أبو ذر القومي
دولة الوحدة العربية المعبرة عن كيان الأمة السياسي نراها دولة مركزية قوية، لا فيدرالية ولا كونفدرالية… لا يمكن أن تقوم إلا على أنقاض الكيانات القطرية التي رسمها الاستعمار، وليس من خلالها. فالكيانات الفيدرالية والكونفدرالية تنطلق من بنى التجزئة وتكرسها وتعطيها شيئاً من المشروعية، وهو ما يخلق أرضية للانفصال، خاصة في المراحل الأولى للوحدة. لذلك يجب أن تهرس دولة الوحدة أسس التجزئة هرساً حتى تصبح أثراً بعد عين.
إذن نحن نرى أن الوحدة العربية لا تقوم إلا بتكنيس البنى القطرية تماماً، ليس فقط على صعيد المؤسسات، بل على صعيد الوعي. ونموذجنا في تحقيق الوحدة ليس الوحدة من فوق التي تحافظ على بنية الأقطار، بل الوحدة من تحت، التي تجرف القطرية والطائفية والعشائرية، بالحديد والنار عند الضرورة، كما قال بسمارك عن نهج تحقيق الوحدة الألمانية في القرن التاسع عشر. وكانت ألمانيا قبلها عدداً كبيراً من الدويلات.
من البديهي أن أية خطوة وحدوية حقيقية هي أمر إيجابي، ولا يمكن أن نعارضه، حتى لو كانت أقل من فيدرالية، لكن الوحدة الحقيقية لا يمكن أن تتصالح مع المؤسسات والبنى القطرية، ولا تقوم إلا على أنقاضها. والوحدة الحقة لا تتحقق برضا أنظمة التجزئة، بل رغماً عنها. ولو قيض لنا أن نرسم صورةً لمستقبلنا الوحدوي لقلنا أننا يجب أن نعيد رسم حدود القضاء والمحافظة والناحية والإقليم ضمن دولة الوحدة بحيث نبدد تماماً كل آثار دول التجزئة، ولقلنا أن نهضتنا يجب أن تقوم على مدن جديدة يختلط فيها العرب اختلاطاً لا عودة فيه، حتى لا يبقى إلا دولة وحدة من جهة، ومواطن عربي من جهة أخرى، بدون أية عوائق اجتماعية-سياسية بينهما. ولو اضطررنا في طريقنا لتحقيق هذا الهدف لتقديم تنازلات لهذا السبب أو ذاك، فإن ذلك يكون لأسباب عارضة، قد تطول زمنياً أو تقصر، لكنها لا تؤثر على هدفنا النهائي وهو محو أقطار التجزئة تماماً من المؤسسات والنفوس. وإذا قبلنا مراعاة بعض الخصوصيات المحلية لهذا السبب أو ذاك، بعيداً عن مشروع “الخلاط القومي العملاق” الذي تنتجه دولة مركزية عربية، فإن ذلك يكون هو الاستثناء وليس القاعدة.
أخيراً، نرى بأن وطناً عربياً شاسع المساحة مثل وطننا الذي تبلغ مساحته 14 مليون كم مربع، وطناً مفتوحاً على القارات القديمة كان عبر التاريخ معبراً للغزوات والهجرات والتجارة العالمية، وطناً يمتلك أطول شواطئ في العالم بالنسبة لمساحته البرية، وطناً تتركز كثافته السكانية في أشرطة ضيقة من المساحة الإجمالية ويتألف ما عدا ذلك من مساحات مهولة من الصحارى المقفرة المفتوحة، إن وطناً كهذا لا يمكن أن يتوحد وأن ينهض وأن يحقق أمنه القومي إلا على يد دولة عربية مركزية تقزِّم أية دولة مركزية سبق أن عرفها التاريخ البشري، دولة مركزية تليق بمشروع النهوض العربي، وبمكانتنا كأمة على هذه الأرض.
