المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 تشرين أول 2014
– افتتاحية العدد: مناهضة التطبيع والمقاطعة من منظور قومي جذري
– تعريف مصطلحات: في مناهضة التطبيع والمقاطعة
– مقاطعة الكيان الصهيوني: بين الرومانسية السياسية والعقلانية/ أسامة الصحراوي
– خطان ونهجان في مناهضة التطبيع والمقاطعة/ د. إبراهيم علوش
– التطبيع بنوايا “حسنة”/ وسام عبدالله
– حوارات حول حملة “استحِ”/ نور شبيطة
– جبهة التحرير العربية/ صالح البدروشي
– شخصية تاريخية عربية: جمال عبد الناصر/ نسرين الصغير
– الزعيم جمال عبد الناصر في السينما المصرية/ طالب جميل
– قصيدة العدد: سأحمل روحي على راحتي/ عبد الرحيم محمود
– كاريكاتور العدد
طلقة تنوير 5
للمشاركة على الفيسبوك:
https://www.facebook.com/Qawmi
افتتاحية العدد: مناهضة التطبيع والمقاطعة من منظور قومي جذري
في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا العربية، في مرحلة الجزر والتراجعات الوطنية والقومية، وتفشي الفتن والحروب الأهلية والنزعات التفكيكية، تصبح مناهضة التطبيع والمقاطعة عنواناً رئيسياً في الصراع مع العدو الصهيوني والإمبريالية، فمقاومة التطبيع ليست موقفاً سياسياً فحسب، بل مفتاح نظام مناعة الجسد العربي المنهك، الذي لا يزال بخير نسبياً على المستوى الشعبي، بالرغم من بعض الاختراقات.
لو كنا في حالة التوازن الاستراتيجي مع معسكر الخصم ربما لا تصبح “الهُدن” عنواناً للتفريط والتنازلات، لكننا لا نزال شديدي البعد عن مثل تلك المرحلة، وحتى تأتي، لا بد أن نعيد التأكيد مع مقررات قمة الخرطوم بعد حرب الـ67: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف.
كذلك نستطيع أن نقفز بأذهاننا، بشيءٍ من المخيلة، فوق الواقع الراهن من حالة الدفاع بالمقاومة إلى حالة الهجوم بالمشروع القومي. عندها، وعندها فقط، وليس قبل ذلك، سنكون نحن من يمارس الاختراقات المختلفة بالعدو، وسنفعل ذلك بصفتنا مشروعاً قومياً جمعياً في حالة مد، لا بصفتنا أفراداً موهومين باختراق العدو في مرحلة الجزر والانكفاء والتقهقر. فإذا وصلنا مثل تلك المرحلة، لن تكون المقاومة عامة، ومقاومة التطبيع خاصة، العنوان الرئيسي الأهم آنذاك، بل حالة الهجوم المتصاعد… بيد أننا لا نزال شديدي البعد عن مثل تلك المرحلة، وحتى تأتي، لا بد من التقيد الصارم بالمقاطعة ومقاومة التطبيع عنواننا الرئيسي اليوم.
نتناول إذن في العدد الخامس من “طلقة تنوير” موضوع التطبيع ومناهضته، ومقاطعة العدو الصهيوني، في ضوء تعدد برامج وأجندات الجهات والقوى العاملة في هذا المجال، لنثبّت أن المفهوم القومي الجذري للصراع مع العدو الصهيوني والإمبريالية هو وحده القادر على تحويل مناهضة التطبيع والمقاطعة إلى مقاومة غير قابلة للصرف في بازارات الحلول التسووية، ولنثبتّ أن المفهوم القومي الجذري لمناهضة التطبيع والمقاطعة هو وحده القادر على ربط موضوعة مناهضة التطبيع بالمشروع النهضوي العربي.
تعريف مصطلحات: في مناهضة التطبيع والمقاطعة
التطبيع، باعتباره أي قول أو فعل يكسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني، يمثل من وجهة نظر العدو عملية اختراق متعددة الأوجه لجعل ما هو غير طبيعي (وجوده) طبيعياً بالنسبة لنا (الطرف الذي يدفع وجوده ثمناً لمثل ذلك التطبيع). ولأن مصطلح “الصهينة” يعني تحويل الاقتصاد والعقل والمجتمع العربي إلى بيئة حاضنة للهيمنة الصهيونية، يمكن اعتبار التطبيع والصهينة صِنوان.
بناءً عليه تعني مناهضة التطبيع رفع جدار العداء مع العدو الصهيوني وتحصينه، وهو ما يتضمن بالضرورة التصدي لحالات اختراق ذلك الجدار سواء في المصطلح أو الخطاب أو التجارة أو القانون أو الفكر أو الموقف السياسي أو غيره. بالمقياس نفسه معكوساً تعادل مناهضة التطبيع مناهضة الصهينة، لأن القبول بالتطبيع يشرع الأبواب أمام صهينة بلادنا، فيما تبقِي مناهضةُ التطبيع، بمقدار نجاحها، الكيانَ الصهيوني وأذرعَه في حالة اعتماد دائم على العدوان العسكري والاختراق الاستخباري للبقاء، أي في حالة دفاعية استراتيجياً. العكس صحيح أيضاً، فكلما ضعفت مناعتنا القومية في مناهضة التطبيع، يتخذ العدوان والاختراق الصهيوني أشكالاً “ناعمة” اقتصادية وسياسية وثقافية وفنية تفتك فينا كالسرطان بالضبط لأنها أقل دمويةً، ولو لم تكن أقل تدميراً، ليتحول الوجود الصهيوني عبرها إلى حالة هجومية استراتيجياً.
تمثل مناهضة التطبيع بهذا المعنى قيمةً اجتماعية-سياسية ضرورية في تاريخنا العربي المعاصر، وهي مفهومٌ نضاليٌ تم اشتقاق خصائصه الأساسية من كافة أشكال وشروط مناهضة التطبيع الملموسة في المجال الإعلامي والرياضي والاقتصادي والثقافي والتعليمي والسياسي وغيرها، من رفض رياضيين عرب منازلة الصهاينة في المباريات الدولية، من السعي لتثبيت “تجريم التطبيع” بنداً في الدستور التونسي، من الاحتجاج على شطب الدرس المتعلق بالشهيد الطيار فراس العجلوني في منهاج الصف الثالث الابتدائي في الأردن، من اعتصام “جك” المستمر منذ 31/5/2010 للمطالبة بإغلاق السفارة الصهيونية في الأردن وإعلان بطلان معاهدة وادي عربة، من رفض المواطنين العرب وغير العرب شراء المنتجات الصهيونية، من حملة “استحِ” وغيرها لمقاطعة المنتجات الصهيونية، من التأكيد على مبدأ رفض الصلح والتفاوض والاعتراف بالعدو الصهيوني، ومن التمسك بالمقاطعة من الدرجة الأولى والثانية والثالثة في سورية، أي من كل حالة صغيرة أو كبيرة يتم فيها تكريس مبدأ العداء للصهاينة ورفض التعامل معهم…
المقاطعة بهذا المعنى هي شكلٌ محددٌ من أشكال مناهضة التطبيع. فالمقاطعة من الدرجة الأولى هي مقاطعة المنتجات الصهيونية ورفض التعامل مع الكيان الصهيوني تجارياً واقتصادياً، والمقاطعة من الدرجة الثانية هي مقاطعة منتجات الشركات الداعمة للعدو الصهيوني، والمقاطعة من الدرجة الثالثة هي مقاطعة المنتجات القادمة من أو الذاهبة للكيان الصهيوني من طرف ثالث عبر أي دولة عربية. أشكال المقاطعة الثلاث فرضتها الجامعة العربية منذ أربعينيات القرن العشرين، وقد راحت تتهاوى بعد اتفاقية أوسلو، ولم يبقَ من يلتزم بها بشكل تام اليوم إلا سورية. وكانت مجموعة من الدول الخليجية قد اسقطت المقاطعة من الدرجتين الثانية والثالثة أواسط التسعينيات، وأسقطتها السعودية على مرحلتين عامي 2005 و2013، وأسقطت البحرين المقاطعة من الدرجة الاولى عام 2005، وحدث ولا حرج عن الدول العربية والإسلامية التي وقعت معاهدات مع العدو الصهيوني مثل تركيا (الأكثر تطبيعاً في المنطقة) ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية.
مقاطعة الكيان الصهيوني: بين الرومانسية السياسية والعقلانية
أسامة الصحراوي
تستعر بين الفينة والأخرى حملات التطبيع مع العدو الصهيوني بوجهها القبيح، وتطلّ من خلفها وجوه بعض الذين أشباه المثقفين ينفثون ما تجود به قرائحهم من سموم في عقول الشباب العربي تحت دعاوى شتّى من الواقعية والبراغماتية إلى الغائية والعقلانية ومشتقاتها. يبدأ الكلام همسا في غرف مغلقة، ليرتفع صداه على منابر من شمع، ثم يملأ الأرجاء وقاحة وتبجّحا أحيانا، واستهزاءا بالثّابتين العاضين على القناعات بالنواجذ أحيانا أخرى. حينها تنقلب المفاهيم وتتشوّه المصطلحات والمعاني ويتسلل التطبيع مستترا بين الكلمات والمفردات ليضرب لنفسه جذورا في بعض العقول الجوفاء. إذ تجتهد بعض مراكز الدّراسات و النخب، بقصد وبدونه، على تجريد كل معالم الصراع العربي-الصهيوني من أي انتماء ثقافي وحضاري بدعوى أن ذلك أول شروط الموضوعية في البحث العقلاني فتمحو أسّ الصراع وجوهره بأن تفصل الذات عن الموضوع فصلا لا يقبله عقل، ثم تقدم منطقا مستحدثا يتبرّأ من الانتماء، وينطلق من غياهب الفكرة المجرّدة لينتهي إلى واقع مزيف، زيف اتفاقيات السلام.
تُنتج كل أمة في مسار تكوينها الحضاري حدودا تمثّل حلاّ للصراع الجدلي بين وحدة الانتماء وتعدد الأفراد والجماعات، وما ثلبث تلك الحدود أن تصبح “تابوهات” taboo، وهنا لا تسعفني المفردات في الجمع بين “مقدّسات” و”محرّمات”، ومقاطعة العدو الصهيوني تحوّلت منذ احتلال فلسطين إلى “تابوهات” أو قل “محظورات” دونها خرط القتاد، وهي محظورات لا تستحضرها الامة بالإدراك أولاً إنما بعد كل تنبيه سواء كان استفزازا أم تجاوزا. إنه ضمير أمة لا تقبل المساومة، ترى بحسّها أن التطبيع مع العدو شهادة موت لها. لذا فالتنظير للتطبيع مع الكيان لا يستهدف تطويع الأمة فحسب، بل ضرْب مقوّماتها في البقاء أيضا، بتمزيق المِلاط الجامع للأمة وانتهاك “تابوهاتها” والتلاعب بعقلها الجمعي بإحداث رجّة في المسّلمات العربية بدعوى أن التطبيع شر لا بد منه.
حاولَ كثيرون تقديم التطبيع على أنَه النتيجة الحتمية المنطقية للصراع العربي-الصهيوني الذي أخذ مداه واستنفذ طاقته، وأن لا بديل عنه سوى مزيد من التراجع والانكسار، وأننا “ما لم نلتحق بالمفاوضات سنجد أنفسنا مطرودين إلى تمبكتو” كما قالها عصام السرطاوي ممثل منظمة التحرير في البرتغال قبل أسابيع من مقتله على يد جماعة أبو نضال التي اغتالته في مؤتمر للأممية الثانية كان يحضره شمعون بيريز أيضاً.
كان الصراع حينها بين عقلانية غريبة المنطلقات والنتائج ومبدئية ترفض المساومة والمهادنة. وكانت المبادئ حينها وستبقى عين العقلانية والمصلحة، وكان الركوع للتيار حينها وسيبقى ضربا من الجنون لا تُحمد عواقبه، وهي نتيجة أقرّ بها مهندس أوسلو وعرّابها محمود عباس حسب ما نقلته صحيفة “الأخبار” اللبناينة عن محضر لقاء جمعه بخالد مشعل وأمير قطر يقول فيه عبّاس: “المفاوضات فشلت. 20 سنة نفاوض على حدود 67 ولم نتقدم خطوة واحدة”.
