د. إبراهيم علوش
ارتبط مصطلح “الفوضى الخلاقة” بسياسة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بين عامي 2000-2008، وقد نبعت هذه السياسة من تصور تم طرح مضمونه تكراراً بعد ضربات 11 سبتمبر: حتى الآن، سعى كلا الحزبين للحفاظ على الاستقرار في “الشرق الأوسط”، على حساب الديموقراطية، وقد ثبت اليوم بأن مثل تلك السياسة تولد خطراً على أمننا الوطني ومصالحنا الحيوية، ولذلك علينا أن نتحمل شيئاً من عدم الاستقرار في “الشرق الأوسط” من أجل تحقيق الديموقراطية، فالديموقراطية وحدها تخلق البيئة القادرة على الترويج للاعتدال والتخلص من التطرف ودعم الإرهاب (أنظر مثلاً كلمة جورج بوش يوم 11 تشرين الثاني 2003 في العيد العشرين للوقف الوطني للديموقراطية NED).
في الواقع، يصعب أن لا يقع المرء على تعبيرات خطاب “الديموقراطية قبل الاستقرار” في فترتي إدارة بوش الأولى والثانية، وهو ما تُرجم عملياً بثلاث سياسات:
1) التدخل المباشر، بمعنى الغزو والاحتلال كما في العراق عام 2003، أو بمعنى عمليات زعزعة استقرار الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة “مناهضة للديموقراطية” مثل سورية، وهو ما ظهر كسياسة رسمية أمريكية بعيد اغتيال الرئيس الحريري في لبنان عام 2005، ومن ثم ظهر في وثائق ويكيليكس عام 2011 عن حملة تمويل كبرى للمعارضة السورية منذ عام 2006،
2) سلسلة مبادرات كبرى، مثل تحويل وكالة الإنماء الدولي الأمريكية USAID للتركيز على “دعم الديموقراطية”، ومبادرة الشراكة الشرق أوسطية MEPI، التي أطلقت عام 2001/2002 والتي تبين أنها لعبت دوراً كبيراً فيما يسمى “الربيع العربي” عبر دوراتها وبرامجها التي خضع لها مئات آلاف العرب، ومبادرة “مينا” أو “الشرق الأوسط الكبير” التي اطلقت في قمة الدول الثمانية عام 2004، والتي تحولت فيما بعد إلى “الشرق الأوسط الجديد”، الذي تضمن إعادة رسم حدود المنطقة وخرائطها، كما ظهر في مجلة القوات المسلحة الأمريكية في حزيران 2006، وكان محور هذه الاستراتيجية التركيز على بناء منظمات مجتمع مدني ممولة أجنبيا تروج لـ”الديموقراطية”،
3) الدبلوماسية العامة، والمقصود بذلك استراتيجية التواصل مع جمهور العرب والمسلمين مباشرة، ومن هنا جاء تأسيس راديو سوا وفضائية الحرة، وتوجيه فضائيات مختلفة لاستهداف جمهور الشباب تحديداً بغرض تعريفهم بـ”الثقافة الأمريكية”، وكسبهم إلى جانب قيمها، وتم توجيه السفارات والمسؤولين الأمريكيين لإثارة موضوعة “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان” في المنطقة العربية دورياً على مستويي الإعلام واللقاءات الرسمية.
فحوى “الفوضى الخلاقة” إذن نجده في وثائق وخطب وسياسات الإدارة الأمريكية إزاء بلادنا، وكان المصطلح يظهر بوضوح على لسان الكتاب الأمريكيين الموالين لتلك السياسات، كمشروع لزعزعة استقرار الدول لإفساح المجال لـ”الديموقراطية الأمريكية”، من تحت، من خلال التأثير على الجمهور، وتأسيس منظمات وبنى سياسية-تنظيمية تحقق المشروع (وهو ما يفضله أوباما بالإضافة لإعادة إحياء تحالف الحرب الباردة مع الإسلام السياسي)، أو من فوق، من خلال الغزو العسكري المباشر (وهو ما فضله بوش)، وكلاهما وجهان لعملة واحدة.
