طلقة تنوير6: في التكفير والحركات التكفيرية

الصورة الرمزية لـ ramahu


 

المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 تشرين ثاني 2014
ويضم هذا العدد:
– كلمة العدد
– الظاهرة التكفيرية أيديولوجياً/ د. إبراهيم علوش
– الظاهرة السلفية: نظرة من الداخل/ معاوية موسى
– الفكر السلفي كنقيض للمشروع القومي/ جميل ناجي
– الإرهاب: جدلية التاريخ والسياسة/ أسامة الصحراوي
– التفكير بالتأويل رداً على التكفير بالتقويل/ نور شبيطة
– تعريفات: في التكفير وترياقه… ما هو التكفير؟
– شخصية عربية: عبد الكريم الخطابي/ نسرين الصغير
– أعمال غسان كنفاني الأدبية في السينما/ طالب جميل
– قصيدة العدد: أقول لها وقد طارت شعاعاً/ قطري بن الفجاءة
– كاريكاتور العدد/ ناجي العلي.
 
العدد رقم 6 صدر في 1 تشرين الثاني عام 2014 للميلاد
لقراءة المجلة عن طريق فايل الــ PDF



للمشاركة على الفيسبوك































كلمة العدد: في التكفير والحركات التكفيرية

 

يمثل التكفير كظاهرة، والحركات التكفيرية المسلحة، أحد أبرز معالم المشهد العربي في السنوات الأخيرة.  ولهذا يتمحور العدد السادس من “طلقة تنوير” حول هذه الظاهرة الملتهبة والمتفاقمة في وقتٍ لا تتوفر فيه رؤيا واضحة حول طبيعتها ومسبباتها وأبعادها.  ولذلك نقدم هنا مجموعةً من المواد التي تتناولها من زوايا مختلفة، بصفتها تعبيراً عن بنية فوقية لمرحلة إقطاعية مركبة على ثقافة الغزو العشائري استفاقت من الموت كرِدة على المشروع النهضوي العربي، وبصفتها ملجأ للهروب الجماعي عند الشباب المأزوم في ظل الدولة القطرية المأزومة، وبصفتها مشروعاً تاريخياً للإمبريالية في مواجهة المشروع الوحدوي التحرري العربي، وبصفتها جدلية للتاريخ والسياسة يبدأ مع الخوارج ولا ينتهي بداعش، وبصفتها محاولةً لمصادرة القرآن الكريم وتأويله.

يبدأ هذا العدد بمساجلة التيار الليبرالي العربي الذي يعتبر التكفير والحركات التكفيرية نتاجاً موضوعياً للديكتاتورية والاستبداد لنصل في خاتمة العدد إلى الاحتفاء بالجماليات الشعرية عن القطري بن الفجاءة أحد أهم قيادات الخوارج وشعرائهم.

في هذا العدد تتصدى ثلة من الشباب العربي من حملة لواء المشروع القومي العربي الجذري للظاهرة التكفيرية في محاولة جدية لتفكيكها، لأننا كنا نصر منذ البداية أنها ليست ظاهرة تمكن هزيمتها بالسلاح وحده، لأنها ظاهرة اختراق أيديولوجي أساساً أنتجتها ظروفٌ تاريخية وسياسية وثقافية وإقليمية ودولية لا نستطيع أن نهمل أياً منها إذا أردنا أن نفهم الظاهرة لكي نضع استراتيجية صحيحة لمواجهتها.

لكن هذا العدد لا يقتصر على تناول ظاهرة التكفير، فهو يتناول بالإضافة إلى ذلك سيرة عبد الكريم الخطابي وأعمال غسان كنفاني في السينما.

فأهلا وسهلاً في عدد جديد من “طلقة تنوير”.

“هيئة التحرير”

 

 

الظاهرة التكفيرية أيديولوجياً

د. إبراهيم علوش

يشيع هراء أجوف في أعمدة بعض الكتاب ممن يزعمون أن الظاهرة التكفيرية في الدول العربية نتجت بالأساس عن “الديكتاتورية والفساد والاستبداد” و”تهميش المواطن ومصادرة حقوقه الأساسية”.  النتيجة المنطقية لهذه المقولة تصبح بالطبع أنّ تبنّي “الديموقراطية” و”الانتخابات”  و”حقوق الإنسان” و”استقلال القضاء” و”رقابة السلطة التشريعية على التنفيذية” كفيلٌ بإزالة ذلك التهميش السياسي والاجتماعي الذي يدفع المواطن للغلو والتطرف، وأن “الإصلاح السياسي والدستوري” هو الأقدرُ على تجفيف منابع التكفير والإرهاب!

ينسجم مثل هذا التفسير المسطّح للظاهرة التكفيرية بالطبع مع مفاهيم التيار الليبرالي المستندة إلى أولوية “الحرية الفردية” في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية لتصل تلك الرؤيا الليبرالية المطبقة بتعسف على ظروف حياتنا العربية المعاصرة إلى أن تقييد الحريات، خاصة حريات الأفراد السياسية، والتغول على حياة المواطن وحقوقه وأملاكه (وليس بالضرورة حياة الوطن وسيادته وثرواته)، هو البيئة الخصبة التي تزدهر فيها نبتة التكفير والتطرف الديني.  ويسوق بعض أصحاب تلك النظرة مثال إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية في الجزائر عام 1992، التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، مما فتح الباب على مصراعيه أمام صراعٍ دمويٍ بين الجيش وأجنحة من التيار الإسلامي ازدادت تطرفاً وتكفيراً مع الوقت، ويسوقون أيضاً مثال “الانقلاب” على الرئيس الإخواني المنتخب في مصر محمد مرسي في 30 يونيو و3 يوليو 2013 وموجة الإرهاب التكفيري التي تلته، كـ”دليلين” على ما يذهبون إليه من ربط بين الإرهاب التكفيري ومصادرة “الديموقراطية”، وتصبح التتمة الطبيعية لهذا المنطق بالطبع أن الإرهاب التكفيري في سورية هو النتاج الموضوعي، حسب رأيهم، لـ”الاستبداد والديكتاتورية” على مدى عقود!

الطريف سياسياً في هذه الرؤيا أنها تنتهي لتبرير أو حتى لتبني مواقف أطراف دموية وهمجية  أقل ديموقراطية وانفتاحاً وتنوراً واستعداداً لـ”تقبل الآخر الليبرالي” بكثير من “الديكتاتورية والاستبداد” اللذين يفترض حسب المنطق الليبرالي أنهما استفزا ظاهرة التطرف الدموي والتكفير إلى حيز الوجود!  فالليبرالي الذي يدافع عن تكفيري في مواجهة “الديكتاتورية والاستبداد” المزعومين متناقض مع نفسه بمقدار ما تتخطى ديكتاتورية التكفيري الحيز السياسي إلى الحيز الشخصي والاجتماعي والثقافي مقارنةً بأي نظام سياسي ديكتاتوري حقاً، مع التحفظ الشديد على اعتبار انتفاضة 30 يونيو الشعبية في مصر “انقلاباً”، واعتبار العشرية السوداء في الجزائر أو ما يجري في سورية اليوم “نضالاً من أجل الديموقراطية”!   لكن موضوعنا ليس سياسياً هنا بمقدار ما هو محاولة لفهم الظاهرة التكفيرية نظريا، ولنبدأ أولاً بوضع الفرضية الليبرالية السائدة على المشرحة: هل هناك علاقة طردية حقاً بين الديكتاتورية  والاستبداد من جهة، وبين نشوء وارتقاء الظاهرة التكفيرية في الوطن العربي من جهة أخرى؟

يستند التكفير في خطابه لمنطلقات دينية فقهية من القرون الوسطى بالأساس، أما الديكتاتورية والاستبداد فيمثلان ظاهرة سياسية أساساً من نتاج الدولة الحديثة، على الأقل من الزاوية التي يتناولهما الليبراليون من خلالها، ولا يتبنى التكفيريون نموذجاً سياسياً مناهضاً للديكتاتورية يقوم على تعميم الحريات السياسية مثلاً أو غير السياسية، بل على اعتراض متعصب على الحداثة، لا على الديكتاتورية والاستبداد، فمشكلة التكفيري مع الدولة الحديثة سواء كانت ديكتاتورية أم ديموقراطية، وليس من الواضح تماماً كيف يربط الليبراليون ما بين انتهاك حقوق المواطن أو مصادرة العملية السياسية من جهة، وما بين رمي الآخرين بالكفر بذرائع دينية لا تكتفي باتهام الحكام بأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، بل تكفر مجتمعات برمتها، حتى لو كان جلّها من المسلمين، لأتفه الأسباب أحياناً.  فمشكلة التكفيري أيضاً أنه لا يؤمن بالمواطنة لأن عقله السياسي مستقى من المرحلة الإقطاعية في أقصى حالات تعفنها، أي مرحلة الطوائف والرعايا والقنانة، أي أن جذوره الفكرية ليست مستمدة من وحي التجربة السياسية للقرون الأخيرة.

فإذا كان التفسير الليبرالي للظاهرة التكفيرية كنتاج للديكتاتورية تفسيراً فرويدياً يحوّل “الكبت السياسي” للأنا العليا إلى عقدٍ نفسية مستعصية لدى الفرد التكفيري يمكن أن تتفجر على شكل نزعات إجرامية، فإن المطلوب يصبح تحليلاً نفسياً، أو مصحة نفسية بالأحرى، للمجتمع العربي، وربما يكون مثل ذلك ضرورياً لفهم الحالات الهروبية التي تشكل بعض قواعد الحركات التكفيرية، وتلك الحالات الهروبية ليست على كل حال ما صنع الظاهرة التكفيرية، بل من لجأ إليها، أما إذا كان الربط سياسياً، فإن قيادات التكفيريين ورموزهم و”مفكريهم” ليسوا ليبراليين متطرفين مثلاً ليكونوا ردة فعل على فعل استبدادي (دون أن نسلم بالمفهوم الليبرالي للاستبداد والديكتاتورية)، ولا هم دعاة حرية أو تحرر، ولا هم من المدرسة الفوضوية الرافضة لأي سلطة سياسية ليكونوا ردة فعلٍ انفعالية على “الديكتاتورية”.   فالواقع هو أن التكفيريين هم دعاة إقصاء وتنكيل وتهميش واستعبادٍ وقتل جماعي، بدلالة أن القضايا التي يكفِّرون الحكام والمجتمع بأسره عليها كثيراً ما تتصل بـ”التساهل” في مسائل اجتماعية وثقافية وشخصية غالباً ما يعطيها الخطاب التكفيري أولوية أعلى بكثير من القضايا السياسية والاقتصادية الأساسية في المجتمع “الكافر”.  إنهم، باختصار، لا يعارضون الأنظمة العربية أو يعادونها، بعد أن حالفوها مراراً، لنفس الأسباب التي قد تجدها عند شخص ليبرالي، ناهيك عن شخص قومي أو يساري أو وطني أو إسلامي متنور، بل بسبب تفاهات… أو حتى بسبب ما قد نعتبره نحن إيجابيات.   إنهم يعارضون مسير عقارب الساعة إلى الأمام، ويريدون أن يعيدوها بالقوة للخلف، فهم بالأساس نتاج صدمة حضارية للمجتمع العربي وأزمة هوية، لا نتاج مشروع حضاري، بل أنهم النقيض التاريخي للمشروع الحضاري العربي، ونتاج التعثر التاريخي لذلك المشروع.

ليس التكفيري معارضاً سياسياً من أي نوع إذن.  إنه بالأساس معارضٌ للعقل، ولا يمكن أن يصبح تكفيرياً إلا بتعطيل عقله وتعطيل أحكامه المنطقية، وهو معارِضٌ للذوق السليم والحس المرهف والفن والإبداع، وهو معارِضٌ للتسامح والرحمة وحرية الاختيار في الدين، ومعارِضٌ للإنسان ككيان، كفرد أو كمرجعية، وهو على استعداد لاستباحة الإنسان وسفك دمه بلا تردد، ومعارضٌ للمرأة إلا كجارية، ومعارضٌ لفكرة الوطن والمواطنة والدولة الوطنية، ومعارضٌ للرابطة القومية، ومعارضٌ للتيارات الإسلامية التي لا تجاريه في غلوه وشططه، ومعارضٌ حتى للتكفيريين الآخرين الذين لا يدينون لإمامه الملهم بالولاء المطلق، فكيف يمكن أن يكون التكفيري  نتاجاً لرغبة دفينة في الحرية والتحرر؟!