وكان عباس قد ذكر في مذكرّاته في الصفحة 26، بعنوان طريق اوسلو: “توصلتُ إلى ضرورة العمل على الاتصال بالقوى الإسرائيلية لإجراء حوار معها للوصول إلى سلام”. توصل عباس إلى هذه النتيجة “الفذّة” بعد أن قام بدراسة الكيان من الداخل وأعمل عقلا “جبّاراً” لتصور سلام ما. ويقول عباس في الكتاب نفسه متحدثا عن كلمته في المجلس الوطني بتاريخ 12 آذار 1977 حول انتهاج المفاوضات بدل الكفاح المسلح: “وقفت بكل ثقة مرتجلا حديثا دام 45 دقيقة طارحا كل الأفكار التي رغبتُ في نقلها بأسلوب منظم، وقرأت في عيونهم وصمتهم المطبق ما يفيد بأنهم يستمعون لأول مرة إلى نوع من الكلام لم يسمعوه من قبل”، فخرجت توجيهات من أبي مازن، بموافقة وتوجيه من عرفات، إلى عدد من مكاتب المنظمة بالاتصال “باليهود دون الصهاينة”، وبجماعات “اليسار الإسرائيلي”، وكان تلك بداية مغالطات لم تنتهي أبدا. المهم أن المرتكزات التي أقاموا عليها حججهم كانت قراءة في تحليل “المجتمع” الصهيوني أوصلتهم إلى نتيجة أن تلك الكتلة تشقها تيّارات مختلفة ورؤى وتصورات قد “نلتقي معها”، أما التبرير الجاهز فكان كالعادة الواقعية السياسية في مقابل رومانسية حالمة تشق طريقها فوق سحاب من وهم.
تضاربت حينها الرؤى والتحليلات عن حسن نية أحيانا وفي أغلب الأحيان كان وراء الأكمة ما وراءها. المهم الآن أن الوقائع -لا التحليلات- هي سيدة الموقف، فقد كشف التجربة -لا التصوّر- أن واقعية “أي شيء” تتساوى في النهاية مع قبول استكانة لا شيء. إنها الحقائق العارية المستفزة أحيانا والصادمة أحيانا أخرى، فإن كان التعري بالنسبة للبشر كشفَ عورة فإنه بالنسبة للحقائق قمة الطهرانية. لكن ما لا يمكن إدراكه في الإبان يُترك للتاريخ دروسا وعبر. ولعل أبلغ درس في تحليل الكيان من الداخل الانتخابات “الإسرائيلية” بعد اغتيال رابين، حين ازداد الجمهور الصهيوني جنوحاً نحو التعصب والتطرف، تماماً بعد توقيع معاهدات السلام، ولا يزال يزداد تطرفاً وتعصباً منذ ذلك الوقت.
كانت دراسة تلك الانتخابات عملا شاقا ومؤلما وكانت نتائجها وأطوارها مأساة درامية، كان فيها العرب كالمستجير من الرمضاء بالنار. فقد تهافتت أجهزة استخبارات عربية وأجهزة أمن فلسطينية تحرّض عرب 48 على التصويت لصالح بيريز ضد نتنياهو، حيث قدّموا الأول في صورة ملاك السلام والثاني في صورة شيطان الحرب. لكن الحقائق العارية كان تقول غير ذلك فالخلاف بينهما كان حول تثبيت “نصر” وترسيخه وليس حول سلام الأوهام، واحد بـ”شرق أوسطية” تفتح الآفاق وآخر بـ”كامل أرض الميعاد” كمركز قاعدة في الشرق العربي. ولعل عملية “عناقيد الغضب” في لبنان مثال بسيط على مرونة بيريز وتصوره للسلام. كانت النتيجة صادمة لحمائم العرب الذين صرّح أحدهم في غمرة الحزن “لقد خسرنا المعركة” بعد فوز نتنياهو.
تستحق تلك الانتخابات الكثير من التمحيص والتدقيق لتعرية الحقائق وفهم الكيان من الداخل، فهذا “المجتمع” يقوم على العنف لا على ترف الحكمة ولو اكتسبها لفقد الحجة في بقائه، فهو مجتمع لا يعيش إلا بالأسطورة التوراتية وقوة الحقائق القاهرة على الأرض، لذا فإن انهيار أي من هاتين الرّكيزتين يعني فناء الكيان. كما أن كل دعاوى التنسيق مع “المعتدلين” من الصهاينة هو عين الرومانسية الوهمية، فكل الحقائق والتجارب تعلّمنا أن المنطق الوحيد الذي يفهمه العدو هو منطق القوة. وأن كل دعاوى التعايش السلمي والتطبيع تزيد في أمد الصراع وتمدّ في عمر الكيان الذي أعطاه قسم من العرب ذرائع البقاء دون أن يفهموا، وأعطاه الجزء الآخر وسائله دون أن يدركوا.
ثم إن البعض توهّم تحقيق ربح سياسي من خلال المفاوضات مع العدو حتى لو تصاحَب ذلك مع تكلّس وتحجّر شعبي، فمن الممكن تليين التحجّر، وتحريك الجمود وها هو أنور السّادتي (هذا هو لقب عائلته) يقدّم مثالا على ذلك، فهل يمكن أن تتم عملية التليين على جانبي الجبهة إذا توفّرت الإرادة السياسية؟؟ لكن هذا الوهم أيضا يرتطم مباشرة بعقابيل شتّى، أولها أن الإرادة السياسية في الكيان تدرك أن تليين الجبهة الداخلية يعني أيضا المَسْ بمرتكزات ومقومات البقاء. ثانيها أن لا وجود لداخل “إسرائيلي” فهو مؤسسة عسكرية يحكمها الضباط الذين يصعّدون تقارير العمل للجنرالات ويحركون الجنود على الأرض ما يجعل التصلب والتكّلس جوهر المؤسسة العسكرية والكيان الناتج عنها. ثالثها أن التليين يتناقض مع الدور الوظيفي للكيان كحاجز بشري غريب بين جناحي الوطن العربي. كل هذا يبين أن الطريقة الوحيدة للتعامل مع الكيان هي الكسر وليس التليين.
يبقى أن هذا تحليل وقراءة قد لا يقنعان الجميع مهما كانت متانة الحجة، ويبقى هذا الكلام صوتا يشق طريقا وسط الصراخ الذي يملأ الساحة. وإلى أن يعود السّهمُ إلى النَّزَعَة ويعود الأمر إلى من يستأهله سنبقى نذكّر بأن تغييب هذا الصوت قد كلّف الأمة ما كلّفها، وسنقدّم دائما الحقائق عارية أمام الجميع. وتقول تجربة المفاوضات مع الكيان أنها كانت حلقة مفرغة بشهادة منظّريها و أن الساسة الصهاينة لم يتنازلوا عن غلوائهم وأن ارتكاس الأنظمة عن الثوابت أدخلها في تذلل لا ينتهي قاد الوفد الأردني مثلا في مفاوضات سلامه مع الكيان إلى مناقشة مواضيع عبثية، كمقاومة الناموس والحمام الطائر في العقبة، وقاد الوفد الفلسطيني في مفاوضاته مع الكيان إلى إذلال لا تحصره كتب في مفاوضات المعابر وإعلان المبادئ وحتى أثناء التوقيع حيث كان البروتوكول يحرّم حتى المصافحة التي وقعت تزلّفا ومداراة أمام الكاميرا، أما الوفد المصري فقد نال نصيبه من الطيب بلغ حد الكلام النابي.
أما ثالثة الأثافي المنطقية فكانت الحديث عن عصر التفاهمات الكبرى وأن العالم يدلف ببطئ نحو نظام عالمي جديد قيد التّشكل يملأ الأرض حقا وعدلا بعد ظلم وجور صراعات لم تراعِ إلاّ ولا ذمة، لكن الفردوس الإنساني كان وهما في عقول مريضة. كثر هذا اللغط بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وخصوصا بعد العدوان على العراق عام 1991، فقد تسّربت أصوات المحلّلين ثم المسؤولين الصهاينة إلى الإذاعات ثم القنوات العربية. وتسابق الجميع: أنظمة ومنظّمات يحجزون أدوارا في نظام عالمي قيد التّشكل ويحجزون أماكن في طائرة لم تقلع أبدا. حينها كان منطقهم أن نهاية الكون ستكون النموذج الأمريكي الليبرالي، ففنّنوا يسوقون الحجج اجترارا وتكرارا بببغاوية صارخة. لكن المنطق والعقل كانا يقولان أن الأحادية لا يمكن أن تكون نظاما، ولا يمكن أن تحفظ التوازن العالمي تمهيد لحقبة جديدة من الصراع.
أوشك المثقفون الأمريكيون على شد أمريكا لليسار بعد الحرب العالمية الأولى، فأوجدت أمريكا طريقةً لاستيعابهم وتوجيههم في قنوات أخرى عبر مراكز بحوثها بتوجيه من مراكز النفوذ فيها، و نفس الوصفة أنتجت تلك الثقافة العربية العقلانية المبسترة، التي شوّهت كل المعاني الجميلة من حرية وعقلانية وواقعية. والواقع أنّ العقلانية التي نظّر لها الكثيرون من المثقفين العرب في الثمانينات وما بعدها كانت نتاج إعادة صياغة وتكوين أعدّت له مراكز الدراسات الأمريكية العديدة التي أعطت بعض المفكرين العرب إحساسا زائفا بالمشاركة في إعادة صياغة فكر عالمي جديد. والحقيقة أنهم كانوا قادرين على الإنتاج إلا أنهم أضاعوا المشية بين المشيتين فلا هم حافظوا على ثوابتهم ولا هم واكبوا المتغيرات. فحثّوا الخُطى نحو التطبيع كلّما زادوا منه اقترابا كلّما زادوا عنّا اغترابا.
خطان ونهجان في مناهضة التطبيع والمقاطعة
د. إبراهيم علوش
لأن المقاطعة الرسمية العربية للكيان الصهيوني، خاصة من الدرجتين الثانية والثالثة، قد سقطت، من الطبيعي أن ينتقل عبء الدعوة إليها وممارستها إلى المبادرات الشعبية العربية. ولا تمثل تلك المبادرات، مثل حملة “استحِ” أو حملة “قاوم… قاطع” أو غيرها، تجسيداً ملموساً لمناهضة التطبيع في مجال التعامل التجاري مع العدو الصهيوني فحسب، بل تمثل شكلاً من أشكال المقاومة الشعبية أيضاً، وذلك أن النظام الرسمي العربي، أغلبه، لم يتخلَ عن مهمة حماية الوطن من الاختراق الصهيوني فحسب، بل تحول إلى قناة رسمية لاستدخال التطبيع. بهذا المعنى يمكن اعتبار المقاومة الشعبية العربية للتطبيع مع العدو الصهيوني خط دفاع أخير دونه إبادة ثقافية قد تحولنا إلى “هنود حمر” القرن الواحد والعشرين.
لا بد من الإشارة لأمرين في هذا السياق: أولهما أن المقاطعة من الدرجة الثانية والثالثة ليست بنداً ثانوياً على أجندة مقاومة التطبيع لأن انهيارها يمهد عملياً لانهيار المقاطعة من الدرجة الأولى، وقد حاولت حكومة الولايات المتحدة بإلحاح، منذ رئاسة “صديقنا” جيمي كارتر، أن تكسر المقاطعة من الدرجة الثانية والثالثة، وجعلت من ذلك شرطاً لاتفاقيات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وللانضمام لمنظمة التجارة العالمية التي يحظر فيها على أي عضو أن يفرض معاملة تمييزية ضد أي عضو أخر مثل الكيان الصهيوني.