ينتسب مصطلح “الفوضى الخلاقة” لمفهوم “الدمار الخلاق” عند كارل ماركس عندما تحدث في “البيان الشيوعي” في القرن التاسع عشر عن القوى المستبطنة في نمط الإنتاج الرأسمالي التي تدمر الإقطاع أولاً، ثم تدمر نفسها، لتفسح المجال للاشتراكية. وقد استعاره المفكر النمساوي جوزيف شومبيتر، في معرض الرد على ماركس، ليظهر قدرة الرأسمالية على تجديد نفسها دورياً من خلال الثورات العلمية والتكنولوجية المتتالية. أما استخدام المصطلح لوصف السياسة الأمريكية في البلدان العربية والإسلامية، فبدأ في الثمانينات مع البروفسور ستفن كراسنر، الذي اصبح فيما بعد مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية في ظل كوندوليسا رايس في فترة بوش الثانية. وكان كراسنر قد وضع عدة دراسات تتحدث عن “عدم الاستقرار البناء” Constructive Instability، بمعنى استخدام القوة الخارجية لتحطيم البنى المتكلسة والمقاومة للتغيير بغرض التسريع بولادة الديموقراطية (أنظر مثلاً مقالته في مجلة “دراسات سياسية مقارنة” عدد كانون الثاني 1984، ص 223).
وقد عبرت كوندوليسا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية ورئيسة مجلس الأمن القومي السابقة، عن هذه الفكرة في شهادتها أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ في 18 كانون الثاني 2005، هكذا: “في الشرق الأوسط، كسر الرئيس بوش ستة عقود من الأعذار والتأقلم مع قلة الحرية، على أمل شراء الاستقرار على حساب الحرية”.
إذن “عدم الاستقرار البناء” هو الذي تحول لاحقاً إلى “دمار خلاق” ثم إلى “فوضى خلاقة”. مثلاً، قال البرفسور اليهودي مايكل ليدين، أحد رموز المحافظين الجدد الذي عمل مستشاراً في مجلس الأمن القومي الأمريكي ووزارتي الخارجية والدفاع ولعب دوراً في التحريض على احتلال العراق وضرب إيران، في كتابه “الحرب على الإرهاب” (2002):
“الدمار الخلاق هو لقبنا، في مجتمعنا وفي الخارج. إننا نحطم النظام القديم كل يوم، من نطاق الأعمال للعلم للأدب للفن للعمارة للسينما للسياسة والقانون. أعداؤنا كانوا يكرهون دوماً هذه الدوامة من الطاقة والإبداع التي تهدد تقاليدهم (مهما كانت)، وتشعرهم بالخجل بسبب عدم قدرتهم على اللحاق بنا. إن رؤية أمريكا تحل أربطة المجتمعات التقليدية تجعلهم يخافوننا، لأنهم لا يرغبون بأن يُحل رباطهم. فهم لا يستطيعون أن يشعروا بالأمان ما دمنا هنا، ذلك أن وجودنا نفسه، لا سياساتنا، يهدد مشروعيتهم. إذن عليهم أن يهاجمونا ليعيشوا، كما أن علينا أن ندمرهم لنحقق رسالتنا التاريخية”.
أما عندما سئلت كوندوليسا رايس، حسب نيوزويك في 12 نيسان 2012،عن رأيها بأحوال مصر بعد “الربيع العربي”، أي وهي خارج الحكم، فقد قالت: “أعرف أن الأمور تبدو على حالٍ من الفوضى في الشرق الأوسط، لكن لدينا الكثير من السهام التي تشير بالاتجاه الصحيح. إن مجتمعات بأكملها تتحسس طريقها، بألمٍ ومع الكثير من التعثر، نحو الديموقراطية”!
فيا لها من فوضى خلاقة فعلاً!
للمشاركة على الفيسبوك:
اترك تعليقاً