ماذا تريد الإدارة الأمريكية (والاتحاد الأوروبي) بالضبط من الحكم الجديد في مصر اليوم؟

الصورة الرمزية لـ ramahu




د.إبراهيم علوش

لو نظرنا أبعد من التصريح الصحفي العابر أو الخبر اليومي المبتسر، الذي لا يمكن أن يعطي الصورة كاملة، لوجدنا أن القوة الموجهة للحراك الأمريكي والأوروبي إزاء مصر تنصب تحديداً على نقطة واحدة هي انقاذ ما يمكن إنقاذه من الوزن السياسي لجماعة “الإخوان المسلمين” وامتدادتهم (بغض النظر عن مسمياتها)، ومنع الحكم الجديد في مصر من حسم الموقف معهم، مما يبقي رئاسة عدلي منصور وحكومة حازم الببلاوي في حالة من انعدام الوزن والتشوش في الاتجاه، ومما يمنع مصر من تخطي مرحلة الأخونة والسلفنة.


ويتجلى ذلك بعدد من النقاط المتكررة تباعاً في طريقة تعامل المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين مع المشهد المصري منها: 1) الإصرار على حق معتصمي رابعة العدوية والنهضة وغيرها بالتجمع، والتهديد المبطن تارة والصريح طوراً بخطورة فض هذين الاعتصامين بالقوة، 2) المطالبة بالإفراج عن الرئيس المخلوع بانتفاضة شعبية محمد مرسي وقيادات الإخوان المسلمين من السجن بذريعة رفض الاعتقال السياسي، 3) التوسط في “حل سياسي” للأزمة في مصر يقوم على أ – الإبقاء على الدستور الإخواني، ب – فك تجميد أصول الإخونجة المالية وغير المالية، ج – إعطاء بعض المقاعد الوزارية للحكم البائد، د – وبالتالي، وهنا بيت القصيد من كل ما سبق: نزع المشروعية السياسية عن كل ما تمخض عن انتفاضة 30 حزيران/ يونيو.


ومن أجل فرض مثل هذا “الحل”، قامت الإدارة الأمريكية (والأوروبية)، فيما قامت به، بما يلي: 1) إيقاف شحنة طائرات أف-16 لمصر، 2) إيقاف قرض بالمليارات من صندوق النقد الدولي، كانت إدارة الرئيس المخلوع بانتفاضة شعبية محمد مرسي قد توصلت إليه مع الصندوق، 3) التهديد بشكل شبه يومي بقطع المساعدة الأمريكية لمصر، 4) إطلاق حملة إعلامية دولية للعويل على مصير “الحرية” و”الديموقراطية” في مصر إذا لم تتحقق الشروط إعلاه.


لكن حكومة الولايات المتحدة التي فضت شرطتها اعتصام حركة “احتلوا وول ستريت” بالقوة، وفككت خيامهم، واعتقلت نشطاءهم، هي نفسها اليوم التي تعتبر أن فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة يمثل انتهاكاً ل”حرية التعبير” و”حق التجمع”!


وكان اعتصام حركة “احتلوا وول ستريت” قد بدأ في ساحة “زوكوتي” في مدينة نيويورك في 17/9/2011 احتجاجاً على المؤسسات المالية المتحكمة بالاقتصاد الأمريكي والعالمي في نيويورك، وقد تم فض الاعتصام بالقوة في 15/11/2011، أي بعد أقل من شهرين، مع أن المعتصمين كانوا مسالمين جداً باعتراف الدولة الأمريكية، ولم يبنوا متاريسَ رمليةً في الشوارع، ولم يرشقوا أحداً بالحجارة، ولم يحملوا معهم أسلحة بيضاء أو قناوي أو مسدسات.


ومع ذلك شكل اعتصام حركة “احتلوا وول ستريت”، بالرغم من كثير من التحفظات السياسية عليه، علامة فارقة في “حق التجمع” في الولايات المتحدة، لأن السلطات الأمريكية لا تسمح عادةً لأحد بالتجمع خارج أماكن محددة، غالباً ما تكون بعيدة جداً عما يتم الاحتجاج عليه… كما أن أي معتصم خارج أماكن التجمع المحددة يعرض نفسه لتهمة “إعاقة تطبيق القانون” obstructing justice، فوق أي تهمة أخرى، لو تجرأ على تحريك يده في الهواء عندما تأتي الشرطة لطردهم (ولذلك يقوم المعتصمون في الأماكن غير المسموحة برمي أنفسهم على الأرض بدون حراك ولا صوت عندما تأتي الشرطة الأمريكية حتى لا يتعرضوا لمثل تلك التهمة الإضافية فوق التجمع غير المشروع).