ولو افترضنا جدلاً أن الظاهرة التكفيرية هي نتاج الديكتاتورية والاستبداد بالمفهوم الليبرالي، كيف نفسر تكاثر التكفيريين في باكستان التي يحكمها نظام برلماني فيدرالي يقوم على تداول السلطة وتوزيع الصلاحيات بين المركز والحكومات المحلية؟  وكيف نفسر تكاثر التكفيريين في ليبيا والصومال والعراق بالضبط بعد تفكيك الحكومات المركزية “الديكتاتورية” في تلك البلدان؟  وكيف نفسر تكاثر التكفيريين في الهند وفي أوروبا الغربية نفسها حيث تسود حكومات “ديموقراطية ليبرالية”؟  وفي اليمن بعد إضعاف حكومته المركزية؟  وفي دول أفريقية ليست الحكومة المركزية قوية فيها أصلاً؟!!  أو في لبنان؟  أو في تونس بعد وصول حركة “النهضة” للحكم؟

فلنفترض جدلاً أن الديكتاتورية تشكل عاملاً رئيسياً في تفاقم ظاهرة التكفير، لماذا لم تنشأ تلك الظاهرة إذن بين البوذيين في تايلند خلال السنوات المنصرمة (لفرض النظام البوذي حسب تفسير البوذيين التكفيريين على أبناء دينهم) أو بين الكاثوليك في تشيلي بعد حكم بينوشيه أو بين الأرثوذكس في دول أوروبا الشرقية التي حكمتها أنظمة اشتراكية على مدى عقود وهي الأنظمة التي يعتبرها الليبراليون قمة الديكتاتورية؟!  وإذا كانت الديكتاتورية محركاً لظاهرة التكفير، لماذا لم نرها في عشرات الدول التي عاشت أقسى أنواع الديكتاتورية على مدى عقود في أمريكا اللاتينية وآسيا؟  وهل جاءت حملات قتل مئات آلاف الشيوعيين وأنصارهم في أندونيسيا في نهاية الستينيات بذريعة التكفير، مع أن الشيوعيين لم يكونوا في الحكم آنذاك، نتاجاً للديكتاتورية المزعومة و”التهميش” أيضاً، أم نتاج شيء آخر؟   ولماذا ظهر التكفير المسيحي في أوروبا كتيار جارف أنتج الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال في القرون الوسطى تحديداً وليس بعد عصري النهضة والتنوير؟  لماذا ظهر التنوير في الوطن العربي فيما كان يظهر التكفير في أوروبا، وظهر التكفير في الوطن العربي بعد أن انتشر التنوير في أوروبا؟  وأخيراً، لماذا ظهر التكفير اليهودي في التوراة أولاً وفي تعاليم التلمود على شكل قصص إبادة للأقوام غير اليهودية في فلسطين وجوارها فيما جاء مؤسسو الحركة الصهيونية من العلمانيين؟

من يزعم أن التكفير ظاهرة ترتبط بالديكتاتورية السياسية المعاصرة ليس لديه إحساس بالتاريخ وقوانينه.  التكفير لم يبدأ كظاهرة سياسية حزبية أو شعبوية، بل كظاهرة اجتماعية-ثقافية تنتِج وتنتجها أيديولوجيا من عصرٍ بائد كانت فيه منذ الأساس ردة على مشروع التنوير العربي-الإسلامي.   وليس المقصود بالحس التاريخي عقد المقارنات بين التكفيريين المعاصرين وبين الخوارج مثلاً.  إنما  فهم الشروط التاريخية التي تنتج التكفير كظاهرة، كردة على إجهاض مشروع نهضوي.  فالغزالي في الفلسفة العربية-الإسلامية كان معلَماً للتكفير ومصادرة العقل النقدي: “تهافت الفلاسفة” نموذجاً، المؤلَف الذي خطَّأ فيه الفلاسفة في سبع عشرة مسألة وكفرهم في ثلاث.  وكان الغزالي ردةً متخلفة على قمم الفلسفة العربية-الإسلامية من ابن طفيل لابن سينا للفارابي لعلماء الكلام لغيرهم وقد أسس لمدرسة تعادي الفكر والعقل وصولاً لإشراقية الشهرزوري التي قال فيها: “الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف، عميت بصيرته عن محاسن الشريعة…”.  (وبإمكان من يرغب أن يضع المقتطف الأخير في محرك غوغل ليتأكد من مصدره وتتمته).

الأيديولوجيا بالتعريف هي منظومة المفاهيم والقيم المترابطة ببنية فكرية تحيكها فتساعد على فهم العالم وتصبح حافزاً للعمل.  لكن الأيديولوجيا لا تنبت عشوائياً كالفطر بعد المطر، أنما تأتي لتعبر عن مصالح تاريخية معينة في مراحل تاريخية معينة كنتاج لتناقضات معينة يفرضها الواقع الملموس.  فالتدين الظلامي هو نتاج الحقبة الإقطاعية في أوروبا في القرون الوسطى وفي الوطن العربي بعد سيطرة الإقطاع العسكري بعد تغلغل السلاجقة في الخلافة ثم بعد تغلغل المماليك.  أما التكفير فهو مركب التدين الظلامي على ثقافة الغزو قبل النهضة أو بعد انكسار مشروعها.  إن التكفير هو الشكل الذي تتخذه البنية الفوقية لحكم أمراء الإقطاع وشيوخ العشائر في ظل التبعية للإمبريالية عندما يصبح مشروع الأخيرة مشروع تفكيك.  فإذا كانت أيديولوجيات عصري النهضة والتنوير في أوروبا هي الجسر الفكري والمعنوي للانتقال من عصر الإقطاع للرأسمالية الصناعية في مرحلة صعودها، فإن التكفير هو القيح الأيديولوجي للتدين الإقطاعي في مرحلة التعفن والانحطاط.  لكنه ككل قيح نشأ عن التهاب، وقد تفاقم الالتهاب حين تعثر النهوض العربي وعجز عن نقل مجتمعنا من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أعلى، فانتشر قيح التكفير الذي تحمله روافع تاريخية متجذرة بخصوصية بلادنا، وكان سببه الحقيقي الردة عن مشروع النهضة إلى مشروعٍ مختلق لتاريخٍ مزعوم.  وكما وصف الحالة الشاعر بدر شاكر السياب في قصيدته “الأسلحة والأطفال”: كأن السنا في الحروفِ، تخطا إليها ظلام الكهوفِ…

إن التكفير بصفته تعبيراً عن أيديولوجيا يمثل حالة انحطاط قومي لأمة عجزت عن تحقيق مشروعها التاريخي، وقد جاء في العصر العباسي رِدة على تيارات فكرية عربية إسلامية أكثر منه رقياً بسنوات ضوئية، ويعود التكفير اليوم كرِدةٍ على تعثر المشروع القومي النهضوي التحرري ووصول الدولة القطرية العربية، دولة التجزئة، إلى منتهى أزمتها.  وقد جاء التكفير في العصر العباسي بعد نشوء نوايات الرأسمالية التجارية المدينية في ظل الخلافة العربية الإسلامية قبل البندقية وجنوا والمدن التجارية على المتوسط بقرون، بعد مصالحة الدين والعقل فكرياً في بلادنا قبل غاليليو بقرون، وبعد نكوص القفزة التاريخية العربية إلى الأمام قبل عصر النهضة الأوروبية بقرون.  وهي الرِدة التي هيأت لحكم الإقطاع العسكري في ظل سيطرة السلاجقة الأتراك على الخلافة، فكان التحجر أيديولوجيتهم وكانت بذرة التكفير في المدرسة النظامية في الرصافة في بغداد قبل ألف عام رداً على العقلانية العربية والإسلام المتنور مشروع الرأسمالية العربية الصاعدة قبل صعودها في أوروبا بخمسمئة عام على الأقل.

أما التكفير اليوم فيحمل عطن النفط والصحراء.  وقد جاء رِدةً على المشروع النهضوي العربي التحرري الذي مثله القوميون واليساريون والنهضويون العرب منذ بداية القرن العشرين.   فالتكفير المعاصر هو نتاج تخثر المشروع القومي، ونتاج المستنقعات الآسنة التي نشأت في ظل دولة التجزئة العربية حتى عندما حكمها قوميون.   فإذا كانت أزمة الدولة القطرية قد غذت قواعد التكفيريين بالأنصار، فإن المشروع التكفيري نفسه ذو روافع تاريخية تستند للبنية الفوقية في القرون الوسطى، ولمحاولة إعادة إحيائها بغرض إجهاض المشروع النهضوي العربي تماماً إذ تعثر…

يساوي التكفير المعاصِر عصارة آلامِ أمةٍ لم تستطع السير إلى الأمام فقررت أن تنتحر من فوق قلعة التاريخ.  أنها أمة تواجه عُسرة تاريخية وتعجز حتى الآن عن إيجاد مخرج منها.  ويساوي التكفير عجز طلائع تلك الأمة عن منع مثل ذلك الانتحار، ويساوي مجموع أزمات الدول المفتعلة التي أسسها الاستعمار الأوروبي بعد “الاستقلال” لكي تبقى مأزومةً إلى الأبد، ويساوي التكفير مشروع الكمبرادور النفطي في مواجهة المشروع الوحدوي التحرري العربي، مشروع الثورة الديموقراطية الحقيقية، بعد أن كاد الكمبرادور يندحر من على عتبة المشهد العربي في الخمسينيات والستينيات، ويساوي التكفير أزمة هوية شعبٍ عربي لم تنصفه الحداثة ولم تسعفه الأصالة في التأقلم مع تحديات الواقع المعاصر، ويساوي التكفير هروباً إلى ذاتٍ لم تكن يوماً، وإلى مزبلة تحكمها الجرذان نصبت عليها مقصلةً للعقل العربي، باختصار، يساوي التكفير عجزنا عن أن نكون مشروعاً صاعداً للأمة، فهذا السرطان التكفيري سرطاننا الذي أنتجته شروط حياتنا العربية المعاصرة، فإما أن نقضي عليه، وإما أن يقضي علينا، وللتاريخ نواميسه، لأن سجلاته مليئة بجثث الأمم التي عجزت عن مواجهة تحدياتها المصيرية، فلا خيار لنا إلا بالمشروع القومي لمواجهة التكفير وغيره لنتخطى الحاجز المصيري الذي وضعه التاريخ أمامنا.  وإننا إن شاء الله سنتخطاه لنصعد في التاريخ درجة، وكما قال بدر شاكر السياب:

وإن الدواليب في كل عيد

سترقى بها الريح جذلى تدور

ونرقى بها من ظلام العصور

إلى عالمٍ كل ما فيه نور

رصاصٌ… رصاصٌ… رصاصٌ

حديد

حديدٌ عتيق لكونٍ جديد

نقطة أخيرة لا بد من الإشارة اليها لتفسير انتشار التكفير في الدول الديموقراطية الليبرالية وفي مواجهة الفكر المتنور في القرن الواحد والعشرين وهي مقولة “الاستقلال النسبي للفلسفة”، بمعنى استقلال صيرورة الفكرة عن الظروف التاريخية التي أدت لنشوئها، وهو ما يسمح لأيديولوجيا ما أن تترك آثاراً طويلة المدى بعد الظروف التاريخية التي انتجتها، وخارج الرقعة التي نشأت فيها، مما يعني أن التقدم لا يحدث في فراغ، بل في خضم صراعٍ متصلٍ مع التأخر، لأن التأخر يمتلك ادوات اختراق عقلي ونفسي مستقلة نسبياً عن الظروف التاريخية التي دعت لوجوده، وهو ما يعني أن تأخر المشروع القومي النهضوي التحرري العربي هو الذي افسح المجال لتقدم التأخر، أي أن تقهقره هو الذي افسح مجالاً للتكفير ومشتقاته، فالصراع بين الفكرة الظلامية والمشروع القومي هو تماماً كالصراع بين الظلمة والنور.

