د.إبراهيم علوش
البناء 3/9/2014
يتساءل بعض أنصار المقاومة، في جلساتهم وصفحاتهم الفيسبوكية، إن كانت معركة غزة الأخيرة قد تمخضت عن تأهيل حركة “حماس” للحل السياسي إلى جانب السلطة الفلسطينية، أو كرديف غزي لها، ضمن صيغة تعزيز العلاقة مع “الإسلام المعتدل” التي كرستها إدارة أوباما منذ ما قبل “الربيع العربي” ثم ازدادت تمسكاً فيها تحت عنوان “مواجهة داعش” مؤخراً. لكن القطع بشأن مقولة “تأهيل حماس للتسوية” ليس بالأمر السهل في الواقع، ولا الاستخفاف بها أمراً سهلاً، إذ أن ثمة معطيات ومؤشرات ترجحها وأخرى تضعفها، لكنها مقولة تبقى قائمة كاحتمال يحتاج للدراسة والتمحيص.
أما تحديد كيف يمكن أن تقود معركة غزة لتحققها فيتطلب تحديد طبيعة تلك المعركة أولاً. فقد كانت معركة تتسم ببعدين أساسين متمايزين: أولهما وطني يتعلق بالصراع بين المقاومة بجميع فصائلها وقواها وبين العدو الصهيوني، وثانيهما فصائلي وإقليمي يتعلق بتثبيت حكم “الإخوان المسلمين” في غزة. وقد حاول العدو الصهيوني النفاذ من تمايز هذين البعدين للتغطية سياسياً على عدوانه، بتصوير ما يقوم به وكأنه يحظى بدعم أحد المحاور العربية، وحاولت “حماس” بالمقابل أن تجير كل بطولات المقاومة وإنجازاتها لـ”تجديد البيعة” لسلطتها في غزة، ولرفع أسهم المحور التركي-القطري-الإخواني في الإقليم، محاولةً تصوير كل من لا “يبصم” لسلطتها ولقطر وتركيا وكأنه “عميل” للعدو الصهيوني!!!!!!!!!!!!!!!!
في الصراع ما بين المقاومة والاحتلال، أي في البعد الأول لمعركة غزة، لا يمكن أن يقف أي وطني أو إنسان شريف في هذا العالم إلا إلى جانب المقاومة، غير أن صراع المحاور العربية والإسلامية منع أحياناً تحقق مثل ذلك الاصطفاف الواضح. لذا لا بد من توجيه التحية هنا لدول أمريكا اللاتينية التي قطعت علاقتها مع العدو الصهيوني في خضم معركة غزة، ولمن انخرطوا في مشاريع مقاطعة المنتجات الصهيونية في كل دول العالم.
في البعد الأول لمعركة غزة أيضاً لا يمكن وصف ما جرى إلا بأنه كان نصراً للمقاومة بكل فصائلها ولأهل غزة سيظل صفحةً مضيئةً في تاريخنا. ولنتذكر أن غزة لا تمتلك جيشاً ولا هيئة أركان ولا مدفعية ثقيلة ولا دبابات ولا طائرات ولا سفناً حربية ولا غواصات، وأن العدو الصهيوني يمتلك كل هذا وأكثر، ويمتلك الدعم الغربي السياسي والعسكري والمالي والدبلوماسي، وبالتالي فإن الصمود وعدم الانهيار وتكبيد العدو الخسائر وتعطيل مسار حياته المدنية، في ظل ميزان قوى عسكري من هذا النوع، يعظم من أهمية نصر المقاومة، كحالة أكبر من أي فصيل، على العدو الصهيوني.