كثيراً ما يبدأ الاختراق التطبيعي، بكل ما تحمله كلمة “اختراق” من معنى، بمظهر “الخطوة التكتيكية” (من نمط الفهلوة السياسية العربية) التي لا تفسد للود قضية، ونسوق هنا مثالين: أولاً، برنامج النقاط العشر الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974، والذي نص على تأسيس سلطة وطنية فلسطينية مقاتلة على أي جزء يتم تحريره من فلسطين. هنا جاء الاختراق التطبيعي (التمهيد للاعتراف بالكيان الصهيوني من قبل منظمة التحرير الفلسطينية) بغلاف “صديق” طبعاً لتمرير نقطتين هما التحول من برنامج التحرير إلى برنامج تأسيس سلطة على أي جزء من فلسطين، والثانية هي ترسيخ نهج “المرحلية”، وبالتالي القبول بالتسوية السياسية بديلاً لمشروع التحرير.
هناك، ثانياً، مثال الاختراق الإعلامي الذي مارسته قناة “الجزيرة” في إدخالها الناطقين العسكريين والإعلاميين الصهاينة إلى كل بيت عربي في غلاف “صديق” أيضاً هو رفع السقف وإعطاء صوت للشارع العربي وللمعارضة إلخ… ليصبح ذلك من بعدها تقليداً إعلامياً شائعاً (وغير مشروع) في الكثير من وسائل الإعلام العربية. إذن، الاختراق التطبيعي نادراً ما يكشف عن وجهه بوضوح منذ البداية، ولذلك لا بد من التعرف على ملامحه واجتثاثه منذ اللحظة الأولى، ولمن يرغب بالاستزادة حول هذا الموضوع، الرجاء مراجعة كتاب “في التطبيع وقضاياه الخلافية” المنشور عن دار ورد في عمان عام 2014.
الأمر الثاني بالنسبة لحملات المقاطعة الشعبية العربية هو أن مناهضة التطبيع عامةً، والمقاطعة كشكل من أشكالها، بما تمثله من مقاومة تتمم المقاومة المسلحة التي تبقى رأس سنام كل أشكال المقاومة، هي شكلٌ دفاعي استراتيجياً. ومن البديهي أن المقاومة بكل أشكالها لا بد منها للحفاظ على بقائنا ولإعاقة تقدم العدو ومنعه من التمتع بالمكاسب التي يحققها على حسابنا كأمة، لكن المقاومة على أهميتها الوجودية ليست بديلاً عن قيام مشروع قومي ينقلنا من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، مشروع نهضوي وحدوي تحرري فيه وحده خلاص الأمة، وللمزيد حول هذه النقطة الرجاء مراجعة كتاب “من فكرنا القومي الجذري: نحو حركة شعبية عربية منظمة” من إصدارات “لائحة القومي العربي” عام 2014 (ص: 83-86).
لا يعني ذلك بالطبع أن ثمة سوراً صينياً عظيماً بين المقاومة والمشروع النهضوي العربي. مثلاً، مقاطعة المنتجات الصهيونية ومنتجات الشركات الداعمة للعدو الصهيوني أيسر بكثير في الدول التي تمتلك صناعة خفيفة ومتوسطة على الأقل، أما في الدول التي تستورد معظم حاجياتها الاستهلاكية من الخارج فإن قيام المواطن الفرد بفرض مقاطعة شاملة لها على نفسه سيكون أمراً شديد الصعوبة، ولذلك نرفع شعار “قاطع ما استطعت إلى المقاطعة بديلاً” بالطبع.. لأن ما لا يُدرَك كله لا يُترَك جُله، “فمن اضطر غيرَ باغِ ولا عادٍ فلا إثم عليه” كما تنص الآية الكريمة.
العبرة هي أن مناهضة الصهيونية في السياسة، إذا كنا جذريين حقاً، ستقودنا منطقياً لضرورة التخلص من التبعية الاقتصادية والسياسية للدول الإمبريالية، وللتصنيع، وبالتالي لضرورة السوق العربية المشتركة، وبالتالي لضرورة المشروع الوحدوي النهضوي العربي؛ والعكس صحيح، فالتصنيع بدأ في أوروبا الغربية نفسها، وفي “النمور الآسيوية” مثل كوريا الجنوبية، ببرنامج حمائي للصناعة الوطنية، وها هي الولايات المتحدة الأمريكية توغل في فرض العقوبات على روسيا وإيران لاستهداف صناعاتهما الوطنية، وللمزيد حول العلاقة العضوية بين التنمية والمشروع النهضوي العربي كمشروع سياسي مناهض للإمبريالية والصهيونية الرجاء مراجعة العدد الرابع من “طلقة تنوير”.
غير أن مثل تلك الصلة العميقة بين مناهضة التطبيع والصهيونية من جهة ومشروع النهوض القومي من جهة أخرى لا تنشأ بشكل عشوائي أو في كل الحالات، إذ لا بد من توفر شروط سياسية محددة في مناهضة التطبيع، وبالتالي في حملات مقاطعة الكيان الصهيوني وداعميه، لكي تكون مناهضة التطبيع خطأ دفاعياً مقاوِماً حقيقياً يمكن الاستناد إليه بجدارة مبدئية، ولكي تكون المقاومة نفسها، بكل أشكالها، مرحلة من مراحل الدفاع عن مصلحة الأمة تمهيداً للانطلاق للمشروع القومي الكبير، لا مشروع مساومة أو صفقة، فليست كل مناهضة للتطبيع أو كل مقاومة مشروعاً استراتيجياً.
ربما ينشأ عن هذه النقطة بالذات الكثير من الجدل والخلاف، لكن لا بد من وضع النقاط على الحروف لأننا كأمة وكقضية سبق أن عانينا الأمرين ممن ينيخون رأس مناهضة التطبيع والمقاومة لتحقيق أجندات تطبيعية في المحصلة، أو انتهازية بالحد الأدنى. يكمن الفرق الجوهري هنا بين من يتعاملون مع مناهضة التطبيع والمقاومة بكل أشكالها، حتى العسكرية منها، كتكتيك، ومن يتعاملون معها كاستراتيجية، أي بين من ينظرون لمناهضة التطبيع وللمقاومة من منظور براغماتي مصلحي عابر، ومن ينظرون إليهما من منظور مبدئي. الفرق بين المنظورين طبعاً أن المنظور المبدئي ينطلق من معيار مصلحة الأمة، أما المنظور البراغماتي فيتعامل مع مناهضة التطبيع أو المقاومة كأداة لتحقيق مصلحة شخص أو حزب أو نظام يريد أن يحسن شروط البيع والشراء، أو شروط علاقته مع الطرف الأمريكي-الصهيوني.
وقد يلتبس الفرق بين المنظورين في الواقع، خاصة إذا كان أصحاب المنظور البراغماتي يقدمون التضحيات ويتعرضون للهجمات الإعلامية أو غير الإعلامية من الطرف الأمريكي-الصهيوني، أو إذا كانوا أكثر تأثيراً في الميدان من أصحاب المنظور المبدئي المفتقدين للتنظيم والموارد كما هي الحال اليوم.
فلنأخذ أمثلة عملية: لا تزال المملكة العربية السعودية ترفض حتى الآن إسقاط المقاطعة من الدرجة الأولى ضد الكيان الصهيوني رسمياً، وتقوم “مبادرة السلام العربية” التي تبنتها الجامعة العربية عام 2002، التي تشكل المملكة مظلتها الأساسية، على مبدأ “التطبيع مقابل انسحاب صهيوني من أراضٍ محتلة عام 67”. للعلم، مبادرة الأمير فهد في بداية الثمانينيات، قبل أن يصبح ملكاً، التي ثبتتها الجامعة العربية رسمياً بعد العدوان الصهيوني على لبنان عام 1982 في “مقررات قمة فاس”، كانت تقوم على نفس مبدأ التطبيع العربي والإسلامي الشامل مقابل بعض التنازلات الصهيونية (مقررات قمة أنابوليس عام 2007) التي لا يزال الصهاينة يرفضون تقديمها لأنهم يريدون استسلاماً كاملاً غير مشروط.
شئنا أم أبينا ثمة مقاومة ما للتطبيع من الدرجة الأولى هنا، لكن تحت أي سقف؟ ومن أجل تحقيق أي برنامج سياسي؟ وهي “مقاومة” غير ثابتة طبعاً، بدلالة اختراق بندر بن سلطان لها وغيره للتنسيق مع العدو الصهيوني ضد سورية، لكنها موجودة حتى الآن ولا نستطيع إنكارها. فهل نقول هنا أن شيئاً من مقاومة التطبيع افضل من لا شيء؟ أم نقول أنها مقاومة غير مبدئية للتطبيع، تقود موضوعياً للتطبيع، وتنطلق من الاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود وبحدوده الآمنة، ومن السعي لإيجاد موطئ قدم بشروط أفضل قليلاً في الترتيبات الأمريكية-الصهيونية للمنطقة؟ وما الفرق الحقيقي والجوهري بين مثل هذا الموقف وبين الحركات والقوى التي تمارس مقاومة التطبيع، أو المقاومة المسلحة في بعض الأحيان، من أجل دويلة فلسطينية في حدود الـ67 تحت سقف “القرارات الدولية” التي تعترف بحق الكيان الصهيوني بالوجود وبالحدود الآمنة، وتعترف بالتالي بالترتيبات الأمريكية-الصهيونية للمنطقة سوى أنها تريد لنفسها مقعداً أو موقعاً بشروط أفضل قليلاً فيها؟
مثال آخر: حركة الـ”بي دي أس” في الغرب تنطلق في الدعوة لمقاطعة الكيان الصهيوني من منطلق: 1) اعتبار المقاطعة بديلاً سلمياً للعمل المسلح، 2) العمل لإزالة “العنصرية” من الكيان الصهيوني، 3) وصولاً إما “لدولتين لشعبين” أو “لإسرائيل لكافة مواطنيها”، 4) بالتعاون بين الغزاة “التقدميين” والنشطاء الفلسطينيين والدوليين.
مرة أخرى، ثمة جهود ملموسة لا يمكن إنكارها لمقاطعة الكيان الصهيوني في الغرب تديرها حركة “البي دي أس”، لكن تحت أي سقف؟ ومن أجل تحقيق أية برنامج سياسي؟؟
من الواضح أن برنامج حركة “البي دي أس” هو برنامج يقوم على: 1) الاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود، 2) الدعوة للتعايش السلمي بين الغزاة وأصحاب الأرض الأصليين، 3) التركيز على منتجات الاحتلال مثل العنصرية وتجاهل الأساس وهو حقيقة الاحتلال البشعة على كل أرض فلسطين، 4) تحييد مسألة هوية الأرض، المحور الرئيسي للصراع، وما إذا كانت عربية أم يهودية. عليه يمكن أن نقول بكل أريحية أن برنامج حركة “البي دي أس” هو بالمحصلة برنامج تطبيعي، لا بل أنه اختراق تطبيعي لحركة مناهضة التطبيع.
هل يعني ذلك أن حركة “البي دي أس” لا تسبب ألماً للكيان الصهيوني، كما تسبب مقاطعة السعودية (حتى الآن) للكيان الصهيوني ألماً له، وكما تسبب له ألماً بعض الفصائل المستعدة للتعايش مع الكيان لو قبل هو بتقديم بعض التنازلات؟
لا يمكن أن ننكر أن الكيان الصهيوني يعاني من أي مقاطعة أو مناهضة سياسية أو عسكرية له، وأنه يخوض صراعات لا تنتهي ضدها. لكننا كأمة محظوظين جداً أن الكيان الصهيوني تحكمه ثقافة استعلائية متغطرسة تتطلب الاستسلام غير المشروط من المحيط العربي والإسلامي كشرط من شروط وجوده، وهي ثقافة تعتبر أي تنازلات جوهرية بداية النهاية لكيان يرى نفسه قائماً على رهبة القوة.
من الطبيعي إذن أن ندعم أي مقاومة أو مقاطعة للعدو الصهيوني، مهما تضاءل حجمها، لكن دعم الفعل المقاوِم أو المقاطِع بالقطعة شيء، ودعم الأجندة البراغماتية الملغومة أحياناً لمن يمارس مثل ذلك الفعل شيء مختلفٌ تمامأً. فمن الطبيعي مثلاً أن نعتز بإنجازات الجيش المصري في حرب الـ73، لكن لا يجوز أن يقودنا ذلك لدعم الأجندة المخترقة لأنور السادات التي أوصلتنا لمعاهدة كامب ديفيد، ومن الطبيعي أن نفتخر بعمليات ومعارك المقاومة الفلسطينية المعاصرة ضد العدو الصهيوني، أما تصريف ذلك سياسياً على شكل دعمٍ وتبنٍ لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وخطها السياسي الذي أوصلنا لاتفاقية أوسلو فمسألة مختلفة تماماً، ويمكن بسهولة تطبيق المقياس نفسه على حركة “البي دي أس” أو على حركة “حماس” في غزة.