الظاهرة السلفية… نظرة من الداخل

معاوية موسى

لا يمكن بأي حال عند دراستنا لظاهرة المد التكفيري والحركات السلفية في الوطن العربي اعتبارها ظاهرة جديدة وطارئة على مجتمعنا، غير أن الحراك السياسي وثقافة الاحتجاج التي نتجت بعيد ما يسمى بِ “الربيع العربي” ساهمت مساهمة كبيرة وفاعلة في دفع تلك المجاميع إلى إعلان أجندتها وتسجيل حضورها، بغض النظر عن شكل هذا الحضور، في الحراك الذي مارسته على الأرض من تعبئة وتحريض وتجنيد للمجموعات المسلحة التي ذهبت للقتال في العراق وسورية وغيرها من أجزاء الوطن العربي الملتهبة.

إنّ معظم الدراسات والتحليلات والقراءات التي تناولت الظاهرة السلفية انحسرت في دراسة الحركة من الخارج، فتركّزت على محاولة فهم سلوك وتداعيات وتجاذبات وتأثير الخطاب السلفي التكفيري ورصده وإدانته أو تبنّيه، مما خلق تباينا واضحا وجليا في الموقف منه، هو غالبا  الموقف السياسي الذي يعتبر تلك الحركات صنيعة لمراكز قوى عالمية، أو أنها تحولت لاحقا إلى أداة بيد تلك القوى، وهو ما يصطلح عليه بنظرية المؤامرة، وهناك من اعتبر الظاهرة مجرد سياق وجماعات تسعى فعلا لإقامة كيان سياسي جامع يحكم المنطقة بالسلطة الدينية المطلقة ضمن مشروع دولة الخلافة الإسلامية الذي أعلنته إحدى هذه التنظيمات والجماعات مؤخرا.

الجماعات السلفية: سؤال الهوية

لكن لم تكن تلك الظاهرة يوماً، كما سلف وذكرنا، وليدة لحظة عابرة، لكنها نشأت فتطورت وانفجرت، وبالتالي فإنها ليست آنية أو مؤقتة، بل ارتبط وجودها بعوامل محددة فاعلة ومؤثرة، بغض النظر عن موقفنا منها.  ولا يمكن اعتبار مثل هذا الوجود بأنه إجمالاً مجرد رد فعل سلبي أو تفاعل خاطئ مع الظروف والأحوال. إن الهوية السلفية تعبّر عن حالات هوياتية متعددة، ليست جامدة وثابتة، وإنما تتوافر على صيغ مختلفة، تشهد غالبا تحولات ضمن التيارات نفسها، خاصة إذا اعتبرنا أن الأفراد والجماعات ليست كتلا صمّاء جامدة متشابهة تماما في حالتها وسماتها.

إنّ الشعور بالخديعة من قبل خطاب الإخوان المسلمين جعل العديد من هؤلاء يبحث عن أسباب ومصدر تلك الخديعة داخل الخطاب نفسه، وبالتالي تفكيك الخطاب والانقلاب عليه، مما أدى إلى انتشار الأفكار السلفية داخل جماعة إسلامية عريقة وممتدة، مثل جماعة الإخوان المسلمين (حسام تمام، تسلف الاخوان: تآكل  الاطروحة الإخوانية وصعود السلفية في جماعة الإخوان المسلمين).

صحيح أنّ أزمة الهوية في المجتمع العربي ما زالت تعاني من اضطراب وتوتر في صوغ المعادلة الآمنة بين الدين والتراث وشروط الحداثة وتعقيداتها والعالم الذي نعيش فيه، لكنها – أي أزمة الهوية – تبدو في أوضح صورها مع الحالة السلفية، التي تتقمص دور حماية الدين والدفاع عنه في مواجهة “التحديات” و”التهديدات” التي تواجهه حسب اعتقادهم.

السؤال عن الهوية السلفية سؤال شائك ومحيّر، لا يمكن اختزاله سريعا، فالحالة السلفية يمكن اعتبارها حالة مزاجية وحائرة ومراوغة ومتعددة ومختلفة، وبالتالي نحن أمام هوية هلامية متداخلة ومعقدة، ليست منضبطة في أغلب الاحوال.

لكن عند البدء في الحديث عن الهوية السلفية لا بد من الإشارة إلى أنّ هذه الظاهرة تشكّلت وتولّدت في ظل ظروف بائسة، وانعدام تام لقيم العدالة الاجتماعية، وانتشار الجهل والفوضى والفقر والبطالة والحرمان والعوز الاجتماعي، والظلم والاضطهاد السياسي الذي مارسته الانظمة وأجهزتها. غالبا ما كانت تدفع تلك الظروف كثير من الناس نحو العيش في عالم هروبي، دون مواجهة الواقع، ومحاولة التغيير في حقيقة المعادلة القائمة، والتي تُعتبر الحالة أو الظاهرة السلفية إحدى مناطق أو تجليات ذلك العالم الهروبي الذي يختاره الفرد الحائر والضعيف. إذن هي هوية يمكن اعتبارها في المحصلة هوية فردية أنانية انتهازية تتجاوز المجتمع ومشاكله، بمختلف طبقاته وفعالياته، وتنحصر في الذات “الأنا الفردية” او “الأنا الاسمية” أي العودة للهوية البدائية، ومحاولة الاختباء وراء تراث بائد، أكلَ عليه الدهر وشرب.

ربما لا تجيب هذه المقالة البذرة عن أسئلة دقيقة ومهمة كسؤال: من هو السلفي؟

كما أنّ طرح مفهوم وسؤال الهوية هو تحدٍ كبير يحتاج لدراسات وتحليلات قد تطول، لكن من زاوية أخرى تمنحنا فرصة حقيقية للتفكير في عقلية هذا النموذج، لمحاولة فهم توجهات أفراد ومجموعات واسعة ومنتشرة من الشباب العربي، اختارت الطريق السلفي في البحث عن هويتها، في آتون الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الطاحنة وفهم الشروط والعوامل المؤثرة التي تدفع بالشباب العربي إلى هذا الاتجاه، فيما تعاني الحركات القومية واليسارية العربية من التراجع والانحسار مع المد الإسلامي، الذي بدأ يأخذ شطراً كبير منه في الأعوام الماضية طابعا سلفيا تكفيريا.

 

الفكر السلفي كنقيض للمشروع القومي

جميل ناجي

لقد شكل محمد علي باشا في بدايات القرن التاسع عشر هاجساً للغرب، فمشروع النهضة (القومي) الذي شرع محمد علي في تحقيقه على حساب الدولة العثمانية (دولة الخلافة الإسلامية)، دفع الغرب تحت مسمى “المسألة الشرقية” إلى الدفاع عن بقاء الدولة العثمانية مرحلياً للوقوف في وجه مخططات محمد علي والإجهاز على منجزات مشروعه النهضوي.  وكان الغرب قبلها قد تبنى الدفاع عن الدولة العثمانية في مواجهة روسيا القيصرية، لكن مشروع محمد علي باشا شكل نقطة التحول في سياسات الغرب تجاه الوطن العربي، فمنه نشأت بوادر المشروع الصهيوني التي أسس لها وزير الخارجية البريطاني “بالمرستون” آنذاك في مراسلاته الدبلوماسية الشهيرة حول ضرورة زرع جسم بشري غريب أمام مخططات محمد علي أو من يخلفه.

وقد انكب الاستعمار الغربي منذ سحق مشروع محمد علي باشا الكبير على وضع السياسات ورسم الخطط التي من شأنها أن تكبل نهائياً أي محاولة نهضوية لاحقة لأي مشروع مماثل.  ولم يتوقف الغرب في سعيه لتحقيق ذلك الهدف التاريخي عند فرض التجزئة مثلا أو الإلحاق الاقتصادي بالمتربول (النهب الاقتصادي)، بل  تبنى نهجاً لا يقل خطورةً يتمثل في دعم كل الحركات أو الأيديولوجيات التي من شأنها أن تضعف رصيد الحركات والأيديولوجيا القومية عامة، وأن تقف أمام أي توجه نهضوي أو وحدوي محتمل، من دعم كافة البنى ذات الطابع المحلي، الطائفي، العشائري والأقلوي وصولاً إلى دعم الحركات والأيديولوجيات ذات التوجه القطري أو الإقليمي ( كما شجع البريطانيون الحركة  أو النزعة “القومية” المصرية بعد احتلال مصر عام 1882 في ظل حكم السلطان عبد الحميد الثاني) أو ذات التوجه ما فوق قومي كالحركات والقوى السلفية الإسلامية (أو المتسلفنة كالإخوان المسلمين) التي لعبت في الحقيقة دوراً ضد المصلحة القومية للشعب العربي حيثما وجدت.

ومما لا شك فيه إن التيارات التقليدية الإسلامية (السلفية) التي اعتبرت القومية العربية فكرة تتناقض مع عالمية الإسلام وخروجاً عن سلطة الخلافة العثمانية، شكلت أرضية وأداة خصبة تاريخياً للمخططات الغربية في القضاء على التوجهات والمشاريع القومية النهضوية العربية. (ولا بد من الإشارة إن الفكر السلفي بحد ذاته كان تاريخياً من أهم أسباب تقهقر الحضارة العربية الإسلامية وتخثرها،  كفكر لا عقلاني معادي للحضارة بالضرورة، وهو ما يثير السخرية نوعاً ما، فالمطالبون بالعصر الذهبي شكلوا معول أساسي في هدمه).

وقد اتسق هذا الفكر  في محطات مختلفة من العصر الحديث مع مصالح الغرب والشواهد كثيرة على ذلك.  لكن المثير هو: كيف أستطاع هذا الفكر أن يتغلغل في بنية المجتمع العربي وأن يشكل تيارات وحركات نافذة فيه؟؟ وهو ما يبقى السؤال الأهم هنا.

فبداية شكّل الإسلام حين  قدومه رافعة نهضوية للأمة العربية ورسخ وجودها ومكانتها، وأسس دولتها القومية، لكنه ما فتأ أن تحول فيما بعد الى أداة سيطرة من قبل الأعاجم المتوالين على دفة الحكم، تاركاً كل منهم بصمته فيه (المعادية للعرب والعروبة)، وصولاً إلى العثمانيين الذين شكلوا أهم عامل في تردي أحوال الأمة العربية وتخلفها في التاريخ، تحت راية الإسلام طبعاً.  فالغرب عندما دعم الدولة العثمانية في مواجهة محمد علي باشا كان يدعم ضمناً طبعة ما من الإسلام المعادي لمشروعه النهضوي، أعيد تدويره بعد الاحتلال البريطاني لمصر بنسخ أكثر زركشة إلى الأن طبعاً، مع تعقد الأحداث وظهور نسخ أكثر دموية مع مرور الزمن.

هذا الدعم الغربي لسلطة العثمانيين (دولة الخلافة الاسلامية) على حساب الأمة العربية يعيده التاريخ اليوم بصيغة مختلفة نوعاً ما، لا تخلو من التشابه مع تحالف الغرب مع العثمانيين ضد محمد علي باشا، وهو ما  يجب تعميمه والتأكيد عليه في كافة المحافل، وما يجب أن يعيه الشارع العربي جيداً.  فالسلفي كان دائماً على حساب القومي والنهضوي والوحدوي وغير ذلك، وكان على القومي والنهضوي مواجهته دائماً حيث ثقفه.

إذاً قصة الدعم والتبني الغربي لنسخ إسلامية ما ذات طابع سياسي، هي مسألة تاريخية عانت منها الأمة مراراً وتكراراً. وبصريح القول لا يمكن لأي فكر سياسي إسلامي سلفي الطابع أن يخرج إلى العلن ويتغلغل دون دعم وتمويل صريح من قوى تتقاطع مصالحها معه بالضرورة. وهذا ما يجعلنا نعيد النظر بشكل عام في نشأة وأصول كافة قوى وتيارات الإسلام السياسي، فهي محل استفهام وشك دائم.  وقد تفنن الغرب إلى الأن في خلق وتوظيف هذه التيارات في كافة أصقاع الأرض للدفاع عن مصالحه والقيام على حروبه العسكرية، بالإضافة إلى التوظيف الذي عملت عليه ممالك النفط في مواجهة الفكر النهضوي عامة، وفي تفتيت الدول الوطنية خاصة وهو ما يحدث اليوم.