لكن شيطان المسائل الخلافية يكمن في البعد الثاني، المتعلق بتثبيت حكم “الإخوان” في غزة في سياق صراع المحاور العربية. وقد بدا هذا واضحاً في ربط “وقف إطلاق النار” مع العدو الصهيوني منذ البداية بفتح معبر رفح مع مصر. وقد كان طريفاً، بالنسبة لعدد من المراقبين السياسيين، أن يُربط “وقف إطلاق النار” مع العدو الصهيوني بمشكلة عربية-عربية!!! لكن فتح معبر رفح بلا شروط يعني اعتراف النظام المصري بحكم “الإخوان” في خاصرة مصر، مما يعني إضعافه في مواجهة محور قطر-تركيا-الإخوان على مستوى الإقليم، وفقدان السيطرة إلى حدٍ ما على التواصل بين غزة وسيناء.
كذلك تبين منذ البداية أن رفض المبادرة المصرية، التي قُبلت اختها عام 2012، جاء لمصلحة سحب الملف الغزي من مصر وتسليمه لقطر وتركيا، بالتوافق مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري. وتبين من خطاب “الإخوان” الإعلامي في خضم العدوان على غزة، وخطاب حلفائهم، أن المطلوب هو تحويل التناقض الرئيسي من العدو الصهيوني باتجاه العداء لمصر. فإلى أي حد تمكن المحور القطري-التركي-“الإخواني” من تحقيق أهدافه السياسية؟
لا شك أن ذلك المحور تمكن من استعادة جزءٍ من شعبيته في الشارع العربي التي خسرها خلال “الربيع العربي”، وأنه تمكن من إحراج خصومه نوعاً ما، ومن تثبيت حكم “الإخوان” في غزة، إلى حين، بالتزامن مع مكاسب موازية في ليبيا، وتثبيت رئاسة أردوغان في تركيا، وتنازل السعودية عن الكثير من شروطها للتصالح مع قطر.
غير أن ما كسبته “حماس” في غزة كان شراءً للوقت، ولم يكن اعترافاً مصرياً بمشروعيتها. فـ”حماس” عادت للقبول بالمبادرة المصرية، ومصر لم تفقد ولايتها على ملف غزة لمصلحة قطر وتركيا، ووقف إطلاق النار أعلنت عنه السلطة الفلسطينية، ومعبر رفح لن يُفتح إلا من قبل السلطة الفلسطينية. فمعركة سلطة “الإخوان” في القطاع لم تحسم بعد بالنسبة لمصر، مع التأكيد أن مصر كانت تملك أوراقاً أهم بكثير من دعم “السلطة الفلسطينية”، وقد قصرت بحق نفسها وأمنها الوطني أكثر مما قصرت بحق غزة بطريقة إدارتها لمعركة غزة، مع الإشارة أنها كانت مستهدفة طبعاً…
باختصار، “حماس” اثبتت جدارتها، وربما تنعكس أي مصالحة قطرية-سعودية إيجابياً عليها، وبرنامجها السياسي، وهو دولة في حدود الـ67 مع هدنة مطولة، لا يختلف كثيراً عن برنامج “فتح”، وحليفها التركي لا يزال أكبر مطبع مع العدو الصهيوني في المنطقة، وقد أثبت الإسلاميون خلال “الربيع العربي” أنهم مستعدون لتهميش الصراع مع الإمبريالية والصهيونية للوصول للسلطة والمحافظة عليها، وأثبتت إدارة أوباما أنها معنية بالتفاهم معهم في سياق إقامة حاجز جغرافي-سياسي وديني أمام دول “البريكس” في المنطقة، لكن مشكلة انخراط “حماس” في التسوية لا يعيقها برنامجها ولا قياداتها ولا تحالفاتها إنما اليمين الصهيوني المتطرف من واشنطن لتل الربيع الذي يطالب بالاستسلام الكامل غير المشروط، ولا يرضى حتى عن السلطة الفلسطينية بالرغم من كل ما قدمته، فما بالك بـ”حماس”؟! فهل يخضع نتنياهو للضغط الأمريكي؟ أم تتم الإطاحة به للإتيان بقوى صهيونية أقل تطرفاً؟ وهل تسمح ديناميات العلاقة الأمريكية-الصهيونية بذلك الآن؟ ذلك هو السؤال الحقيقي…
للمشاركة على الفيسبوك:
اترك تعليقاً