باختصار، الاستناد لمناهضة تطبيع ومقاطعة أو حتى مقاومة لا تتبنى برنامجاً التحرير والكفاح المسلح وعروبة كل فلسطين التاريخية يشبه الاستناد لحائطٍ مائل، وربما يستغلها الطرف الأمريكي-الصهيوني لإجهاض المناهضة والمقاومة الحقيقية، أو ربما يوظفها في الصراعات ما بين الأجنحة المختلفة لمعسكر العدو، حيث ترى بعض تلك الأجنحة أن التخلي عن بضع كيلومترات في الضفة الغربية لا يزال يتمسك بها اليمين الصهيوني بذرائع توراتية (يراها أساس مشروعية وجود الكيان) أقل أهمية بكثير من المصلحة الاستراتيجية في السيطرة الناعمة السياسية والاقتصادية والثقافية على عموم الوطن العربي، وهو تيار يمكن تحجيمه بشيء من المقاطعة “الصديقة”. وهنا قد يجد المندفعون خلف أصحاب برامج مناهضة التطبيع والمقاطعة غير المبدئية أنهم أصبحوا وقوداً لصفقة تتناقض تماماً مع أهدافهم ونواياهم الوطنية الصادقة إذا تغلب اتجاه الحمائم على اتجاه الصقور في معسكر خصومنا، والحمد لله أن صقور معسكر الأعداء لا يزالون يعصمون الكثير من حمائم مناهضة الصهيونية من الزلل.
التطبيع بنوايا “حسنة”
وسام عبدالله
في كل مرة ترِد كلمة تطبيع، يعود إلى ذاكرتي حوار صغير جرى أمامي. كنت أعمل في فلسطين في إحدى الصحف، وكان من بين زميلاتي سيدة فاضلة هي عطاف يوسف وهي معتقلة سابقة أفرجَ عنها بعد تسع سنوات من الاعتقال. وكانت أرملة لمناضل، تربي وحدها ولدين يبلغ أكبرهما العاشرة من العمر.
كانت العطلة الصيفية على الأبواب وعطاف لا تدري ما تفعل لولديها كي يقضيا العطلة الصيفية دون أن يكونا نهبا للفراغ أثناء غيابها في العمل. طرحت الأمر علينا علّ أحدا منا يعطيها حلا، فانبرت إحدى الزميلات لتقول لها أن بإمكانها إرسال أولادها إلى مخيم صيفي في حيفا، من تلك المخيمات التي تشرف عليها إحدى المؤسسات غير الحكومية في رام الله بالتعاون مع فرع آخر للمؤسسة في “تل أبيب”. ما أن أكملت الزميلة جملتها حتى انتفضت عطاف قائلة كأن شيطانا مسّها: “تريدين مني أن أرسل أولادي إلى مخيم صيفي يشارك فيه أطفال من الكيان الصهيوني”؟؟
ردّت الزميلة “لم لا؟ أنا أرسلت أولادي في الصيف الماضي، وعندما عادوا كانوا مسرورين جدا وقالوا لي أن الوضع طبيعي جدا”.
ردّت عطاف: “هذا هو بالضبط ما لا أريد لأولادي أن يشعروا به… أن الوضع طبيعي جدا… لا يا عزيزتي، أريدهم أن يكبروا وهم موقنون أن الوضع غير طبيعي، وأن الاحتلال هو وجود لعدو عليهم مقاتلته حتى التخلص منه، وتحرير آخر شبر من فلسطين”. وانهالت عطاف على زميلتنا الأخرى بكلام مطول عن التطبيع وغسل الدماغ الذي يتعرض له أولادنا في مثل تلك النشاطات، ظلّت زميلتنا تستمع صامتة دون أن تنبس ببنت شفة ثم انسحبت بهدوء.
لم يكن الحسّ الوطني ينقص الزميلة التي أرسلت أولادها إلى المخيم التطبيعي من قبلُ، والدليل على ذلك أنها لم ترسل أولادها إلى المخيم في ذلك العام ولا في الأعوام التي تلت. لكن ما كان ينقصها حتما هو الوعي بأن ما تفعله هو تطبيع مع العدو.
في حادث مشابه بررت أمٌ أخرى إرسال أولادها إلى المخيم بأنها تريد للأطفال “الإسرائيليين” أن يرَوا بأعينهم بأننا بشر مثلهم… ولسنا إرهابيين كما يحاول أهلهم إقناعهم، كما لو أنّ مشكلتنا مع العدو الصهيوني تنحصر في إقناعه بأننا لسنا إرهابيين.
ما ذكرته أعلاه هو نموذج مصغر للتطبيع بنوايا “حسنة”! وهو يأخذ أشكالا متعددة، فهناك من يقومون بزيارة الأراضي المحتلة تحت ادعاءات وذرائع مختلفة، كالتواصل مع أهلنا في الأراضي المحتلة، أو معرفة الوطن الذي كبروا بعيدا عنه، أو تحت مقولة أن هذه أرضنا ومن حقنا زيارة الأهل فيها بغض النظر عن ظروف الاحتلال، والبعض الآخر يريد زيارة المسجد الأقصى للصلاة فيه… وغيرها من الأعذار.
لكن المشكلة الحقيقية أن الأمر لا يقتصر على البسطاء من الناس، بل يتعداه إلى عدد كبير من مثقفينا من شعراء وأدباء ومثقفين يلبون الدعوات التي توجهها لهم السلطة الفلسطينية للمشاركة في نشاطات ثقافية مختلفة، أو تلك الحفاوة التي يقابل بها بعض مثقفينا ما يطلق عليه اسم “المؤرخين الجدد” دون أن يتوقفوا لحظة للتفكير في أن ما يطرحه أولئك المثقفين هو اعتراف بحق “إسرائيل” في الوجود ومنح الفلسطينيين قطعة صغيرة من الكعكة (فلسطين)، مع الحفاظ على الجزء الأكبر والأفضل من تلك الكعكة لصالح “إسرائيل”. وما زلنا نذكر الحفاوة الفائقة التي قوبل بها ميكو بيليد، نجل الجنرال ماتي بيليد، أحد كبار ضباط جيش الاحتلال الصهيوني، وكتابه «ابن الجنرال… رحلة إسرائيلي في فلسطين». ووصل الأمر إلى حد استضافته من قبل إحدى المؤسسات الثقافية في عمان والتي أجزم، بعد نقاشي مع أحد القائمين عليها، أنها لم تدرك البعد التطبيعي الحقير، لا في الكتاب ولا لدى كاتبه. ما سبق كله، نماذج للتطبيع تبدو لممارسيها أعمالا عادية جدا، أو حتى تدعم القضية الفلسطينية، رغم أن الواقع يشير إلى عكس ذلك تماما.
هؤلاء الصغار غير مسؤولين عن التطبيع الذي قاموا به، فالأهل هنا يتحملون كامل المسؤولية عما حدث ويحدث، إنّ عبارة “كان كل شي عادياً” عبارة مدمرة… تساوي ما بين المجرم الذي يحتل الأرض والفلسطيني الخاضع للاحتلال والقهر. كما أن الرغبة في تحسين صورتنا أمام هذا المجرم، تفتقر إلى حد كبير من الثقة بالنفس والإيمان بعدالة قضيتنا. لماذا علينا إقناع الآخر المغتصب بأننا بشر مثله لنا حقوق في حين لا يرانا هو كذلك؟ وما جدوى إقناعه بأننا غير إرهابيين ومسالمين إذا كان ذلك لن يغير شيئا من تصرفاته تجاهنا ولن يعيد لنا أرضنا السليبة؟؟؟
وإذا كان الصغار لا يتحملون مسؤولية ما وافق عليه أهلهم، فإن المثقف يتحمل المسؤولية كاملة عما يقوم به. والمقولة التي يستند إليها هؤلاء بأنهم يذهبون إلى مناطق السلطة الفلسطينية فقط تسقط تماما ما أن يلقوا نظرة على تصريح الزيارة الذي سيدخلون بموجبه إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة (وفلسطين كلها محتلة ولو كابر البعض منهم، فالسلطة لا سلطة لها)، فالتصريح صادر عن “جيش الدفاع الإسرائيلي” (الدفاع عن ماذا وضد من؟؟؟) ومن يسمح له بالدخول هو جندي “إسرائيلي”، حتى وإن كان من تسلم منه جواز السفر رجل “أمن” فلسطيني. فالسلطة لا تعدو أن تكون واجهة تقوم بعمل المراسل لدى السلطات الصهيونية. وكل من يقوم بزيارة للأراضي المحتلة لا بد وأن يدرك ذلك. وإذا كنا نغفر لبعض البسطاء انخداعهم، وظنّهم بأنّ ما يقومون به أمر لا يضر بالقضية، فإنه لا يمكن إعفاء المثقف الذي يزور الأراضي المحتلة من المسؤولية، ويمكن القول بصوتٍ عالٍ أنه شخص يمارس التطبيع شاء أم أبى. فالمثقف الحقيقي الأصيل ينبغي له أن يمثّل القيم الحقيقية للنضال. فهو من يحمل رايتها وصاحب الدور الريادي في الدفاع عنها، وعندما يسقط هذا المثقف في هوّة التطبيع يسقط ركن مهم من أركان حماية القضية والحفاظ عليها.
تكمن المشكلة في أن هذا النوع من التطبيع مخادع ويحتاج إلى وتيرة عالية من الوعي ليتجنب المرء الوقوع في حبائله. ويمكن لنا ببساطة تجنّب الوقوع في مثل هذا الخطأ الجسيم بالعودة إلى قاعدة بسيطة يجب أن تحكم كل تصرفاتنا تجاه العدو الصهيوني وهي أنّ “الحفاظ على حاجز العداء إزاء التواجد اليهودي على أرض فلسطين هو جوهر مقاومة التطبيع”، ويجب أن يظل هذا الحاجز قائماً ويجري تعزيزه باستمرار، كما يقول د. إبراهيم علوش في مقال بعنوان “متى تكون زيارة فلسطين تطبيعا مع العدو الصهيوني” ونشر على موقع الصوت العربي الحر (13/5/2013).
حوارات حول حملة “اِستحِ”
نور شبيطة
منذ انطلقت حملة “استحِ” لمقاطعة المنتجات الصهيونية قبل أقل من سنتين بقليل وحتى اللحظة، وأنا كعضو في الحملة أدخل في حوارات حولها مع الأصدقاء، وفي المجتمع، وكنت أتعامل مع الأسئلة الاستنكارية التي تنتهي بعلامة تعجب على أنها تنتهي بعلامة استفهام، وأجيب عنها ما وسعني، وإذا لم أستطع تقديم إجابة شافية كنت أبحث عنها، وفي هذا المقال سأستعرض بعض هذه الأسئلة، وما ينتج عنها من إجابات وأفكار.
* كم هذا الاسم مستفز، وصدامي، ألا ترى أنه كان من الأفضل كسب الناس لطرفنا بدلا من تنفيرهم بهكذا كلمة تنطوي على اتهام بقلة الحياء؟!