وبالتوازي مع ما سبق كان لتراجع المشروع القومي أيضاً مفاعيل من نوع أخر على إعادة نبش فكر القرون الوسطى كوسيلة للاحتماء بالماضي الذهبي لضعاف القلوب.  وهي سياسة هروب واستبطان هزيمة، أيضاً تمت تغذيتها وتسريبها للعقل العربي، وكان الإسلام  السياسي بشتى تلاوينه رافعة مثلى لها.  لقد أُفشلت المشاريع القومية في سياق حرب شعواء ولم تفشل في هدوء مختبر، وعلى الطرف الأخر جُهز الإسلام السلفي كبديل متوفر ومؤطر آمن لمصالح الغرب والأنظمة التابعة له، وفي نفس الوقت كلاعب رئيسي بصفته أداة تفكيك على مستوى دولي و إقليمي كما نرى اليوم.

إن حركات الإسلام السياسي لا تحمل على الصعيد الفكري أي معنى حقيقي كمشروع تغيير سياسي أو اقتصادي أو كرؤى منهجية حول أهداف تاريخية يجب تحقيقها، وهذا ما يجعلها أدواتٍ لأصحاب المشاريع والمصالح المعادية للأمة على الصعيد التاريخي، وما يجعلها دائما مشروع تهديد محتمل يخبو أحياناً و يبرز أنيابه غالباً.  وبالتالي فمواجهة الإسلام السياسي ليست مسألة متعلقة بواقع معين أو بلحظة تاريخية محددة . فالتجربة اليوم علمتنا أكثر حول أن الصراع دائم على طول المسار التاريخي مع هذه الحركات ومع هذا الفكر القروسطي منذ المعتزلة.

الإرهاب: جدلية التاريخ والسياسة

أسامة الصحراوي

يتفنّن كثيرون في حديثهم عن المؤامرة وفصولها ويصل بعضهم إلى التأكيد أن إنكارها جزء من نظرية المؤامرة في حد ذاتها، لكنهم حين يسلمون بإطلاقية المبدأ يسلّمون في نفس اللحظة مصائرهم للآخر، منكرين على أنفسهم القدرة على التغيير. العاجزون عن الفعل والتصور هم من يحيكون فصولا من الدراما والخيال العلمي عن مؤامرات موجودة وغير موجودة، لكنّ أصحاب العقول الباردة يتحدثون عن الاستراتيجيات والتخطيط.  فكل ما عرفه وطننا العربي من تدمير ممنهج للعقول والإرادات، قبل الجيوش والعتاد، هو أعمق وأكثر تعقيدا من أن يكون مؤامرة حيْكت بليل.  وحديثنا اليوم عن الإرهاب: أصوله و تشعباته، ليس من باب الحديث عن المؤامرة بل من باب سبْر استراتيجية الإمبربالية العالمية وأدواتها.

إن للتاريخ دوراتٍ كبرى تختزل في بواطنها من الظواهر ما قد يوحي أحيانا بالتكرار، لكن التاريخ لا يعيد نفسه أبدا إلا في شكل مأساة في المرة الأولى وفي شكل مهزلة في المرة الثانية كما يقول كارل ماركس، وما التكرار إلا ظواهر تتعدد عبر سياق تاريخي تعدد مدخلاته وتتوحد تفاعلاته وقوانينه.  عليه لا يمكن الحديث عن الإرهاب الذي تعاني منه الأمة دون بحث عميق في التاريخ العربي-الإسلامي عمقَ ظاهرة التطرف والتكفير.  ولعل ظاهرة الخوارج، و”هي أول حالة ما فوق قبلية وما فوق قومية عرفها التاريخ الإسلامي”، كما يقول هشام جعيط في كتابه عن الفتنة “جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر”، كانت أول ظاهرة في التّطرف الديني- السياسي عرفتها الدولة الفتيّة.  وقد كان كوادرها من طلبة العلم من العامة والمسحوقين من ضعاف الحال ومن الذين أبلوا البلاء الحسن في الغزوات والحروب دون أن يكون لهم ذكر ومكانة، وهم الذين وجدوا في العلم الشرعي وسيلة لإثبات الذات واكتساب المكانة فعرفوا في بدايتهم بالقرّاء، في وقتٍ كان الفخر بالأحساب والانتماء القبلي والشعبوي وحتى القومي، ديدن ودينون مجتمعاتٍ في مراحل معينة من تطوّرها، وهو ما أسسَ لظاهرة تاريخية تربط بين الرابط الدموي والحُكم.  فرأى البعض أن الحُكم لا يكون إلّا للدم (الطاهر) آل البيت، ورأى آخرون أنه للدم (المتسيّد) القرشيين، واجتهد غيرهم وارتأوا أنّ الخلافة لمن “تصحّ” له.  وكان الخوارج من هاته الفئة الثالثة فكانوا يمثّلون التطرف الثوري، المرتدي لغة التاريخ المُعاش، أي لغة الدين وقانونه الخاص أي القرآن.  فإذا كانت الدعوة المحمّدية قد ثوّرت الجزيرة العربية فإن الأمر يتعلق هنا -و منذ حركة القرّاء- بواحدٍ من امتداداتها في اتجاه الغلو والتطرف.  وكان محرّك حركة الخوارج رغبتهم في مصادرة كل معاني الإسلام لصالحها، وأن تجعل من نفسها مفسّرة له و أن تفرض ديكتاتورية تفسيرها على الجميع، فقد كانوا عناصر لم يكن لهم في الأصل شرف قبلي ولا حتى سابقة في الصحبة الحقيقية.  فتشبثوا بالقرآن كي يفرضوا أكثر من رقابة أو من قيادة على المجموع الإسلامي الواسع.

وإذا أردنا فهم التكفير والإرهاب، لا بد من معادلة توازن بين عمق الظاهرة وشمولية المشهد وهو ما يقتضي تحليقا مع التضاريس التاريخية لظاهرة التكفير لتتبع القواسم المشتركة بين الفئات المتعصبة، ويمكن القول أن هذه القواسم تتكرر لدى كل الطوائف الإسلامية.  فما بين وهابية محمد بن عبد الوهاب –منظّر التيار الجهادي- ووهابية عبد الله بن وهب –أمير الخوارج- تناظر لفظي ودلالي صارخ، فكلاهما يفهم و يفسّر الحاكمية في القرآن على أساس سياسي بمعنى السّلطة.  بل إن صيحة الخوارج الشهيرة “الرّواح الرّواح” (إلى الجنة) لا تكاد تخطئها العين في كل أدبيات الوهابين الجدد.  ونلاحظ التناظر نفسه في الممارسة بين الحشاشين والوهابيين الذين تمركزوا في أعالي الجبال الوعرة في قلعة الموت وانتهجوا سياسة العمليات الانتحارية متميزين بتعشّق الموت للنفس وللآخرين، وهم من وصفهم برنارد لويس في كتابه “الحشاشين” بأنهم فرقة ثورية  في التاريخ الإسلامي تناظر طائفيا فرقة الخوارج.  كما عرفت هذه الفرق المتطرفة انقسامات فكرية عديدة كانت قد توالدت منها فرق أكثر تطرفا وتعصبا مثل: الأزارقة والنجدات والبهيسية والعجاردة. و يبقى القاسم المشترك الأكبر بينها أنها تتبنى ديكتاتورية أقلية مغترّة بحقها وحقيقتها، تلبس لبوس الثورة على السائد لكن في اتجاه الغلو والتطرف.

ثم إنّ حالة الذل والهوان التي كرّستها الأنظمة العربية العميلة، والاستهداف الممنهج لقوت الناس وعقولهم جعل الكثيرين منهم يرتكسون إلى المخزون التاريخي الذي يمثّل الطّراز البدائي أو النموذج الأصلي (archetype) –كما يذهب لذلك كارل يونج- لاستدعاء حالة العزة والمكانة التي عرفها العرب والمسلمون أيام الخلافة الإسلامية. غير أن هذا الاستدعاء حين “تحتكره” تلك الأقلية المغترة، يرتبط بالضرورة بكل ما أفرزته الحضارة العربية الإسلامية من تطرف وغلو. لكن هل يكفي هذا الربط بين الظواهر التاريخية لتفسير حالة المد التكفيري؟؟

كلا بالتأكيد! فليس هناك صراع يمكن اختزال مسبباته في عامل واحد إلا إذا وقع التعامل معه بطريقة سطحية، والحاصل أن عوامل الصراع تتراكم ومسبباته تعتمل وتنضج، وعند لحظة حرجة يحدث الفوران.  فإن سلّمنا بأن ظاهرة التطرّف لم تكن غائبة في تاريخنا الإسلامي فإن المؤكد أيضا أن حالة الهيجان المتطرف اليوم ليست وليدة صراعات دفينة فقط، إنّما هي نتاج توجيه بل وإحياء، ليخرج المارد المتطرف من قمقمه كلما استدعت الحاجة، ونفس الحاجة استدعيت للحرب ضد “الإلحاد” في أفغانستان.

توجّه ميكافيللي الفيلسوف في علوم السياسية وصاحب كتاب “الأمير” برسالة إلى لورنزو العظيم ملك فلورنسا يعتبر فيها أن الأمير يستطيع أن يمارس السياسة بمعزل عن الأخلاق، ممهدا من خلال هذا الطرح لقطيعة ابستيمولوجية بين السياسة والأخلاق، لكن ما حدث في الحرب “الباردة” من توجيه المارد التكفيري للحرب ضد “الإلحاد” كفيل بأن يصيب ميكافيللي بالغثيان. فقد التقت المصالح ومضت السياسة الأمريكية وبعض النظم العربية تشق طريقها على أديم من الأخلاق وأحلام الشعوب لتحبك القصة وتمهد لتربّع الليبرالية الغربية على عرش العالم ما بين سقوط جدار برلين وسقوط برجي نيويورك.

في تلك اللحظة كانت ضرورات الأطراف على اختلافهم تفرض حلفاً بينهم تلاقت فيه عناصر متباعدة، تصنع للأحداث مجرىً مختلفا. حيث تواطئت الضرورات على الساحة ورسمت منعرجاً جديداً لم يكن لأحد أن يتوقعه نتيجة تداخل عوامل ما كانت وحدها لتحدث تغييرا لولا تداخلها وترابطها وتزامنها. أدّت فيما أدّت تلك العوامل لانتقال حركة الإسلام السياسي، بكل مشاربها وتفرعاتها، من حالة الطفولة والمراهقة إلى حالة الشباب، وضخّت فيها دماء جديدة بعد خروج مصر من الصراع العربي- الصهيوني، وبعد تراجع المدّ الثوري القومي واليساري، وبعد الدخول في مفاوضات سرية وغير سرية مع الكيان الصهيوني، وهو ما استغلته تلك الحركات في بناء قاعدة شعبية جديدة لها.

عندها اكتشف كثيرون أن الصيغة السحرية للوفاء بكافة الضرورات قد تكون فى القاهرة، حيث خزان بشري لا ينضب وتطرف بدأ يكشّر عن أنيابه ضد الدولة التي تسعى إلى تصديره وتأجيل الصدام معه، ثم إن الفقر والفاقة أخذا مداهما بعد وهم الانفتاح الساداتي دون أن ننسى تراكم السلاح السوفييتي الذي لم يعد مجديا بعد تغيير القبلة المصرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان لا بد من تفريغ فائض السلاح.  فكان زواج المال والسياسة خناء تحت مرأى ومسمع الجميع.  أما المال فلا تسأل عنه، فقد كانت فوائض النفط تتكدس في خزائن فاضت وزادت عن شهوات الأمراء والملوك، وأما السياسة فكانت التقاء بين مصالح أمريكية تدفعها للتسيّد، وأنظمة عربية تريد تأبيد نفسها.

كل هذا كان تلك التربة السياسية الهشة التي تنتظر الزلزال، الذي جاء أمريكيا يتوهّم قرنا جديدا، فكان أن غيّر الزلزال من التضاريس مفسحا المجال لبواطن الأرض بالظهور ليتم بذلك إحياء كمٍ هائل من التطرف والرغبة في إقصاء الآخر متمثّلا فيما عُرف بـ”العرب الأفغان”، الذين أسسوا فيما بعد تنظيم القاعدة. كان الدعم الذي تلقوه بلا حدود، من صواريخ الستنغر الأمريكية إلى بغال الإمارات التي كان “الشيخ” زايد يريد التخلص منها، مرورا بسيل من الفتاوى ووعود بالحور العين في واقع من الكبت والتعصّب.