العبرة أن ما تقوم به حكومة الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي في مصر، من خلال عملية الشد والرخي التي تمارسها، والإصرار على إبقاء ميداني رابعة العدوية والنهضة خارج سلطة الدولة، فيما تحاول إبقاء الخط مفتوحاً مع الحكم الجديد في مصر لكي لا تفلت مصر فجأة من شباكها، هو إبقاء مصر في حالة من الشلل السياسي التام، وإبقاء الحكم المصري الذي جاء بعد انتفاضة 30 حزيران / يونيو في حالة من عدم الفعالية يمكن أن تؤدي لانقلاب من ناصروه عليه تماماً كما حدث مع حكومة الإخونجة في ظل الرئيس المخلوع محمد مرسي، ويترافق ذلك مع ممارسة نوع من حرب العصابات يقوم بها الإخونجة في أكثر من منطقة في مصر، كما حدث في الإسكندرية مؤخراً، في سعي حثيث لتقويض سلطة الدولة.


وبهذا بالضبط تصبح الإدارة الأمريكية والأوروبية العائق الرئيسي أمام التطور الديموقراطي الحر لمصر وللأمة العربية. فإذا كان المقصود بالحرية والديموقراطية هو حق مصر بالتخلص من التبعية لقوى الهيمنة الخارجية، وحقها في تحقيق التنمية المستقلة، وفي اتخاذ موضعها الطبيعي في الأمة العربية وأفريقيا والعالم الإسلامي والعالم الثالث، فإن الإصرار الأمريكي والأوروبي على إعادة عقارب الساعة للوراء، بذريعة منع الحسم مع الخارجين علناً على السلطة المحمولة للحكم بإرادة شعبية، هو نقيض حرية مصر وحق شعبها بتقرير مصيره.


وهي مجرد حالة أخرى يظهر فيها خواء المفهوم الليبرالي – الفردي – للحرية والديموقراطية، ووضعه في حالة تعارض مع المفهوم الوطني والقومي لهما. والإخوان في رابعة العدوية والنهضة وغيرها لا يطالبون فقط بحق ممارسة العمل السياسي أو التجمع أو التعبير عن الرأي، إنما يطالبون بالسلطة، بالحكم، ويجب أن يكون هذا واضحاً، لأن الصراع يدور على الحكم وعلى المسار الذي يجب أن تتخذه مصر بالتالي، ولهذا، فإن من يبشرون بالتفاهم الأخوي وحل المشاكل بالمحبة الخ… هم ببساطة خارج التاريخ والواقع السياسي.


الحكم الجديد في مصر يبذل قصارى جهده أن لا يفتح أبواب المواجهة العلنية مع حكومة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. لكن الساعة تدق. والمراوحة إلى ما لا نهاية لن تكون حسنة العاقبة. والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يضعان المسألة بشكل واضح: حسم المواجهة مع الإخوان تعني مواجهة معهما بذريعتي “الحرية” و”الديموقراطية” (ولهذا تبتعد المملكة العربية السعودية عن ساحة الوساطات في مصر مثلاً). ولهذا فإن البديل الوحيد المقبول عند الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للوضع الحالي في مصر، المفتوح على احتمالات ناصرية حقيقية لم تتحقق بعد، هو حكم ليبرالي تابع مطبع تُسلم السلطة إليه يتيح الفرصة لعودة “الإخوان” على الطريقة التركية.


الرئيس بشار الأسد، في خطابه الأخير، حسم الأمر بوضوح: ماضون في المواجهة حتى النهاية. وهذا له ثمن طبعاً. ويحاول حكام مصر الجدد أن يتجنبوا خوض مثل تلك المواجهة بالبقاء في المنطقة الرمادية مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ليتمكنوا من حسم المعركة مع الإخوان بكلفة أقل، لكن الولايات المتحدة تحاول استنزافهم وزعزعة استقرارهم بإبقائهم في حالة من عدم الحسم مع الإخوان إذا أرادوا أن يتجنبوا المواجهة معها ومع الكيان. وبالمناسبة، جون ماكين وليندسي غراهام من صقور المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، والتهديدات الصادرة عنهم بحق مصر هي فعلياً تهديدات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة.


جمالية الموقف في مصر الآن أن حسم المعركة مع الإخونجة والزومبجيين سيعني قطع المساعدة الأمريكية، ومواجهة مع الولايات المتحدة، وتحولاً في السياسة المصرية إقليمياً ودولياً، أي أنه سيضع مصر موضوعياً على المسار الناصري. أما عدم حسم الموقف فسيعني عاجلاً أم آجلاً جلوس عدلي منصور وحازم الببلاوي وعبد الفتاح السيسي حيث يجلس محمد مرسي وخيرت الشاطر وبعض قيادات الإخونجة الآن، ولو تم تسليم السلطة لحكم ليبرالي تابع ومطبع يقوده البرادعي مثلاً.


نحن لسنا على استعجال. لكن الساعة تدق. تك.. تك.. تك.. تك..


للمشاركة على الفيسبوك :

https://www.facebook.com/photo.php?fbid=700620896621815&set=a.306925965991312.96654.100000217333066&type=1

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..