في الحقيقة لم نخسر الناس ولم نصادف أحدا يعتقد أن اسم الحملة مسيء من الجمهور العريض الذي التقيناه في الشارع، لأننا وإن كنا جعلنا اسم الحملة مباشرا، ويذهب للنهاية في الفكرة، فقد كان حديثنا مع الناس نقاشا عقلانيا غالبا، وأحيانا نتطرق للعاطفة أو حتى الدين، نتناول خلاله أضرار التطبيع لاسيما الاقتصادي منه. وهذا جنبنا أن يحمل اسم الحملة على محمل الفظاظة والوعظ، لأن الجمهور بطبيعته يدرك أن الكلمة موجهة ضد المطبعين، أو الهازئين بفكرة المقاطعة، وليس ضد الجمهور العريض، بل إنهم أدركوا بداهة أنها كلمة يطلب منهم أن يوجهوها للمطبع، لاسيما وأننا ومنذ الانطلاقة كنا نتوجه للتاجر المطبع مما قدم سياقا واضحا للاسم، ذلك عدا عن كونها لا تعتبر إساءة إذ إن الحياء خلق حميد، حتى أن قناة فضائية دينية اختطفت الاسم بعد أقل من شهر على انطلاق الحملة، لتعلن حملة وعظية بالاسم نفسه، وقد ابتعدنا عن “نظرية المؤامرة” وعزونا ذلك لكونه اسما موفقا حسب المقاييس الإعلامية، فهو يشد الانتباه ويعلق في الذاكرة، ويحمل إجمال الفكرة في أقل عدد من الحروف، أعني بإجمال الفكرة أن نشد على يد من يقاطع ونقول له: أنت على حق فلا داع لأن تخجل من كونك مقاطعا للبضائع الصهيونية، وأن نقول لمن لا يرى جدوى للمقاطعة: إن لم تقاطع بسبب اعتقادك بجدوى المقاطعة فافعل ذلك بدافع الحياء من دم الشهداء أو من قومك أو من عقلك أو من الله.
* نحن نعيش في ظل أنظمة مطبِعة، والأجدى هو توجيه الخطاب ضد الأنظمة، فألا ترون عبثية ما في هكذا حملات، إذ إن قرارا سياديا واحدا يفعل ما لا تستطيع فعله مئة حملة؟!
صحيح أن القرار السيادي يفعل ما لا تفعله الحملات الشعبية، وفي ظل غياب هكذا قرار، لابد أن تنوب عنه العاطفة القومية لدى الجمهور، ففي دولة عربية مقاطعة كسورية مثلا، سيكون من العبث إطلاق حملة كحملتنا في الشارع، لكن في دولة عربية كالأردن تصبح حملات المقاطعة الشعبية ضرورة موضوعية تفرض نفسها، فهي مسؤولة عن تحريك هذه العاطفة القومية، والشعور المسؤول لدى الأفراد والجماعات في المجتمع العربي الأردني، وهذا في الحقيقة أكثر رفضا للأنظمة المطبعة من مهاجمتها دون تبيان السبب، فهذا يعفينا من الدخول في مغالطة الشخصنة ويبقى الضوء مسلطا على القضية المركزية، التي تحرج الأنظمة الوظيفية وتضربها في مبرر وجودها الوظيفي، دون أن نقع في مطب “الربيع العربي” الذي أحل الفرع محل الأصل، وانساق لخطاب ليبرالي أو إسلاموي وفقد بوصلته حتى بلغ به إلى التحالف مع القوى الإمبريالية الداعمة للصهيونية، وحتى مع الصهيونية ذاتها، فهذه الحملة وشبيهاتها تؤسس لوعي مقاوم حقيقي، وتشير للتناقض الجذري مع الأنظمة المطبعة، وتصوب بوصلة المجتمع التي شوش عليها الإعلام، باتجاه أن نتوحد ضد عدونا لا أن نتقاتل فيما بيننا لصالح الأعداء.
* حملات المقاطعة تقدم تنفيسا للغضب الشعبي وتمنع تحوله لصورة عنفية فاعلة ضد المحتل، أليس هذا ما تفعله الحملة فتقدم للناس شعورا بأنهم قاموا بواجبهم؟!
بالفعل إن بعض الحملات تقدم المقاطعة كبديل للكفاح المسلح، ولهذا حرصنا ومنذ اللحظة الأولى على التوكيد وإعادة التوكيد على أن حملة “اِستحِ” ترى المقاطعة على أنها فعل ظهير ومكمل للمقاومة المسلحة وليست بديلا عنها، وهذا في الحقيقة واضح في اسم الحملة، فرد المقاطعة للحياء ورفض المشاركة في مهزلة التطبيع، يضعها في مقام أدنى من العمل المسلح الذي يدخل في المقاومة، وكلاهما في نظري شخصيا أدنى مقاما من امتلاك مشروع عربي حي، ينتقل من المقاومة والدفاع إلى الهجوم. وهذا في الحقيقة لم يأت عفو الخاطر، فنحن نراقب ما يسمى بالمقاومة الشعبية السلمية، التي تنطوي على تطبيع من أخطر الأنواع، والحملات المنطلقة من الغرب لمقاطعة ما يسمونه “إسرائيل” بسبب سلوكها العنصري فحسب، بحيث لو تغير سلوكها لصارت مقبولة، ناسين أو متناسين أن الكيان الصهيوني كله حدث عنصري وكله وجود ظالم وغريب، وهذا ما أكدنا عليه بالدعوة لمقاطعة الصهاينة كلهم لا منتجات المغتصبات الصهيونية فحسب كما تفعل حملة “بي دي اس”، وهذا ما التقطه الإعلام الصهيوني وأشار له بصراحة بعد أن لاحظ أننا ندعو لمقاطعة المنتجات التي تنتج في الأردن برأس مال صهيوني.
* هذه نشاطات رائعة، لماذا لا يُعلن عنها كما يجب؟ لماذا هذا الغياب عن الإعلام؟!
انطلقت حملة “استحِ” في الأصل من اللجنة الإعلامية في جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية، وفي صفوفنا عدد من الناشطين الذين لهم خلفية إعلامية من كتاب أو صناع أفلام ومصممي غرافيك، وبذلك فهي لم تغفل الجانب الإعلامي أبداً، فكل نشاط قامت به الحملة كان يسبقه ويليه ويتزامن معه جهد إعلامي نوعي، من إنتاج المواد التحضيرية كالملصقات أو المنشورات مثلا، إلى إصدار مادة سمعية بصرية (ڤيديو) ذات جودة عالية ونشرها على الشبكة، مرورا بالتصوير وتحرير خبر صحفي وإرساله لكل الجهات الإعلامية عبر البريد الإلكتروني، فلا يمكن القول أننا مقصرون أو نتعمد الغياب عن الإعلام.، إنما كثيراً ما يتعمد الإعلام الغياب عنا. كذلك لا يتاح دائما تبليغ الصحافة بالنشاط قبل انتهائه حتى لا يحتاط التجار المطبعون أو أصحاب الشركات، وهذا شيء معدوم الأثر في مقابل الجهد المبذول إعلاميا، بيد أن الإعلام الأردني لم يبرح كونه أداة في يد السلطة أو بعض الحركات السياسية، وهو بذلك يتعامل بموسمية مع تغطية النشاطات، ولا يغفل المراقب عن ملاحظة هذه الموسمية المتعلقة بالظرف السياسي، فكما يُغيّب اعتصام “جك” الأسبوعي عن الإعلام، فليس عجيبا تغييب ذكر بعض النشاطات للحملة أو لغيرها من النشاطات المناهضة للتطبيع، فالصحافة التي تترجم يوميا عددا كبيرا من المقالات في الصحف العبرية بحجة “اعرف عدوّك” تضيق بنشر أخبار الحملة، وعندما تتصدى قناة فضائية لعمل تقرير عن الحملة فإنها تفاجؤنا باستضافة إحدى الجهات السياسية بُعيد التقرير في تجيير واضح لجهد الشباب القائم على الحملة، لكننا نصل للناس بشتى الطرق وأهمها النزول المباشر للشارع، والإعلام المجتمعي الذي يشكل متنفسا جيدا لنا.
* نشاطاتكم موسمية وليست دائمة، وتحتكرونها فلا يشارك بها أحد جديد، لماذا هذا الإقصاء؟!
أغلب نشاطات “استحِ” سبق وأن أعلن عنها قبل حدوثها، ولم يتم استبعاد أي مشارك من أي جهة كانت، وقد كانت بعض نشاطات “استحِ” منسقة مع قوى أخرى، منها اعتصام وزارة الزراعة الأردنية في 17/4/2013، فنحن نؤمن أن العداء مع الصهاينة يوحدنا جميعا، وهذا موثق ويمكن الاطلاع عليه ببحث بسيط على محركات البحث، أما عن الموسمية فإن الحملة منذ انطلاقها تعمل حسب أولويات وإحداثيات فتستغل التوقيت الأصلح للتحرك باتجاه ما (الزراعة/ السياحة/ المنسوجات/ الجمهور … إلخ)، وهذا مستمر ودائم وغير متعلق بالظرف السياسي، وإن كان متأثرا به من باب حسن التدبير، لكن وكما أسلفت في الجواب عن “السؤال” السابق، الأجهزة الإعلامية هي التي تتعامل مع تغطية نشاطات “استحِ” بموسمية، لغاية في نفس “جيكوب”، ونحن نعمل على تجاوز ذلك، ونسعى لإقامة اتصال مباشر مع الجمهور. كذلك فطالما وصلتنا معلومات من الأهالي لفضح نشاطات تطبيعية من حين لآخر، ونحن بالنهاية حملة شعبية ميدانية وإن كانت لا تستنكف عن الظهور في المنابر الإعلامية عندما يتاح لها ذلك.
لمتابعة نشاطات الحملة، تابعوا صفحة (جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية) على فيسبوك، فهي الصفحة الرسمية للحملة، وليس للحملة صفحات خاصة، والصفحات التي استغلت اسم “استحِ” على فيسبوك لا تمثل الحملة، وإن كنا لا نحاربها وعلى استعداد للتعاون معها لأننا نسعد بأي نشاط مناهض للصهيونية والتطبيع.
جبهة التحرير العربية
صالح البدروشي
عندما نقول أن الأمة العربية، كما الشعوب الأفريقية وبعض الآسيوية، تعيش في عصر ليس بعصرها، فإن ذلك يعني أنها تعيش في عصرٍ لا تمتلك شيئاً من ناصية أدواته الحضارية والعلمية والصناعية ومختلف تقنياته الإعلامية والمعلوماتية والمنظوماتية والدفاعية على الرغم من أنها تستهلك من كل ذلك. هذا يعني ببساطة أن التقدّم العلمي والصناعي لبقية العالم جعل الهوّة بينه وبين الأمة العربية تُقاس بعشرات السنين. وبعض الدول التي استفاقت وأرادت التدارك تكاتفت فيما بينها لتسرع خطواتها ومعدّلات نموّها، مثل البرازيل والهند وجنوب افريقيا … هذا الفارق الكبير بينهم وبيننا، والذي نسمّيه تخلّفاً، يستوجب منّا الوعي بأنه لا وقت لدينا نضيّعه في الخلافات والصراعات الداخلية التي لا تنتهي والتي تستنزفنا وتُلهينا عن مسيرة التدارك واللحاق بركب التقدّم العلمي والحضاري.
في هذا السياق تجدر الملاحظة بأن اللعبة الحزبية على شاكلة الديمقراطية الغربية هي ترف ومضيعة للوقت والجهد لأنّ المجتمعات الغربية استكملت خطوات كبيرة في مسيرة البناء العلمي والصناعي والمؤسساتي مستغلّة الرفاه الذي وفّرته من نهبها لخيرات الشعوب الاخرى في المستعمرات حيث صدّرت الديكتاتورية والظلم وسرقت الموارد والخيرات. ولعل خير دليل على كذب هذه الدول الديمقراطية “العريقة” هو أنها كانت لا تدعم إلّا الأنظمة الدكتاتورية التي لا تحمل مشروعاً وطنياً مثل نظام آل سعود وأنظمة الخليج والنظام الملكي في المغرب والأردن وليبيا والنظام الاستبدادي في تونس، وما يربط هذه الأنظمة هو الاستبداد والعمالة للاستعمار وغياب المشروع النهضوي الوطني ولو كان الغرب يؤمن بقيم الحرية والديمقراطية لدافع عنها في هذه الدول، لأن المبادئ لا تتجزّأ.