لكن شباب الجيل الثاني من التنظيم كانوا أشدا صلفا وتعصبا، وكان أن أسس قادتهم ومنهم الزرقاوي معسكرا خاصا بهم في هيرات بعد خلاف مع قائد التنظيم الملياردير أسامه بن لادن الذي سهّل له آل سعود كل إمكانيات الاستثمار في البناءات والإنشاءات المدنية ومنها بناء الحرمين الشريفين لكي يعيد هو استثمار عائداته في بناء التطرف والإرهاب.  غير أن الجيل الجديد شكّل مع احتلال العراق علاقات جديدة إقليمية وعالمية تختلف عن تلك التي شكّلها التنظيم الأم أي القاعدة، ليأسسوا في مرحلة لاحقة تنظيم “داعش”.  ويعتقد كثيرون أن علاقة داعش والقاعدة بالغرب واحدة، لكن بعض التدقيق يبرز الكثير من الفوارق. فالسياق الذي ولدت فيه داعش يختلف عن ذلك الذي نشأت فيه القاعدة. فلا يمكن اليوم وصف داعش بأنها أمريكية لأنها تلقّت منها دعما عسكريا ولوجستيا، ولو صحّت هذه المقاربة لكانت داعش تركية أكثر منها أمريكية، ثم إن تراجع الدور الأمريكي واكتساب جماعات ودول جديدة لإمكانيات ذاتية مكنتها من لعب دور عالمي أدخل العالم في حالة من الاعتماد المتبادل يستحيل معه التفرّد والذّهاب في مغامرات غير محسوبة كدعم داعش.  ثم إنّ عصر المؤامرات التي يقف وراءها طرف واحد يحدد لها مسارها ويمسك بتلابيبها ويدير مدخلاتها ومخرجاتها، هذا العصر انتهى لأنّ الفرق بين قدرات التأثير لدى القوى العالمية والإقليمية بات باهتا لا يكاد يكون خطوطا افتراضية كخطوط الطول والعرض تُؤخذ بالحسبان لكن لا وجود فعلي لها، لكن كل هذا لا ينفي تآمرية التاريخ الدائمة.

هذا ما يجعل تفسير ولادة داعش أمرا غير ممكن باعتماد أدوات التحليل الكلاسيكية، فداعش بجعة سوداء (حسب توصيف نسيم طالب) فهي نتيجة خارج كل التوقعات والحسابات، ووجودها دليل على قصور الاستقراء القياسي. لكن هذا لا يعني أنها خارج رؤية الكايوس التي تترجم أحيانا “فوضى”. ما أقصده أن داعش جاءت خارج سياق التخطيط الكلاسيكي للدول العظمى سابقا، إنما هي نتيجة تداخل العديد من المسببات المباشرة وهي نتيجة طرح جديد في علم اللامتوقع يرسم البرامج على ضوء المتغيرات في الواقع المعاش ثم يتفاعل معها دعما أو تحييدا دون دراية مسبقة.  إنّهم ببساطة يجرّبون.

ثم إن حركة التاريخ تسير دائما إلى الأمام أي أنها قوة دفع دائم، وقوة الدفع قد تتحول إلى قوة جذب بالنسبة للطرف الآخر، فإذا كان الطرف الآخر أمة ما، فعليها أن تجاري قوة الجذب والدفع  لأن تلك الأمم حين تتباطأ تتحول عملية الجذب إلى سحل، وهو تماما واقع حال الأمم التي لا تقف لغدها وتسلّم مقادير أمنها وتاريخها للصدفة أو للتيار، ففي قمّة ستراسبورغ سنة 2009 لحلف الناتو تم تكليف لجنة برسم استراتيجية لحلف الناتو للمرحلة القادمة تحت اسم لجنة الإحدى عشر حكيما برئاسة مادلين ألبرايت. استمعت تلك اللجنة لألف خبير سياسي كان للمحافظين الجدد الكلمة العليا بينهم فتركوا بصمة في استراتيجية حلف الناتو لا تخطئها عين.  وقدمت اللجنة عملها في قمة الناتو في لشبونة في أواخر 2010، أي قبل أن يضرم البوعزيزي النار في جسمه مشعلا فتيل “الربيع العربي” بأسابيع.  بصمة المحافظين الجدد ونظريتهم في الكايوس كانت جلّية في محاولة تقسيم الوطن العربي إلى طوائف وملل ونحل، تفككُ الرّباط الجامع للأمة.  ونظرية الكايوس، في اعتقادهم، نظرية في الكل الشامل تتناول الطبيعة والإنسان، و تردّ قوانينهما إلى شكل واحد يضبط الفوضى في شكل من الانتظام المستتر.  والغريب أن هذه النظرية لم تحظى بما حظيت به غيرها من نقد أو تفسير على الرغم من الأثر البالغ الذي أحدثته، ولا زالت تحدثه في العالم.

فى هذا الوقت يبدو أن مجرى الحوادث فى ظاهره لا يكفى لرؤية ما يدور تحت السطح، فالظاهر وإن بدا تردّي الوضع العربي وتكالب الأمم علينا وحالة من التطرّف والإقتتال والإرهاب، ففي الباطن يتبدّى أن العمق العربي يموج بتفاعلات تتسارع حركتها وتتفاعل عواملها، حيث لا يراها الكثيرون، ولكن آثارها ما تلبث أن تطفو على السطح.  إنّ ما يجرى عندنا هو عملية انسلاخ مؤلم من واقع إلى واقع، إنه مخاض ولادة المشروع الجديد…

التفكير بالتأويل ردّا على التكفير بالتقويل 

نور شبيطة

إشكالية التعامل مع النص الديني فهما أو تطبيقا إشكالية قديمة جديدة، وبالنسبة لنا نحن “عربا أو مسلمين”، كان القرآن ذاته سبّاقا لطرح القضية، وإن كان الطرح الذي أدلى به القرآن ذاته بات خلافيا، بسبب الخلاف الإسلامي-الإسلامي حول فهم “كثير” من آيات القرآن، ومع العلم أن الآيات المحورية التي تنطوي على أصول الرسالة الإسلامية كانت هي الأكثر عرضة للخلاف، فإن الآيات التي تتناول التأويل كانت عرضة للتقويل بما يناسب طروحات المُؤَوِّلين للقرآن من شتى الفرق والمذاهب، لذلك فحتى لو افترضنا اجتماعهم على فهم لها سيكون هذا الاجتماع حجة عليهم لا لهم، لأنه اجتماع على أسلوب فهم أدى لكثير من الخلاف (نتحدث هنا عن خلاف دامٍ وليس عن جدال فقط).

يدرك العرب عميقا في نفوسهم حاجتهم الموضوعية للوحدة على كلمة سواء، لكن المعضلة هي رغبة كل طائفة أن تكون الكلمة السواء هي كلمتها، وقد كان القرآن يوما من الأيام هو الكلمة السواء التي اتحد عليها القوم، إلا أننا أبناء يومنا هذا، ومع ذلك فلا يعد استنطاق القرآن بحثا عما يوحدنا سلوكا ماضويّا، لا سيما إذا كان هذا الاستنطاق يراعي الظرف التاريخي للأمة، ليفهم الميكانيكية التي خلق بها الإسلام حلا، ولا يتورط في حُمّى الماضي وإعادة عجلة الزمان إلى الوراء، ومن هنا كان لابد أن نتذكر أن القرآن كان “قرآنا عربيا”، نزل بلغة القوم فكان يقول فيُفهم، دون حاجة لوسيط أو ترجمان، وإذا شككت بذلك لحظةً بسبب ما يدّعيه أصحاب العمائم واللحى، فانظر لكونه نزل على قوم لدّ في الخصومة، لا يؤمنون بمرجعية “تأويله” المفترضة، فبلغ منهم قلوبَهم وكان هو الممهِّد للخضوع لدولة رسول الله المركزية، لا العكس. فكيف يقول القائلون أنه لا يُفهم إلا بوسيط! أيا كان هذا الوسيط، سواء كان رسولا أو “شيخا”، فلو قبلنا زعمهم هذا سيسقط الخطاب القرآني كله، إذ لا يكون بعد ذلك بيانا للناس ولا قولا بليغا، فيكون دون الشعر (الذي يفهمه العرب بخاصتهم وعامتهم) منزلةً! حاشى للّه أن يكون عيّا يحتاج من يُبين عنه!

بيد أن انتشار الإسلام بين العجم ودخولهم كمكوّن مكافئ للعرب في “الدين” (الدين هنا بمعناه الأصيل أي النظام)، واختلاف الحواضر العربية، أدخل اللغة في طور مختلف، وهو نتيجة طبيعية لاختلاف الحواضر، يعبر عنه القدماء بفساد اللسان، وهو هنا مفارقتهم للأصل الذي نزل وِفْقه القرآن، مما خلق حاجة لضبط حرفه شكلا وترقيما، تجنبا للّحن (القراءة غير السليمة)، ولتفهيمه بلسان كل حاضرة، مما لا يعيبه ولا يطعن بفصاحته، بل يؤكد على اختلاف الأفهام، وكان هذا الخلاف قد بدأ والصحابة على قيد الحياة، فهو نتيجة اجتماعية للتوسع أكثر من كونه نتيجة لفناء الجيل الأول، ولا ننسى أن الخلاف في الفهم الذي سببه الهوى بدأ وقتَ يتنزل القرآن، حتى تعرض القرآن له، ثم بلغ أشده عند جماعة القراء الحفظة الذين غطى التكرار غير الواعي للآيات عندهم على معناها، فكانوا الخوارج، ولكل عصر خوارجه!

ولكي نتجنب تقويل القرآن ما لم يقله، لابدّ أن نتعرّض لآيات التأويل، فنبسط في تفهيمها، ما تجنَّبه دعاة الفرق والمذاهب على طول الزمان لأنه ليس في صالحهم، فهو يضربهم في مقتلين معاً، الأول إلغاء فكرة مرجعية اللحى والعمائم، إذ يعطي كل صاحب عقل الحقَّ في فهم القرآن، ويلقي عليه مسؤولية الاستجابة لدعواه. والثاني ضرب مشروعية وجود الفرق والمذاهب كتكتلات مجتمعية متناحرة، ويعيد للقرآن منزلتَه ككلمة سواء تتحلق حولها الأمة، ويتيح مساحة للخلاف الفردي غير ذي القوة على الفعل المجتمعي الهدّام. ويحسن هنا أن نذكر بآية تبرّئُ محمّدا (ص) من كل من يسعى للفرقة في صفوف الأمة (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ …) ١٥٩ الأنعام، فليس من مشروعية للفِرق، وكل من نسبَ نفسه لفِرقة عليه أن يقرأ هذه الآية ويتفكر في عاقبة أمره، وآية أخرى تؤكد على أن القرآن قولٌ مجمل يفهم مجملا في سياقاته لا قِطَعا وأدلة مُعضّاة (من التعضية والتقسيم لأعضاء أو عِضين) متفرقة يوظفها أصحاب العمائم واللِّحى (المعادل الموضوعي لطبقة الكهنة) ليحافظوا على مكانتهم ومكتسباتهم إذ يقول: (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَΔ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ٩٠و٩١ الحِجر، ولنتجاوز فكرة أن “القرآن حمّال أوجه” كما قال ابن أبي طالب، وقد صدق لكن على المتشابه منه، وحتى هذه الأوجه يفترض ألا يكون منها ما هو مدعاة للإفساد في الأرض، وإلا فأين “آياته المحكمات”!

