من فكرنا القومي الجذري: ما الفرق بين السياسي، المسيس، المثقف، والمناضل؟

الصورة الرمزية لـ ramahu


أبو ذر القومي


كثيراً ما يسمى المناضل “سياسياً”، أو السياسي “مناضلاً”، أو المسيس “مثقفاً”، أو المثقف “مسيساً”، مع أن أياً من تلك الصفات قد لا تكون بالضرورة في محلها، وهو ما يشكل جريمةً بحق الوعي أولاً، وبحق المناضلين الحقيقيين ثانياً. ولذلك نحرص في لائحة القومي العربي على وضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالفروق، غير الواضحة أحياناً، بين انواع المعنيين بالشأن السياسي.


فلنبدأ أولاً بتعريف “السياسة”. السياسة هي الشأن العام الذي يمسنا جميعاً، تمييزاً له عن الشأن الخاص. مثلاً، علاقتك مع زميلك في العمل أو الدراسة هو شانٌ خاص بك، بمقدار ما لا ينعكس على غيرك، أما المشاكل التي يسببها الاحتلال، أو تسببها التبعية، أو التجزئة العربية، أو يسببها التخلف الاقتصادي لمواطني الأمة العربية أو العالم الثالث، فشأنٌ عامٌ لأنه يمس الجميع.


ويصبح الشأن العام أكثر عموميةً، أو أكثر سياسيةً إذا صح التعبير، بمقدار ما ينتشر تأثيره في الناس. مثلاً، الانتخابات البلدية في مدينة صغيرة هي شأن سياسي محلي أساساً، أما رفع أسعار الكهرباء في الأردن فشأن سياسي وطني أردني أساساً، أما قدرة قوى الهيمنة الخارجية على استباحة أي قطر عربي كما ترغب، أي غياب أمن قومي عربي، فشأن سياسي قومي أساساً، أما مناهضة الإمبريالية عالمياً فشأن سياسي أممي. ولا شك أن ثمة ترابط وتأثيرات متبادلة بين هذه الشؤون جميعا، ولذلك نقول “أساساً” لا “حصراً”، لكن هذا ليس موضوعنا هنا.


باختصار، السياسة هي الشأن الجماعي، أي الذي يمس الجماعة، وبالتالي يؤثر على الأفراد جميعهم. بالتالي ليس هناك أسخف ممن ينهرك: لا تتدخل بالسياسة! والتزم بشؤونك الخاصة فحسب! فكأنه يقول: لا تتدخل بما يؤثر عليك وعلى الجميع… وابقَ بالحيز الصغير الذي يمثل جزءاً فحسب مما يؤثر على حياتك.


لكن لا يتساوى المهتمون بالشأن السياسي كاسنان المشط. فكثيراً ما تجد من يتابع الشأن السياسي كهواية، كنوع من التسلية والترفيه، ليتوقف اهتمامه عند المتابعة السطحية للتطورات والأحداث واجترار النشرات الإخبارية في السهرات والمقاهي. فذاك هو المستهلك للمنتوج الإعلامي الذي تقلبه الرياح ذات اليمين وذات اليسار، دون وجهة واضحة، ودون وعي، إلا ما تلقنه إياه وسائل الإعلام المهيمنة. فذاك هو المواطن المستلب، الذي تعمل القوى السائدة على إبقائه مستلباً، ما دام مصراً أن يعنى بالشأن السياسي.


بالمقابل، المسيس هو شخص أكثر اطلاعاً، يمتلك رؤيةً أكثر شمولية للمشهد السياسي، للقوى والشخصيات الأساسية التي تحرك ذلك المشهد، لتناقضاتها وعلاقاتها وخلفياتها وارتباطاتها. وهذا المسيس قد يكون موالياً أو معارضاً، حزبياً أو مستقلاً، سجيناً سياسياً أو رجل أمن، لكنه يتميز بأنه أكثر درايةً وحنكة بما يتصل بالشأن الراهن، والمفصل هنا هو “الشأن الراهن”: المشهد السياسي الراهن، تناقضاته، قواه، رموزه، الخ… فالمحلل السياسي، الذي يفسر ما وراء الأكمة ويربط بين الأحداث والشخصيات والتطورات الراهنة، لا بد له أن يكون مسيساً، لكن هذا المسيس قد يكون وقد لا يكون مثقفاً أو مناضلاً.