كما تجدر الملاحظة بأن بعض الانظمة الوطنية التي برزت إثر معارك التحرير من الاستعمار سارت بهذا الاتجاه بشكل يكاد يكون فطرياً، حيث أنها، حتى وإنْ لم تحسن إدارة هذا الملف، تنبّهت إلى عدم جدوى اللعبة الحزبية على شاكلة الديمقراطية الغربية وخاصة في ظروف التخلّف الشديد وانتشار الأمية في وطننا إثر الحقبة الاستعمارية. فالبعض عملَ على ما سُمّي بـ”تأميم الصراع الداخلي” حيث الجميع يشارك في عملية البناء من أجل البلد ككلّ وراية البلد، وليس من أجل الأحزاب، ورايات الأحزاب، والبعض الآخر سار باتجاه العمل الجبهوي وضمّ الأحزاب على أسس تقدّمية محاولا تركيز الجهود على عملية البناء والتنمية والتحرير ومحاولة إلغاء الصراع الداخلي. ودون الخوض في تقييم أوجه النجاح والفشل في التجارب السابقة، فإنّ ما يعنينا هنا هو التوجّه الطبيعي نحو عدم تشتت الجهود حين تكون الهوّة التي نريد اجتيازها كبيرة جدّا، أو عندما يكون الخطر الذي يداهمنا ونريد مواجهته خطرا كبيرا يستوجب توفير كلّ الجهود وتوجيهها بنفس الاتّجاه، وتأجيل الصراعات الداخلية فيما عدا الصراع حول الموقف الجذري من الاحتلال، وهذا ما شهدناه بوضوح في مثالين رائعين، المثال الاوّل كان عندما وقع احتلال فيتنام وتقسيمها فثار الجميع في حركة واحدة هي حركة تحرير فيتنام التي استطاعت ان ترفض كلّ عروض التفاوض المنقوص وانتصرت على فرنسا ثمّ على الولايات المتحدة الأمريكية وحررت ووحدت فيتنام بقوّة السلاح. والمثال الثاني هو شعبنا العربي في الجزائر لمّا ثار لتحرير الجزائر إذ تشكّل في حركة واحدة هي جبهة التحرير الجزائرية التي نجحت في إرغام المستعمر الفرنسي على الرحيل بقوّة السلاح أيضا.
ولو أن الاستعمار لجأ مبكّرا لسلاح “الربيع العربي” والثورات الملوّنة وعمل على تقسيم وتفتيت التنظيمات والحركات من الداخل، ربما يكون قد تمكّن من تأخير تحرير فيتنام والجزائر إلى الآن، كما حصل مع حركة تحرير فلسطين التي تمّ اختراقها … فحين تنظر إلى حركات التحرير الفلسطينية التي تحمل عناوين المقاومة الفلسطينية وتتمعّن في علاقاتها فيما بينها تبدو وكأنها لا تمتلك هدفاً جغرافياً واحداً تسعى إلى تحريره كأنها واحدة لتحرير الفلبين والأخرى حركة تحرير اوغندا والثالثة لتحرير افغانستان و… فهذه فتح وهذه حماس وهذا الجهاد الاسلامي وهذه الجبهة الشعبية والقيادة العامة وفتح الانتفاضة والجبهة الديمقراطية ومختلف باقي المجموعات ووو… إنّ معركة التحرير تتطلّب، بل تفرض وتحتّم وحدة التنظيم، العسكري بالأخصّ، وبما أن قضية التحرير تسمو فوق كلّ القضايا فإن أي فريق يتمسّك برايته الحزبية ولا يقبل أن ينصهرَ في جبهة واحدة موحّدة للتحرير لا يمكن ان يكون إلّا معاونا للمشروع الصهيوني بإضعافه لقدرات التحرير، ولا يختلف كثيرا من حيث النتيجة عن المنخرطين في المشروع التسووي الاستسلامي. إنّ تحرير فلسطين لا يحتمل أكثر من تنظيم عسكري واحد، ومن يقول غير ذلك لا يعتبر أن التحرير هو الأولوية القصوى ولكن لونه الحزبي والسياسي هو الأهمّ أو تلبية طموحاته الزعامتية أو المصلحية الضيّقة فليست فلسطين بالنسبة لهم أكثر من مجرّد شعار. وقد نلمس بعضاً من ذلك عندما نجد فصائل تحمل عنوان المقاومة وتعقد صفقات هدنة مع العدوّ بعشرات السنين …
إنّ تعدد الأحزاب والحركات في حالة التخلّف الشديد أو الاحتلال يؤثّر في توزيع الجهد النضالي، فالتعدد والتنوع هما من مقومات التقدّم والإبداع في التجربة الإنسانية ككل، لكنهما في حالة الأحزاب العربية وحركات التحرير تشتتٌ وتشرذمٌ أقرب لمقوّمات التعطيل بسبب الصراع بين الأطر ناهيك عمّا تستنزفه هذه التنظيمات المتعدّدة من إمكانيات. وما نفور الجماهير من العمل الحزبي والتنظيمي إلّا نتيجة للظواهر السلبية لتجربة الأحزاب العربية، حيث لا تنتهي الصراعات ولا يلمس المواطن أي تقدّم باتجاه حلّ مشاكل الوحدة والتحرير وإزالة التخلّف.
إن عمق وخطورة الآثار السلبية للتشظّي تتأكّد بما نشهده اليوم على صعيد التنظيمات السياسية “القومية” في الوطن العربي والتي تحمل نفس العنوان المكرّر عدة مرّات في القطر الواحد مثل عشرات الفصائل البعثية المختلفة في الوطن العربي، وأكثر من عشرة أحزاب ناصرية في مصر وحدها، وعدد أحزاب لبنان القومية الأكثر من عدد أسماء قراه ومدنه، وكذلك الأمر بالنسبة للتنظيمات والفصائل المسلّحة التي تسمّي نفسها حركات تحرير وهي متعدّدة في ليبيا وكذلك بالعراق ناهيك عن حركات تحرير فلسطين كما أسلفنا. وفي الحقيقة هذا التشظّي وليس التعدّد هو السبب في الوهن الذي يعتري حركة النضال القومي.
ومن بين الأسباب الكامنة وراء هذا التشتت وهذه “التعددية” نجد ما هو خارجي مثل محاولات العدو التي لم تتوقّف في اختراق التنظيمات المقاوِمة من الداخل لتشجيع تصدّعها وانقسامها، ومنها ما هو داخلي كالأمراض التي تنخر معظم التنظيمات القومية والتي لا تنسجم بتاتا مع هدف التحرير الذي يتطلّب حتما من مُتَبنِّيه أن يكونوا على قلب رجل واحد أي في جبهة متماسكة تُحَيّد فيها كل الصراعات والتناقضات و تؤجل لما بعد التحرير وليس في شكل تجمّع مربّعات وكتل متصارعة تؤدي كل حين وآخر إلى انقسامات لا تنتهي وتشكّل مصدر قوّة لأعدائنا.
لماذا جبهة؟
بناءً على ما تقدّم فإن الأمّة العربية بحاجة إلى “جبهة للتحرير”، والعمل الجبهوي بالنسبة لقضية التحرير يختلف عن العمل الجبهوي العادي باعتبار أن هدف حرية واستقلال الوطن مقدّس وأسمى من كل الأهداف، لأنه يحقّق كسر جميع القيود التي تكبّلنا وتشكّل حاجزا يحول بيننا وبين كلّ ما نتوق إليه من أهداف وطنية، ولذلك، تصبح مهمّة التحرير واجبا ملحّا ذا أولوية لدى كلّ حركة تريد لنفسها أن تكون وطنية. وأهمّ انعكاسات هذه الخاصية لجبهة التحرير هو أنها جبهة تؤجّل فيها كلّ نقاط الاختلاف، حيث يبقى الاستقلال وتحرير الوطن هو الثابت الوحيد، وبالتالي لا ينطبق عليها قانون الوحدة والصراع اي يجب أن يخفّض فيها الصراع إلى أدنى مستوياته خاصة وأن أداة التحرير الرئيسية هي عسكرية وهذه لا تحتمل أن تكون أداة مقسّمة بل واحدة وليست موحّدة، “أداة عسكرية واحدة” خاصة وان مهمّة تحرير وطن بأكمله من الاستعمار العالمي تستوجب منّا مجهودا خاصّا جدّا ونوعيّا يجب أن نحشد فيه كلّ القوى الوطنية بدون استثناء.
لقد نشأت المقاومة العربية كنتيجة للعدوان المسلط على أمتنا وحالة الذّل والهوان التي تعتري معظم الموقف العربي الرسمي. وسلاح المقاومة على أهميته البالغة، هو أداة من لا يمتلك سلاحا استراتيجيا قادرا على صدّ أي عدوان خارجي. وحركات المقاومة جاءت لتغطية الفراغ وشيء من العجز وتواطؤ الآليات العربية الرسمية. من جانب آخر، يتحدث كثيرون منّا عن دعم المقاومة وهنا يمكن لنا أن نتساءل: ماذا نمثّل نحن الذين نريد دعم المقاومة ؟ هل نحن أفراد.. جماعات… أم جماعة واحدة ؟ … وماذا نمتلك؟ ثمّ بدل أن نريد دعم المقاومة، لماذا لا ننخرط في المقاومة؟ ولأن المقاومة هي ردّة فعل، هل يمكننا الانتقال من دائرة ردّة الفعل إلى الفعل؟ وهل هو متاح العمل بالتوازي مع خلق وسائل أنجع من المقاومة (على أهمية المقاومة)؟
فالمقاومة تعمل على تحقيق جزء من هدف التحرير فهي تعمل على إيقاف المستعمر والتصدي له وإشغاله كي لا يتقدم، فهل من الممكن العمل بالتوازي على إيجاد آلية أنجع تعمل باتجاه معركة التحرير، مع مواصلة معارك النضال اليومي الآني كدعم المقاومات العربية والفلسطينية أو مقاومة التطبيع مثلا أو المقاطعة أو غيرها من النشاطات التي يجب أن نقوم بها؟
وبناء على كل ما تقدم ثمة سؤال ملح ينبغي لنا كقوميين العرب الإجابة عليه وهو:
ما العمل؟ ما الحل؟ هناك فرق بين العمل العفوي والعشوائي المزَيّن بحسن النوايا وبين العمل الواعي الجماعي المنظّم. وغياب حراك شعبي منظّم في إطار واحد يبقى الحلقة المفقودة في حياتنا العربية الراهنة، مع كامل الاحترام للانفجارات العفوية أو المفتعلة في الشارع العربي والمشاعر الصادقة.
أما آن لنا وللجميع أن ننتقل من حالة المقاومة إلى مرحلة التحرير لنعلن جبهة التحرير العربية وحرب التحرير طويلة الأمد، التي مهما كانت تكتيكاتها تكون لها استراتيجية واضحة للتحرير بالكفاح المسلّح ويدعمه الكفاح السياسي دون أي تفريط.
لقد طالت فترة حالة المقاومة وأصبحت حالة استقرّ فيها البعض إن لم نقل الجميع لتتحوّل إلى عنوان ومحطّة يقضي كلّ واحد فيها شؤونه السياسية أو مطامح شخصية ويحقّق البعض من خلالها ذاته كتوجّه وككيان معادي للاستعمار والصهيونية وكفى بالله شهيدا …
كما يجب أن نتنبّه إلى أن تهويل شعار المقاومة قد غَيّبَ أو هو حَجَبَ شعار التحرير وأصبحت المقاومة بلا هدف ملموس حتى أصبحنا إذا بادر العدو بمهاجمتنا ولم يحقّق سوى عشرة بالمائة من أهدافه أو أقلّ نحتفل بالانتصار عليه… ولا نأبه لفشلنا في التقدّم نحو مشروع التحرير لكي نعالج أسباب هذا العجز ونتداركها.
عندما نقول أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة العربية فإننا نعني من ضمن ما نعنيه أنه من واجب الجميع المساهمة في تحرير فلسطين، غير أنني أرى بُعدا آخر غير المتعارف عليه، وهو أن الخبرة الميدانية التي يمكن لجيش التحرير الفلسطيني أن يراكمها وهو متوحّد، تجعله قادرا على قيادة قاطرة تحرير باقي الوطن العربي تماما كما هو حال الجيش العربي السوري الآن ولكن الشباب الفلسطيني والعربي المقاتل في فلسطين وقعت تهرئته عن طريق “غصن الزيتون” العرفاتي من ناحية، والتفتيت والانشقاق الحمساوي والشعباوي والجهادي والديمقراطي من ناحية اخرى.