ومما تكلّم القرآن به عن التأويل قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) ٧ آل عمران، وقوله: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) ٣٩ يونس، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) ٥٩ النساء، (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) ٥٣ الأعراف. إضافة لورود الكلمة في سورة يوسف في غير موضع، وهنا نحن نضع الآيات بين يدي القارئ لكي يتبيّن المعنى الحقيقي لكلمة (تأويل) المفارق والمخالف للاستخدام السائد الذي سايرته المقالةُ في أولها توصّلًا للأفهام والقلوب لا قَبولًا به، إذ أن كلمة تأويل هنا تعني المآل، أي ما يؤول له الأمر، وما ينتهي له، كما في آيات سورة يوسف التي تجعل التأويل معرفةَ مآل الرؤيا وتعبيرَ الأحلام ليعرف صاحبها إلى ماذا تنتهي، وهذا ينسف الرأيين المركزيين في فهم آية سورة آل عمران، أي من قال بلزوم الوقف بعد (لا يعلم تأويله إلا الله) ومن قال بحرمة الوقف بعدها، فالأول يقبل بِكون بعض القرآن طلاسمَ لا يفهمها إلا قائلها، وأي فصاحة في ذلك!، والثاني يقبل بكون الراسخين في العلم يفهمونها مثل الله، مما يعطيهم سلطة كسلطة الله على العقول! فيكون المعنى، بعد أن عرفنا أن التأويل لا يعني الفهم، أن الله أنزل القرآن الذي فيه آيات واضحات تتحدث بمفاهيم يملك الناس مصاديقها، فيَعونها ويعرفونها، وهي أسّ الرسالة وأساسها (أم الكتاب)، وآيات أخرى أخبرت عن الغيب الذي لا نعرف مصاديق مفاهيمه إلا أن نتبين معناه المجمل كما نتبين لغة الشعر ولله المثل الأعلى، فنحن لا نعلم حقا إلى ماذا تؤول وتنتهي، إذ لنا فهمنا وتصورنا عن القيامة مثلا، التي يوم يأتي تأويلها سنرى شيئا جديدا ما خبرناه ولا علمناه من قبل، فمن صدّق بالمحكم ورد الخلاف في المتشابه لله، فهو راسخ في العلم، أعطى الأمن للناس فكان مؤمنا بالله.

وبعد هذا نقول: إن من تصدّى لما هو ليس بأهل له، من الدعوة وتعليم الناس كتابهم، يصرّ على فهْمٍ مخالف للعربية لآية المحكم والمتشابه (٧ آل عمران) ليمسك بزمام عقول أبناء فرقته، ويصر على أن النقل مقدّم على العقل ليقبل أتباعه أن يعطلوا عقولهم ويقطعوا صلتهم بالله وكتابه، ليكون هو الوكيل الحصري لله على الأرض، ويتركوا لعقله هو السلطة على النص الذي قبلوا بسلطته على عقولهم، فيفسد بذلك لبَّ الدين ويهدم أساسه بكونه خطابا يأخذ من الناس خضوعهم لدين الإسلام (النظام الذي وحّد العرب في دولة مركزية) جرّاء خضوعهم لقوة دولته وحزبه وميليشياته، ليتنكّب الطريق مقلوبا، فالأصل في الإسلام أن الناس يخضعون لدين الدولة (نظامها) جراء خضوع قلوبهم وخشوعها لقول الله، الذي فهموه بعقولهم، لا بعقل صاحب اللحية والعمامة، الذي يقوّل النص الديني ما يريد هو، لا ما يريد الله، وبهذا فنحن وضعنا يدنا على أساس فكرة التكفير وقتل المخالِف، فهي السبيل الوحيدة لمن أغلق قلبه وعقله بسبب مكتسباته التي صمّت أذنيه عن قول الحق، ليسود البلاد والعباد، فيعيث فيها الفساد، ويجعل ذوي الأرحام يقتتلون ويقطعون أرحامهم ويمارسون كل ما تراه في الآيات حول الآية ٢٤ من سورة محمد التي تقول : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)!

تعريفات: في التكفير وترياقه

ما هو التكفير؟

التكفير هو رمي الناس بالكفر، أي الحكم بإنكارهم الإيمانَ بعد بلوغهم رسالته، فهو حكم يُطلق على فردٍ أو جماعة بسبب مخالفتهم الجزئية أو الكلية لما يراه مطلِق الحكم حقائق مطلقة غير قابلة للنقاش تحت وطأة الاتهام بالتكفير.  ويهيئ التكفير عادةً لانتهاك حقوق المتهمين به أفراداً وجماعات، وصولاً لقتلهم واستعبادهم واستباحة أعراضهم وبيوتهم وأملاكهم وأموالهم.

الحكم بالكفر مسألة خلافية بشدة في الفقه الإسلامي لا يوجد إجماع على تعريفها أو طرق التعامل معها، فثمة من يسارع لتكفير المخالف في الرأي بشكل اعتباطي، وثمة من لا يرى قتال الكافر غير المحارب، وثمة من لا يرى قتال الكافر أصلاً، وثمة من يرى قتاله، وثمة من يصر أن من تصله الدعوة الإسلامية بطريقة مشوهة ومنفرِة لا يعتبر مُبلّغاً بها وبالتالي لا يجوز الحكم بكفره، وثمة من يعتبر أن الدعوة واضحة ومن تصله ويرفضها يعتبر كافراً.

هنا ينقسم الحكم بالتكفير إلى نوعين: تكفير غير المسلم ابتداءً الذي بلغته الدعوة الإسلامية فلم يشهر إسلامه، وتكفير المسلم الذي يعتبر مرتداً.  هنا ندخل من جديد بمسألة خلافية أخرى هي متى يصح الحكم بالردة، فالتشدد المفرط والغلو يقودان لتكفير من يُعتبر مخالفاً لأحد أحكام الشرع، وثمة من يعتبر أن المرتد هو فقط من يعلن الارتداد عن الإسلام جملة وتفصيلاً.

أما التكفيري المعاصر فيسمى تكفيرياً لأن غلوّه وإفراطه يقودانه إلى المسارعة لتكفير كل من لا يوافقه في أي جزئية فقهية يعتنقها، وإلى المسارعة لاستباحة دماء المخالِف وأهله وماله، وقد تفاقمت ظاهرة التكفير في وطننا العربي في السنوات الفائتة بطريقة أسيّة مخلفةً وراءها أنهاراً من الدماء والدمار والأشلاء.

الصفات السبع للفكر التكفيري

من يفجر نفسه في مدنيين ومن يضع المتفجرات في سوق أو شارع مزدحم أو مرفق عام ومن يهم بجزّ عنق أو أوصال مواطن آخر أو أسير أو جريح، لم يولد بالضرورة مختلاً أو مجرماً أو معتوهاً أو مشبعاً بالكراهية العمياء لهذا الحد، بل ثمة “ثقافة” و”فكر” اخترقه كالفيروس ليحوله إلى أداة طيّعة قابلة للاستخدام الدموي، أداة لا تعقِل، ولا يمكن التفاهم معها بالحوار، ويسهل إطلاق عنفها المجنون ممن يخططون ببرود لاستهداف الوطن والمواطن.

ومع أنّ اللحظات التي تنفلت فيها جحافل “الحشاشين الجدد” من عقالها ليست أبداً لحظات حوار أو مناظرات عقلية، حين لا يعود ثمة مفر من واجب إيقافهم عند حدهم لاحتواء الدم والدمار الذي يتركونه في أثرهم، فإن ذلك لا يعفينا من التفكير ملياً بتلك “الثقافة” وذلك “الفكر” الذي يدمن حامله القتل والتمثيل والتفجير والتدمير وسفك الدماء وقتل المدنيين.

فهو أولاً “فكر” يتطلب تعطيل العقل تماماً، ولهذا يمثل التتمة الطبيعية لفتاوى “إرضاع الكبير” و”نكاح الوداع” و”جهاد المناكحة” الخ…  فهو “فكر” اللافكر الذي يعادي العقل من ناحية من الأساس، ويرفض أحكامه المنطقية.

وهو ثانياً “فكر” يتطلب تعطيل الإيمان وكل ما هو سامٍ ومتسامح ورحيم في الدين، واستبداله بتفسيرات وحشية متعصبة لم يعرف لها الإسلام مثيلاً في تاريخه.  وكما جاء في سورة يونس: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.

وهو ثالثاً “فكر” معادٍ للإنسان كإنسان، يحتقر الحياة البشرية، وكل ما يمثله الإنسان من مشاعر وأفكار وقوة وضعف وعلاقات إجتماعية وحريات شخصية.  وتشكل استباحة الإنسان وحياته وأمنه وحريته هنا انتهاكاً صريحاً للحكم القرآني الوارد في سورة المائدة: أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا.

وهو رابعاً “فكر” مناهض لفكرة الوطن، يحول المواطن المخالف في الطائفة أو العِرق، أو الذي ينتمي لنفس الطائفة سوى أنه يرفض مبايعة “عصبة الحشاشين الدمويين”، إلى هدفٍ لا عصمة لدمه وأمنه وبيته وأملاكه، مما يقوّض النسيج الاجتماعي ويفتح الباب على مصراعيه للحروب الأهلية والتهجير والتدمير وتفكيك المجتمعات.

وهو خامساً “فكر” يشكل النقيض الموضوعي لفكرة النهضة التي اشتغل بها مفكرو العرب منذ محمد علي باشا في بداية القرن التاسع عشر، وهو “فكر” معادٍ صراحة لمفهوم الدولة الوطنية، وللفكرة القومية.

وهو سادساً “فكر” معادٍ للمرأة ككيان، وكوجود، وكحقوق، يريد وأدها وهي حية، إذا الموءودة سُئلت بأي ذنب قتلت…  والوأد في القرن الواحد والعشرين له أشكالٌ أدهى وأمر من أشكاله الجاهلية القديمة.

وهو سابعاً “فكر” رعاه الاستعمار واستخدمه تاريخياً لضرب تجارب النهضة والتحرر الوطني في العالم الثالث، من الهند لأفغانستان للوطن العربي، فهو “فكر” يبرر لنفسه التعاون مع الاستعمار عندما يرى ممثلوه ذلك مناسباً…  والغريب أن ذلك هو الجانب الوحيد “المرن” في ذلك “الفكر”.

في علاقة التكفير بالغرب

زُرِعت البذار الأولى للحركات التكفيرية والظلامية في العصر الحديث مع محاولات الاستعمار البريطاني احتواء حركات التحرر الهندية ثم المصرية، وهو ما يوثق له مثلاً روبرت درايفوس في كتابه “لعبة الشيطان: كيف أطلقت الولايات المتحدة الإسلام الأصولي” الصادر عام 2006.

يُشار بالمقابل أن حركات التحرر الوطني المسلحة إسلامية الطابع التي انطلقت في الوطن العربي منذ أوائل القرن الماضي حملتها قياداتٌ صوفية، من عبد الكريم الخطابي إلى عمر المختار إلى عز الدين القسام، على الرغم من محاولة الإخوان والسلفيين مصادرة ذلك التراث النضالي العريق لحسابهم. كذلك يوثق روبرت درايفوس لذلك التحالف، الذي تحول إلى علاقة وطيدة طويلة المدى، بين الاستعمار البريطاني والحركة الوهابية في مواجهة محمد علي باشا، صاحب أول مشروع نهضوي تحرري وحدوي في العصر الحديث، ومحطم الدرعية عاصمة الوهابيين الأولى…

غير أن اللافكر، أو اللاعقل، التكفيري الظلامي هو بالتعريف الضد الأول للإسلام، والحضارة، والإنسان، والدولة الوطنية، والمواطنة، والمرأة، والعقلانية، وكل منجزات البشرية الاجتماعية والسياسية منذ بدء التاريخ.

بصفته تلك، وبقدرته على الانتشار بقوة “الإيمان”، لا بقوة الدعم الغربي أو البترودولاري فحسب، وبقدرته على التكاثف بشكلٍ أسي مع الزمن وبتجاوز ذاته رجعياً، وبقدرته تالياً على إنتاج جيوشٍ عقائدية منفلتة من عقالها تتمثل أسوأ ما في ثقافة الغزو المركبة على إعادة إنتاج عصر شبيه الإنسان النياندرثال، فإنه بات أشبه بفيروس مضاد للنهضة الإنسانية، لا القومية فحسب، وهو لا يعادي حركات التحرر والدول المستقلة فحسب، إنما يعادي الحضارة الغربية أيضاً.