المثقف السياسي، بالمقابل، قد يعرف معاني كمية كبيرة من المصطلحات السياسية الغريبة، وربما يكون ضالعاً بالنظريات ومدارس علم السياسة: الواقعية الجديدة أو الليبرالية الجديدة في علم السياسة الذي يدرس في الجامعات الغربية على سبيل المثال. وقد يكون قد قرأ ودرس ما كتبه أفلاطون في جمهوريته الفاضلة أو فلاسفة السياسة في عصري النهضة والتنوير الأوروبيين، وابن خلدون الخ… وقد ينشر الابحاث الأكاديمية في هذا المجال، أو الكتب، لكن ذلك لا يضمن على الاطلاق أن يكون محللاً سياسياً، إذا لم يعنى بالشأن الراهن، ولا يضمن حتى أن يمتلك الوعي السياسي، بمعنى إدراك العلاقات العميقة بين الظواهر السياسية، والأهم، أن تلك الحمولة من المعرفة السياسية، المختلفة عن الوعي بالضرورة، لا تجعل منه، بحد ذاتها، مناضلاً، لكنها تجعل منه مناضلاً أفضل إذا كان مناضلاً.


ومن المشاهدة، والتحليل، والمعرفة، ننتقل للممارسة السياسية، أي للعاملين بالحقل السياسي والمنخرطين فيه عملياً. وهنا يبرز تعبيرا “سياسي” من جهة، و”ناشط سياسي”، من جهة أخرى.


أما السياسي فيعمل بالشأن العام بالضرورة، وغالباً ما يكون مسيساً، لكنه مشروع شخصي، ذاتي، لا مشروع قضية عامة. فالسياسي شخص يحقق ذاته الفردية من خلال العمل بالحقل العام، ومشروعه غالباً هو الوصول إلى منصب: نائب، وزير، أو أكثر… وربما يكون نهب المال العام. فهو لا يختلف عمن يحقق ذاته من خلال السعي لتكوين ثروة أو شهرة فنية، باستثناء أن الساعين للثروة والشهرة الفنية أكثر صدقاً ووضوحاً في سعيهم خلف مشروع شخصي علناً. أما السياسي فمضطر لركوب الموجات ليراكم رأس ماله السياسي، وهو منافق من الدرجة الأولى، ومتقلب، يعتبر تقلبه وتلونه “ذكاءً”، وهو في الواقع “تاجر قضايا عامة”، ويتكاثر مثل هذا النوع في كل التيارات السياسية بدون استثناء، وتعرفه من حبه للمنصب والشهرة وتجيّر جهود الآخرين لأجندته الخاصة، ومن عدم اتخاذ مواقف ثابتة، ومن سعيه الدائم للتقرب من أصحاب القرار، وهو بارع في فن التورية والتخفي، وهو بالتأكيد ليس مناضلاً، لكنك كثيراً ما تجده في الحركات النضالية حيث يعيث فساداً ويشكل عبئاً حقيقياً إلى أن يتم كشفه وتنحيته جانباً.


