين مثلاً!).
المشكلة بين نتنياهو وأوباما هي نفسها المشكلة بين المحافظين الجدد وأوباما، وهي نفسها المشكلة بين حزب العمل الصهيوني ونتنياهو: استراتيجيتان مختلفتان لتحقيق هدف واحد تحت القوس الإمبريالي-الصهيوني المندمج عضوياً، لا بسبب النفوذ الصهيوني في الكونغرس الأمريكي أو نفوذ أساطير “المحرقة” في الغرب فحسب، بل لأن ذلك النفوذ وتلك الأساطير ازدادا استشراءًاعتباراً من التسعينيات، وهو ما يعكس تحول نمط الإنتاج الرأسمالي إلى نمط مرابي مضارب معولم لا وطني، أي إلى نمط يهودي، بالمعنى الحرفي ليهودي الذي وصفه ماركس “في المسألة اليهودية”، ووصفه أنطون سعادة.
مشكلة أوباما ونتنياهو بدأت قبل خطاب أوباما في جامعة القاهرة عام 2009 عندما راح المحافظون الجدد والصهاينة القدامى يستشعرون أن الإدارة الأمريكية بصدد إعادة إحياء تحالف الحرب الباردة مع “الإسلام المعتدل”، فقد بدأت تلك المشكلة عندما اعتبرت الإدارة الأمريكية أن مركز الثقل في السياسة الخارجية الأمريكية هو مواجهة روسيا والصين والدول المستقلة، لا “الحرب على الإرهاب”! مما قد يفسر تردد أوباما في حرب على “داعش” ربما يكون نتنياهو قد ساهم في صنعها…
مشكلة أوباما ونتنياهو تتعلق بالرؤية الاستراتيجية لاستخدام القوة الأمريكية في العالم: القوة الناعمة أم القوة الخشنة أولاً، على نمط جورج بوش؟ الاتفاق النووي مع إيران مجرد عنوان فرعي لذلك الخلاف العام.. الامتناع الأمريكي عن ضرب سورية مباشرة عام 2013 والقبول باتفاق الكيماوي الذي أمرره لافروف عنوان فرعي آخر.. وما لَعِبُ أوباما في ملعب نتنياهو الانتخابي، ولَعِبُ نتنياهو في الكونغرس الأمريكي، على مقربة من البيت الأبيض، إلا شكلٌ آخر من أشكال ذلك الصراع.
للمشاركة على فيسبوك:
اترك تعليقاً