د.إبراهيم علوش
في خضم حملة شيطنة د. بشار الأسد التي تنخرط فيها احتكارات الإعلام الغربية وأبواق البترودولار، بغرض تبرير السياسات العدوانية لحلف الناتو وحكام الخليج والزومبيين والإخونج إزاء سورية، لا بأس من إلقاء نظرة على شخصية الدكتور بشار الأسد كما ظهرت من خلال حواريته مع الفضائية الإخبارية السورية ليلة عيد جلاء الاحتلال الفرنسي عن سورية في 17/4/2013، وكما ظهرت من خلال حوارياته الأخرى مع وسائل إعلامية مختلفة ومع من جالسوه…
التركيز هنا سيكون على الشخصية والأداء الإعلامي، وليس على المضمون السياسي للحوار لأنه واضح، ولأن عشرات المحللين المؤيدين والمعارضين لبشار الأسد أشبعوه تحليلاً. أما الشخصية التي تظهر معالمها من خلال الحوار فلم تحظَ بالقدر نفسه من الاهتمام، في الوقت الذي تشتغل فيه معاول الهدم الإعلامي، وبعض منابر المساجد في دول عربية مختلفة، في إظهار العدوان على سورية الدولة والجيش والشعب والوطن كأنه “مشكلة مع بشار”.
نلاحظ أولاً أن د. بشار الأسد يستخدم أسلوباً حوارياً، سقراطياً تقريباً، في طرح أفكاره. فهو عندما يجيب سؤالاً يطرح سؤالاً مقابلاً، أو تساؤلاً، يضع المستمع منطقياً على طريق الإجابة التي يريد أن يصل إليها، أو “يمسّكه طرف الخيط” إذا صح التعبير. ومن ثم يتبع ذلك بطرح تساؤل منطقي أخر يقود المستمع إلى استبعاد الاجابات الخاطئة المحتملة، أو إلى التركيز على الإجابة الصحيحة المحتملة، وهكذا، معتمداً على الاستنباط والاستدلال، وصولاً للإجابة النهائية.
هذه الطريقة في الإجابة على الأسئلة “تخربط” بعض الإعلاميين والمراقبين بالمناسبة ممن تعودوا على الإجابات المعلبة المقددة، أو ممن ينتظرون “الجواب-المعجزة”. لكن منهج د. بشار الأسد في الحوار هو نهج حواري تماماً، يستبعد المعجزات اللفظية ليركز على المعالجة المنطقية المجردة من التزويق والبهرجة. وهو نهج يتميز بأنه يخاطب عقل المشاهد أو المستمع من موقع الندية، أي أنه يحترم ذلك العقل، ولا يستعلي عليه، ولا يناور، ويقدم هيكله المنطقي بشفافية، سواء قررت أن تتفق أو تختلف معه، وهو أسلوبٌ يشتبك مع العقل بلباقة وذكاء. فلو قارنا ما بين هذا وما بين الوجبات السريعة الجاهزة في الخطاب الإعلامي المقابل، سواء كانت خبيثة على نمط البي بي سي البريطانية أو مسطحة على نمط “الجزيرة” و”العربية”، لوجدنا أن منهج د. بشار الأسد في الخطاب هو أكثر تنوراً وحداثةً وتماسكاً واتزاناً بكثير، ويا حبذا لو تعلم الإعلام السوري منه بعضاً من هذا الأسلوب بالرغم من كل التقدم المهم الذي حدث في أداء ذلك الإعلام خلال العامين الأخيرين.