أما الناشط السياسي ففئة ظهرت خلال العقدين الأخيرين، خاصة مع انتشار منظمات التمويل الأجنبي والتغريب وثقافة “الديموقراطية” و”حقوق الإنسان”. ويوجد في الغرب نشطاء حقوق حيوان أيضاً وبيئة ومثلية الخ… والناشط السياسي يعمل بالشأن العام طبعاً، وليس بالضرورة أن تكون له أجندة خاصة أو ذاتية كالسياسي، فقد يؤمن حقاً بما يقوم به، وقد يضحي من أجله، لكن تعبير “ناشط سياسي” ظهر لوصف من يعمل بقضية جزئية بهدف ترقيع بعض مساوئ النظام “الديموقراطي” الغربي، تحت عنوان شيء عملي صغير أفضل من مشروع تغيير كبير… ومن هناك استوردنا ذلك المصطلح، مع التمويل الأجنبي أحياناً، والعلاقات الدولية والمكاتب والمؤتمرات الدولية… فهذا المصطلح ظهر أساساً كنقيض لأصحاب مشاريع التغيير الثورية الحقيقية المناهضة للإمبريالية والأنظمة التابعة لها في زمن حركات التحرر الوطني والحرب الباردة، مع التنويه والتنبيه بأن كلمة “ثوري”، أي صاحب مشروع تغيير جذري، تم تشويهها بالكامل وقلبها رأساً على عقب في ظل ما يسمى “الربيع العربي”.


فمن هو المناضل إذن؟ المناضل، ببساطة، هو من يعمل ويضحي من أجل قضية عامة تتجاوزه، مثل قضية تحرير وطن، أو توحيده، أو إقامة العدالة الاجتماعية فيه، أو قضية مناهضة الإمبريالية والصهيونية.


والمناضل هو الملتزم بتحقيق مشروع وطني أو قومي أو أممي، دون أن تكون لديه أجندة خاصة أو مشروعاً فردياً من وراء ذلك. فالمشروع العام هو مشروعه الفردي، لأنه يذوب فيه، ويحول كل ذرة من كيانه إلى متراس دفاعاً عن ذلك المشروع العام، ويقيس نجاحه بمقدار ما يقدمه لذلك المشروع العام. وقد يكون ذلك المناضل مثقفاً أو غير مثقف، مسيساً أو غير مسيس، لكنه يكون مناضلاً بمقدار ما يربط مصيره الشخصي بالقضية العامة الوطنية أو القومية، وبمقدار ما يقدم لها.


ومن المؤكد أن من واجب المناضل أن يسعى دوماً لتطوير وعيه وثقافته وتعلم الدروس من تجربته، فالمناضل الأكثر كفاءة أفضل للقضية من المناضل الأقل كفاءة. وما الفائدة من سلسلة “من فكرنا القومي الجذري” التي تقدمها لائحة القومي العربي إن لم يكن التثقيف والعمل على الارتقاء بالوعي السياسي..! فإذا كان المثقف مناضلاً، فإنه يصبح مثقفاً ثورياً، يوظف ثقافته في خدمة المشروع النضالي، وإذا كان المسيس مناضلاً، فإنه يصبح كادراً سياسياً، يساعد على الإبحار بسفينة النضال نحو هدفها النهائي، لكن من المؤكد أن صندل فلاح فيتنامي أمي يقاتل لتحرير بلاده من الاحتلال الأمريكي، أو بسطار جندي سوري يدفع دمه لرد المؤامرة عن سورية والوطن العربي، أكثر نضالية بألف مرة من مثقف “شبيه الثوري” يبرع بعلك المصطلحات الغريبة في سياق تسويق نفسه سياسياً، بالمعنى الذاتي الفردي للكلمة، أو من مناضل سابق اكتشف أن المعرفة والتسيس اللذين اكتسبهما في خضم عملية النضال قابلان للبيع والتوظيف لدى الإمبريالية والصهيونية واذنابهما، بالجملة او بالقطعة… فالمناضل مناضل، والإنسان إما أنه مناضل أو غير مناضل، وليس له أن يكون سياسياً انتهازياً حالياً/ مناضلاً سابقاً.


للمشاركة على الفيسبوك:

https://www.facebook.com/photo.php?fbid=627549990590516&set=a.419967428015441.105198.419327771412740&type=1



Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..