الديموقراطية تبقى شأناً محلياً في الحي والمدينة والبلدة والقرية ومكان العمل والدراسة وما شابه، أما الأقطار العربية، أقطار التجزئة، فإن ذكراها بعد الوحدة ستنتمي، ما عدا في حالات عارضة واستثنائية، للمتخصصين بالتاريخ القديم فقط، تاريخ ما قبل النهضة العربية القومية.
وكما تمت الإشارة في مستهل الفصل الثالث من كتاب “مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي”:
يثبت تاريخ الوطن العربي أن تاريخ المناطق والعشائر والطوائف هو تاريخ التخلف، بينما كانت تقوم النهضة العربية دوماً على أكتاف الدولة المركزية والحكم المركزي المعبر عن مصلحة الأمة. فإما الأمة الموحدة في ظل دولة مركزية قوية، سواء كانت دولة نبوخذ نصر أو دولة الخلافة التي يحكمها العرب، أو الفقر والضعف والتأخر في ظل الخراب المحلي.
وقد كانت هزيمة الدولة المركزية أمام قوى الهيمنة الخارجية، وتفككها، دوماً مقدمة لهيمنة الخاص على العام، العشيرة على الوطن، الطائفة على الانتماء، والجهة أو المحلة على الأمة، مما أدى تاريخياً لشيوع ثلاث ظواهر متلازمة بالضرورة تغذي كل منها الأخرى منذ الأزل العربي هي: 1) التجزئة، 2) الاحتلال الأجنبي المباشر أو غير المباشر (التبعية)، 3) والتخلف.
بالمقابل، كان المشروع الوحدوي، وأهم مثال عليه في تاريخنا هو الدعوة النبوية، هو نفسه مشروع التخلص من الهيمنة الأجنبية، وهو نفسه مشروع بناء الدولة المركزية، الوحيدة القادرة أن تؤمن إطاراً من الاستقرار الداخلي والخارجي، ومن عناصر القوة، لتحقيق تنمية اقتصادية وقفزات حضارية حقيقية…
وما برح هذا القانون يحكم الحياة العربية المعاصرة. إذ أن المشروع النهضوي العربي لا يمكن أن يتحقق بدون دولة مركزية قوية توفر له عناصر القوة وتحميه، دولة قوية قادرة أن تعبر عن مصلحة العام على حساب الخاص. فالأمة العربية الممتدة عبر الصحارى الشاسعة، والمكشوفة على أطول شواطئ في العالم، بالمطلق وبالنسبة لمساحتها البرية، والمتناثرة مراكزها الحضارية عبر عدة مناطق زمنية، والواقعة في عقدة طرق التجارة العالمية البرية والبحرية والجوية، والمستهدفة منذ هنيبعل وزنوبيا إلى صدام حسين إلى القيادات الميدانية للمقاومة في الضفة الغربية، لا يمكن أن تنهض بدون دولة مركزية قوية.
ولا حقوق للمواطنين في الأمم الضعيفة المستعبدة، ولا تحرر للفرد أو للأقليات حيث يرزح الوطن برمته في ظل الاحتلال والهيمنة والتشرذم والفقر والتخلف، ولا ازدهار للمناطق القصية في المراكز التي يكون ولاؤها لذاتها فقط، بعيداً عن مصلحة الأمة.
فالدولة المركزية القوية المستقرة المزدهرة هي الإطار الوحيد الذي يمكن أن يتربع في ظله الحكم المحلي والفرد الحر. أما العصبيات الجاهلية، الطائفية والعشائرية والاثنية، فهي النقيض الموضوعي لجوهر رسالة الإسلام وللمشروع النهضوي العربي في آنٍ معاً، وهي لا تمثل دفاعاً عن المواطن في وجه طغيان الدولة “الحديثة”، بل تمثل إعادة إنتاج، بلبوس معارض للحداثة الاستعمارية ولأنظمة التجزئة العربية، لمشروع التفكيك، مشروع القوى المعادية للأمة. فهو فكر معارض للحداثة فعلاً، ولكنه بهذا المعنى ليس معارضاً للاستعمار، لأنه يكرس خط ما بعد الحداثة القائم على تفكيك المعنى الواحد و”الروايات الكبرى”، ومنه “رواية” الأمة الواحدة.