تلك الصفات الجوهرية في تكوين العقلية التكفيرية الظلامية، التي نشأت في حضن حركة “الإخوان المسلمين” لتنفيها وتتجاوزها، تماماً كما تجاوزت “داعش” تنظيم “القاعدة” لتجعل الأخير يبدو قوةً “معتدلة”، جعلت من الجماعات التكفيرية الظلامية سلاحاً جرثومياً فتاكاً على مستوى الأيديولوجيا لا يعي ولا يفقه سوى غاية وجوده في تدمير الإنسان.  لكن السلاح البيولوجي يصعب جداً احتواؤه في بقعة واحدة، فالجرثومة التي تلقيها على عدوك يمكن بسهولة أن تنتشر إليك عن طريق العدوى أو الهواء. والشباب المتأثر بالجرثومة التكفيرية الظلامية في الغرب مثلاً، خاصة من الأصول الأوروبية المسيحية، لا يمكن اعتبار اندفاعه للقتال في سورية أو العراق تحت راية المنظمات التكفيرية والظلامية نتاج تعرضه للتهميش السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، كما يذهب البعض، إنما هو نتاج أيديولوجي صرف، وشهادة عابرة للثقافات على قدرة الجرثومة التكفيرية على الاختراق العقائدي.

إذن استخدم الغرب السلاح الأيديولوجي التكفيري في مواجهة الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية والحركات والدول والتجارب النهضوية والتحررية والوحدوية في العالم الثالث عامة والوطن العربي والعالم الإسلامي خاصة، فكان بذلك كمن يستخدم سلاحاً جرثومياً فتاكاً أعمى يمكن بسهولة أن يرتد على من استخدمه ووظفه، فصار من الضروري لذلك أن يتم احتواؤه في المواضع التي يخدم مصالحه فيها، فإذا خرج عنها أو زالت فائدته حق ضربه وشطبه جزئياً أو كلياً.

التكفير يواجه بإعادة إحياء الفكر القومي والنهضوي وبموقف واضح من الطائفية بكافة أشكالها

لا بد من إعادة إحياء الفكر القومي العروبي والفكر النهضوي بكل أشكاله، وفكر التحرر الاجتماعي والوطني بتلاوينه المختلفة كشرط ضروري لمعالجة الظاهرة الشيطانية من جذورها حتى لا نبقى في حيز الحلول الدموية التي تمثل في الواقع نقطة قوة “فكر” اللافكر و”ثقافة” مناهضة الوطن والإنسان.

وما كان لمثل هذا “الفكر” أن ينمو لولا ضمور الفكر القومي واليساري والإسلامي المتنور…  كذلك يمكن القول أن انتشار الفكر والخط القومي واليساري والعلماني يشكل نقيضاً موضوعياً للفكر التكفيري والإخواني، ولذلك فإن من مصلحة وواجب معسكر المقاومة أن يشجع هؤلاء وأن يعقد التحالفات معهم وأن يحترم حيزهم الخاص وأن يساعدهم على تعزيز وجودهم لأنهم كانوا ويبقون حاجز النور أمام تمدد الظلام في المجتمع العربي.

بالمقابل، ثمة قوى وجهات وشخصيات إسلامية سنية (ومسيحية) متنورة ووطنية في الشارع العربي معادية للتكفيريين ولفكر البترودولار ولأعداء الأمة، وهؤلاء يتوجب على معسكر المقاومة أن يشجعهم على تأسيس تيارات وجمعيات ومؤتمرات وإصدار منشورات خاصة بهم لأن وجودهم وامتدادهم يقلص جماهيرية التأثير التكفيري بالضرورة.

إن أكثر ما يمكن أن يخدم الفكر التكفيري هو الانجرار لملعبه الطائفي، لأن ذلك هو بالضبط ما يريده ليحرق خصومه سياسياً وليثبت عليهم التهم الطائفية التي يعبأ الشارع العربي بها، ولذلك لا بد من الرد على التكفيريين بموقف وطني وقومي يرفض أي نزعة طائفية من حيثما جاءت.  إن التكفير يحتاج لجوٍ طائفيٍ لينمو فيه، ولذلك يجب أن يقترن الموقف منه بموقفٍ موازٍ من الطائفية بكافة أشكالها.  ولذلك نورد هنا فقرات من بيان “لائحة القومي العربي” المعنون: موقفنا من الفتنة الطائفية المتصاعدة، المنشور عام 2008:

إن الجدال المفتعل والمتصاعد بشكل متزايد مؤخراً حول  التسنن والتشيع والتنصير وإلى ما هنالك يؤكد على ضرورة تحديد موقف مبدئي حاسم من الطائفية والطائفيين ممن يعملون على إضعاف وتفكيك أمتنا وهويتنا لمصلحة قوى الهيمنة الخارجية على اختلافها وعلى رأسها الاحتلال  الصهيوني.  ولهذا نؤكد على ما يلي:

أولاً: كلنا عرب أولا وقبل كلّ شيء، والولاء للعروبة و لهويتنا العربية-الإسلامية الجامعة يأتي قبل كلّ ولاء فرعي، مذهبياً كان أو إقليمياً أو عشائرياً أو غير ذلك.

ثانياً: إذ نؤكد على حق المواطنة ورفض التمييز، وعلى حرية الفكر والمعتقد على قاعدة الولاء للأمة ورفض العلاقات المشبوهة مع الخارج، وإذ نؤكد على التمسك بالثوابت الوطنية والقومية، وبالهوية الحضارية العربية-الإسلامية لأمتنا، فإننا ندعو لرص الصفوف بين أبناء الوطن الواحد ورفض ظاهرة الطائفية المستحدثة.

ثالثاً: كلنا ننتمي لأمة واحدة، وعلى هذا يجب أن يُهمّش الولاء الطائفي.  والطائفية، بغض النظر عن الذريعة الدينية، منافية للحس الوحدوي، وعلى هذا الأساس وحده يجب أن تعامل كخيانة، وأن تعاقب كخيانة، لأنها تحقق برنامج فرق-تسُد، وتعيق البناء السويّ لجبهة عربية موحدة للمقاومة.

رابعاً: إن تكفير المواطنين المودي للأذى المعنوي، أو للفتنة والقتل والتهجير، فقط بسبب هويتهم الطائفية أو قناعاتهم الفكرية أو الشخصية، يجب أن يصبح جريمة يعاقب عليها القانون في الدولة العربية الموحدة (مع الحفاظ على التمييز الواضح ما بين هذا، وما بين واجب مقاومة الاحتلال وعملائه، وحق الثورة ضد الظلم).

خامساً: نؤكد هنا بالضرورة أن الشيعة العرب والمسيحيين العرب، كباقي العرب، هم جزء لا يتجزأ من هذه الأمة يحاسبون كأفراد، كمواطنين عرب، مثل غيرهم، لا كأبناء طائفة.  وقد كانوا تاريخياً، ولا يزالون، جزءاً من جبهة مواجهة قوى الهيمنة الخارجية، القادمة من الشرق أو من الغرب… وعليهم واجبات، ولهم مثل حقوق، باقي أبناء الأمة.

سادساً: من غير المنطقي أن يكون  تفسير الدين حكراً على فقهاء السلاطين وقلة من المفسرين وتجار صكوك الغفران، قلة تبيع ولاءاتها خارج الحدود لتصدر فتاوى تحرض الأقباط على العروبة والإسلام في مصر عبر قنوات فضائية ممولة أمريكياً، أو فتاوى تدعو العرب للالتحاق بجيش الاحتلال الأمريكي للعراق، إلخ…

هذه دعوة لنبذ الخلافات الطائفية، وكل من يتحدث عن روافض ونواصب وكوافر، وكل من يكفّر غيره باسم الدين، أو يتعالى عليه مذهبياً، هو موضوعياً جزء من المخطط المعادي، بغض النظر عن حسن النوايا، لأن هذه الصراعات المذهبية والعشائرية والإقليمية عبثية وموظفة بعناية لشطب قدرتنا على التحرك الجماعي، ولإشغالنا عن قضايانا الأساسية.  والتعصب الطائفي لن يقود إلا إلى المزيد من الضعف والوهن والتمزق.

ألا فلنبقِ الخلافات الثانوية بحجمها الطبيعي، ولنتناولها في مكانها وزمانها بالطريقة اللائقة.

لنُعِد الاعتبار للقومية العربية، ولنحافظ على كرامة جميع أبناء الأمة، وعلى وحدة أهدافها ومصيرها أمام العدو المشترك.  ولنبقَ أمةً واحدةً تلتزم جميع مكوناتها بالدفاع عنها في وجه الغزاة والطغاة والطامعين وكل من تسول له نفسه التعاون مع القوى الخارجية.  ولنرتقِ بأمتنا إلى مكانها المستحَق بين الأمم.

 

 

شخصية تاريخية عربية: محمد بن عبد الكريم الخطابي (1882- 1963)

نسرين الصغير

ولد المناضل والقائد السياسي والعسكري محمد بن عبد الكريم الخطابي في ريف المغرب، وكان يلقب بأسطورة الريف، وتوفي في زمن مصر عبد الناصر من ستينيات القرن الماضي في القاهرة.

ينتمي الخطابي لعائلة معروفة، عُرفت عنها مكانتها العلمية والسياسية، وضمت رجالات شغلوا مناصب قيادية، خاصة في مجال القضاء، في منطقة الريف والأوسط الغربي.  وكان والد عبد الكريم قاضي قبيلة.  تنقل عبد الكريم بين مدن كثيرة لإكمال تحصيله العلمي، خاصة بين مليلة وتطوان وأغادير وجامعة القرويين بفاس، الى أن نال شهادة البكالوريا الإسبانية، وكانت مراحل تعليمه الأولية للتتلمذ في حفظ القرآن الكريم، وفي نهاية مرحلته العلمية قام الخطابي بدراسة القانون الإسباني.

شغل عبد الكريم الخطابي وظائف متعددة بالدولة وهي ما زالت تحت وصاية وحكم الإحتلال، إلى أن تم اعتقاله في العام 1915 واستمرت مدة سجنه أحد عشر شهرا. وبعد أن خرج، عاد لمزاولة مهنة القضاء.

مع زيادة التواجد العسكري الواضح للاحتلال الاسباني بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بادر عبد الكريم بنسج علاقات مع المناهضين والرافضين للوجود الإسباني بالمغرب العربي.  وبعد انتهاء الحرب العالمية وتوسيع القواعد العسكرية على سواحل المغرب العربي، بدأ الحراك الشعبي الريفي القبائلي الرافض والمناهض لهذا التوغل من قبل المحتل، وكان “الخطابي الأب” من أبرز هؤلاء زعماء ذلك الحراك الرافض لهذا التوغل.

في هذه المرحلة اتضحت الصورة للجميع، وبدأ اعلان العداء للاحتلال الاسباني، ثم بدأت مرحلة مقاومة الاحتلال ومحاربته بكافة الأشكال مرحلة المواجهة المباشرة معه، من أجل الخلاص من نير الاستعمار وإنجاز مشروع التحرير.

توفي الخطابي الأب عام 1920 بعد حصار شديد، ويرجح أنه قُتل مسموماً، فتولى عبد الكريم الإبن مهام قيادة القبيلة وتزعمها، وبدأ على إثرها مرحلة تعبئة القبائل ضد المحتل بكافة الوسائل وبمختلف الأماكن والنواحي والخِرَب.

وصل خطابه المقاوم وانتشر في الأسواق والمساجد، وذاع صيته بين عموم القبائل.    حمل الخطابي الإبن راية الجهاد من أجل وحدة المغرب وتحرير أراضيه،  فبدأ بالعمل العسكري المسلح، وكانت من أولى المجموعات التي أسسها مجموعة من مئتي شخص من قبيلته ضمت أخاه الذي كان يجند وينظم لإعداد الثورة الحقيقية بعد أن قام بإنشاء أكثر من 100 نقطة عسكرية للمراقبة.  ثم قام الخطابي بأهم عملية عسكرية تعد من أولى الهزائم التي تكبدها للعدو وأولى الهزائم العسكرية للإسبان في المغرب العربي، حيث قام بالقضاء على أكثر من نصف الحامية العسكرية الإسبانية.  واستمر جيش عبد الكريم بعدها بالنماء والتزايد، إلى أن وصل لما يقرب الألف مقاتل، وقام إثر ذلك بمعركة مشهورة، أطلق عليها اسم معركة الأنوال في سيدي بيبان (شمال غربي أنوال) والتي تعد نقطة تجمع مركزية للقوات الاسبانية، قُتل فيها أكثر من 300 جندي إسباني.