النقطة الثانية أن د. بشار الأسد يتعامل مع المتلقي بصورة متخففة من هالات القداسة التي يحيط بها حكام العرب أنفسهم، ويطرح كل شيء على الطاولة للنقاش، حتى منصبه كرئيس، وشخصه، ولا ترى الأنا المتضخمة تسيطر عليه، ولا الهيبة المتكلسة، مطلقاً. وتظهر هذه الخاصية في حواراته أكثر مما تظهر في خطاباته الجماهيرية طبعاً. وتراه وهو يستقي الأمثلة من التجارب العلمية (الأواني المستطرقة، الخ…)، أي أنه كثيراً ما يتعامل كمثقف، أكثر مما يتعامل كسياسي، ولا تراه يقدم نفسه كشخص معصوم فوق البشر ولا كوصي على الناس أو كظل الرحمة السماوية على الأرض، كما يفعل كثيرٌ من حكام العرب حالياً وسابقاً، وبهذا أيضاً فإن د. بشار الأسد يكون أكثر ملائمة كرئيس للقرن الواحد والعشرين قادرٍ على قيادة مشروع إصلاحي حقيقي، خاصة إذا ما قارناه بالشخصيات المهزوزة والمتضخمة والمملوءة بعقد النقص، والاستعلاء المستمد زوراً من حكم السماء، التي تريد أن تحل محله.
لكن المشكلة في هذا النهج العقلاني المتنور في الواقع، وفي الخطاب المباشر المتجرد من أثقال الرسميات، أنه لا يصل للشخص الذي لا يتمتع بقدرات عقلية كافية، أو الذي لا يعترف بحكم العقل أصلاً، أو الذي تم تغييب عقله، أو الذي تعود أن يُسحق إلى درجة تجعله يفهم الخطاب النِدي المتجرد من الرسميات باعتباره رخصة لعدم الاحترام. ولنلاحظ بالمقابل أن خطاب قوى الظلام، في أوروبا القرون الوسطى مثلاً، أو الذي يمارسه شيوخ الزومبيين والإخونج عندنا اليوم، يقوم على: 1) مصادرة عقل المتلقي بالترغيب والترهيب الأخروي، 2) زرع مجسات لاعقلانية في ذهنية المتلقي يمكن التلاعب بها لاحقاً عند الضرورة، 3) قيادة المتلقي كقطيع بلا عقل من خلال التلاعب بعاطفته الجمعية بعدها.
إذن الفكرة هي أن الإعلام السوري، والرئيس الأسد شخصياً، يجب أن يطورا خطاباً موازياً وإستراتيجية إعلامية وتثقيفية للتعامل مع الملايين من السوريين والعرب الذين بات ينطبق عليهم ما جاء في الفقرة السابقة بفعل المليارات التي انفقها البترودلار عن وعي وإدراك كاملين لتحويل المواطنين إلى زومبيين وأخونج، أو، على طرف النقيض، إلى ليبراليين متجردين من أي حس وطني أو قومي. وربما يكون الخطاب الجماهيري القصير أنسب للتعامل مع هذه الحالة… وكذلك المضي بتأسيس خطاب إسلامي متنور لاطائفي الذي تطرق إليه الرئيس بشار، والذي سبق أن اقترحته في بداية الأزمة. وقد سبق أن أشرت وأصررت أن انحسار الفكر والحس القومي والوطني هو ما خلق الفراغ الذي سارع الفكر الظلامي بملئه. ولذلك فإن مجرد عرض مقابلة د. بشار الأسد بمناسبة يوم الجلاء، هو جزء من الجهد المدروس لإعادة إحياء الحس الوطني المناهض للاستعمار، كما أن اختيار إعلامي عراقي، خاطبه السيد الرئيس باعتباره مواطناً عربيا، يحمل أكثر من رسالة قومية في آن معاً، وكذلك عرض صور وكلمات للقائد جمال عبد الناصر على شاشة الفضائية الإخبارية قبيل المقابلة، والرسالة وصلت… لكن لا يكفي، إذ لا بد من مشروع فكري تثقيفي كامل لإعادة تحرير العقل المستلب والمغيب، وإعادة الاعتبار للحس الوطني والفكر القومي العربي.
للمشاركة على الفيسبوك :
اترك تعليقاً