أبو ذر القومي
دولة الوحدة العربية المعبرة عن كيان الأمة السياسي نراها دولة مركزية قوية، لا فيدرالية ولا كونفدرالية… لا يمكن أن تقوم إلا على أنقاض الكيانات القطرية التي رسمها الاستعمار، وليس من خلالها. فالكيانات الفيدرالية والكونفدرالية تنطلق من بنى التجزئة وتكرسها وتعطيها شيئاً من المشروعية، وهو ما يخلق أرضية للانفصال، خاصة في المراحل الأولى للوحدة. لذلك يجب أن تهرس دولة الوحدة أسس التجزئة هرساً حتى تصبح أثراً بعد عين.
إذن نحن نرى أن الوحدة العربية لا تقوم إلا بتكنيس البنى القطرية تماماً، ليس فقط على صعيد المؤسسات، بل على صعيد الوعي. ونموذجنا في تحقيق الوحدة ليس الوحدة من فوق التي تحافظ على بنية الأقطار، بل الوحدة من تحت، التي تجرف القطرية والطائفية والعشائرية، بالحديد والنار عند الضرورة، كما قال بسمارك عن نهج تحقيق الوحدة الألمانية في القرن التاسع عشر. وكانت ألمانيا قبلها عدداً كبيراً من الدويلات.
من البديهي أن أية خطوة وحدوية حقيقية هي أمر إيجابي، ولا يمكن أن نعارضه، حتى لو كانت أقل من فيدرالية، لكن الوحدة الحقيقية لا يمكن أن تتصالح مع المؤسسات والبنى القطرية، ولا تقوم إلا على أنقاضها. والوحدة الحقة لا تتحقق برضا أنظمة التجزئة، بل رغماً عنها. ولو قيض لنا أن نرسم صورةً لمستقبلنا الوحدوي لقلنا أننا يجب أن نعيد رسم حدود القضاء والمحافظة والناحية والإقليم ضمن دولة الوحدة بحيث نبدد تماماً كل آثار دول التجزئة، ولقلنا أن نهضتنا يجب أن تقوم على مدن جديدة يختلط فيها العرب اختلاطاً لا عودة فيه، حتى لا يبقى إلا دولة وحدة من جهة، ومواطن عربي من جهة أخرى، بدون أية عوائق اجتماعية-سياسية بينهما. ولو اضطررنا في طريقنا لتحقيق هذا الهدف لتقديم تنازلات لهذا السبب أو ذاك، فإن ذلك يكون لأسباب عارضة، قد تطول زمنياً أو تقصر، لكنها لا تؤثر على هدفنا النهائي وهو محو أقطار التجزئة تماماً من المؤسسات والنفوس. وإذا قبلنا مراعاة بعض الخصوصيات المحلية لهذا السبب أو ذاك، بعيداً عن مشروع “الخلاط القومي العملاق” الذي تنتجه دولة مركزية عربية، فإن ذلك يكون هو الاستثناء وليس القاعدة.
أخيراً، نرى بأن وطناً عربياً شاسع المساحة مثل وطننا الذي تبلغ مساحته 14 مليون كم مربع، وطناً مفتوحاً على القارات القديمة كان عبر التاريخ معبراً للغزوات والهجرات والتجارة العالمية، وطناً يمتلك أطول شواطئ في العالم بالنسبة لمساحته البرية، وطناً تتركز كثافته السكانية في أشرطة ضيقة من المساحة الإجمالية ويتألف ما عدا ذلك من مساحات مهولة من الصحارى المقفرة المفتوحة، إن وطناً كهذا لا يمكن أن يتوحد وأن ينهض وأن يحقق أمنه القومي إلا على يد دولة عربية مركزية تقزِّم أية دولة مركزية سبق أن عرفها التاريخ البشري، دولة مركزية تليق بمشروع النهوض العربي، وبمكانتنا كأمة على هذه الأرض.
الديموقراطية تبقى شأناً محلياً في الحي والمدينة والبلدة والقرية ومكان العمل والدراسة وما شابه، أما الأقطار العربية، أقطار التجزئة، فإن ذكراها بعد الوحدة ستنتمي، ما عدا في حالات عارضة واستثنائية، للمتخصصين بالتاريخ القديم فقط، تاريخ ما قبل النهضة العربية القومية.