في عام 1921 بعد هزيمة الإسبان في الريف المغربي، قام الخطابي بإنشاء جمهورية الريف تحت الاسم الرسمي: الجمهورية الاتحادية لقبائل الريف، وكان الاحتلال الاسباني قد تركز بمدينة تطوان، وهنا راحت المملكة الإسبانية تحارب الخطابي وترسل قوات داعمة للجيش الإسباني في المغرب بهدف استعادة الريف من المغاربة العرب. هنا وفي عام 1926 لم يبقَ العداء فقط بين الخطابي والإسبان المحتلين فحسب، بل دارت المعركة بين طرفين: الطرف الأول يضم الأحرار من الخطابي والمقاتلين الذين ينتمون لعروبتهم ولمشروعهم، والطرف الثاني الذي  تكون من الإسبان والفرنسيين بقوتهم وبعض العرب المستسلمين الذين تحالفوا مع المحتل في وجه أبناء أمتهم مقابل المناصب وبعض النقود، وهنا تمكن الطرف الثاني بعدده وعدته من هزيمة المقاوم الخطابي، وقاموا بنفيه إلى إحدى جزر المحيط الهندي واسمها (ريونيون)، فقضى في منفاه واحداً وعشرين عاماً.

في شهر أيار من عام 1947 قامت فرنسا بإصدار حكم على الخطابي وأمرت بنقله إلى فرنسا عن طريق قناة السويس، وهنا لاذ الخطابي بالفرار لرفضه الأسر وإصراره على مشروعه الوحدوي وإيمانه بالعروبة المطلقة غير الراضخة للهيمنة للمحتل وقراراته. وفيما كان الخطابي يمر بقناة السويس طلب اللجوء السياسي في مصر، فحصل عليه.

قام عبد الكريم بنشر الفكر التحرري والدعوة لتحرير المغرب العربي من الاحتلال الإسباني والفرنسي، وكان يحاول أن يوصل صوته بكافة الوسائل، وبعد أن أصبح الحكم في مصر قومياً عربياً، ظل الخطابي ماضياً في مشروعه من القاهرة، وكان يوجه طلقاته للمحتل من مصر العروبة، وعبر راديو صوت العرب، وكافة الأشكال، إلى أن توفي فيها بتاريخ 6 شباط عام 1963، فدفنَ في مقبرة الشهداء في القاهرة.

كان الإخوان المسلمون يدّعون بأن الخطابي ينتمي لخطهم ونهجهم، إلا أن الحقيقة لم تكن هكذا.  فعبد الكريم الخطابي الذي احتضنته القاهرة وجمال عبد الناصر كان قومياً عربياً ذا مشروعٍ عروبي يطمح لمغرب عربي موحد خالٍ من الاحتلال والانتداب والوصاية الأجنبية.

كم نحن بحاجة اليوم لقادة قوميين عروبيين يؤمنون بما آمن به الخطابي والمختار وغيرهم، فالوطن العربي اليوم بجناحيه المشرقي والمغربي ما زال يعاني من التشرذم والاحتلال والتفكك والتبعية والانقسام وغياب المشروع النهضوي والوحدوي العربي. عبد الكريم انتفض عندما شعر بتوغل القواعد العسكرية في المغرب العربي، فماذا كان سيقول ويفعل لو شاهد بعض حكام أنظمة الأقطار العربية يدفعون أموالاً طائلة ويزودون المحتل بالوقود لضرب أخوتهم في فلسطين وسورية وليبيا؟!

أعمال غسان كنفاني الأدبية في السينما

طالب جميل

على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على استشهاده، إلا أن إبداعات غسان كنفاني في مجالات الرواية، القصة القصيرة، المسرحية، الفن التشكيلي، والمقال لا زالت ذات مستوى عال من الجمالية وتمتلك قيمة فنية مميزة وأعماله تحمل دائماً في طياتها معانٍ قيمَة مثل الوطن والثورة والحرية والشهادة.

وبما أن منتَج غسان كنفاني الروائي والقصصي يفتح الشهية دائماً لتحويله لأعمال سينمائية، فقد بدأت فكرة تحويل أعمال كنفاني الروائية والقصصية إلى أفلام سينمائية في بداية السبعينيات، حيث استهوت أعماله صانعي الأفلام ليس بسبب بنائها ووضوح شخصوها، لكن أيضاً بسبب الحبكة الموجودة في تلك الأعمال والتي تقترب من السيناريو الأدبي للسينما، فكان أول فيلم روائي طويل يتم إنجازه عن أدب غسان هو فيلم (السكين) في العام 1971 حيث أنتجته المؤسسة العامة للسينما السورية المقتبس عن رواية (ما تبقى لكم) وكان من إخراج المخرج السوري (خالد حماده)، وقام بأدواره الرئيسية الممثلة المصرية (سهير المرشدي) والممثلون السوريون (رفيق السبيعي، بسام لطفي، ناجي جبر).

كانت هنالك آراء متفاوتة حول الفيلم كونه لم يستطع الارتقاء إلى مستوى الرواية خاصة أن الرواية والفيلم يقومان على أحداث قليلة الشخصيات مما جعل المساحة أوسع للحوار حيناً، وللتأمل شبه الصامت أحياناً كثيرة، وعلى الرغم من عدم نجاحه شعبياً إلا أنه قدّم إضافة إلى المثقفين المعنيين بالبهجة والمتعة البصرية.

في العام 1972 قام المخرج المصري (توفيق صالح) بإخراج فيلم يمكن اعتباره مهماً بعنوان (المخدوعون) لصالح المؤسسة العامة للسينما في سورية وهو مأخوذ عن الرواية الشهيرة (رجال في الشمس) والتي تعد إلى حد كبير فتحاً كبيراً في الأدبين العربي والعالمي لنجاحها في تصوير معاناة الفلسطينيين بعد احتلال بلدهم من قبل الصهاينة وتهجيرهم القسري منها.

الفيلم من بطولة ممثلين سوريين (عبد الرحمن آل رشي، بسام لطفي، محمد خير حلواني، ثناء دبسي)، ووصِف بأنه رائعة كلاسيكية من روائع السينما العربية وواحد من أفضل درامات التشويق في السينما العربية، فقد حصل على العديد من الجوائز وأهمها التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج عام 1972 والجائزة الأولى لمنظمة السينما الكاثوليكية عام 1975.

أما رواية (عائد إلى حيفا) فتم إنتاج عملين عنها، الأول كان بتوقيع المخرج العراقي (قاسم حول) وكان هذا الفيلم من إنتاج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث كتب الحوار للفيلم باللهجة الفلسطينية (رشاد أبو شاور)، أما الموسيقى التصويرية للفيلم فكانت لـ (زياد الرحباني)، فيما أُسنِدت الأدوار الرئيسية في الفيلم للممثلين اللبنانيين (حنان الحاج علي، بول مطر) وقام بدور (خلدون/دوف) الممثل السوري جمال سليمان بالإضافة إلى الممثلة الألمانية (كريستين شور) التي أدت دور الحاضنة اليهودية.

على الرغم من أن هذا الفيلم هو الفيلم الروائي الفلسطيني الأول الذي ينجز بأموال فلسطينية إلا أنه لم يكن بالمستوى المطلوب نتيجة ضعف الإمكانيات، والتزام الفيلم حرفياً بنص الرواية.

أما العمل الثاني المأخوذ عن نفس الرواية فهو فيلم (المتبقي)، وهو فيلم إيراني – سوري تم إنتاجه عام 1995، وقام بإخراجه المخرج الإيراني (سيف الله داد) والبطولة كانت لمجموعة من الممثلين السوريين منهم (جمال سليمان، سلمى المصري، غسان مسعود، جيانا عيد) وغيرهم، وقد تم تصويره في مدينة اللاذقية كونها تشبه إلى حد كبير مدينة حيفا.

من الملاحظات الهامة على هذا الفيلم أنه صدر بنسخة ناطقة باللغة العربية وأخرى مدبلجة بالفارسية، وقد حاول المخرج من خلال هذا الفيلم الخروج عن الفكرة الرئيسية الواردة في الرواية من خلال إبراز قصة كفاح الفلسطينيين بشكل أقرب للوثائقي، إضافة إلى اتّباعه أسلوب المباشَرة بالطرح وإصراره على أن يبقى الطفل -الشخصية الرئيسية في الرواية- عربياً ولا يتهوّد عكس الرواية التي أصبح فيها الطفل صهيونياً وتأقلم مع ذلك عندما أصبح كبيراً.

عموماً تعتبر روايات (رجال في الشمس، ما تبقى لكم، عائد إلى حيفا) هي أكثر الروايات التي تمّ تحويلها إلى أفلام روائية طويلة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هنالك أفلام رواية قصيرة تناولت بعض أعمال غسان كنفاني الأدبية أبرزها بعض الأفلام العراقية مثل فيلم (زهرة البرقوق) مدته (22) دقيقة للمخرج العراقي ياسين البكري، وأنتجته مؤسسة السينما والمسرح في العراق في العام 1973، وفيلم (البرتقال الحزين) المأخوذ عن قصة أرض البرتقال الحزين، ومن إنتاج التلفزيون العراقي ومدته (20) دقيقة من إخراج العراقي كوركيس عواد، والفيلم الروائي القصير (كعك على الرصيف) للمخرج العراقي عماد بهجت ومدته (52) دقيقة.

كان غسان كنفاني ولم يزل من أكثر الأدباء العرب الذين تلقى أعمالهم رواجاً كبيراً في كافة الأقطار العربية ولا يزال هنالك حاجة لترجمة تلك الأعمال على شكل أفلام سينمائية وبتمويل وجهد عربي كونها تحمل دائماً فكر المقاومة والشهادة وحب الوطن، مع احتفاظنا بحقنا بأن يكون هنالك عمل ضخم يتناول سيرة وحياة وأعمال غسان كنفاني ويكون بحجم ما اعترف به ذات مرة قائلاً : (كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه عن غياب السلاح، وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون من أجل شيء أحترمه).

 

قصيدة العدد: أقول لها وقد طارت شعاعاً

 

*قطري بن الفجاءة

أقولُ لها وقد طارت شَعاعاً        من الأبطالِ ويحك لن تُراعي

فإنكِ لو سألتِ بقاء يومٍ              على الأجلِ الذي لكِ لم تُطاعي

فصبراً في مَجالِ الموتِ صبراً              فما نيلُ الخلودِ بمُستطاعِ

ولا ثوبُ البقاءِ بثوبِ عزٍ              فيُطوى عن أخي الخَنعِ اليُراع

سبيلُ الموتِ غايةُ كلِّ حيٍ             فداعيَهُ لأهلِ الأرضِ داعي

ومن لا يُعتبط يسأم ويهرم               وتُسلِمَهُ المَنونُ إلى انقطاعِ

وما للمرء خيرٌ في حياةٍ                إذا ما عُدّ من سَقطِ المتاعِ

قطري بن الفجاءة من كبار قيادات الأزارقة الخوارج ومن أشرس فرسانهم وهو يعتبر من شعراء العصر الأموي، وهو قطريّ بن الفُجَاءَة بن يزيد بن زياد المازني التميمي، (توفي 78 وقيل 79 هـ – 697 م) وكان مسرحه بين عمان والبحرين، وكان خطيباً بليغاً وشاعراً مفوهاً، وبقي يقاتل ثلاثة عشر عاماً، حتى نال منه الحجاج بن يوسف الثقفي.  والقصيدة الجميلة أعلاه من البحر الوافر في سبعة أبيات هي واحدة من اثنتين وعشرين قصيدة نُقلت عن قطري بن الفجاءة، ونقدمها كقصيدة العدد اعتزازاً منا بكل التراث العربي، وبجمالياته، دون إقصاء، على الرغم من تحفظنا الشديد على ممارسات الخوارج الذين كان مؤلف القصيدة أحد كبار رموزهم، لكن لو وضعنا ذلك جانباً فإنها تبقى قصيدة عن الشجاعة في القتال وشرف الموت من أجل قيمة عليا.


Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..