د.إبراهيم علوش
البناء 11/2/2015
لا شك أن النظام الأردني أفاد كثيراً من إطلاق “داعش” لفيلمها السيكوباثي، المتقن إنتاجاً وإخراجاً والذي يحقق عدة أهداف منها: 1) تعبئة الشارع الأردني والعربي خلف الانخراط في حملة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، 2) التهيئة لاحتمالات التدخل البري النظامي أو غير النظامي في سورية والعراق تحت لواء صرخة “الثأر لمعاذ!”، 3) التشكيك بوطنية أي جهة أو شخصية أردنية تجرؤ على المجاهرة باعتراضها على انخراط النظام أمنياً وعسكرياً وسياسياً في التحالف الدولي.
ثمة جريمة فظيعة ارتكبتها “داعش” لا تخفى عن أي عين ضمير نصف حي في العالم، وثمة جريمة إعلامية-سياسية أقل بروزاً ارتكبها النظام الأردني من خلف الستار عندما وظف النيران التي اكتنفت معاذ في محاولة حرق أي معارضة أردنية: 1) تتساءل عن المصلحة الوطنية الأردنية في زج زهرة شباب الأردن في المشروع الدموي للولايات المتحدة في الإقليم، 2) تشكك في حكمة دخول معركة ضمن الأجندة الأمريكية قد تهدد الأمن الداخلي في الأردن، لا الأمن القومي العربي فحسب، 3) تتعجب من انتقائية المقياس المزدوج الذي يدعم العصابات المسلحة جنوب سهل حوران ويفتح لها المعسكرات التدريبية على الأراضي الأردنية ثم يعلن الحرب على الإرهاب شرق سورية وغرب العراق!!!
إذن وظف النظام جريمة “داعش” في تعزيز مشروعية دوره في خدمة السياسة الأمريكية. بالمقابل، كم أفادت “داعش” من إطلاق فيلم الرعب التكفيري الأخير؟ صحيح أن الإمارات سحبت مشاركتها الجوية من التحالف الدولي، بعد أن قدمت ست طائرات حربية للأردن، بمعنى أن زخم القصف الجوي على “داعش” لم يقل، إلا أن ما قامت به “داعش” جاء ليسوغ أية خسائر مادية أو بشرية في الحملة البرية ضدها. فالمستفيد الحقيقي بهذا المعنى ليس “داعش” ولا الأردن الدولة والشعب، بل مشروع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في سورية والعراق.
الإدارة الأمريكية التي لا تريد أن تتكبد خسائر ضد “داعش” تمكنت الآن من تذليل بعض معارضة أهل المنطقة لمشاركة ابنائهم، سواء كانوا عراقيين أم أردنيين أم غير ذلك، في العمليات البرية على الأرض. فقد اقتضى الأمر جريمة لا يمكن تصورها، حتى بأقصى المقاييس الهوليودية، يمكن توظيفها إعلامياً في سياق الحرب النفسية. وإذا كان حرق البوعزيزي لنفسه قد قدح شرارة “الربيع العربي”، مع أن الصورة التي تساق على أنها لبوعزيزي في اللهب ليست له في الواقع، فإن استكمال حرق المنطقة بات يتطلب حرق أضحية أخرى على مذبح المشروع الأمريكي.
يزعم الليبراليون العرب أن التكفير ظاهرة نشأت في كنف الأنظمة القمعية العربية، متجاهلين الجذور التاريخية للتكفير، وعشرات المليارات التي انفقتها الأنظمة البترودولارية في نشره خلال سني الحرب الباردة العربية والدولية، وأن التكفير تحول إلى ظاهرة جهادية في حاضنة أفغانستان التي رعتها الولايات المتحدة والأنظمة الخليجية، وأن الأنظمة المناهضة لحركات التحرر الوطني غيرت مناهجها المدرسية لتضخ التكفير عبرها على مدى عشرات السنوات، فظاهرة من هذا النوع لا تنشأ بين ليلةٍ وضحاها، بل هي نتاج تراكم حثيث استغرق عقوداً من الرعاية والسقاية في المدرسة والجامع. وقد كان النظام الأردني من الأنظمة التي استخدمت حجة “التكفير” ضد القوميين واليساريين، ومن الأنظمة التي غيرت مناهجها منذ الخمسينيات والستينيات باتجاه تكفيري، والتي أفلتت خطباء المساجد لتحريض الناس على المشروع النهضوي الوحدوي التحرري بذريعة “الردة”، ولهذا فإن كل ما يجري اليوم، ومنه الجريمة البشعة التي اقترفت بحق معاذ، يتحمل النظام الأردني قسطاً من المسؤولية عنه، حتى لو تحول خطابه اليوم باتجاه ليبرالي. ونقول قسطاً من المسؤولية، وليس كل المسؤولية، لأن المذنب الأكبر في جريمة التكفير هو: حكام البترودولار.
سياسياً، ثمة جيوب كبيرة في الأردن تناصر “النصرة” أو “داعش” أو كلاهما. والقصة لا تتعلق بتهميش سياسي بمقدار ما تتعلق بالتأثير الثقافي بالبترودولاري الذي تسرب للأردن وغيره عبر وسائل الإعلام والثقافة والأردنيين العاملين في الخليج منذ عقودٍ خلت، وعبر التنظيمات الدينية، حتى “المعتدلة” منها، التي تحولت إلى قنوات لمثل ذلك التأثير التكفيري، وما قبل التكفيري بقليل، عبر الأقطار العربية والعرب في المهجر.
على موقع “المكتب الإعلام لولاية نينوى”، التابع لـ”داعش”، نُشر تهديد مبطن في 6 شباط 2015: “قريبا باذن الله… رسالة إلى أهل الأردن“، وقد جاء ذلك بعد إعدام ساجدة ريشاوي وزياد كربولي، وبعد ما رشح عن تهديد “داعش” للأردن بنقل المعركة لعمان إذا ما أعدم المعتقلون… ولا أرى أن بإمكان “داعش” حالياً السيطرة على الأردن من الخارج أو الداخل، أما زعزعة الاستقرار، فيستطيع تنظيم “داعش” القيام به من الداخل وحده إذا قرر فتح مثل هذه المعركة.
باختصار الأردن دفع، وقد يدفع أكثر، ثمن سياسة لا تحقق المصلحة الوطنية، حتى بمفهومها الضيق، وقد راح يبالغ في اتباع مثل تلك السياسة في سورية بالأخص منذ ما يسمى “الربيع العربي”، ولو كان معنياً بمحاربة الإرهاب حقاً، لاصطف منذ البداية مع الجيوش العربية التي تحاربه فعلاً، بعيداً عن “تحالف دولي” نشأ بالأساس لدعم الإرهاب في سورية وجوارها. ولا يزال الأردن “يحارب الإرهاب” بطريقة تؤدي لتعزيزه بطرائق مختلفة، ليس في جنوب سورية فحسب، بل لأن أحد مصادر قوة “داعش” بين العرب والمسلمين هي أنه وحده من يجرؤ على مقاتلة أمريكا وعملائها. فلا اجتثاث للإرهاب تحت المظلة الأمريكية، ولا اجتثاث لثقافة الإرهاب بالخطاب الليبرالي المتغرب.
للمشاركة على الفيسبوك:
اترك تعليقاً