وكما تمت الإشارة في مستهل الفصل الثالث من كتاب “مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي”:
يثبت تاريخ الوطن العربي أن تاريخ المناطق والعشائر والطوائف هو تاريخ التخلف، بينما كانت تقوم النهضة العربية دوماً على أكتاف الدولة المركزية والحكم المركزي المعبر عن مصلحة الأمة. فإما الأمة الموحدة في ظل دولة مركزية قوية، سواء كانت دولة نبوخذ نصر أو دولة الخلافة التي يحكمها العرب، أو الفقر والضعف والتأخر في ظل الخراب المحلي.
وقد كانت هزيمة الدولة المركزية أمام قوى الهيمنة الخارجية، وتفككها، دوماً مقدمة لهيمنة الخاص على العام، العشيرة على الوطن، الطائفة على الانتماء، والجهة أو المحلة على الأمة، مما أدى تاريخياً لشيوع ثلاث ظواهر متلازمة بالضرورة تغذي كل منها الأخرى منذ الأزل العربي هي: 1) التجزئة، 2) الاحتلال الأجنبي المباشر أو غير المباشر (التبعية)، 3) والتخلف.
بالمقابل، كان المشروع الوحدوي، وأهم مثال عليه في تاريخنا هو الدعوة النبوية، هو نفسه مشروع التخلص من الهيمنة الأجنبية، وهو نفسه مشروع بناء الدولة المركزية، الوحيدة القادرة أن تؤمن إطاراً من الاستقرار الداخلي والخارجي، ومن عناصر القوة، لتحقيق تنمية اقتصادية وقفزات حضارية حقيقية…
وما برح هذا القانون يحكم الحياة العربية المعاصرة. إذ أن المشروع النهضوي العربي لا يمكن أن يتحقق بدون دولة مركزية قوية توفر له عناصر القوة وتحميه، دولة قوية قادرة أن تعبر عن مصلحة العام على حساب الخاص. فالأمة العربية الممتدة عبر الصحارى الشاسعة، والمكشوفة على أطول شواطئ في العالم، بالمطلق وبالنسبة لمساحتها البرية، والمتناثرة مراكزها الحضارية عبر عدة مناطق زمنية، والواقعة في عقدة طرق التجارة العالمية البرية والبحرية والجوية، والمستهدفة منذ هنيبعل وزنوبيا إلى صدام حسين إلى القيادات الميدانية للمقاومة في الضفة الغربية، لا يمكن أن تنهض بدون دولة مركزية قوية.
ولا حقوق للمواطنين في الأمم الضعيفة المستعبدة، ولا تحرر للفرد أو للأقليات حيث يرزح الوطن برمته في ظل الاحتلال والهيمنة والتشرذم والفقر والتخلف، ولا ازدهار للمناطق القصية في المراكز التي يكون ولاؤها لذاتها فقط، بعيداً عن مصلحة الأمة.
فالدولة المركزية القوية المستقرة المزدهرة هي الإطار الوحيد الذي يمكن أن يتربع في ظله الحكم المحلي والفرد الحر. أما العصبيات الجاهلية، الطائفية والعشائرية والاثنية، فهي النقيض الموضوعي لجوهر رسالة الإسلام وللمشروع النهضوي العربي في آنٍ معاً، وهي لا تمثل دفاعاً عن المواطن في وجه طغيان الدولة “الحديثة”، بل تمثل إعادة إنتاج، بلبوس معارض للحداثة الاستعمارية ولأنظمة التجزئة العربية، لمشروع التفكيك، مشروع القوى المعادية للأمة. فهو فكر معارض للحداثة فعلاً، ولكنه بهذا المعنى ليس معارضاً للاستعمار، لأنه يكرس خط ما بعد الحداثة القائم على تفكيك المعنى الواحد و”الروايات الكبرى”، ومنه “رواية” الأمة الواحدة.
اترك تعليقاً