إن أمتنا العربية اليوم تقف على مفترق طرق ونحن اليوم في مفصل تاريخي خاصة بعد المعركة التي تخوضها سورية قلب العروبة النابض بالنيابة عن الأمة العربية والتي بعثت فينا الأمل من خلال صمودها الذي يؤهلها باعتقادي أن تكون رأس قاطرة ربيع عربي حقيقي كما نريده. مرّة أخرى أسأل وأناشد هل سنتمكّن من استثمار صمود وانتصار سورية لإعادة صياغة وانطلاق المشروع القومي العربي الواحد ؟؟؟ فإما أن يرتقي وعي القوميين الى حجم المعركة التي تخوضها الأمة، وإما أن نهدر هذه الفرصة التاريخية التي أتيحت لنا وهي “صمود سورية”، وعندها سيلعننا التاريخ والوطن والأجيال اللاحقة.
شخصية تاريخية عربية: جمال عبد الناصر
نسرين الصغير
ولد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في الخامس عشر من كانون الثاني عام 1915 وتوفي في الثامن والعشرين من أيلول عام 1970. ينتمي ناصر لعائلة بسيطة من ريف الصعيد. درس العسكرية إلى أن وصل لرتبة بكباشي في الجيش العربي المصري، وفي عام احتلال فلسطين (1948) كان الضابط جمال أحد عناصر الكتيبة التي قاتلت في فلسطين، وكان تحديداً من المجموعة التي تمت محاصرتها في منطقة الفلوجة الواقعة بين الخليل وغزة. اكتشف ناصر وقتها خيانة نظام الملك فاروق للأمة العربية ولقضيتها المركزية، فيما يُعرف بحادثة الأسلحة الفاسدة، والتي ستشكل لاحقاً بداية لتفكير جديد في خلد الضابط الشاب.
بعد أن عاد ناصر من فلسطين إلى مصر مصاباً، قرر أن يقوم بإنشاء تنظيم سري ضمن الجيش المصري أطلق عليه اسم “تنظيم الضباط الاحرار”. وكان ذلك التنظيم مكونا من ثلة من ضباط الجيش المصري الذين عقدوا عدة اجتماعات سرية توصلوا على إثرها لقرار الانقلاب على النظام الفاسد التابع للغرب. وبالفعل، في منتصف ليلة 23 تموز عام 1952، نجح الانقلاب، الذي تحول إلى ثورة تاريخية، رغم قلة عدد الذين قاموا به، إلا أن إرادتهم الوطنية المصرية والقومية العربية كانت أكبر من فساد الملك فاروق، وأصبحت بداية انطلاق مشروع أمة لا مشروع مصر وحدها.
كان جمال عبد الناصر صاحب مشروع ثورة ونهضة في القطر المصري حيث أنه لم يكتفِ بالانقلاب على النظام الفاسد، لا بل شرع بثورة صناعية وزراعية لتحقيق التنمية ولاسترداد ثروات الوطن وإعادتها للشعب بعد أن كانت مسلوبةً للغاصب والمحتل والمنتدب الأجنبي. كان جمال عبد الناصر الذي بدأ وطنياً وانتهى به الأمر قومياً عربياً يؤمن بأنه من غير وحدة وتحرير ونهضة لن يصل لأهدافه ولن يعود الوطن العربي لعزته وريادته وسيادته.
لهذا قام جمال بدعم الثورات العربية في اليمن والجزائر وفلسطين، وحركات التحرر الوطني في أفريقيا، وكان دعمه للمقاومة لا يقتصر على الكلام، بل قام بفتح معسكرات لتدريب الثوار الجزائرين ودعمَهم بالسلاح إلى أن نالت الجزائر استقلالها بثورة حقيقية بالنار والحديد بقيادة أحمد بن بيلا، بعد أن استمر الاحتلال لأكثر من مئة وثلاثين عاما. قام جمال عبد الناصر أيضاً بإرسال الجيش العربي المصري إلى اليمن ـ70000 جندي عربي مصري لدعم ثوار اليمن في الحرب التي دارت بين الدولة المتوكلية والمواليين للجمهورية العربية اليمنية، قاتلوا صفاً واحداً بجانب أبناء اليمن أخوة العروبة واختلط الدم العربي الواحد في أرض اليمن حيث استمرت الحرب ثماني سنوات من عام 1962.
من مؤلفات جمال عبد الناصر:
– يوميات عن حرب فلسطين (1955)
– فلسفة الثورة (1955)
– في سبيل الحرية (1959)
* جزء من إنجازات الزعيم جمال عبد الناصر في فترة حكمه بين عامي 1952 – 1970:
– وافق على مطلب السوريين بالوحدة مع مصر في جمهورية عربية واحدة، تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961).
– استجاب لدعوة العراق لتحقيق أضخم إنجاز وحدوي مع العراق وسوريا بعد تولي الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف رئاسة الجمهورية العراقية بما يسمى باتفاق 16 نيسان/ إبريل 1964.
– أمم البنوك الخاصة والأجنبية العاملة في مصر.
– أشرف على وضع قوانين الإصلاح الزراعى وتحديد الملكية الزراعية التي أصبح فلاحو مصر بموجبها يمتلكون للمرة الأولى الأرض التي يفلحونها ويعملون بها، وتم تحديد ملكيات الاقطاعيين بمئتى فدان فقط.
– أنشأ التليفزيون المصري (1960)
– أبرم اتفاقية الجلاء مع بريطانيا العام 1954، التي تم بموجبها جلاء آخر جندي إنجليزي عن قناة السويس ومصر كلها في الثامن عشر من حزيران/يونيو 1956.
– بنى إستاد القاهرة الرياضي بمدينة نصر.
– أسس منظمة عدم الانحياز مع الرئيس اليوغوسلافي تيتو والإندونيسي سوكارنو والهندي نهرو.
– أمم قناة السويس سنة 1956، هذا الممر المائي المصري الذي يوفر عوائد مالية ضخمة للقطر المصري
– بنى السد العالي عام (1960).
– بنى النهضة الصناعية المصرية لتصبح مصر دولة مصنعة ومصدِرة، بعد أن كانت مستوردة ومستهلكة.
– وضع خطة خمسية لمضاعفة الدخل القومي في عشر سنوات، والتي حققت أهدافها وفق ما جاء في تقرير البنك الدولي رقم ٨٧٠أ، الصادر في واشنطن في ٥ يناير ١٩٧٦، والذي نص علي أن نسبة النمو الاقتصادي في مصر والذي كان ٢.٦% سنوياً بالأسعار الثابتة الحقيقية قد ارتفعت إلى نسبة ٦.٦% في الفترة من ١٩٦٠ حتى ١٩٦٥، وهذا يعني أن مصر عبد الناصر استطاعت في عشر سنوات أن تقوم بتحقيق تنمية تماثل أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه في الأربعين سنة السابقة عن عام ١٩٥٢.
– أسس مجانية التعليم لأبناء الشعب العربي في القطر المصري من المراحل الابتدائية وحتى الجامعية.
– أسس مجانية العلاج.
– بنى بحيرة صناعية خلف السد العالي بين مصر والسودان وكانت مساحتها في القطر المصري 83% ، وسميت بحيرة ناصر.
* جمال عبد الناصر والإسلام:
– فى عهد الزعيم الخالد جمال عبد الناصر تمت زيادة عدد المساجد فى مصر من أحد عشر ألف مسجد قبل الثورة إلى واحد وعشرين ألف مسجد عام 1970.
– فى عهد عبد الناصر تم جعل مادة التربية الدينية ( مادة إجبارية ) يتوقف عليها النجاح أو الرسوب كباقى المواد لأول مرة في تاريخ مصر بينما كانت اختيارية في النظام الملكي.
– فى عهد عبد الناصر تم تطوير الأزهر الشريف وتحويله لجامعة عصرية تدرس فيها العلوم الطبيعية بجانب العلوم الدينية.
– أنشأ عبد الناصر مدينة البحوث الإسلامية التى كان ومازال يدرس فيها عشرات الآلاف من الطلاب المسلمين على مساحة ثلاثين فداناً تضم طلاباً قادمين من سبعين دولة إسلامية يتعلمون في الأزهر مجاناً، ويقيمون فى مصر إقامة كاملة مجاناً أيضاً، وقد زودت الدولة المصرية بأوامر من الرئيس عبد الناصر المدينة بكل الإمكانيات الحديثة، وقفز عدد الطلاب المسلمين في الأزهر من خارج مصر إلى عشرات الأضعاف.
– أسهم عبد الناصر بتأسيس “منظمة المؤتمر الإسلامي” التى جمعت كل الشعوب الإسلامية .
– فى عهد عبد الناصر تمت ترجمة القرآن الكريم إلى كل لغات العالم .
– فى عهد عبد الناصر تم إنشاء إذاعة القرآن الكريم التى تذيع القرآن على مدار اليوم .
– فى عهد عبد الناصر تم تسجيل القرآن كاملاً على اسطوانات وشرائط للمرة الأولى فى التاريخ وتم توزيع القرآن مسجلاً فى كل أنحاء العالم .
رغم كل هذه الإنجازات إلا أن جمال عبد الناصر كان من أكثر الرؤساء المحارَبين من الجماعات التي تتـقـنّع بالإسلام وأولهم “الإخوان المسلمين” حيث اتهموه بأنه شيوعي تارة وملحد تارةً أخرى، وما زالت هذه الاتهامات تنشر وسط المجتمعات لمحاربة إرثه بما يمثله من نهضة ورفعة لمصر رغم أنه كان حريصاً على الهوية الإسلامية كما كان حريصاً على الهوية القومية العربية.
وبعد كل ما ذكرناه من إنجازاته، ورغم الانكسارات والانتصارات التي شهدناها في عصره، إلا أن جمال عبد الناصر بخبر وفاته وحد أبناء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج حيث خرج الملايين من أبناء الأمة العربية لوداعه، وأطلق على جنازته أكبر جنازة في التاريخ، وقام برثائه أكثر من شاعر عربي منهم نزار قباني و أحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي والشيخ محمد متولي الشعراوي.
هنا يجب أن نؤكد على دور القيادة القومية العربية، فبوجود حاضنة للقومية العربية في الوطن العربي كانت هناك نهضة وصحوة قومية عربية في الوطن الواحد من المحيط إلى الخليج، وبغياب مثل هذه القيادة تشتت الأمة، ففي عهده كان اللسان القومي العربي فقط هو الناطق باسم الأمة، ولم يكن يعلو عليه صوت اللسان الرجعي المستسلم المتخاذل، ورغم انحطاط الأنظمة الأخرى في زمنه إلا أن جمال عبد الناصر بقوميته العربية وباحتضانه للمقاومة العربية وبانقياد الشعب العربي له، لم يجرؤ أي نظام عربي على التفكير في توقيع أي اتفاقية استسلام أو محاولة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهنا يجب أن نذكر أن جمال عبد الناصر بعد أن جهز القوات العربية لحرب تشرين التي انتصرت بها الجيوش العربية المصرية و السورية والعراقية بعد وفاته، إلا أن تآمر الأنظمة المتخاذلة قد حرف الانتصار لهزيمة بتوقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1978، تلتها منظمة التحرير الفلسطينية بتوقيع أوسلو عام 1993، وبعدها النظام الأردني بتوقيع وادي عربة عام 1994 …
لهذا يجب أن نؤكد أن الأمة العربية بحاجة لقيادة قومية عربية كجمال عبد الناصر للخروج من الرجعية والتبعية التي ترزح تحتها في زماننا المعاصر…
الزعيم جمال عبد الناصر في السينما المصرية
طالب جميل
على الرغم من مرور أكثر من أربعين عاماً على وفاة الزعيم العربي الرمز جمال عبد الناصر إلا أن الانجازات القومية العظيمة التي تحققت في عهده لا زالت شاهدة على عظمته كزعيم للأمة، والنهضة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها مصر إبان فترة حكمه دلالة على مكانته وأهميته، فلا زالت مختلف الأجيال تتغنى بالانجازات التي قدمها عبد الناصر للأمة إلى يومنا هذا، ابتداء من مشاركته في قيادة ثورة الضباط الأحرار إضافة إلى قيامه بتأميم قناة السويس وتصديه لعدوانيين عسكريين بينهما فاصل أحد عشر عاماً والوحدة بين مصر وسورية وهي تجربة وحدوية مهمة، ومناصرة الحركات التحررية في كل مكان من هذا العالم عدا عن النهضة الاقتصادية التي أحدثها في مصر بالتصنيع وفرض الإصلاح الزراعي والقوانين التي تحمي حقوق الفلاحين.
على الرغم من عظمة الرجل إلا أن شخصية الرئيس عبد الناصر لم تأخذ حقها في الأعمال السينمائية التي تناولت سيرة حياته، ولا يمكن اعتبار الأعمال التي قدمت في السينما قد تناولت بشكل حقيقي سيرة هذا الزعيم العظيم أو ساهمت في إبراز انجازاته على مستوى مصر أو الوطن العربي أو العالم رغم التاريخ الطويل للسينما المصرية والذي يناهز القرن.
كانت بداية الأعمال السينمائية بظهور فيلم (الله معنا) من إخراج أحمد بدرخان والذي عرض عام 1955 وتناول مرحلة قيام الضباط الأحرار بطرد الملك فاروق، وتبعه فيلم (رد قلبي) الذي عرض في عام 1957 عن رواية للكاتب المعروف يوسف السباعي ومن إخراج عز الدين ذو الفقار، ويركز هذان الفيلمان على إظهار القيادة الجماعية للضباط الأحرار حيث يتكرر مشهد الضباط وهم يمسكون بالمصحف الشريف ليتم إظهار دور القيادة الجماعية التي تتمثل في مجلس قيادة الثورة دون التركيز على شخصية الرئيس عبد الناصر.
عام 1957 عُرض فيلم (بور سعيد) من تأليف وإخراج عز الدين ذو الفقار فكان أول عمل سينمائي يشير إلى دور عبد الناصر السياسي بعد توليه الرئاسة وللمرة الأولى يغني مطرب في السينما أغنية باسم جمال عبد الناصر وهي (أمم جمال القنال).
بعد ذلك ظهرت صورة جمال عبد الناصر في الأفلام من خلال الصور الرسمية الموجودة في المؤسسات والدوائر الحكومية، وتغيرت الصورة من القائد الذي يرتدي الزي العسكري إلى الصورة المعهودة للرئيس المبتسم، وفي أحيان أخرى كان يتم مزج خطب عبد الناصر السياسية بمشاهد مؤثرة خاصة في المشهد الختامي لفيلم (عمالقة البحار) تأليف عبدالله ابو رواش وإخراج السيد بدير عام 1961.
ومن الأفلام التي ظهر فيها عبد الناصر بصورته الحقيقية فيلم (العصفور) للمخرج يوسف شاهين في عام 1974 حيث ظهر عبد الناصر وهو يلقي خطاب التنحي عام 1967. وفي ذلك الفيلم تم تقديم صورة شبه متكاملة لما حدث ليلة 9 حزيران1967 حيث أعاد خطبة عبد الناصر وهو يتنحى فأثار شجن وعواطف الناس في تلك المرحلة، وتكرر هذا المشهد في فيلم (بحب السيما) الذي ظهر عام 2003 للمخرج أسامه فوزي، مع التنويه أن يوسف شاهين قد تجاهل تصوير عبد الناصر حين قام بضغط زر تحويل مجرى نهر النيل في حضور الرئيس السوفيتي خروشوف عام 1964 وذلك في فيلم (الناس والنيل) عام 1970 وهو الفيلم الذي تدور أحداثه حول السد العالي مع ملاحظة أن يوسف شاهين أيضاً قد أطلق على صلاح الدين الأيوبي اسم (الناصر) في فيلمه الذي أخرجه عام 1963.
في فترة حكم أنور السادات ظهرت مجموعة من الأفلام التي تنتقد عصر جمال عبد الناصر وتدين فترة حكمه وتشوه صورته، وحملت في مضامينها كثير من الإساءات لشخصية الرجل سواء بشكل مباشر أو غير مباشر مثل فيلم (الكرنك) لعلي بدرخان عام 1975، وفيلم (أسياد وعبيد) لعلي رضا عام 1977، وفيلم (إحنا بتوع الاتوبيس) لحسين كمال عام 1979، وفيلم (شاهد إثبات) لعلاء محجوب عام 1986، كذلك الإشارة التي تصدرت فيلم (البريء) عام 1986 لعاطف الطيب، حيث أظهرت هذه الأفلام ظاهرة التعذيب في المعتقلات وقساوة أفراد الأجهزة الأمنية في التعامل مع المواطنين واتهمت نظام عبد الناصر بكبت الحريات.
في فترة الثمانينيات لم تظهر أي أفلام تعطي للرئيس عبد الناصر حقه وتبرز دوره الوطني والقومي في نهضة وتقدم وتحرير الأمة، إلى أن ظهر فيلم (المواطن مصري) عام 1991 للمخرج صلاح ابو سيف حيث استطاع هذا الفيلم انصاف المرحلة الناصرية على الرغم من ان الفيلم لم يكن سياسياً بشكل مباشر وكانت أحداث الفيلم تدور خلال الفترة التي اعقبت رحيل عبد الناصر إلا أن الفيلم أظهر حالة اليتم التي تعرض لها الفلاحون برحيل عبد الناصر وكيفية تحكم الاقطاعيين بمصيرهم مع ملاحظة أن شخصية عبد الناصر لم تظهر في الفيلم باستثناء صوره التي كانت معلقة في بيوت الفلاحين.
في عام 1996 ظهر أول فيلم يتم فيه تجسيد شخصية عبد الناصر وهو فيلم (ناصر 56) من إخراج محمد فاضل، حيث قام الفنان أحمد زكي بتجسيد شخصية الرئيس عبد الناصر ويتناول هذا الفيلم فترة محددة في حياته تحديداً هي فترة تأميم قناة السويس وبناء السد العالي وتصديه للعدوان الثلاثي على مصر وطرد البعثة الفرنسية البريطانية، وقد تم عرض الفيلم بالأبيض والأسود، حيث يعتبر هذا العمل أول فيلم يتم فيه تجسيد شخصية الرئيس عبد الناصر بشكل مباشر، ولا ينكر أحد أن الفيلم أضاف حالة من الشجن الوطني والوعي السياسي عندما عرض ولمختلف الأجيال فأيقظ الشعور بأهمية الأرض وأحيا مسألة العدو المتربص بمصر والأمة العربية وأعاد بث الروح القومية، وقد لقي الفيلم نجاحاً كبيراً وحقق إيرادات عالية خلال فترة عرضه.
يبدو أن نجاح فيلم (ناصر 56) لأحمد زكي قد فتح شهية العديد وشجعهم على إعادة التجربة حيث قدم المخرج السوري أنور القوادري عام 1998 فيلم بعنوان (جمال عبد الناصر) وتم إسناد دور البطولة فيه للممثل المصري خالد الصاوي ليقوم بأداء دور الزعيم، والفيلم تعرض لمساحة زمنية أطول من حياة الرئيس جمال عبد الناصر منذ عام 1935 حين قدم أوراقه للالتحاق بالكلية الحربية وحتى وفاته عام 1970، حيث تناول الفيلم محطات عديدة في حياة عبد الناصر مثل حصار الفالوجة أثناء الحرب على فلسطين وتنظيم الضباط الأحرار، ثورة يوليو ورفض سياسة الأحلاف مثل حلف بغداد ومحاولة اغتياله وتأميم القناة والعدوان الثلاثي والوحدة بين مصر وسوريا وعدوان 1967 ومرضه ووفاته.
لم يحقق هذا الفيلم النجاح المطلوب كونه لم يأخذ حقه في الدعاية الكافية على الرغم من قيام خالد الصاوي بتقديم شخصية جمال عبد الناصر من زاوية جديدة بعيداً عن الوقوع في فخ التقليد.
بعد ذلك تم تقديم السيرة الذاتية لعبد الناصر وتم تناولها بشكل جزئي أو كامل في بعض المسلسلات الدرامية وتم تجسيد شخصيته في مسلسل (أم كلثوم) حيث قام بأداء دوره الممثل رياض الخولي، وقدمه الفنان مجدي كامل في مسلسلين الأول (العندليب) والثاني مسلسل (ناصر) للكاتب يسري الجندي والمخرج باسل الخطيب.
عموماً لم تعط السينما المصرية للرئيس عبد الناصر حقه وحتى يومنا هذا لم تخرج إلى حيز الوجود أعمال سينمائية حقيقية تليق بقائد ثوري عظيم مثل عبد الناصر وتركز على مشروعه القومي والتقدمي الذي ساعد العرب على استعادة بريقهم وأعاد لهم اعتبارهم وأصبح لهم تأثيرهم وحضورهم حيث لا زالت الجماهير العربية متعطشة لعمل كبير يليق بحجم ومكانة الرئيس جمال عبد الناصر.
قصيدة العدد:
سأحمل روحي على راحتي
عبد الرحيم محمود*
سأحمل روحي على راحتي = وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق = وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
ونفسُ الشريف لها غايتان = ورود المنايا ونيلُ المنى
وما العيشُ؟ لاعشتُ إن لم أكن = مخوف الجناب حرام الحمى
إذا قلتُ أصغى لي العالمون = ودوّى مقالي بين الورى
لعمرك إنّي أرى مصرعي = ولكن أغذّ إليه الخطى
أرى مصرعي دون حقّي السليب = ودون بلادي هو المبتغى
يلذّ لأذني سماع الصليل = ويبهجُ نفسي مسيل الدما
وجسمٌ تجدّل في الصحصحان = تناوشُهُ جارحاتُ الفلا
فمنه نصيبٌ لأسد السماء = ومنه نصيبٌ لأسد الشّرى
كسا دمه الأرض بالأرجوان = وأثقل بالعطر ريح الصّبا
وعفّر منه بهيّ الجبين = ولكن عُفاراً يزيد البها
وبان على شفتيه ابتسامٌ = معانيه هزءٌ بهذي الدّنا
ونام ليحلمَ حلم الخلود= ويهنأُ فيه بأحلى الرؤى
لعمرك هذا مماتُ الرجال = ومن رام موتاً شريفاً فذا
فكيف اصطباري لكيد الحقود = وكيف احتمالي لسوم الأذى
أخوفاً وعندي تهونُ الحياة = وذُلاّ وإنّي لربّ الإبا
بقلبي سأرمي وجوه العداة = فقلبي حديدٌ وناري لظى
وأحمي حياضي بحدّ الحسام = فيعلم قومي أنّي الفتى
* الشاعر العربي الفلسطيني عبد الرحيم محمود، الملقب بالشاعر الشهيد، وهو نموذج للمثقف العضوي الذي قاتل بالبندقية وبالقلم، وألحق الفعل بالقول. ولد عام 1913 في بلدة عنبتا قضاء طولكرم، وكان استاذاً للغة العربية في مدرسة النجاح في نابلس التي اصبحت فيما بعد جامعة النجاح. وبعد استشهاد الشيخ عز الدين القسام استقال من عمله والتحق بالثوار في ثورة الـ36، كما ذكر في إحدى قصائده، واستمر مقاتلاً حتى انتهت الثورة عام 39 فارتحل إلى العراق، وانضم للكلية الحربية في بغداد، وشارك مع المتطوعين العرب في ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد المحتل البريطاني عام 1941، وعاد بعد الإجهاز عليها إلى فلسطين، واستعاد وظيفته كمدرس في مدرسة النجاح حتى أعلن قرار تقسيم فلسطين عام 1947 فترك التدريس مجدداً وذهب إلى بيروت ثم إلى دمشق والتحق بجيش الإنقاذ، ودخل فلسطين معه حيث شارك بعدة معارك كان آخرها معركة “الشجرة” قرب الناصرة التي استشهد فيها في 13/7/1948 عن خمسة وثلاثين عاماً مخلفاً وراءه 27 قصيدة وعدداً من المقالات تكشف معدنه العربي الأصيل وقريحته الفذة ولغته المتدفقة عذوبةً وروحه الاستشهادية الوثابة التي امتزجت بثرى فلسطين والعراق وكل ارض عربية. ويذكر أن قصيدته أعلاه كانت من القصائد التي حذفت من المنهاج التعليمي الأردني.
اترك تعليقاً